:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أغسطس 03، 2024

محطّات


الكثير من الحكايات والقصص والمواقف تثير التأمّل والتعمّق في طبيعة الواقع وفي معنى الحياة. وكلّ قصّة يمكن أن تثير رؤى شخصية وتنقل حقائق أعمق وتغيّر مفاهيمنا وتصوّراتنا المسبقة عن الواقع، وتشجّعنا على التركيز على اللحظة الراهنة والانتباه للعلاقة بين الأشياء.
وفيما يلي ثلاث قصص قرأتها مؤخّرا وأعجبتني الدروس والأفكار التي تضمّننها. لذا قرّرت أن أعيد نشرها هنا بعد ترجمتها واختصارها بما لا يخلّ بمضمونها.

❉ ❉ ❉

  • كنت أتناول العشاء مع صديق، وحدث أن جاء والدي الى المطعم لرؤيتي. كان والدي رجلا قليل الكلام، وكان يستمع إلى حديثنا بهدوء أثناء تناولنا الطعام. وفي طريق العودة إلى المنزل، قال والدي: لا تقترب كثيرا من صديقك هذا". وصدمني كلامه، لأنني عملت مع هذا الصديق عدّة مرّات ومع الأيّام تكوّن لديّ انطباع جيّد عنه.
    قال والدي: يمكنك معرفة الشخص من الطريقة التي يأكل بها. وصديقك لديه عادة التقاط أفضل القطع من قاع الأطباق ثم سحبها واختصاصها لنفسه. ثم هو يبلع الطعام بسرعة دون هضمه، ويقفز من طبق لآخر وكأن لا أحد معه على المائدة". قلت له: بعض الناس يحبّون تناول الطعام بهذه الطريقة، ولا يجب أن نبالغ كثيرا في تفسير الأمور".
    هزّ أبي رأسه وقال: لو واجه شخص فقير أطباقا من الطعام اللذيذ لفعلَ مثل هذا ولما لامه أحد. لكن صديقك هذا رجل أعمال ميسور ماديّا. وتناوله الطعام بهذه الطريقة لا يمكن إلا أن يُظهر أنه شخص أنانيّ وضيّق الأفق، فهو لا يبالي بمشاعر الآخرين. ولو واجه إغراء الكسب المادّي في مشروع أو صفقة فإنه بالتأكيد سيأخذ لنفسه نصيب الأسد بأيّ وسيلة متجاهلا بقيّة الشركاء".
    ثم حكى لي أبي قصّة طفولته. فقد توفّي جدّي عندما كان والدي في الخامسة من عمره. وكان الأيتام والأرامل يعيشون في ضنك شديد وقتها، وكثيرا ما كانوا يعانون من الجوع وشظف العيش. وفي بعض الأحيان، عند زيارة منازل الأقارب، كانت جدّتي تذكّر والدي مرارا وتكرارا بقولها: يا بني، يجب أن تنتبه إلى الطريقة التي تأكل بها عندما تأكل. لا يمكنك احتكار أطباقك المفضّلة والاستئثار بها وحدك، وإلا فسوف ينفر منك الآخرون. ولا بدّ من مراعاة آداب الطعام". أخذ والدي كلمات جدّتي على محمل الجدّ. وحتى عندما كان يواجه طاولة مليئة بالطعام اللذيذ، لم يكن يفقد سيطرته على نفسه.
    وفي نهاية حديثنا قال والدي: لا تقلّل من شأن طريقة الشخص في الأكل. إذ يمكن لتفاصيل صغيرة أن تكشف عن ثقافة الإنسان وشخصيّته".
    فيما بعد حدث شيء أكّد لي ما قاله والدي. فقد ترك ذلك الصديق شراكته معي ثم أهمل علاقتنا ولم أعد أراه أو يهتم بالردّ على اتصالاتي. ومنذ ذلك الحين، ظلّت كلمات والدي حاضرة في ذهني دائما. صحيح أن هناك الكثير من الإغراءات في هذه الحياة، ولكن يجب علينا دائما التحكّم في رغباتنا، ولا ينبغي أن نحتفظ لأنفسنا بالأشياء الجيّدة، بل يجب مشاركتها مع الآخرين.

