:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، نوفمبر 23، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • ترى لو كان الإسكندر الأكبر على قيد الحياة اليوم، كيف ستُقارن ثروته بثروات أباطرة ومليارديرات العصر الحديث؟
    يذكر المؤرّخ ڤيكتور هانسون في كتابه "حروب الإغريق القدماء" أن ثروة الإسكندر المقدوني التي جمعها من خلال سلسلة من الفتوحات الجريئة، جعلت منه أحد أغنى وأقوى الشخصيات في زمانه.
    في سنّ الثلاثين، غزا الإسكندر الإمبراطورية الأكثر قوّة وثراءً آنذاك، أي الإمبراطورية الفارسية التي كانت منجم ذهب حقيقيّا. كان الفرس قد راكموا ثروتهم نتيجة مزيج من الإدارة الذكيّة وشبكات التجارة الواسعة والجزية الضخمة التي فرضوها على الأراضي التي فتحوها. وكانت هذه البلاد الواقعة عند مفترق طرق التجارة الرئيسية، بما في ذلك طريق الحرير الشهير، مركزا مزدحما حيث كانت السلع والذهب والفضّة تتدفّق من جميع أنحاء آسيا والشرق الأدنى.
    أضف إلى ذلك الثروات الطبيعية التي كانت تتمتّع بها الإمبراطورية من الأراضي الخصبة والمعادن الثمينة والوفيرة. كان الفرس -بحسب هانسون- بارعين في توحيد جمع الجزية والضرائب، ما ضمِن تدفّقا ثابتا للثروات إلى خزائن الإمبراطورية. لذا عندما أطاح الإسكندر بداريوس الثالث واستولى على العواصم الفارسية مثل سوسا وبابل وبرسيبوليس، لم يكن يوسّع أراضيه فحسب، بل كان يحقّق الفوز بالجائزة الكبرى، أي إمكانية الوصول إلى الموارد الاقتصادية الهائلة التي احتكرها الفرس لقرون.
    يقول هانسون: بموازين اليوم يمكن وضع حصيلة الإسكندر من سوسة وحدها على قدم المساواة مع صافي ثروة جيف بيزوس مؤسّس أمازون. أما برسيبوليس فكانت خزانتها لوحدها تحتوي على حوالي أربعة ملايين كيلوغرام من الفضّة. ويمكن ان يبلغ إجمالي قيمة هذه الفضّة بأسعار هذه الأيّام أكثر من ثلاثة مليارات دولار.
    وهانسون يناقش في كتابه كيف أن فتوحات الإسكندر أعادت توزيع الثروة عبر إمبراطورتيه بحيث أن تدفّق السبائك الذهبية والفضّية في التداول يشبه الطريقة التي تعمل بها استثمارات مليارديرات التكنولوجيا على تحفيز النشاط الاقتصادي هذه الايّام.
    وبينما لا يقترب هذا المبلغ تماما من ثروة بيزوس، إلا أنه يمكن مقارنته بصافي ثروة أباطرة التكنولوجيا الآخرين مثل مارك زوكربيرغ أو جاك دورسي مؤسّسي فيس بوك وتويتر. والإسكندر، باعتباره صاحب رأس المال الاستثماري الأصلي الذي نشر الثروة في جميع أنحاء الإمبراطورية وعزّز النمو الاقتصادي يمكن مقارنته بإيلون ماسك الذي استثمر في الطاقة المتجدّدة وفي السفر إلى الفضاء.
    كان الإسكندر الأكبر هو الملياردير الأصلي الذي جمع ثروة مذهلة حتى بمعايير اليوم. وعمليات الاستحواذ الاستراتيجية التي قام بها في باكتيريا وسوغديانا، إلى جانب الكنوز التي استولى عليها من الإمبراطورية الفارسية، تبيّن النطاق الهائل لثروته. وكما يؤثّر المليارديرات المعاصرون مثل زوكربيرغ وماسك وبيزوس على عالمنا، أعادت ثروة الإسكندر تشكيل المشهد الاقتصادي للعالم القديم بالكامل.
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • هذه اللوحة هي إحدى أشهر لوحات ماتيس، كما تُعتبر تحفة في فنّ رسم البورتريه في القرن العشرين. ويتجلّى تميّزها في بنيتها الهندسية البسيطة وفي الطريقة التي مُزجت بها الألوان. رسم ماتيس اللوحة لزوجته اميلي في خريف عام 1905، عندما عاد إلى باريس بعد قضائه عطلة قصيرة في الريف انهمك خلالها، هو وزميله أندريه ديرين، في تجارب ثورية تهدف إلى تحرير اللون من وظيفته الوصفية والسماح له بالعمل كقوّة في حدّ ذاته، من خلال الاستخدام غير التقليدي او المألوف للألوان.
    وباعتبار اللوحة تركيبة لونية في الأساس، فإنها تبدو جريئة وحيوية في الوقت نفسه. وقد استخدم ماتيس هذه الألوان القويّة لإرضاء العين القادرة على رؤية وتقييم كلّ شيء من مسافة بعيدة. وكان سعيدا تماما بإخضاع الشخصية المرسومة وتحويلها إلى زخرفة أو زينة.
    عنوان اللوحة، أي الشريط الأخضر، يشير الى الشريط العمودي أسفل منتصف وجه المرأة والذي يتّسق مع تقنيات وقيم الوحشية. اللوحة حظيت بالثناء والنقد بسبب هذه التقنيات، بالإضافة إلى التمثيل الفنّي المبتكر للشخصية.
  • ❉ ❉ ❉

