تصوير المناظر الطبيعية ليس مجرّد شكل من أشكال الفنّ التأمّلي كما يظنّ معظم الناس. بل يمكن أن يكون التصوير تجسيدا للحظات مثيرة وبحثا للامساك بالطبيعة المتغيّرة وحالاتها المزاجية المختلفة.
العين وراء الكاميرا لا تمسك فقط بالمنظر الطبيعي، وإنّما أيضا بالحالة الذهنية، أي تلك التي تعكس مزاج وجوّ المشهد. وهذا هو السبب في أن تصوير المناظر الطبيعية يمكن أن يكون أمرا مزعجا وجميلا في الوقت نفسه.
والمفارقة هي أنك إذا حضّرت للقطة ودرستها جيّدا مسبقا، فمن المرجّح أن تصاب بخيبة أمل. والسبب هو أن التصوير حالة ذهنية في الأساس وهو نتيجة للانفعال الذي يثيره مشهد معيّن في النفس.
وبالإضافة إلى الانفعال، يحتاج المصوّر إلى أن يأخذ نوعية الضوء في الاعتبار. فالصورة التي تُلتقط قبل ساعتين من غروب الشمس أو بعد شروقها غالبا ما تنتج لقطات فعّالة جدّا. طبيعة الضوء هي احد العناصر الحاسمة في الصور. وبعض المشاهد التي تُلتقط في منتصف النهار تكون مختلفة عن تلك التي تُلتقط قبل الغروب بقليل.
فوقت الغروب، تترك الشمس ظلالا طويلة. كما أن حرارة النهار تمنح تأثيرا ضبابيّا وخلفية ناعمة، وهو وضع مثاليّ في التصوير.
ضع في اعتبارك أن أشعّة الشمس في منتصف النهار تصبح رتيبة وقاسية. لذا تأكّد من اختيار التوقيت المناسب، أي بعد شروق الشمس أو قبل غروبها بساعتين، كي لا تفوتك أفضل ساعات تصوير الطبيعة.
وبشكل عام، يجب أن تتبع حدسك وتُزامن عمل الكاميرا بحيث تتصرّف على سجيّتك وحسبما تمليه اللحظة. وتذكّر دائما أن الفنّان بداخلك، وليس الفنّي، هو من يجب أن ينقل المشهد ويحوّله إلى صورة.
في إحدى اللوحات التي رُسمت لتزيّن ديوان الرباعيات، يظهر عمر الخيّام مرتقيا ربوة شاهقة وقت السحَر بينما يحدّق في السماء متأمّلا منظر النجوم المتلألئة من بعيد. الذي يتأمّل الصورة لا بدّ وان يتخيّل أن الخيّام من موضعه المرتفع ذاك، وهو الذي درس علم الفلك وبرع فيه، كان يحاول اكتشاف بوّابات أو ممرّات يمكن أن تشفّ عمّا وراء السماء القريبة من عوالم وأكوان. ذلك ما كان يشغله دائما. كان دائم البحث عن إجابات ترضي فضوله وتروّض جموح نفسه الحائرة. كلّما رأيت هذه اللوحة تذكّرت مقاطع بعينها من الرباعيّات وبخاصّة تلك التي يقول فيها الخيّام: أطال أهل الأنفس الباصرةْ، تفكيرهم في ذاتك القادرةْ. ولم تزل يا ربّ أفهامهم، حيرى كهذي الأنجم الحائرةْ. أفنيت عمري في اكتناه القضاءْ، وكشف ما يحجبه في الخفاءْ. فلم أجد أسراره وانقضى، عمري وأحسست دبيب الفناءْ. لكنّ الشاعر، في غمرة أفكاره وتساؤلاته الكثيرة، لا يلبث أن يقتنع باستحالة أن يعرف الإنسان شيئا ابعد من وجوده المباشر. وعليه فإن الحكمة تقتضي أن يفكّر الإنسان بيومه وأن يستمتع باللحظة التي هو فيها: لا توحش النفس بخوف الظنونْ، واغنم من الحاضر أمن اليقينْ. فقد تساوى في الثرى راحل غداً وماض من ألوف السنينْ. أولى بهذا القلب أن يخفقا، وفي ضرام الحبّ أن يُحرقا. ما أضيع اليوم الذي مرّ بي، من غير أن أهوى وأن أعشقا. الخيّام شخصية نادرة وغريبة لا ينفع معها أنصاف المواقف أو الحلول. إما أن تحبّه كثيرا وتأنس له وإما أن تكرهه وتنفر منه وتمقت شعره. وأنا انتمي إلى الصنف الأوّل. حدث هذا منذ أن سمعت الرباعيات لأوّل