    ❉ ❉ ❉

  • ❉ ❉ ❉

  • عندما كنت أنظر إليه، كنت أرى فيه الكثير من نفسي: رغبته في أن يكون لوحده، وحاجته إلى الإبداع. كنت أتمنّى أن أدعوه "بابا". وقد سافرت نصف الطريق حول العالم لرؤيته، أي أبي.
    كان عمري سبع سنوات عندما رأيته آخر مرّة. وبعد مرور ما يقرب من 16 عاما، وقفت في فناء بيته في أرمينيا. وتذكّر أخي المكان الذي عاش فيه والدنا. كان نفس المبنى الرمادي المتهالك الذي يعود إلى الحقبة السوفيتية والذي أقام فيه والداي بعد زواجهما. يمكنك القول إنني عدت إلى المنزل. لكن هذا لم يكن ما شعرت به.
    لديّ القليل من الذكريات عن والدي. أتذكّر أننا رقصنا معا وأعطاني دميتي الأولى. وأتذكّر أيضا عندما غادر. كان يحبّ الرحيل دائما. وفي بعض الأحيان كان يغيب عدّة أشهر، ثم يعود بشكل غير متوقّع.
    حتى جاء يوم، وحان دورنا نحن لنغادر.
    أيقظتني أمّي وطلبت منّي أن أحزم أمتعتي. أتذكّرها وهي تمسك بيدي بينما كنّا في طريقنا إلى المطار في موسكو. قالت إننا ذاهبون في رحلة. وفي اليوم التالي، وصلنا إلى منزلنا الجديد في كاليفورنيا.
    نادرا ما تحدّثت مع أمّي عن والدي. لم يكن لديّ أيّ صور له، وبمرور الوقت نسيت كيف كان يبدو. وعندما كنت أسأل أمّي عنه، كانت تنظر إليّ بخيبة أمل وتقول: إنسيه. لقد رحل".
    لكن لم يكن الأمر كذلك. كان لا يزال هناك، في منزلنا القديم. المنزل من الداخل يشبه المتحف، كانت جدرانه مغطّاة بلوحات زيتية لجدّي وصور عائلية باهتة. كلّ صورة كشفت لمحات من حضور والدي في حياتي.
    بدا سعيدا جدّا، وفي حالة حبّ شديدة. كلّ ما عرفته هو غضب والدتي وخيبة أملها تجاهه.
    شعرت بأن علاقتي مع والدي سُرقت، وأردت بطريقة ما تعويض السنوات الضائعة. لقد عشت معه لمدّة عام تقريبا. في كثير من الأحيان، كنّا نقضي أوقات الصباح معا، وكان والدي يجلس أمامي عبر الطاولة، يروي لي القصص كما لو كنّا أصدقاء قدامى.
    كنت قد نسيت الكثير عنه: شكل وجهه، صوته، ضحكته. لقد كان أمرا مميّزا لي أن أكون بالقرب من والدي. ومع ذلك كان مستغرقا أحيانا في كتاباته، ومشغولا مع والده، ومع عائلته الجديدة.
    ومنذ وقت ليس ببعيد، أصبح لديه طفل آخر، فتاة صغيرة تعيش مع والدتها ولا يعيش معهما. كان يزورهما أحيانا. كان يجب أن أكون سعيدة من أجله، لكن عندما شاهدته وهو يلعب مع ابنته، شعرت وكأنها كدمة يواصل أحدهم الضغط عليها.
    أردت الهرب، لكن بدلاً من ذلك قمت بتصويرهما معا. في بعض اللحظات كان ينفتح ويكشف المزيد من شخصيّته ويسمح لي بالدخول إلى حياته. وفي كثير من الأحيان لم أكن أعرف كيف أتصرّف حياله. وأحيانا كان يشاهدني أمشّط شعري ويمدّ يده ليعانقني. وعندما كان يفعل ذلك، كنت أبتعد. لم أكن أعرف ما هو بالنسبة لي، والأهم من ذلك ماذا كنت بالنسبة له.
    كان والدي يشاركني بشِعره. أخبرتني كلماته بما لا يستطيع فعله بطريقة أخرى. وفهمت انه كان هناك ألم وشوق للمزيد. وهذا شيء نتشاركه.
    ببطء أقوم بتجميع صورة شخص غريب مألوف. بطريقة ما، لم يكن غائبا بالنسبة لي أقل ممّا كان عليه عندما كنت طفلة. لكن من خلال هذه الصور، لديّ الآن لمحة عن الرجل الذي كان ينبغي أن يكون والدي.