  • يُحكى أن سلطانا على بلاد بعيدة سمع أن في السوق جارية ثمنها يفوق ثمن مائة جارية أخرى. فأرسل في طلبها ليرى ما الذي يجعلها مختلفة عن غيرها إلى هذا الحدّ. وعندما جاءت، وقفت أمامه بكبرياء لم يرَ مثله في أيّ من خدمه وجواريه الآخرين من قبل.
    وسألها السلطان: لماذا سعرك مرتفع هكذا؟ فقالت: لأني أتميّز بالذكاء". تعجّب السلطان من ردّ المرأة وثقتها بنفسها وفكّر للحظات ثم قال لها بفضول: حسنا، سأسألك سؤالاً، فإذا أجبتِ عليه بشكل صحيح فسأهبك حرّيتك، وإن لم تجيبي فسأقتلك". هزّت الجارية رأسها بالموافقة، فسألها: ما أجمل الثياب؟ وما أطيب العطر؟ وما أشهى الطعام؟ وما أنعم الفِراش؟ وما أجمل البلاد؟"
    فالتفتت الجارية إلى الحاضرين وقالت: جهّزوا أمتعتي وجوادي، فإني خارجة من هذا القصر الليلة وأنا حرّة". ثم قالت: أجمل الثياب قميص الفقير الذي لا يملك إلا واحداً، فإنه يجده مناسباً للشتاء والصيف. وأطيب العطور هي رائحة الأم، حتى لو كانت مجرّد نافخة نار في كوخ. وأشهى الطعام هو الذي يأكله الإنسان عندما يجوع، لأن الجائع يجد حتى الخبز اليابس لذيذاً. أما أنعم الفِراش فهو الذي تنام عليه مطمئنّ البال، فإن كنت ظالماً فإن الفراش، حتى لو كان مصنوعا من الذهب، سيبدو لك مليئاً بالأشواك."
    وما أن أكملت الجارية كلامها حتى توجّهت نحو الباب، فناداها السلطان: لكنكِ لم تجيبي على سؤالي الأخير بعد". فالتفتت اليه وقالت: أجمل بلد هو البلد الحرّ الذي لا يحكمه الجهلاء".
    وكان جوابها صحيحا، فحصلت على حرّيتها في الحال.

  • Credits
    open.smk.dk
    librarything.com

    الخميس، نوفمبر 21، 2024

    أسفار ناصر خسرو


    يُعتبر "كتاب السفر"، أو "سفرنامة"، للشاعر والرحّالة والفيلسوف الفارسي ناصر خسرو (1004 - 1072) وثيقة تاريخية قيّمة عن العالم الإسلامي خلال العصور الوسطى. وفيه يسرد الكاتب تفاصيل رحلاته خلال القرن الحادي عشر الميلادي والتي دامت سبع سنوات وضمّنها مشاهداته وتجاربه وانطباعاته.
    والكتاب ليس مهمّا لمزاياه الأدبية فقط، بل أيضا لأهميّته التاريخية والثقافية. وما يميّزه عن كتب الرحلات الأخرى أن سرده يعكس نهجا فلسفيا وتأمّليا ويركّز على النموّ الشخصي للكاتب والدروس الأخلاقية التي استفادها من ترحاله.
    يقول ناصر خسرو في بداية الكتاب: في يوم اقتران كوكب المشتري والقمر، وهو اليوم الذي يقال إن الله يستجيب فيه لكلّ دعاء، اعتزلتُ في زاوية وصلّيت ركعتين، سائلاً الله أن يمنحني ثروة. وذات ليلة، رأيت في المنام شخصا يقول لي: إلى متى تستمرّ في شرب المُدامة التي تدمّر عقل الإنسان؟ لو بقيت واعيا لكان ذلك أفضل لك".
    فأجبته: لم يستطع الحكماء أن يأتوا بشيء آخر يخفّف من حزن هذا العالم". فأجابني: إن فقدان الحواسّ ليس راحة. ولا يمكن أن يسمّى حكيما من يقود الناس إلى الجنون، بل يجب على المرء أن يبحث عمّا يزيد العقل والبصيرة". فقلت: وأين أجد مثل هذا؟" قال: إبحث تجد". ثم أشار إلى جبل ولم يقل شيئا آخر.
    ولما استيقظت تذكّرت كلام الرجل وقلت لنفسي: لقد استيقظتَ من نوم الليلة الماضية، فمتى ستستيقظ من نوم الأربعين عاما؟". وفكّرت في أنني إن لم أغيّر من نفسي فلن أجد السعادة أبدا. وفي اليوم التالي تطهّرت من الرأس إلى القدمين، وذهبت إلى المسجد، وصلّيت إلى الله طلبا للمساعدة في إنجاز ما كان عليّ القيام به والامتناع عمّا نهى عنه. ثم عزمت على أن أذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحج. وسدّدت ما عليّ من ديون وتركت سائر أمور الدنيا إلا ما كان منها ضروريّا".
    بدأ ناصر خسرو رحلته من ساحل بحر قزوين في إيران إلى شرق الأناضول في تركيا ثم إلى سوريا وفلسطين ولبنان. وقد زار القدس وعكّا وحيفا وطبريّا، ومن هناك ذهب إلى مصر والقاهرة، مقرّ الخلافة الفاطمية. ومن مصر واصل طريقه إلى الحجاز عبر شبه الجزيرة العربية حيث أدّى الحج مرّتين وتوقّف في الطائف وجدّة، ليعود بعد نحو سبع سنوات من الترحال إلى موطنه في بلخ.
    في هذا الكتاب استوقفني بشكل خاص حديث المؤلّف عن زيارته لمدينتي حلب وسرمين وعن لقائه بالشاعر أبي العلاء المعرّي. يقول: على بعد ستّة فراسخ من سرمين، تقع معرّة النعمان، وهي مدينة مكتظّة بالسكّان ولها سور حجري. وقد وجدت أسواقها مزدهرة، وبُني مسجد الجمعة فيها على تلّة بحيث يتعيّن على من يريد الصعود إليه أن يرقى ثلاث عشرة درجة. وتتكوّن زراعتها أساسا من القمح، كما يكثر التين والزيتون والفستق واللوز والعنب. وتأتي مياه المدينة من الأمطار والآبار.


