الكثير من الحكايات والقصص والمواقف تثير التأمّل والتعمّق في طبيعة الواقع وفي معنى الحياة. وكلّ قصّة يمكن أن تثير رؤى شخصية وتنقل حقائق أعمق وتغيّر مفاهيمنا وتصوّراتنا المسبقة عن الواقع، وتشجّعنا على التركيز على اللحظة الراهنة والانتباه للعلاقة بين الأشياء.
وفيما يلي ثلاث قصص قرأتها مؤخّرا وأعجبتني الدروس والأفكار التي تضمّننها. لذا قرّرت أن أعيد نشرها هنا بعد ترجمتها واختصارها بما لا يخلّ بمضمونها.
كنت أتناول العشاء مع صديق، وحدث أن جاء والدي الى المطعم لرؤيتي. كان والدي رجلا قليل الكلام، وكان يستمع إلى حديثنا بهدوء أثناء تناولنا الطعام. وفي طريق العودة إلى المنزل، قال والدي: لا تقترب كثيرا من صديقك هذا". وصدمني كلامه، لأنني عملت مع هذا الصديق عدّة مرّات ومع الأيّام تكوّن لديّ انطباع جيّد عنه.
قال والدي: يمكنك معرفة الشخص من الطريقة التي يأكل بها. وصديقك لديه عادة التقاط أفضل القطع من قاع الأطباق ثم سحبها واختصاصها لنفسه. ثم هو يبلع الطعام بسرعة دون هضمه، ويقفز من طبق لآخر وكأن لا أحد معه على المائدة". قلت له: بعض الناس يحبّون تناول الطعام بهذه الطريقة، ولا يجب أن نبالغ كثيرا في تفسير الأمور".
هزّ أبي رأسه وقال: لو واجه شخص فقير أطباقا من الطعام اللذيذ لفعلَ مثل هذا ولما لامه أحد. لكن صديقك هذا رجل أعمال ميسور ماديّا. وتناوله الطعام بهذه الطريقة لا يمكن إلا أن يُظهر أنه شخص أنانيّ وضيّق الأفق، فهو لا يبالي بمشاعر الآخرين. ولو واجه إغراء الكسب المادّي في مشروع أو صفقة فإنه بالتأكيد سيأخذ لنفسه نصيب الأسد بأيّ وسيلة متجاهلا بقيّة الشركاء".
ثم حكى لي أبي قصّة طفولته. فقد توفّي جدّي عندما كان والدي في الخامسة من عمره. وكان الأيتام والأرامل يعيشون في ضنك شديد وقتها، وكثيرا ما كانوا يعانون من الجوع وشظف العيش. وفي بعض الأحيان، عند زيارة منازل الأقارب، كانت جدّتي تذكّر والدي مرارا وتكرارا بقولها: يا بني، يجب أن تنتبه إلى الطريقة التي تأكل بها عندما تأكل. لا يمكنك احتكار أطباقك المفضّلة والاستئثار بها وحدك، وإلا فسوف ينفر منك الآخرون. ولا بدّ من مراعاة آداب الطعام". أخذ والدي كلمات جدّتي على محمل الجدّ. وحتى عندما كان يواجه طاولة مليئة بالطعام اللذيذ، لم يكن يفقد سيطرته على نفسه.
وفي نهاية حديثنا قال والدي: لا تقلّل من شأن طريقة الشخص في الأكل. إذ يمكن لتفاصيل صغيرة أن تكشف عن ثقافة الإنسان وشخصيّته".
فيما بعد حدث شيء أكّد لي ما قاله والدي. فقد ترك ذلك الصديق شراكته معي ثم أهمل علاقتنا ولم أعد أراه أو يهتم بالردّ على اتصالاتي. ومنذ ذلك الحين، ظلّت كلمات والدي حاضرة في ذهني دائما. صحيح أن هناك الكثير من الإغراءات في هذه الحياة، ولكن يجب علينا دائما التحكّم في رغباتنا، ولا ينبغي أن نحتفظ لأنفسنا بالأشياء الجيّدة، بل يجب مشاركتها مع الآخرين.
وفيما يلي ثلاث قصص قرأتها مؤخّرا وأعجبتني الدروس والأفكار التي تضمّننها. لذا قرّرت أن أعيد نشرها هنا بعد ترجمتها واختصارها بما لا يخلّ بمضمونها.