مرّة بصوت أم كلثوم وترجمة احمد رامي. وإلى اليوم، ما زلت افضّل ترجمة الأخير للرباعيات على ترجمة الصافي النجفي. هذا الموقف عفوي ولا علاقة له بشروط وقواعد النقد الأدبي أو معايير المفاضلة بين ترجمة وأخرى. غاية ما في الأمر أنني ألفت الرباعيات بصوت أم كلثوم وترجمة رامي وتعوّدت على سماعها بل وحفظت معظم مقاطعها عن ظهر قلب بحكم التعوّد والتكرار. رامي وأم كلثوم يعود إليهما الفضل الأوّل في تعريف الجمهور العربي بالخيّام وبالرباعيات. وأغلب الظنّ انه ما كان بوسع أكثر الناس أن يعرفوا عن الخيّام وشعره شيئا لولا أن غنّت أم كلثوم الرباعيات بموسيقى ملحّن عظيم مرهف الحسّ ومتذوّق للشعر مثل رياض السنباطي. وجزء مهم من جمال الرباعيات، القصيدة والأغنية، يكمن في أبياتها الأوّلى التي تتسلّل إلى أعماق النفس برقّة وعذوبة: سمعتُ صوتا هاتفا في السحَرْ، نادى من الغيب غُفاة البشرْ. هُبّوا املئوا كاس المنى، قبل أن تملأ كأسَ العمر كفّ القدَرْ. أفق خفيف الظلّ هذا السَحَرْ، نادى دع النوم وناغي الوترْ. فما أطال النوم عمرا، ولا قصّر في الأعمار طول السَهَرْ. لبست ثوب العيش لم اُستشرْ، وحرتُ فيه بين شتّى الفِكَرْ. وسوف أنضو الثوب عنّي، ولم أدرك لماذا جئت وأين المفرّ. وكم توالى الليل بعد النهارْ، وطال بالأنجم هذا المدارْ. فامشِِ الهوينا إن هذا الثرى، من أعين ساحرة الاحورارْ. أطفئ لظى القلب بشهد الرضابْ، فإنّما الأيّام مثل السحابْ. وعيشنا طيف خيال فَنَل حظّك منه قبل فوت الشبابْ. وتلك التي يقول فيها: لا تشغل النفس بماضي الزمانْ، ولا بآتي العيش قبل الأوانْ. واغنم من الحاضر لذّاته، فليس في طبع الليالي الأمانْ. القلب قد أضناه عشق الجمالْ، والصدر قد ضاق بما لا يُقالْ. يا ربّي هل يرضيك هذا الظمأ، والماء ينساب من أمامي زُلالْ. لكنّ في الرباعيات مقاطع أخرى لا تقلّ جمالا ممّا لم تغنّه أم كلثوم. وهي امتداد لفلسفة الخيام وحيرته وقلقه الوجودي الممضّ: عش راضيا واهجر دواعي الألمْ، واعدل مع الظالم مهما ظلمْ. نهاية الدنيا فناء فعش، فيها طليقا واعتبرها عَدَمْ. الخمر كالورد وكأس الشرابْ، شفّت فكانت مثل ورد مُذابْ. كأنّما البدر نثا ضوءه، فكان حول الشمس منه نقابْ. كنّا فصرنا قطرة في عُبابْ، عشنا وعدنا ذرّة في الترابْ. جئنا إلى الأرض ورحنا كما، دبّ عليها النمل حينا وغابْ. خلقتني يا ربّ ماءاً وطينْ، وصُغتني ما شئت عزّا وهَونْ. فما احتيالي والذي قد جرى، كتبته يا ربّي فوق الجبينْ. قبل أسابيع شاهدت برنامجا وثائقيا رائعا أعدّته إحدى محطّات البي بي سي عن حياة وشعر الخيّام. معدّ ومقدّم البرنامج، وهو أديب إيراني يعمل في القسم الفارسي بالإذاعة البريطانية، ظهر في بداية البرنامج وهو يحتسي كأسا من النبيذ في إشارة إلى إحدى السمات الفارقة التي تميّز الخيام وشعره. ثم تحدّث المذيع عن أهمّية مدينة نيسابور، أو نيشابور كما ينطقها الإيرانيون، مسقط رأس الخيّام التي كانت زمن الشاعر تضاهي القسطنطينية في مكانتها السياسية والثقافية. بعد ذلك انتقلت الكاميرا إلى كيمبريدج وظهر في الصورة عدد من الأكاديميين الانجليز والإيرانيين الذين تحدّثوا عن أهميّة الخيّام وبراعته في تصوير الروح الإنسانية والتعبير عن هشاشة الحياة وحيرة الإنسان.