    وكان في هذه المدينة رجل اسمه أبو العلاء. ورغم أنه أعمى، إلا أنه كان عمدة للمدينة وعلى جانب من الثراء. كما أن عنده العديد من العبيد والخدم، لكنه اختار حياة الزهد. وكان يلبس الثياب الخشنة ويلازم البيت ويقسم نصفا من خبز الشعير إلى تسعة أجزاء ويكتفي بقطعة واحدة منه طوال النهار والليل، ولا يأكل شيئاً غير ذلك.
    ويضيف: وسمعت أن باب داره يظلّ مفتوحاً دائماً، وأن وكلاءه يقومون بكلّ أعمال المدينة، إلا الإشراف العام الذي كان يتولّاه بنفسه. كان يصوم ويسهر الليل ولا يشارك في شئون الدنيا ولا يحرم أحدا من ثروته. وقد بلغ هذا الرجل من المكانة في الشعر والأدب ما جعل علماء الشام والمغرب والعراق يعترفون بأنه لا يوجد في هذا العصر من يضاهيه.
    ثم يذكر الرحّالة أن المعرّي ألّف كتاباً اسمه "الفصول والغايات" تحدّث فيه بأمثال غامضة. ويضيف: ورغم فصاحته وعجيبه، إلا أن هذا الكتاب لا يفهمه إلا القليلون ممّن قرأوه معه. ويجتمع حول الرجل دائماً أكثر من مائتي شخص من كلّ مكان لقراءة الأدب والشعر. وسمعت أنه نظَم أكثر من مائة ألف بيت من الشعر. وقد سأله أحدهم ذات مرّة لماذا، وقد أعطاه الله كلّ هذه الثروة، يوزّعها على الناس ولا يأخذ منها شيئا لنفسه. فقال: لا أملك شيئا أكثر ممّا آكله".
    ثم يتحدّث ناصر خسرو عن رحلته الى بلدة يقال لها زوزان وتقع الى الجنوب من هيرات، وعن لقائه فيها مع رجل يُدعى أبا منصور محمد بن دوست. فيقول: كان هذا الرجل يعرف شيئاً من الطبّ والفلك والمنطق. فقال لي: خارج الأفلاك والنجوم، ماذا يوجد؟" قلت: إن الأشياء التي داخل الأفلاك لها أسماء، ولكن ليس لها أيّ شيء خارجها." فسألني: فما تقول إذن؟ هل يوجد جوهر خارج الأفلاك أم لا؟"
    فقلت: لا بدّ أن يكون الكون محدوداً بالضرورة. وحَدُّه هو الكرة الأخيرة". فقال: لذلك فإن الجوهر الذي يجب أن يعتقد العقل أنه موجود إنما هو محدود وينتهي عند هذا الحدّ. فإذا كان محدوداً، فإلى أي حدّ يكون موجوداً؟! وإذا كان لانهائياً، فكيف يمكن أن يزول من الوجود؟!" ثم قال في نهاية حديثه: لقد عانيت من حيرة شديدة بسبب كلّ هذا"، فأجبته: ومن لم يعانِ من هذه الحيرة؟!".
    ويختم الرحّالة كتابه بهذه الكلمات المعبّرة: على الرغم من أن مشقّة وتعب العالم طويلان، فإن له نهاية ولا شك. إن الكواكب والنجوم تسافر ليلا ونهارا، وكلّ ما مضى يأتي بعده آخر. ونحن نسافر عبر ما يمكن تجاوزه حتى تأتي تلك الرحلة التي لا يمكن تجاوزها.
    ويضيف: كانت المسافة التي قطعناها من بلخ إلى مصر ومنها إلى مكّة ثم عبر البصرة إلى فارس ثم بلخ مرّة أخرى، عدا رحلات زيارة الأضرحة وغيرها، أكثر من ألفي فرسخ. وقد سجّلت مشاهداتي كما رأيتها. وإذا كان بعض ما سمعتُه من حكايات الآخرين لا يتفّق مع الحقيقة، فأرجو من قرّائي أن يسامحوني ولا يعاتبوني. والحمد لله ربّ العالمين".