❉ ❉ ❉
قال والدي: يمكنك معرفة الشخص من الطريقة التي يأكل بها. وصديقك لديه عادة التقاط أفضل القطع من قاع الأطباق ثم سحبها واختصاصها لنفسه. ثم هو يبلع الطعام بسرعة دون هضمه، ويقفز من طبق لآخر وكأن لا أحد معه على المائدة". قلت له: بعض الناس يحبّون تناول الطعام بهذه الطريقة، ولا يجب أن نبالغ كثيرا في تفسير الأمور".
هزّ أبي رأسه وقال: لو واجه شخص فقير أطباقا من الطعام اللذيذ لفعلَ مثل هذا ولما لامه أحد. لكن صديقك هذا رجل أعمال ميسور ماديّا. وتناوله الطعام بهذه الطريقة لا يمكن إلا أن يُظهر أنه شخص أنانيّ وضيّق الأفق، فهو لا يبالي بمشاعر الآخرين. ولو واجه إغراء الكسب المادّي في مشروع أو صفقة فإنه بالتأكيد سيأخذ لنفسه نصيب الأسد بأيّ وسيلة متجاهلا بقيّة الشركاء".
ثم حكى لي أبي قصّة طفولته. فقد توفّي جدّي عندما كان والدي في الخامسة من عمره. وكان الأيتام والأرامل يعيشون في ضنك شديد وقتها، وكثيرا ما كانوا يعانون من الجوع وشظف العيش. وفي بعض الأحيان، عند زيارة منازل الأقارب، كانت جدّتي تذكّر والدي مرارا وتكرارا بقولها: يا بني، يجب أن تنتبه إلى الطريقة التي تأكل بها عندما تأكل. لا يمكنك احتكار أطباقك المفضّلة والاستئثار بها وحدك، وإلا فسوف ينفر منك الآخرون. ولا بدّ من مراعاة آداب الطعام". أخذ والدي كلمات جدّتي على محمل الجدّ. وحتى عندما كان يواجه طاولة مليئة بالطعام اللذيذ، لم يكن يفقد سيطرته على نفسه.
وفي نهاية حديثنا قال والدي: لا تقلّل من شأن طريقة الشخص في الأكل. إذ يمكن لتفاصيل صغيرة أن تكشف عن ثقافة الإنسان وشخصيّته".
فيما بعد حدث شيء أكّد لي ما قاله والدي. فقد ترك ذلك الصديق شراكته معي ثم أهمل علاقتنا ولم أعد أراه أو يهتم بالردّ على اتصالاتي. ومنذ ذلك الحين، ظلّت كلمات والدي حاضرة في ذهني دائما. صحيح أن هناك الكثير من الإغراءات في هذه الحياة، ولكن يجب علينا دائما التحكّم في رغباتنا، ولا ينبغي أن نحتفظ لأنفسنا بالأشياء الجيّدة، بل يجب مشاركتها مع الآخرين.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
كان عمري سبع سنوات عندما رأيته آخر مرّة. وبعد مرور ما يقرب من 16 عاما، وقفت في فناء بيته في أرمينيا. وتذكّر أخي المكان الذي عاش فيه والدنا. كان نفس المبنى الرمادي المتهالك الذي يعود إلى الحقبة السوفيتية والذي أقام فيه والداي بعد زواجهما. يمكنك القول إنني عدت إلى المنزل. لكن هذا لم يكن ما شعرت به.
لديّ القليل من الذكريات عن والدي. أتذكّر أننا رقصنا معا وأعطاني دميتي الأولى. وأتذكّر أيضا عندما غادر. كان يحبّ الرحيل دائما. وفي بعض الأحيان كان يغيب عدّة أشهر، ثم يعود بشكل غير متوقّع.
حتى جاء يوم، وحان دورنا نحن لنغادر.
أيقظتني أمّي وطلبت منّي أن أحزم أمتعتي. أتذكّرها وهي تمسك بيدي بينما كنّا في طريقنا إلى المطار في موسكو. قالت إننا ذاهبون في رحلة. وفي اليوم التالي، وصلنا إلى منزلنا الجديد في كاليفورنيا.
نادرا ما تحدّثت مع أمّي عن والدي. لم يكن لديّ أيّ صور له، وبمرور الوقت نسيت كيف كان يبدو. وعندما كنت أسأل أمّي عنه، كانت تنظر إليّ بخيبة أمل وتقول: إنسيه. لقد رحل".
لكن لم يكن الأمر كذلك. كان لا يزال هناك، في منزلنا القديم. المنزل من الداخل يشبه المتحف، كانت جدرانه مغطّاة بلوحات زيتية لجدّي وصور عائلية باهتة. كلّ صورة كشفت لمحات من حضور والدي في حياتي.