    ❉ ❉ ❉

  • في قسم الطوارئ في المشفى الذي أعمل به، نواجه الموت كلّ يوم. بعض الذين يموتون هم من كبار السنّ الذين عاشوا حياتهم وأصبحوا جاهزين للرحيل. لكن هناك من يموتون قبل وقتهم؛ قبل أن تتاح لهم الفرصة ليتركوا بصمة أو لينجزوا أو ليجرّبوا الأشياء التي نعتبرها أمورا مفروغا منها.
    المرّة الأولى التي واجهتُ فيها الموت حقّا كانت عندما كنت أمشّط شعر فتاة ماتت في حادث. كنت أحاول جعلها تبدو في أفضل حال عندما يأتي والداها وأختها لرؤيتها وأخذها. غسلت يديها ووجهها ثم وجدت بعض الزهور ووضعتها على الرفّ الذي خلفها وتفحّصت سوار معصمها للتأكّد من أنني لم أنسَ اسمها.
    ودهشت عندما اكتشفت أنها ولدت في نفس يوم ميلادي.
    كانت لديها آمال وأحلام. في جيبها وجدت صورة ضاحكة لها التُقطت بكاميرا فورية.
    كانت جدّتي تقول لي دائما: لقد مُتِّ منذ زمن طويل"! وكنت أضحك دائما من كلامها.
    لا أستطيع أن أقول إن حياتي كانت حافلة بالنشاط. ولم تكن لديّ رغبة في السفر حول العالم والالتقاء بالناس. لكن في تلك اللحظات التي كنت فيها مع الفتاة، أدركت أننا لا نعرف أبدا ما الذي سيحدث لنا غدا وأننا يجب أن نستمتع بيومنا هذا قبل أن ينصرم من أعمارنا ولا يعود.
    قبل فترة شُخّص مرض ابنة أحد معارفنا بالسرطان وهي في السابعة عشرة من عمرها. كانت تريد دائما الحصول على وشم، لكن والديها كانا يرفضان ذلك. وفي أحد الأيّام عندما شعرت أنها قادرة على تحقيق رغبتها، ذهبت إلى محلّ رسّام وطلبت منه أن ينقش على ذراعها عبارة: لديك حياة واحدة، فعِشها".
    يقول مارك توين: بعد عشرين عاما من الآن، ستندم على الأشياء التي لم تفعلها أكثر من ندمك على الأشياء التي فعلتها. لذا ألقِ حبل الشراع وأبحر بعيدا عن الميناء الآمن واستغل الريح لدفع أشرعتك".
  • الأربعاء، يوليو 31، 2024