    Credits
    dokumen.pub

    الثلاثاء، نوفمبر 19، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • يرى بعض المؤرّخين أن زُوّارا آخرين وصلوا الى الأميركتين قبل كولومبوس، ومن هؤلاء الڤايكنغ والأيرلنديون والإتروسكان والرومان والويلزيون والأفارقة واليابانيون والصينيون. ولكن في نهاية المطاف، لم يكتشف أحد من هؤلاء شيئا بمثل أهميّة الاكتشاف الذي حقّقه كولومبوس في عام 1492.
    ولا يرجع هذا إلى كون كولومبوس هو الأوّل أو إلى كونه شخصية محبوبة. فهو لم يكن كذلك. ولكن هذا البحّار الإيطالي فعل شيئاً غير مسبوق غيّر العالم إلى الأبد، وذلك عندما أضاف قارّة بأكملها إلى العالم المعروف آنذاك.
    يقول المؤرّخ فرانك جيكوبس: قبل كولومبوس، كانت الأميركتان عبارة عن نظام بيئي مكتفٍ ذاتيّا ومعزول عن بقيّة العالم بمحيطين هائلين. وبعد كولومبوس جاء الغزو والإبادة الجماعية، ولكن جاءت معهما أيضا الشعوب والأفكار والحيوانات والنباتات والأمراض الجديدة في كلا الاتجاهين.
    فقد تدفّقت أشياء جديدة إلى العالم الجديد من أوروبّا وأفريقيا وآسيا، والعكس صحيح. وهذا هو ما يُعرف بـ تبادل كولومبوس The Columbian Exchange، وهو المصطلح الذي صاغه لأوّل مرّة مؤرّخ أمريكي يُدعى ألفريد كروسبي في عام 1972، وقصد به التبادل على نطاق واسع للأشخاص والثقافات والأفكار والحيوانات والنباتات بين الأميركتين وبقيّة العالم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، نتيجة لاكتشاف كولومبوس للعالم الجديد.
    وكان كولومبوس نفسه هو الذي بدأ التبادل الكولومبي. ففي رحلته الأولى، عاد معه إلى أوروبّا بعدد من سكّان الكاريبي الأصليين وبعض الطيور والنباتات. وفي رحلته الثانية، جلب معه إلى الأميركتين القمح والفجل والبطّيخ والحمّص. وقد صنع هذا التبادل العالم كما نعرفه. وقبله، لم يكن هناك أناناس في هاواي ولا شوكولاتا في سويسرا ولا قهوة في كولومبيا.
    وقبل كولومبوس لم تكن أميركا معزولة بالكامل، وإلا لما قابل أيّ شعب عندما نزل الى أرضها. وكان أوّل سكّان أميركا من البشر قد عبروا من أوراسيا عبر مضيق بيرينغ قبل آلاف السنين. لكن تلك الرحلة كانت قاسية وباردة جدّا، لذا فإن "تبادل ما قبل كولومبوس" كان مقتصراً في الأساس على البشر.
    ولنتخيّل لو أن الغزاة الإسبان ماتوا بعد وقت قصير من وصولهم إلى أميركا بسبب بكتيريا أميركية غير معروفة. لربّما كان تدفّق الفتوحات قد انعكس، ولكانت مدن أوروبّا اليوم تزيّنها أهرامات الأزتيك بدلاً من الكاتدرائيات المسيحية. لكن ذلك لم يحدث. فالمرض الرئيسي الوحيد الذي انتقل في الاتجاه الآخر، أي من العالم الجديد الى أوربّا، كان مرض الزُهري.
    ولعلّ المساهمة الأكثر أهمية التي قدّمتها أميركا للنظام الغذائي العالمي كانت البطاطس. فقد دعمت القيمةُ الحرارية العالية لهذه الغلّة المتواضعة الأمن الغذائي للفلاحين، أولاً في أوروبّا ثم في أماكن أخرى، الأمر الذي ساعد في دعم الطفرة السكّانية.
    لكن كان لهذا النجاح جانب مظلم. فعندما فشل محصول البطاطس، أعقب ذلك مجاعة. وأودت آفة البطاطس في ايرلندا في أربعينات القرن التاسع عشر بحياة مليون شخص بسبب المجاعة. وهاجر مليون أيرلندي آخر، معظمهم إلى أمريكا، الأمر الذي أدّى إلى ظهور اتجاه استمرّ حتى بضعة عقود مضت.
    كان التبادل الكولومبي ولا شكّ التجربة الأولى للعالم في التعامل مع الظاهرة المسمّاة اليوم بالعولمة. وكانت بعض آثاره مفيدة، في حين كانت بعض آثاره الأخرى مدمّرة. وبهذا المعنى أصبح كولومبوس يمثّل الشخصية المثالية لهذه الظاهرة، فهو البطل والشرّير في الوقت نفسه.
    لكن الموازنة بين الخير والشرّ ليست دائما ذات جدوى. فقد أصبح العالم بعد التبادل الكولومبي أشبه بعجينة لا يمكن فصل أجزائها. ثم من الذي يرغب في العودة إلى زمن ما قبل ظهور الخيول في أميركا أو الفراولة في أوروبّا أو الكاساڤا في أفريقيا أو الأناناس في هاواي؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • لا تستطيع اللغة أن تنقل الحقيقة التي لا يمكن وصفها لغوياً. صحيح أن هناك صوراً يمكنك أن تتخيّلها: رجال يطيرون بأجنحة ريشية، وعملاق مبتسم، وامرأة يجرّها حصان. لكن الطريقة التي صوّر بها فرانسيسكو غويا هذه الأشياء تجعلها أكثر غرابة مما تبدو عليه. فكلّ خطّ وكلّ ظلّ له صفة غير مادّية تجعلك تشعر وكأنك تنظر إلى عالم منسوج من الكوابيس الليلية في هذه الصور التي صَنَعتها شخصية غويا الشبحية قبل أكثر من 200 عام.
    والحقيقة أن ليس هناك فنّان يمكن أن يدخل في معركة مع غويا ويخرج منها سالماً، حتى فرانسيس بيكون. ولو أقام متحف برادو الإسباني معرضاً للوحات بيكون في نفس الغرفة التي يعرض فيها لوحات غويا السوداء، لبدا بيكون نفسه مثيراً للشفقة.
    وربّما يلزمك أن تكون في إسبانيا تحت حكم نابليون في أوائل القرن التاسع عشر، لترى الجثث المقطّعة الأوصال المعلّقة على الأشجار والمحتجّين المسعورين، ولترى كيف يُنتِج نوم العقل وحوشاً، ولتكتشف كيف يمكن أن يصبح الفنّ مرعباً ومروّعا ومتطرّفا كما في أعمال غويا. لكي تكون مثل غويا عليك أن تذهب إلى حافّة الهاوية!
    جوناثان جونز
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • يُحكى أن رجلا حكيما أراد أن يعلّم أبناءه درسا مهمّا في الحياة، فطلب منهم مراقبة شجرة برتقال، كلّ واحد في موسم مختلف: الابن الأكبر في الشتاء والثاني في الربيع والثالث في الصيف والأصغر في الخريف.
    وقد ذهبوا جميعا، ولمّا عادوا وصفوا ما رأوه. قال الأوّل: رأيت شجرة قبيحة ومنحنية وملتوية .وقال الثاني: لا، بل كانت مغطّاة ببراعم خضراء ونضِرة. ولم يوافق الابن الثالث على كلام الاثنين وقال إن الشجرة بدت جميلة كثيرا ومحمّلة بالأزهار الشذيّة. ولم يوافق الابن الأخير على كلام إخوته وقال إن الشجرة كانت ناضجة وملأى بالفاكهة وبالحياة.
    وعندما انتهوا من أوصافهم، أوضح لهم الأب أن كلام كلّ منهم صحيح لأنه لم يرَ سوى فصل واحد في حياة الشجرة. وأضاف: لا يمكنك الحكم على شجرة أو شخص من خلال فصل واحد فقط، وأن جوهر الحياة وما فيها من متعة وفرح وحزن وحبّ لا يمكن قياسها إلا عندما نعيش جميع الفصول. وإذا استسلم الإنسان لقسوة الشتاء، مثلا، فسيفقد وعد الربيع وجمال الصيف ومتعة الخريف.. وهكذا..
  • ❉ ❉ ❉