وعلى خلفية من موسيقى الملحّن الإيراني محمّد رضا شجريان الذي وضع موسيقى الرباعيات بالفارسية، ظهرت صورة ادوارد فيتزجيرالد أوّل من ترجم الرباعيات إلى الانجليزية والرجل الذي جعل اسم الخيّام مشهورا في الغرب. ثم تحدّث شاعر إيراني عن الملامح المميّزة للرباعيات مشيرا إلى أنها تتّسم بالبناء النغمي الأخّاذ وقوّة التعبير والجرس الموسيقي وبكثرة الصور الخيالية والبلاغية والروحية. وهناك فكرة تتكرّر باستمرار في شعر الخيّام وتتمثّل في شعور الإنسان باليأس أمام القوى الغيبية والخفيّة التي يصعب على الإنسان كبحها أو التحكّم بها مثل الزمن والمصير أو القدر. وأضاف أن إشارات الخيّام المتواترة عن الموت الذي يحصد الأرواح بلا تمييز تثير في النفس قدرا غير قليل من الأسى والحزن. ثم تحدّث عن ترجمة فيتزجيرالد للرباعيات مذكّرا بحقيقة أنها ظهرت في نفس السنة التي نشر فيها تشارلز داروين كتابه الشهير أصل الأنواع، وهو ما يعتبر مفارقة لافتة. ثم قال الشاعر مخاطبا المذيع: تأمّل هذه الأبيات من الرباعيات، وقرأ: هات اسقني كأس الطِلا السلسلِ، وغنّني لحنا مع البلبلِ. فإنما الإبريق في صَبّهِ، يحكي خرير الماء في الجدولِ. كان الذي صوّرني يعلمُ، في الغيب ما أجني وما آثمُ. فكيف يجزيني على أنني، أجرمت والجرم قضا مبرمُ. لم يجنِ شيئا من حياتي الوجودْ، ولن يضير الكون أنّي أبيد. وا حَيرتي ما قال لي قائل، ماذا اشتعال الروح كيف الخمودْ. لو أنّني خُيّرت أو كان لي، مفتاح باب القدَر المقفلِ. لاخترت عن دنيا الأسى أنني، لم أهبط الدنيا ولم أرحلِ. يا طالب الدنيا وُقيتَ العثارْ، دع أمل الربح وخوف الخَسَارْ. واشرب عتيق الخمر فهي التي، تفكّ عن نفسك قيد الإسارْ. وقال الشاعر معلّقا: الذي استطاع ترجمة هذه الأبيات بروحها ومضمونها الفلسفي والوجودي لا بدّ وأن يكون هو نفسه شاعرا مبدعا ومترجما متميّزا. ثم استمرّ يقرأ مقاطع أخرى من الرباعيات وهو يبتسم ويهزّ رأسه تأثّرا وطرباً: حار الورى ما بين كفر ودينْ، وأمعنوا في الشكّ أو في اليقينْ. وسوف يدعوهم منادي الردى، يقول ليس الحقّ ما تسلكونْ. الخمر توليك نعيم الخلودْ، ولذّة الدنيا وأنس الوجودْ. تحرق مثل النار لكنّها، تجعل نار الحزن ماءاً برودْ. قالوا امتنع عن شرب بنت الكرومْ، فإنها تورث نار الجحيمْ. ولذّتي في شربها ساعة، تعدل في عيني جنان النعيمْ. لو كان لي قدرة ربّ مجيدْ، خلقتُ هذا الكون خلقا جديدْ. يكون فيه غير دنيا الأسى، دنيا يعيش الحرّ فيها سعيدْ. خير لي العشق وكأس المدامْ، من ادّعاء الزهد والاحتشامْ. لو كانت النار لمثلي خلتْ، جنّات عدن من جميع الأنامْ. ثم استضاف البرنامج فيلسوفا إيرانيا قال إن ما حبّب الغرب في شعر الخيّام هو فهمه للروح الإنسانية والنفس الداخلية من قبيل حديثه عن الألم والموت والحبّ والسعادة والمصير والشكّ واللا يقين. وأضاف: الانجليز من جهتهم وجدوا في الرباعيات أشياء من شكسبير والإنجيل وكارلايل وتينيسون. وكانت الرباعيات تتحدّث إلى انجلترا الفيكتورية في العديد من أجزائها. وأضاف: إن من الخطأ أن نحصر الخيّام في الصور واللوحات التي تصوّره مع الخمر والنساء. فالنبيذ في الرباعيات يرمز للمتع الجمالية والفكرية وليس مقتصرا على المتعة الحسّية فحسب. وختم حديثه بالقول: انتشار الخيّام وشهرته المدويّة يصعب أحيانا تفسيرها أو فهمها. لقد غطّت شهرته على شعراء إيرانيين كبار ولا يقلّون أهمّية، مثل نظامي والرومي وسعدي وحافظ الشيرازي والعطّار وسواهم. ثم استضاف البرنامج رسّاما تحدّث عن الرسوم التصويرية التي صاحبت الطبعات المختلفة من الرباعيات بدءاً من لوحات ادموند ديولاك الساحرة ومرورا برسومات ايليو فيدر واتش جي فورد وانتهاءا برسومات العديد من الفنانين الإيرانيين. وظهر بعد ذلك أكاديمي بريطاني تحدّث عن بعض خصائص شخصية الخيّام فقال: الخيّام التاريخي لا يُعرف عنه الشيء الكثير، ومن الصعوبة بمكان إعادة بناء ملامح شخصيّته بدقّة. هو حينا شاعر وحينا آخر متصوّف، في حين يعتبره آخرون لا أدرياً أو لا دينياً. لكن الثابت انه كان شخصا متعدّد الاهتمامات، وكانت له إسهاماته البارزة في الرياضيات وعلم الفلك. وقد أطلق اسمه على احد الكواكب البعيدة تكريما له وتقديرا لاكتشافاته المهمّة في ميدان الفلك. وأضاف: كانت الرباعيات تُعطى دائما تفسيرات رمزية ومجازية تناسب الظروف السياسية والاجتماعية لكلّ عصر. وقد أحبّ الناس هذه القصائد لأنهم كانوا يرون فيها مصدرا من مصادر الحكمة القديمة، بالإضافة إلى تصويرها الساحر لبعض متع ومباهج الحياة مثل الإشارات المتكّررة فيها إلى الحدائق الغنّاء والنساء الغامضات، وهو ما أسهم في تشكيل نظرة الغربيين لطبيعة الثقافة الإسلامية عموما. ثم انتقلت الكاميرا إلى مدينة نيسابور، وبالتحديد إلى المقبرة التي يقوم فيها ضريح عمر الخيّام. المناسبة كانت الاحتفال بإقامة تمثال لـ فيتزجيرالد إلى جوار ضريح الخيّام بمناسبة مرور 150 عاما على ترجمة الرباعيات إلى الانجليزية. الملفت للنظر أن أكثر من حضروا المناسبة كانوا من النساء. وقد صاح الجميع لحظة رفع الستار عن التمثال مردّدين: لا اله إلا الله. المفارقة هي أن إيران الرسمية لم تتصالح بعد مع الخيّام، مع انه يمثل جزءا لا يتجزّأ من هويّة إيران التاريخية والأدبية والثقافية. غير أن نفوذ الشاعر في المجتمع الإيراني كبير بما لا يوصف. وقد ظهرت في البرنامج صور لفتيات محجّبات وهنّ يضعن الزهور على ضريحه ويحملن كراريس ملوّنة تضم أشعاره. على موسيقى النهاية لاح لي طيف الخيّام مرّة أخرى. كان ما يزال يرنو ببصره نحو الأفق البعيد وقد أحاطته غلالة من نور بينما كانت النجوم ترسل بريقها الشاحب الأخير قبل أن تختفي خلف بوّابات الفجر. كان يردّد بصوت خاشع متبتّل آخر أبيات الرباعيات: يا من يحار الفهم في قدرتكْ، وتطلب النفس حمى طاعتكْ. أسكرني الإثم ولكنّني، صحوت بالآمال في رحمتكْ. إن لم أكن أخلصت في طاعتكْ، فإنّني اطمع في رحمتكْ. وإنّ ما يشفع لي أنني قد عشت لا أشرك في وحدتكْ. يا عالِم الأسرار علم اليقينْ، يا كاشف الضرّ عن البائسينْ. يا قابل الأعذار عدنا إلى ظلّك، فاقبل توبة التائبينْ.