    قلب الذئب


    في الثقافة الصينية، وكما هو الحال في ثقافات أخرى عديدة، لا تتمتّع الذئاب بأيّ شعبية. فيقال مثلا في الأمثال الشعبية الصينية "فلان له قلب ذئب"، في إشارة الى اتصافه بالغدر والقسوة والجشع.
    لكن كتابا صدر في بيجين قبل سنوات قلب كلّ تلك الأفكار السلبية عن الذئاب رأسا على عقب. الكتاب اسمه "طوطم الذئب"، وقد احتلّ قائمة الكتب الأكثر مبيعا لعدّة أشهر. ويصف مؤلّفه الصين بأنها "أمّة من الأغنام بحاجة ماسّة إلى استعادة نشاطها الذئبي".
    ويحكي المؤلّف قصّة طالب يذهب للعيش مع رعاة من ذوي الأصول المنغولية خلال الثورة الثقافية، ويصبح مفتونا بالذئاب التي تفترس مواشيهم. وتنتقد الرواية تدمير الأراضي العشبية في منغوليا الداخلية على يد مزارعين من أغلبية الهان العرقية في الصين وفشلهم في إدراك الدور الإيجابي الذي تلعبه الذئاب في الحفاظ على بيئة المنطقة.
    ومع أن مؤلّف الكتاب عوقب بالسجن، إلا أن كتابه نال إعجاب المسؤولين ورجال الأعمال الذين استخدموه لتحفيز الموظفين. وأصبح الذئب ذو الإرادة القويّة والموجّه لخير القبيلة نموذجا يُحتذى به.
    الحكاية التالية مختلفة بعض الشيء، مع أن بطلها ذئب وأحداثها تجري في الصين أيضا. ومؤلّفها كاتب يُدعى ما تشونغ شي، عاش في عهد أسرة مينغ (1644-1368). وهناك أكثر من مائة نسخة من القصّة منتشرة في ثقافات شتّى من العالم. في بعضها، الحيوان المنقَذ تمساح وأحيانا ثعبان أو نمر، وهكذا.
    تقول القصّة إن أحد ملوك الصين كان ذاهبا ذات يوم مع حاشيته في رحلة صيد عندما صادفوا في طريقهم ذئبا. صوّب الملك المتحمّس سهمه باتجاه الذئب لكنه أخطأه واصطدم بحجر قريب. وعندما أدرك الذئب أنه في خطر هرب يائسا للنجاة بحياته. وبينما كان يشقّ طريقه في الغابة، قابل معلّما عجوزا مع حماره.
    توسّل الذئب الى المعلّم لمساعدته وإنقاذه من حاشية الملك الذين يتعقّبونه، وقال انه سيموت إذا تُرك وحده. المعلّم الذي كان يؤمن بالحبّ والعطف على المخلوقات أشفق على الذئب وقّرر أن يُخفيه في أحد الأكياس المربوطة على ظهر حماره. وبعد لحظات قليلة، وصل صيّادو الملك وسألوا العجوز عن الذئب فنفى علمه بمكان وجوده.
    وعندما ابتعد الصيّادون عنهما، سمح المعلّم للذئب بالخروج من الكيس. والآن طلب الذئب من المعلّم أن ينقذ حياته، هذه المرّة من الجوع. فعرض المعلّم عليه بعض المعجّنات التي كان يدّخرها لسفره، لكن الذئب ابتسم وقال: أنا لا آكل هذا الطعام، أنا أتناول اللحوم فقط". اندهش المعلّم من كلام الذئب وتساءل في حيرة ما إذا كان ينوي أكل حماره. ثم فوجئ بالذئب وهو ينقضّ عليه هو، يريد أكله.