  • من غريب ما قيل عن طقوس بعض أشهر الكتّاب في الكتابة أن ڤيكتور هوغو كان يكتب على مكتب أمام مرآة. وكان يبتلع بيضتين نيّئتين ويحبس نفسه في الشرفة الى أن ينتهي من الكتابة في جلسة الصباح. وبعدها يخرج إلى سطح البيت ويغتسل من حوض ماء يتركه هناك طوال الليل، ويسكب الماء المثلّج على نفسه ويفرك جسمه بليفة مصنوعة من شعر الخيل.
    وكان هوغو يستيقظ كلّ يوم عند الفجر على صوت إطلاق نار من حصن قريب من مقرّ اقامته في جزيرة بريطانية تقع قبالة ساحل نورماندي. وبعدها يتناول قهوة طازجة ويكتب حتى الساعة الحادية عشرة صباحا. وقد كتب في ذلك المكان بعضا من أهمّ رواياته.
    أما هاروكي موراكامي فيلتزم بجدول زمني منتظم، إذ يستيقظ في الرابعة صباحا ويعمل ستّ ساعات متواصلة. وفي فترة ما بعد الظهر يمارس الجري أو السباحة ويقرأ ويستمع إلى الموسيقى ثم ينام في التاسعة مساء.
    وموراكامي يعتقد أن القوّة البدنية ضرورية بقدر أهميّة الحساسية الفنّية. وقد انتقل للعيش في منطقة ريفية وتوقّف عن التدخين وأصبح يشرب كميّات أقلّ من الكحول ويتناول نظاما غذائيّا يتكوّن في الغالب من الخضراوات والأسماك. كما بدأ في ممارسة الجري يوميّا، وهي العادة التي ظلّ يمارسها لأكثر من ربع قرن.
    أما تشارلز ديكنز فكان ملتزما في طقسه للكتابة بثلاثة شروط، أوّلها الهدوء المطلق في مكتبه، ثم أن يكون مكتبه أمام النافذة وان يكون مرتّبا بعناية. والثالث التزامه بروتين زمني صارم، فقد كان يستيقظ في السابعة صباحاً ويتناول الإفطار في الثامنة ويصل إلى مكتبه في التاسعة.
    وكان يبقى هناك حتى الثانية ظهراً، ثم يأخذ استراحة قصيرة لتناول الغداء. كان ديكنز كاتبا غزير الإنتاج. كان يوميّا يكتب حوالي ألفي صفحة، وألّف ما مجموعه 15 رواية وعددا كبيرا من القصص والمقالات والرسائل والمسرحيات.

