:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، يونيو 30، 2012

رمزية أزهار الكرَز

تحتلّ أشجار الكرز مكانة مهمّة في ثقافة العديد من شعوب العالم. فهي رمز للخصوبة والزواج والجمال والتواضع. الصينيون القدامى كانوا يعتبرون الكرز رمزا للخلود. وفي حديقة إحدى إلهات الصين، تُزهر شجرة الكرز مرّة كلّ ألف عام.
في الأساطير القديمة، ارتبط الكرز بطائر العنقاء الذي ينهض من بين الرّماد. وفي سويسرا، يسود اعتقاد بأن شجرة الكرز يمكن أن تحمل بوفرة إذا كان أوّل آكلي ثمارها امرأة وضعت لتوّها مولودا.
وفي رواية بستان الكرز لـ انطون تشيكوف، يرمز الكرز إلى ماضي روسيا الغابر. في نهاية الرواية، تبيع العائلة منزلها ليُهدم، ثم تبيع بستان الكرز الذي تملكه لتُقطع أشجاره وتباع كحطب. الدرس المستخلص من الرواية هو أن المجتمع يتغيّر ويتطوّر باستمرار، وأن التغيير أمر محتوم بصرف النظر عمّا يريده الفرد أو ما يتمسّك به من أفكار أو قيم.
لكن ليس هناك شعب ارتبطت أزهار الكرز بثقافته وفنّه بمثل ما ارتبطت باليابانيين. فهي عندهم الزهرة الوطنية. وهي كانت وما تزال تُعتبر إحدى الصور النمطية الغربية عن اليابان والتي تُستحضر عادة، جنبا إلى جنب، مع صور أخرى مثل السوشي وفتيات الغيشا ومحاربي الساموراي. كما أن هذه الأزهار ظلّت تمثّل حدثا ثقافيا مهمّا هناك طوال أكثر من ألف عام.
احتفالات اليابانيين السنوية بهذه الشجرة، والعديد من التفسيرات الثقافية الرمزية للأزهار، بالإضافة إلى الاستخدام الواسع النطاق لها في الفنّ بسبب جمالها الفطري ورمزيّتها، كلّ هذه العوامل أسهمت في أن تصبح أزهار الكرز جزءا لا يتجزّأ من هويّة اليابان الثقافية.
وطبقا للتقاليد البوذية، فإن هذه الأزهار التي يخطف جمالها الأنفاس ترمز إلى الطبيعة القصيرة للحياة. فهي لا تعيش لأكثر من بضعة أسابيع تمتلئ خلالها المدن والأرياف والجبال بأزهار هذه الأشجار، سواءً كانت برّية أو مستزرعة.
ويعتقد اليابانيون أن قيمهم التقليدية عن الطهر والبساطة تتجسّد في شكل ولون هذه الأزهار. كما ترتبط الأزهار بثقافة الساموراي، لأنها ترمز لقطرات الدم ولحياة المحاربين الذين لا يعيشون، عادة، طويلا.