    وعندما احتجّ المعلّم على جحود الذئب ونكرانه للمعروف، ردّ الأخير: لقد أنقذت حياتي مرّة واحدة. لماذا لا تفعل ذلك مرّة أخرى؟ ثم إنني كدت أختنق عندما حشرتني بين أكياسك الصغيرة، وأنت مدين لي بذلك".
    تناقش المعلّم والذئب لبعض الوقت، وعندما لم يتّفقا على حلّ مقبول قرّرا عرض قضيّتهما على ثلاثة محكّمين.
    كان أوّل محكّم عرضا عليه حججهما شجرة مشمش معمّرة. روَت الشجرة لهما تجربتها الخاصّة وكيف أن بعض الأشخاص كانوا يقطفون ثمارها وهم صغار وكانت هي تطلب منهم أن يأكلوا حتى يشبعوا. والآن عندما كبروا قرّروا قطعها بفؤوسهم لاستخدامها كحطب. وبذا اتّفقت الشجرة مع منطق الذئب، ما أشعره بالبهجة والسرور.
    وكان المحكّم الثاني الذي طلبا منه رأيه في القضية جاموس ماء مُسنّا. وقد روى الجاموس قصّته وكيف أنه خدم سيّده لسنوات عديدة بتزويده بالحليب وحرث حقله. والآن يريد سيّده أن يذبحه ليأكل لحمه. وبذا اتفق الجاموس أيضا مع الذئب. وابتسم الذئب وشعر بأن طلبه أكل المعلّم أصبح الآن مبرّرا أكثر.
    وكان آخر المحكّمين مزارعا عجوزا وحكيما. وعندما سمع قصّتهما أبدى تشكّكه في صدق الذئب بأن الكيس الصغير يمكن أن يتّسع لجسده. وقد سخر الذئب بغرور من كلام المزارع وزحف عائداً إلى الكيس ليثبت صدق روايته. وما أن استقرّ بداخله حتى قام المزارع العجوز بسرعة بربط الكيس وبدأ يضرب الذئب بعصاه الى أن شارف على الموت. ثم فتح الكيس وسحب الذئب من ذيله إلى الخارج.
    وعندما رأى المعلّم العجوز ما حدث للذئب الذي كان يتلوّى على الأرض من شدّة الألم أشفق عليه وعاتب المزارع العجوز على قسوته الزائدة. لكن في تلك اللحظة، جاءت اليهما امرأة مسرعة وهي تبكي وصرخت في وجه الذئب وروت كيف أنه بالأمس عضّ ابنها الصغير محاولا افتراسه.
    وعندما سمع المعلّم كلام المرأة لم يعد يشفق على الذئب، بل التقط العصا ووجّه ضربة أخيرة وقاتلة إلى رأسه.
    هذه الحكاية تتضمّن انتقادا للأشخاص الجاحدين وناكري الجميل الذين يديرون ظهورهم للمحسنين إليهم ولا يقدّرون طيبتهم ونبلهم، وبدلاً من ذلك يردّون على المعروف بالنكران والعداوة. والدرس المستفاد من القصّة هو أنك مهما كنت طيّبا ومحسنا فإن الشخص الذي يُعتبر الحقد والخسّة طبيعة متأصّلة فيه سيختار أن يؤذيك ويعاملك بوقاحة وازدراء، لأن طبيعته لن تتغيّر بإحسانك إليه. لذا لا يجب بذل المعروف في غير مكانه ولا إظهار الشفقة لمن لا يستحقّها.