لوحات فرانسيس بيكون مخيفة وأحيانا مرعبة: رأس منصهر أمام ستارة، شخص يصرخ وهو يتكوّم تحت مظلّة، شخص آخر يجلس في غرفة صغيرة بلا نوافذ كما لو انه مسجون في الجحيم. حياة هذا الرسّام كانت دائما مصدر اهتمام العديد من نقّاد ومؤرّخي الفنّ. بعضهم وصفه بالمجنون. والبعض الآخر اعتبره أعظم رسّام بريطاني منذ تيرنر. والبعض الثالث حاول أن يقيم صلة ما بين حياته الشخصية ومواضيع لوحاته. الزمن الذي عاش فيه بيكون كان رهيبا. ملايين البشر فتكت بهم الفاشية والنازية والثورات والحروب المتعدّدة طيلة القرن العشرين. وقد جلب بيكون كلّ هذه الفظاعات إلى لوحاته. في بعض أعماله، رسم بيكون قطعا من اللحم. "ذلك اللحم هو لحمنا جميعا. من المرعب أن تصحو في الصباح لتكتشف أن هناك بشرا تحوّلوا إلى أشلاء صغيرة باسم الدين أو إرضاءً لنزوات مجموعة من الحمقى والمتوحّشين". كان فرانسيس بيكون، بالإضافة إلى اشتغاله بالرسم، فيلسوفا وقارئا نهما. من أقواله المشهورة: كلّ الألوان تتوافق في الظلام. اللوحة ليست دائما تعبيرا أمينا عن مزاج الرسّام، إذ قد يكون في حالة يأس عظيمة ومع ذلك يرسم لوحة تضجّ بالسعادة والبهجة. من الحالات الأكثر مدعاة للتعاسة هي حقيقة أن الأشياء التي نشتهيها قليلة والأشياء التي نخاف منها كثيرة. بعض الكتب يحسن تذوّقها، والبعض الآخر التهامها، والبعض القليل جدّا يتعيّن مضغها وهضمها. ثمّة أربعة أشياء تكون في أحسن حالاتها عندما تتقدّم في العمر: الغابة كي تُحرق، والنبيذ كي يُشرب، والصديق القديم كي تثق به، والكاتب المخضرم كي تقرأ له". الموضوع المترجم التالي يلقي بعض الضوء على عالم فرانسيس بيكون وطبيعة نظرته للحياة والفنّ لمناسبة الاحتفال بمرور مائة عام على مولده.
لو قُدّر لك أن عشت في لندن خلال ستّينات القرن الماضي وأردت التحدّث مع فرانسيس بيكون فما عليك إلا أن تتوجّه إلى نادي كولوني روم بحيّ سوهو الذي كان الرسّام يرتاده بانتظام. وقد حدث في ذلك الوقت أن ارتفعت حظوظه بين النقّاد وازدادت إمكانياته المالية. وقد عُرف بأريحيّته، إذ كان يبادر بالدفع نيابة عن أصدقائه ويخصّ عمّال المقهى بإكراميات سخية. الشيء الذي كان يقدّره بيكون أكثر من المال هو الحديث إلى الآخرين. ولم يكن يتواني عن رواية بعض النكات الرديئة عندما كان يناقش مسرحيات اسخيليوس. في عام 1962 قرّر ديفيد سيلفستر الناقد الفنّي وصديق بيكون إيصال مواعظ وأفكار بيكون إلى اكبر شريحة من الجمهور، فسجّل عددا من المقابلات التي أجراها مع الرسّام ثم نشرها جميعا في كتاب اختار له اسم "وحشية الحقيقة: لقاءات مع فرانسيس بيكون". وقد حقّق الكتاب شعبية كبيرة وألقى الضوء على فنّ بيكون الذي يعتبره الكثيرون غامضا ومزعجا. اليوم يتمتّع فرانسيس بيكون بالكثير من الاهتمام، خاصّة بعد أن بيعت بعض لوحاته في عام 2007 بأسعار قياسية. لقاءاته مع سيلفستر تبدو الآن أكثر أهمّية في وقت يحاول الجيل الجديد فهم لوحاته المثيرة والحارقة. هذا الكتاب يطرح أسئلة كبيرة عن عملية الخلق الفنّي مثل: أيّ أنواع الفنّ أكثر صدقا، العمل الذي ينبثق عن فكرة مسبقة أم الذي يأتي عفو الخاطر ووليد اللحظة؟ هل التجريد أكثر قوّة من تمثيل الأشخاص؟ ما الذي يجعل الفنّانين يركّزون على موضوعات معيّنة دون غيرها؟ الفنّانون والكتّاب كثيرا ما يثنون على تصوّرات بيكون الصريحة والبسيطة عن موضوع بمثل هذه الصعوبة. يقول داميان هيرست: قرأت آراء بيكون وأعدت قراءتها وكنت مواظبا على التهامها كما يلتهم مؤمن كتابه المقدّس. كانت آراؤه هي السبيل الموصل للفنّ بالنسبة لي". كان بيكون يعتقد أن من الأسهل على الإنسان أن يبدع عندما يكون تحت تأثير المخدّرات والكحول والإرهاق، أو اليأس كما في حالته هو. كان السؤال المركزي بالنسبة له هو: كيف اشعر أنني استطيع رسم هذه الصورة بحيث تبدو أكثر صدقا بالنسبة لي؟ كان يستخدم ألوانا معيّنة إلى أن يحسّ بالملل منها فينتقل لألوان أخرى. "الفكرة هي أن ترسم عملا يدفع برموز الأشخاص في اللوحة إلى الجهاز العصبي بطريقة عنيفة ومتوتّرة". كان بيكون يبحث دائما عن الإلهام. محترفه الفوضوي كان مفروشا بأكداس من الصور ذات الطلاء المتناثر التي استقاها من مصادر عشوائية. وكان يعزو إلى سيغموند فرويد الفضل في تنقّله الحذر والدقيق ما بين منطقتي الواقع والأحلام الغريبة. يقول: لا اعتقد أنني موهوب. أنا فقط اُحسِن استقبال الأشياء". الموتيفات المتكرّرة في لوحات بيكون، مثل جيَف الحيوانات والمظلات السوداء ومخلّفات تعاطي المخدّرات، توصل إحساسا بتدمير الذات. ولو تأمّلت الأشخاص المشوّهين في لوحاته، ستلاحظ أن أذرعهم وآذانهم وسيقانهم في غير أماكنها الطبيعية. ذات مرّة وصف المخرج السينمائي الايطالي برناردو برتولوتشي بورتريهاته بأنها عبارة عن وجوه يلتهمها شيء ما من داخلها. وقد أوصى برتولوتشي مارلون براندو بحضور معرض أقامه بيكون للوحاته أثناء تصوير فيلم "التانغو الأخير في باريس". لكنّ بيكون كان يقاوم فكرة أن أعماله تثير الرعب. "الرعب جزء من الحياة، لكنه ليس المكوّن الوحيد". وقد اعترف أن حياته المبكّرة في ايرلندا وغزواته وهو في سنّ المراهقة للعالم السفلي القاسي للمثليين في برلين جعله معتادا دائما على العيش في أجواء عنف. كما اعترف أن شخوصه تبدو مشرفة على الهلاك أو في لحظات أزمة. "إن قابلية الإنسان للفناء هي حالة لا مفرّ منها ولا يمكن أن نتوقّف أبدا عن التفكير بها. وإذا كانت الحياة تثيرك فإن ظلّها، أي الموت، يجب أيضا أن يثيرك". يقول ديفيد سيلفستر: ليس من الغباء أن نعزو هاجس الرعب إلى فنّان رسم لوحات كثيرة لبشر يصرخون". الصرخات التي أثارت إعجابي أكثر من غيرها - يقول بيكون - هي التي رسمها نيكولا بوسان في لوحته مذبحة الأبرياء وتلك التي رأيتها في لقطة من فيلم سيرغي ايزنستين المدمّرة بوتومكين. لقد كنت أريد دائما أن ارسم ابتسامة ولم انجح أبدا". إذا كان هذا الكلام يبدو سطحيا وغريبا، فإن ممّا لا شكّ فيه أن بيكون كان يملك في معظم الأحيان القدرة على التعبير عن نفسه بعمق. "أتذكّر أنني كنت انظر إلى فضلات كلب على احد الأرصفة عندما كنت في السابعة عشرة من عمري. وأدركت فجأة أن هذا هو ما تشبهه الحياة في واقع الأمر. لقد عذّبني ما رأيته لأشهر. وأعتقد أن الحياة لا معنى لها، ونحن الذين نعطي لهذا الوجود العدمي معنى من خلال دوافعنا ونزعاتنا".