بدا سعيدا جدّا، وفي حالة حبّ شديدة. كلّ ما عرفته هو غضب والدتي وخيبة أملها تجاهه.
شعرت بأن علاقتي مع والدي سُرقت، وأردت بطريقة ما تعويض السنوات الضائعة. لقد عشت معه لمدّة عام تقريبا. في كثير من الأحيان، كنّا نقضي أوقات الصباح معا، وكان والدي يجلس أمامي عبر الطاولة، يروي لي القصص كما لو كنّا أصدقاء قدامى.
كنت قد نسيت الكثير عنه: شكل وجهه، صوته، ضحكته. لقد كان أمرا مميّزا لي أن أكون بالقرب من والدي. ومع ذلك كان مستغرقا أحيانا في كتاباته، ومشغولا مع والده، ومع عائلته الجديدة.
ومنذ وقت ليس ببعيد، أصبح لديه طفل آخر، فتاة صغيرة تعيش مع والدتها ولا يعيش معهما. كان يزورهما أحيانا. كان يجب أن أكون سعيدة من أجله، لكن عندما شاهدته وهو يلعب مع ابنته، شعرت وكأنها كدمة يواصل أحدهم الضغط عليها.
أردت الهرب، لكن بدلاً من ذلك قمت بتصويرهما معا. في بعض اللحظات كان ينفتح ويكشف المزيد من شخصيّته ويسمح لي بالدخول إلى حياته. وفي كثير من الأحيان لم أكن أعرف كيف أتصرّف حياله. وأحيانا كان يشاهدني أمشّط شعري ويمدّ يده ليعانقني. وعندما كان يفعل ذلك، كنت أبتعد. لم أكن أعرف ما هو بالنسبة لي، والأهم من ذلك ماذا كنت بالنسبة له.
كان والدي يشاركني بشِعره. أخبرتني كلماته بما لا يستطيع فعله بطريقة أخرى. وفهمت انه كان هناك ألم وشوق للمزيد. وهذا شيء نتشاركه.
ببطء أقوم بتجميع صورة شخص غريب مألوف. بطريقة ما، لم يكن غائبا بالنسبة لي أقل ممّا كان عليه عندما كنت طفلة. لكن من خلال هذه الصور، لديّ الآن لمحة عن الرجل الذي كان ينبغي أن يكون والدي.
❉ ❉ ❉
المرّة الأولى التي واجهتُ فيها الموت حقّا كانت عندما كنت أمشّط شعر فتاة ماتت في حادث. كنت أحاول جعلها تبدو في أفضل حال عندما يأتي والداها وأختها لرؤيتها وأخذها. غسلت يديها ووجهها ثم وجدت بعض الزهور ووضعتها على الرفّ الذي خلفها وتفحّصت سوار معصمها للتأكّد من أنني لم أنسَ اسمها.
ودهشت عندما اكتشفت أنها ولدت في نفس يوم ميلادي.
كانت لديها آمال وأحلام. في جيبها وجدت صورة ضاحكة لها التُقطت بكاميرا فورية.
كانت جدّتي تقول لي دائما: لقد مُتِّ منذ زمن طويل"! وكنت أضحك دائما من كلامها.
لا أستطيع أن أقول إن حياتي كانت حافلة بالنشاط. ولم تكن لديّ رغبة في السفر حول العالم والالتقاء بالناس. لكن في تلك اللحظات التي كنت فيها مع الفتاة، أدركت أننا لا نعرف أبدا ما الذي سيحدث لنا غدا وأننا يجب أن نستمتع بيومنا هذا قبل أن ينصرم من أعمارنا ولا يعود.
قبل فترة شُخّص مرض ابنة أحد معارفنا بالسرطان وهي في السابعة عشرة من عمرها. كانت تريد دائما الحصول على وشم، لكن والديها كانا يرفضان ذلك. وفي أحد الأيّام عندما شعرت أنها قادرة على تحقيق رغبتها، ذهبت إلى محلّ رسّام وطلبت منه أن ينقش على ذراعها عبارة: لديك حياة واحدة، فعِشها".
يقول مارك توين: بعد عشرين عاما من الآن، ستندم على الأشياء التي لم تفعلها أكثر من ندمك على الأشياء التي فعلتها. لذا ألقِ حبل الشراع وأبحر بعيدا عن الميناء الآمن واستغل الريح لدفع أشرعتك".