    Credits
    chinaknowledge.de

    الاثنين، يوليو 29، 2024

    حكمة الدبّ الواقف


    أمضى لوثر ستاندنغ بير "أو الدبّ الواقف" (1868 - 1939) سنواته الأولى في العيش كما عاش أجداده، متجوّلا في التلال الخضراء الوارفة لما أصبح الآن يُعرف بولايتي داكوتا الجنوبية ونبراسكا. ثم أصبح شخصية بارزة في تاريخ الهنود الحمر وزعيما لعشيرة لاكوتا من قبائل السيو ومفكّرا ومؤلّفا وممثّلا سينمائيّا. كان ذا نفوذ قويّ وصاحب رؤية ومدافعا عن حقوق السكّان الأصليين في السهول الكبرى قبل وأثناء وصول المستوطنين الأوروبيّين وانتشارهم لاحقا.
    وقد عاصرَ "الدبّ الواقف" الاضطرابات والصدامات التي تسبّبت بها حكومة الولايات المتحدة والمهاجرون الاوربيّون والإزالة القسرية للقبائل الأصلية من أراضيها، ودافع عن حقوق الأمريكيين الأصليين وسيادتهم طوال حياته، وانتقد دعم الحكومة للمبشّرين الذين قوّضوا ديانة السيو، ووظّف كتاباته إجمالا لرفع مستوى الوعي بالسياسات القمعية والظلم الذي واجهته المجتمعات الأصلية.
    كما ألّف العديد من الكتب، أهمّها كتابه "أرض النسر المرقّط"، الذي وصف فيه حياة وعادات قبائل السيو وانتقد جهود المستوطنين الأوربّيين في تحويل الهنود إلى العِرق الأوربّي وتحدّث عن أهميّة تحدّي الظلم والتمييز بكافّة أشكاله.
    الأسطر التالية هي بعض أقوال وحكَم "الدبّ الواقف" المبثوثة في كتبه وخُطبه، والتي يتحدّث فيها عن ثقافة وتاريخ وعادات وقيم السكّان الأصليين.
  • إن طبيعة عاطفة الهندي لا تترك مكانا في قلبه للعداء تجاه رفاقه من المخلوقات. فبالنسبة إلى شعب لاكوتا، أحد فروع شعب السيو، كانت الجبال والبحيرات والأنهار والينابيع والوديان والغابات كلّها في غاية الجمال. وكانت الرياح والأمطار والثلوج وأشعّة الشمس والنهار والليل وتغيّر الفصول رائعة إلى ما لا نهاية. وكانت الطيور والحشرات والحيوانات تملأ العالم بالمعرفة التي تتحدّى فهم الإنسان.
  • كان لاكوتا القديم حكيما. كان يعلم أن قلب الإنسان يصبح قاسياً إذا ابتعد عن الطبيعة. وكان يعلم أن عدم احترام الكائنات الحيّة سرعان ما يؤدّي إلى عدم احترام البشر أيضا. لذلك أبقى أطفاله قريبين من تأثير الطبيعة التي ترقّق قلب الإنسان.
  • كان شعب لاكوتا عالِم طبيعة حقيقياً وعاشقاً للطبيعة. لقد أحبّ الأرض وكلّ ما يتعلق بها، ونما هذا التعلّق مع مرور السنين. كما أحبّ كبار السنّ التربة وكانوا يجلسون أو يستلقون على الأرض وهم يشعرون بأنهم قريبون من قوّة الأمومة. كان من المفيد للجلد أن يلامس الأرض. وكان الكبار يحبّون خلع أحذيتهم والمشي حُفاة الأقدام على الأرض المقدّسة. كانت الطيور التي تحلّق في السماء تستقرّ في النهاية على الأرض، وكانت الأرض هي الموطن النهائي لكلّ الأشياء التي عاشت ونمت. كانت التربة مهدّئة ومقويّة ومطهّرة وشافية.
  • صحيح أن يدي ليست بلون يدك. ولكن إذا وخزتُها سأشعر بالألم. وإذا وخزتُ يدك ستشعر بالألم أيضا. الدم الذي سيسيل من يدي سيكون بنفس لون دمك. أنا إنسان كما أنت، وقد خلقنا الله معا.
  • الهندي العجوز لا يزال يجلس على الأرض ليكون قريبا من قواها الحيّة. وبالنسبة له، فإن الجلوس أو الاستلقاء على الأرض يعني القدرة على التفكير بعمق أكبر والشعور بشكل أقوى، بحيث يرى بوضوح أسرار الحياة الكبرى ويقترب من الحيوات الأخرى من حوله.
  • من الروح العظيمة جاءت قوّة حياة موحدّة وعظيمة تدفّقت في كلّ الأشياء؛ في الأزهار والسهول والرياح العاصفة والصخور والأشجار والطيور والحيوانات. وكانت تلك نفس القوّة التي نُفخت في الإنسان الأوّل. وبالتالي أصبحت كلّ الأشياء متشابهة يجمعها نفس اللغز العظيم.
  • كانت القرابة بين جميع مخلوقات الأرض والسماء والماء مبدأً حقيقيا وفعّالاً. ففي عالم الحيوان والطيور كانت هناك مشاعر أخوية تحافظ على سلامة أفراد قبيلة لاكوتا. وكان بعض أفراد القبيلة قريبين جدّا من أصدقائهم من ذوات الريش والفراء لدرجة أنهم كانوا يتحدّثون لغة مشتركة في إطار من الأخوّة الحقيقية.
  • كانت للحيوانات حقوق من أهمّها حقّ الحماية من الإنسان وحقّ الحياة وحقّ التكاثر وحقّ الحريّة. وفي إطار الاعتراف بهذه الحقوق، لم يستعبد اللاكوتا حيواناً قط، بل أبقوا على حياة كلّ الكائنات الحيّة التي لم تكن ضرورية للطعام واللباس. وفي عالم الحيوان والطيور كان هناك شعور أخويّ حافظَ على سلامة اللاكوتا بينهم. لقد كان هذا المفهوم للحياة وعلاقاتها إنسانيّا، ومنحَ القبيلة حبّا دائما وملأ أفرادها بفرحة الحياة وغموضها، ومنحهم الاحترام لكلّ أشكال الحياة وجعل لكلّ الأشياء مكانا في مخطط الوجود، مع أهميّة متساوية للجميع.