  • Credits
    franciscodegoya.net
    bigthink.com
    harukimurakami.com

    الأحد، نوفمبر 17، 2024

    الأصول الأولى للرسم


    لطالما انشغل البشر بالأصول الأولى للأشياء. وكانوا يعتمدون دائما على الأساطير لتفسير كثير من الأمور. ولم يكن الرسم استثناءً. فقد قدّمت ثقافات مختلفة من العالم قصصها الخاصّة عن نشأة الرسم. والشيء الوحيد المشترك بين تلك القصص هو أن الرسم بدأ عندما رسم شخص ما ظلّ شخص آخر.
    وطبقا لقصّة كتبها بليني الاكبر، المؤرّخ الروماني من القرن الأوّل الميلادي وضمّنها كتابه "التاريخ الطبيعي"، فإن أوّل لوحة في التاريخ على الإطلاق رسمتها ابنة خزّاف من بلدة كورينث باليونان، والتي اشتهرت منذ القدم بصناعة الخزف. كانت الفتاة، واسمها ديبوتاديس، مخطوبة لشابّ وكان على وشك السفر بعيدا عن بلدتهم. وقبل رحيله ليلا، أحبّت الفتاة أن تتذكّره فرسمت محيط رأسه على الحائط باتباع الظلّ الناتج عن ضوء مصباح. ثم طلبت من والدها أن يصنع لذلك الشكل قطعة خزفية. وقد ملأ والدها تلك الصورة الظلّية بالطين، ثم أحرق الطين في الفرن وأصبحت تلك أوّل منحوتة عرفها الانسان.
    وكانت تلك الصورة الشعرية مشهورة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصُوّرت في العديد من الأعمال الفنّية، وأصبحت موضوعا شائعا بين الفنّانين الغربيين من سبعينات القرن الثامن عشر إلى عشرينات القرن التاسع عشر.
    ولو سلّمنا جدلا بصحّة تلك القصّة، فإن هذا يعني ان الرسم لم يولد كوسيلة اتصال، بل كأداة للتذكّر. فابنة الخزّاف لم تحتفظ بصورة لخطيبها، بل احتفظت بمحيط رأسه، وهو تفصيل يكفي لأن يتمكّن أيّ شخص يعرفه من تذكّره.
    الرسام الانغليزي جوزيف رايت (1734 - 1797) رسم شخصية خطيب الفتاة الكورينثية على غرار تمثال نائم رآه في روما. وكان قد قضى في إيطاليا حوالي عامين وسجّل في كرّاسه الخاص الآثار القديمة والمنحوتات التي رآها. واستند في رسمه للمفروشات والملابس وحتى في تسريحة شعر المرأة الظاهرة في لوحته إلى أدلّة أثرية. كما رَتّب الشخصيات بإيقاع محسوب بعناية.
    وبصفته معلّما في الإضاءة الاصطناعية، أخفى رايت مصباحا معلّقا خلف الستارة ليشير إلى مصدر الضوء الذي يلقي بظلّه على الشابّ. ولم ينسَ أن يضمّن المنظر صورة لكلب نائم كرمز للإخلاص. كان رايت أستاذا في الرسم القديم. لذلك، كانت البيئات المظلمة مناسبة تماما لأسلوبه. وكان الانغليز في أواخر القرن الثامن عشر يستمتعون بتجسيد فكرة المرأة المخلصة التي تنتظر حبيبها الغائب.
    وقد تداول الناس أسطورة ديبوتاديس على مرّ العصور. وأشار إليها ليوناردو دافنشي وجورجيو ڤاساري في كتاباتهم. ومنذ القرن السابع عشر، ازدادت شعبية القصّة بين الفنّانين الغربيين. ومن الغريب أنهم غيّروا في الرواية لتناسب الرسم فقط وتغافلوا عن نموذج الطين/النحت الذي ركّز عليه بليني الأكبر في كتابه.
    وقصّة فتاة كورينث تشبه قصّتي بيغماليون وغالاتيا، حيث تُحوّل إحداهما شخصا إلى عمل فنّي، بينما تُحوّل الأخرى العمل الفنّي إلى إنسان حيّ. وهنا يمكننا أن نرى كيف يعمل الرسم كبديل للحبيب. فهو ليس مجرّد صورة، بل إن جوهره يعيش فيه.