لوحة الرسّام هيروشي يوشيدا بعنوان "شجرة كرز في كاواغوي" هي جزء من سلسلة بعنوان "ثمانية مناظر لأزهار الكرز". وهي تصوّر مشاهد متعدّدة لهذه الأزهار في أطوار نموّها المختلفة. في إحدى الصور بعنوان "يوزاكورا في المطر"، تظهر امرأتان ترتديان ملابس زاهية وتجلسان تحت المظلات بينما تحدّقان في الأشجار مع إحساس بالحزن.
وفي لوحة أخرى بعنوان "اراشياما"، نرى منظرا لقوارب تبحر فوق احد الأنهار، بينما تبدو أزهار الكرز وقد أخذت في التفتّح، مضفيةً على المكان إحساسا بالمتعة والفرح. واللوحات الأخرى في هذه السلسلة تصوّر مناظر مختلفة. لكن كلا منها يوصل معنى مختلفا من المعاني المرتبطة بأزهار الكرز.
وفي لوحة خشبية من عام 1884 بعنوان "المحارب تايرانو تادانوري على وشك النوم تحت شجرة كرز"، تظهر شجرة كرز تميل براعمها بكسل نحو الأرض، وفي الجانب الأيمن من المنظر يظهر احد محاربي الساموراي وهو يزيح درعه جانبا ويستعدّ للنوم. هذه اللوحة رُسمت في بدايات حكم سلالة الميجي لليابان، أي عندما كان الساموراي يفقدون سلطتهم ونفوذهم بسرعة.
مهرجان أزهار الكرز في اليابان هو وقت للاحتفال والبهجة. لذا ليس من المستغرب أن كثيرا من صور أزهار الكرز تُظهر مشاهد من هذا القبيل. في لوحة من فترة حكم الكاني، يرسم ايواسا ماتابي رجلين يرتديان لباسا أنيقا وهما يتنزّهان تحت أشجار كرز بصحبة امرأة شابّة. وفي لوحة أخرى من عصر الايدو، يرسم توري كيوناغا مجموعة من الرجال والنساء وهم يقضون وقتا ممتعا بينما تحيط بهم أشجار الكرز المزهرة.
وفي اليابان الحديثة يستمرّ الاحتفال بهذه الأزهار في مهرجان سنويّ يُدعي هانامي. وفي حين أن القصد الأساسيّ من هذا المهرجان هو رؤية الأزهار ومراقبة تحوّلات الطبيعة، إلا انه أصبح مصحوبا بطقوس الطعام والشراب والمرح.
صور أزهار الكرز وارتباطها الوثيق بالربيع أسهم في ظهورها على نطاق واسع في الإعلانات اليابانية عن الحلوى والأفلام والقطارات السريعة. وبفضل هذا الارتباط بالربيع وبالبراءة والرقّة والبساطة، أصبحت هذه الأزهار تدخل في صناعة المنتجات المتعلّقة بمناسبات الزواج وبدايات الدراسة وما إلى ذلك. "مترجم".