  • لم يكن المديح والإطراء والتصرّفات المبالغ فيها والكلمات الرنّانة جزءا من آداب قبيلة لاكوتا. وكان الإفراط في التصرّفات يُعتبر نقصا في الصدق، وكان المتحدّث الدائم الكلام يُعتبر وقحا ومفتقرا للّباقة.
  • كان الأطفال يتعلّمون أن الأدب الحقيقي يجب أن يتحدّد بالأفعال وليس بالأقوال. ولم يكن يُسمح لهم مطلقا بالمرور بين النار والشخص الأكبر سنّا أو الضيف، أو مقاطعة أحاديث الآخرين، أو السخرية من شخص مُقعد أو مشوّه. وإذا حاول طفل فعل ذلك دون تفكير، كان أحد الوالدين يصحّحه على الفور وبهدوء.
  • كان الصمت ذا مغزى عند شعب لاكوتا، وكان منح الإنسان نفسَه مساحة من الصمت قبل الكلام ممارسة للأدب الحقيقي ومراعاة للقاعدة التي تقول إن "الفكر يأتي قبل الكلام". وفي مناسبات الحزن أو المرض أو الموت أو المحن الأخرى، وفي حضور الأشخاص الكبار والمهمّين، كان الصمت علامة على الاحترام. وكان الالتزام الصارم بقواعد السلوك الجيّد هذه هو السبب في منح الأوربّي وصفا زائفا بأنه شخص صارم. فهو في الحقيقة شخص غبيّ وغير مبالٍ ومتبلّد المشاعر.
  • لم نكن نعتبر السهول المفتوحة العظيمة، والتلال الجميلة المتموّجة، والجداول المتعرّجة ذات النباتات المتشابكة براري. الأوربّي فقط كان يرى الطبيعة "برّية" مليئة بالسباع والضواري والبشر "المتوحّشين". أما بالنسبة لنا فقد كانت البراري مروّضة وكانت الأرض وفيرة وكنّا محاطين ببركات الغموض العظيم.
  • كان كلّ شيء يمتلك شخصية لا تختلف عنّا إلا في الشكل. وكانت المعرفة متأصّلة في كلّ الأشياء. وكان العالم عبارة عن مكتبة، كُتُبها الأحجار والأوراق والعشب والجداول والطيور والحيوانات التي تشاركنا العواصف وبركات الأرض. لقد تعلّمنا ألا نفعل إلا ما يتعلّمه طالب الطبيعة، أي الشعور بالجمال. لم نكن ننتقد العواصف والرياح العاتية والصقيع والثلوج القارسة. كنّا نتكيّف مع كلّ ما يحدث بمزيد من الجهد والطاقة إذا لزم الأمر، ولكن دون شكوى.
  • لقد فُرضت الحضارة الحديثة علينا، لكنها لم تُضف ذرّة واحدة إلى إحساسنا بالعدالة أو إلى احترامنا لحقوق الحياة أو إلى حبّنا للحقيقة والصدق والكرم.
  • لم يُرضِ الرجل الأوربّي أيّ شيء من اللغز العظيم الذي وُضع في أرض الهنود، ولم يَفلت أيّ شيء من يده العابثة. وأينما توجد غابات لم تُقطع، وحيثما تختبئ الحيوانات في حمايتها الآمنة، وحيثما لا تخلو الأرض من كائنات من ذوات الأربع، فهذه بالنسبة له "برّية غير منقطعة". لكن شعب لاكوتا لم يكن لديه بريّة، والطبيعة لم تكن خطرة بل مضيافة، ولم تكن متمنّعة بل ودودة. كانت فلسفة لاكوتا صحّية وخالية من الخوف والتزمّت.
  • كان إيمان الهنديّ يسعى إلى تحقيق الانسجام بين الإنسان ومحيطه، وكان إيمان المستوطن الأوربّي يسعى إلى الهيمنة على محيطه. وفي المشاركة وفي حبّ كلّ شيء، وجد أحد الشعبين نصيبه المستحق ممّا كان يسعى إليه. بينما وجد الآخر في خوفه حاجة إلى الغزو.
  • كان شعبنا يرى العالم مليئا بالجمال. أما بالنسبة للشعب الآخر، أي المهاجرين الأوربّيين، فكان العالم مكانا للخطيئة والقبح الذي يجب تحمّله، إلى أن يذهب إلى عالم آخر ليتحوّل هناك إلى مخلوق بجناحين، نصفه إنسان ونصفه الآخر طائر. ولم يكن مستغربا أن أحدنا لم يستطع فهم الآخر.
  • إن الرجل الذي يجلس على الأرض في خيمته وهو يتأمّل الحياة ومعناها ويقبل قرابة جميع المخلوقات ويعترف بالتوحّد مع عالم الأشياء، إنما يغرس في كيانه الجوهر الحقيقي للحضارة.
  • الهنود الأميركيون هم من طينة هذه الأرض، سواءً كانت منطقة غابات أو سهول أو قرى أو هضاب. إنهم متآلفون مع الطبيعة، لأن اليد التي شكّلت القارة هي التي شكّلت الإنسان أيضاً بما يتناسب مع محيطه. لقد نما الإنسان بشكل طبيعي مثل عبّاد الشمس البرّي، وهو ينتمي إلى المكان كما ينتمي الجاموس وغيره من الكائنات.
  • لا تنسَ من أنت أو من أين أتيت، تذكّر أسلافك واحترم تضحياتهم. إن أرواح أسلافنا لا تزال حيّة فينا، وقصصهم تغذّي أرواحنا. إن إرثنا لا يعرف الهزيمة بل القدرة على الصمود والبقاء، وأرواحنا لا يمكن كسرها لأنها متجذّرة في أعماق الأرض.

  • Credits
    aktalakota.stjo.org