    لكن بعض المؤرّخين يشيرون الى أن أوّل لوحة في التاريخ رسمها بشر بدائيون يُعتقد أنهم من سلالة إنسان النياندرتال في عصور ما قبل التاريخ. وتكشف الحفريات الأثرية التي أُجريت في أوروبّا وأفريقيا وآسيا أن بشرا بدائيين كانوا أوّل الرسّامين والنحّاتين وقد أظهروا من خلال تلك الفنون بعض أنشطة حياتهم اليومية.
    واللوحات الأولى التي اكتشفها علماء الآثار على جدران وأسقف بعض الكهوف هي عبارة عن رسوم تنبض بالحياة وتستخدم أكثر من ثلاثة ألوان وتتضمّن محاكاة للطبيعة بأقصى قدر من الواقعية. ففي كهوف ألتاميرا في إسبانيا، مثلا، توجد لوحة صخرية مثيرة للإعجاب رُسمت لحيوان البايسون أو الجاموس أثناء صيده وباستخدام تقنية الضوء والظلّ.
    وجزء كبير من رسومات الكهوف تصوّر حيوانات ونباتات وأشياءَ أخرى بدرجات متفاوتة من الواقعية. وهناك أيضا تمثيلات رسومية وتجريدية ومشاهد معقّدة. والعديد من علماء الآثار يعتقدون أن تلك الرسوم قد تكون مرتبطة بطقوس الصيد والخصوبة ودرء الخطر وبمحاولات الانسان القديم إيجاد لغة رمزية للأفكار أو المشاعر أو الحياة اليومية.
    ومهما كان الدافع وراء تلك الرسومات، سواءً الرغبة في صنع الفنّ أو في تسجيل الحياة اليومية في ذلك الوقت، فإن الفنّ الصخري المحفوظ منذ آلاف السنين حوّل تلك الكهوف إلى أوّل متاحف للإنسانية.
    وهناك مؤرّخون يعتقدون أن أصل الرسم كما نعرفه اليوم يعود إلى العصر الحجري الحديث، أي الى الألفية العاشرة قبل الميلاد، عندما بدأ الرسم على الصخور يشهد تراجعا بسبب تطوّر الزراعة والمجتمع. وقد ظهر في اليونان القديمة وأتقنه الرومان فيما بعد. ففي حوالي عام 3000 قبل الميلاد، بدأت القرى الصغيرة في الظهور في البرّ الرئيسي لليونان وبدأ هناك تقليد الرسم على التحف الخزفية مثل المزهريات والأواني.
    ومنذ الألفية الثانية قبل الميلاد، نشأ في مدينة كريت مجتمع ملكيّ متحضّر. وفي القصور والمباني الكبيرة، ظهرت أولى علامات اللوحات الجدارية بأسلوب تصويري مختلَط وبتصاميم هندسية، مع أشخاص يمارسون أنشطة مختلفة كالعبادة والألعاب واحتفالات القصور وما الى ذلك.
    وكانت الموادّ المستخدمة في ذلك الوقت عبارة عن مستخلَص من البيض وطلاء يعتمد على الشمع وأصباغ معدنية ونباتية في وسط مائي. اما الألوان المفضّلة فكانت الأبيض والأسود والأصفر والأحمر. وكان الأخضر والبنفسجي أقلّ درجات اللون ثباتا ومن ثمَّ أقلّها استخداما. أما الأزرق فكان باهظ الثمن للغاية ويُستخلص من طحن حجر شبه كريم هو اللازورد.
    منذ عشرينات القرن التاسع عشر، قلّ الحديث كثيرا عن قصّة الخزّاف اليوناني وابنته وخطيبها، ولكنها لم تختفِ تماما. وما تزال القصّة تتردّد حتى اليوم، خاصّة عندما يأتي الحديث عن الفنّانات الإناث اللاتي عانين من التجاهل ولم يلاحظهن أحد أو مُحيت أسماؤهنّ من التاريخ، بسبب السلطة الأبوية والمجتمع الذكوري.

    Credits
    tate.org.uk