الاثنين، يونيو 25، 2012

أوديب بين كينوبف و مورو

في العام 1896، رسم الفنّان البلجيكي فيرناند كينوبف لوحة اسماها المداعبة "أو أبو الهول" واستمدّ موضوعها من رواية للكاتب الفرنسيّ اونوريه دي بلزاك. وفيها يروي قصّة حبّ غريبة حدثت بين احد جنود نابليون ممّن ضلّوا طريقهم في صحراء مصر وبين أنثى نمر. بلزاك في الرواية يسهب في وصف جسد الحيوان المتموّج وحركته الأفعوانية ومداعبته للجنديّ.
غير أن كينوبف رسم الحيوان بطريقة غريبة. فالجسد جسد نمر، لكن الرأس رأس إنسان. واللافت أيضا أن الرسّام استعار ملامح شقيقته وأعطاها للكائن الذي يُفترض أنه أنثى نمر. الحيوان الهجين في اللوحة، والذي يشبه سفينكس أو أبا الهول، يظهر وهو يداعب وجه الجنديّ بحنان واضح. الجنديّ نفسه، ذو الملامح الاندروجينية، تبدو تعابيره جامدة ومن الصعب قراءتها.
لكن ما الذي يقصده الرسّام من وراء هذه اللوحة الغريبة؟
هذا السؤال أغراني بقراءة المزيد عن اللوحة والرسّام. ووجدت بعض المعلومات المثيرة للاهتمام. في المخيّلة الشعبية، وحتّى في كتب الخيال العلمي والأساطير القديمة، لا تُعتبر المرأة مخلوقا راشدا بالكامل. فهي لا تتحكّم في غرائزها، وبالتالي تشكّل تهديدا وخطرا على من حولها.
ميدوسا في الأساطير، مثلا، يتحوّل شعرها إلى أفاع وحيّات، ونظراتها النارية تحيل الرجال إلى حجارة. وسالومي طلبت أن تكون مكافأتها على الرقص رأس يوحنّا المعمدان.
الرسّام فيرناند كينوبف قد يكون أراد من خلال اللوحة أن يقلب هذه الصورة النمطية عن النساء وأن يشير إلى الطبيعة المزدوجة للمرأة. فهي يمكن أن تكون أنثى قاتلة، ويمكن أيضا أن تكون مخلوقا رقيقا وأشبه ما يكون بالملاك.
كينوبف كان مشهورا بتضمين لوحاته رموزا واستعارات كثيرة. وبعض النقّاد يرون أن لوحة المداعبة هي تفسير الفنّان لأسطورة أوديب.
أبو الهول "أو سفينكس" في هذه الأسطورة كان وحشا هجينا نصفه إنسان ونصفه الآخر أسد، وله جناحا نسر وذيل أفعى. كان من عادة الوحش أن يقف في منتصف طريق جبلي يؤدّي إلى المدينة. ولم يكن يسمح بمرور أيّ شخص من هناك ما لم يُجب أوّلا على لغز. وكلّ الذين مرّوا على ذلك الطريق لم يستطيعوا حلّ اللغز. لذا كان مصيرهم جميعا القتل. وحدث أن قَبِل أوديب هذا التحدّي، حتى بعد أن رأى جثث من سبقوه ممّن فشلوا في حلّ اللغز مبعثرة على جانبي الطريق.
كان سؤال اللغز يقول: ما هو الشيء الذي يمشي على أربع أقدام في الصباح، وعلى اثنتين في الظهيرة، وعلى ثلاث في المساء؟
وبطبيعة الحال، فإن حلّ هذا اللغز أصبح اليوم سهلا. فالجواب هو الإنسان. لكنّ السؤال الأكثر عمقا الذي يطرحه اللغز يتعلّق بمعنى الحياة وطبيعة البشر.
الرسّام الفرنسي غوستاف مورو رسم لوحة يصوّر فيها المواجهة بين أبي الهول وأوديب بطريقة غريبة. فالوحش يثب إلى صدر أوديب، ويتبادل الاثنان نظرات منوّمة عن قرب، بينما ينتظر الحيوان الهجين ردّ أوديب. وأبو الهول يبدو قلقا إلى حدّ ما كما لو انه يدرك أن أوديب سيحلّ اللغز. رأس الوحش وجناحاه يمنحان انطباعا مريحا. لكن جسده الأنثوي يبدو شرّيرا ومخاتلا. أي أن سفينكس هو نوع من الأنثى القاتلة. أوديب، كما رسمه مورو، يسمو فوق الإغراءات الأرضية ويدمّر قدرة أبي الهول من خلال قوّة إرادته.
وفيرناند كينوبف يتبنّى في لوحته نفس هذه الفكرة تقريبا، لكنّه يمنحها رؤية شخصيّة. واللحظة التي يصوّرها في لوحته لم يسبق أن وردت في أيّ نصّ أدبي. وهو يرسم أوديب بعد أن حلّ اللغز. وبدلا من تدمير الوحش، يبدو هذا الأخير وهو يخطب ودّ أوديب ويداعبه بتعابير تنمّ عن الرضا. لكن رغم أن أوديب تمكّن من حلّ اللغز أخيرا، إلا انه ما يزال يشعر انه واقع في براثن الوحش وأنه ما يزال في خطر.
في الأسطورة المشهورة، يُكافَأ أوديب على حلّه اللغز بتنصيبه ملكاًَ. ثمّ يتزوّج الملكة دون أن يعلم أنها، في واقع الأمر، أمّه. وعندما يعلم بالحقيقة، يعاقب نفسه بإطفاء نور عينيه. هذا الفعل يوحي بأن أوديب كان يفتقر للبصيرة والأناة. ومأساته، في النهاية، تبرهن على أن المعرفة وحدها لا تحرّر البشر من أقدارهم.

موضوع ذو صلة: زمن البراءة