:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، مايو 02، 2024

مدرسة أثينا ومفهوم الجمال


تُعتبر لوحة رافائيل مدرسة أثينا (1511) أحد أفضل الأعمال الفنّية المعروفة من عصر النهضة الإيطالية. وهي واحدة من أربع لوحات جدارية موجودة في شقّة الفاتيكان المعروفة باسم غرفة سيغناتورا. وقد رُسمت هذه اللوحات بتكليف من البابا جوليوس الثاني لكي تلخّص المثل اللاهوتية والإنسانية.
وتصوّر "مدرسة أثينا" أعظم فيلسوفين من العصور القديمة، أفلاطون وأرسطو، وهما يقفان وسط مساحة مقبّبة أسطوانية الشكل ومهيبة، بينما يحيط بهما فلاسفة وعلماء مشهورون آخرون مثل سقراط وفيثاغورس وبطليموس وغيرهم. ويبدو الحكماء منهمكين في نقاشات حيّة، بينما يشرف على المشهد تمثالا أبوللو ومينيرفا إلهتي الفنون والحكمة القديمة.
وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك بعض الجدل حول هويّة بعض الأشخاص الكثر الظاهرين في الصورة، إلا أنه يمكن التعرّف بسهولة على شخصيّتي أفلاطون وأرسطو. فانسجاماً مع تفكيره، يشير أفلاطون إلى السماء ليؤكّد ان الحكمة تكمن في عالم الروح، بينما يشير أرسطو باتّجاه الأرض كمصدر لملاحظاته.
وأفلاطون يحمل كتابه "محاورات مع تيماوس"، الذي يصف فيه أصل وطبيعة الكون، بينما يحمل أرسطو كتابه "الأخلاق" الذي يؤكّد فيه على الطبيعة العقلانية للإنسانية والحاجة إلى السلوك الأخلاقي.
وسيصبح مذهبا هذين الإثنين مؤثّرين كثيرا في الفكر الغربي. فقد تبنّى ليوناردو دافنشي، مثلا، أفكار أرسطو التي وجد فيها أساسا فلسفيا لدراسته للطبيعة. ومن المفارقات الغريبة أن رافائيل صوّر أفلاطون بملامح دافنشي!
وعلى الرغم من أن أفلاطون وأرسطو لم يصوغا نظرية عن الفنّ، إلا أن هناك عناصر في تفكيرهما ترتبط ارتباطا مباشرا بالفنّ وبعلم الجمال. وفي الواقع، قدّم أفلاطون وأرسطو مفاهيم مهمّة مثل الشكل والمضمون لأوّل مرّة، وعلى الأخص في خطابهما حول التقليد او المحاكاة.
لكن هناك العديد من الاختلافات الهامّة بين الرجلين. وأحدها هو أنه بالنسبة لأفلاطون، يجب أن يهتمّ التقليد في الغالب بالأشكال المثالية أو الأفكار التي تحكم الكون وتظهر في النظام والانسجام والتوازن في العالم الطبيعي.


ومن المثير للاهتمام أن أفلاطون لم يعتقد أن الفنّانين لديهم القدرة على تفسير الأفكار الإلهية. ووفقا له، فإن مهمّة الفلسفة هي إيجاد المعنى. كما أنه رأى أن الأعمال الفنّية خادعة وتمنعنا من العثور على الحقيقة. ولذلك، كان لا بدّ من حظر الأعمال الفنّية في المجتمع المثالي الذي تَصوّره أفلاطون.
والنظام في الكون، بحسب أفلاطون، يقوم على مبادئ رياضية، وبالتالي فهو مسألة تفكير عقلاني. ومع ذلك، ومن خلال التأكيد على أنه يجب على المرء فقط ان يقلّد، فان أفلاطون المثالي قدّم نموذجا مهمّا للخطاب في الفنّ، بالإضافة إلى أساس متين للفكرة الغربية عن وظيفة الفنّ المتمثّلة في تقليد الطبيعة.
وعلى الطرف الاخر، كان أرسطو يعتقد أن التقليد ينطوي على تجربة إنسانية، وبهذا المعنى رأى دورا للفنون. ووفقا له، فإن للفنّان حرّية تقليد جوانب الطبيعة، لكنّه أصرّ على وحدة الشكل (أي الصفات الشكلية والبنيوية). ويشرح أرسطو الشكل من حيث "أسبابه" التي يقصد بها أيّ عامل خارجي غير المادّة يشرح سبب وجود شيء ما على ما هو عليه، وما هي الوظيفة التي يمكن أن يؤدّيها.
وباختصار، فإن الشكل هو الذي يجعل الشيء على ما هو عليه. وفي حين أن الشكل حسب أفلاطون يتعلّق بالأشكال المثالية، فإن أرسطو يربط الشكل بشيء متأصّل في الشيء نفسه.
وهناك اختلاف آخر بين أفلاطون وأرسطو، وهو الطريقة التي يناقشان بها التقليد فيما يتعلّق بالجمال. بالنسبة لأفلاطون، الجمال هو فكرة، شيء ما مجرّد يتمّ الكشف عنه في نظام العالم الطبيعي.
ومن هنا جاءت الأهميّة التي أولاها للرياضيات باعتبارها المفتاح لفهم العالم الطبيعي. وبالنسبة لأرسطو، الجمال شيء حقيقي، وهو أيضا وظيفة للشكل وليس مجرّدا كما هو الحال عند أفلاطون ولكنه متجذّر في الشيء. وبعبارة أخرى، فإنه يرتبط بالسياق.
لذلك، على الرغم من أن أفكار أفلاطون وأرسطو الفلسفية توفّر الأدلّة الأولى فيما يتعلّق بالعلاقة بين الشكل والمضمون، فإنها تُظهر أيضا العلامات الأولى لانقسام ما. فالجمال (أي المضمون)، وفقا لأفلاطون، هو الشكل الذي من خلاله تظهر المُثل السماوية وبدونه تظلّ تلك المثل مخفية عن البشر.
ومن ناحية أخرى، يهتمّ أرسطو كثيرا بتشابه (شكل) المظاهر الحقيقية هنا على الأرض. وهذا الفصل بين الشكل والمضمون هو الذي سيؤثّر بشكل كبير على تطوّر الفنّ وعلم الجمال في العصر الحديث.

Credits
raphaelpaintings.org

الاثنين، أبريل 29، 2024

سيزيف العصري


ذات مرّة، انهمك مزارع مبتدئ في مشاهدة مقاطع فيديو تحفيزية. وأصبح ملمّا بأفكار مثل أهميّة الجهد وثقافة الزحام والعمل بجدّ وقت العمل واللعب بمزاج وقت اللعب.
وبعد عدّة أيام، دخل إلى مزرعته متحمّسا، ومصمّما على تطبيق ما شاهده، لتحقيق نجاح أكبر في عمله. وبدأ بقلع أحد المحاصيل كوسيلة لجعله ينمو بشكل أسرع.
لكن هذا لم يُجدِ نفعا.
ثم بدأ في سقي النباتات مرّتين، على أمل أن تنمو بشكل أسرع. ولكنه أغرقها بدلاً من أن يجعلها تنمو أسرع. وبعد محاولات متعدّدة، أدرك المزارع أنه مهما بذل من جهد وعمل على تغيير الطبيعة فلن يؤدّي ذلك إلا إلى نتائج عكسية.
على الرغم من التطوّرات التكنولوجية التي شهدتها البشرية لإحراز تقدّم أفضل وأسرع، إلا أننا لا نزال نعتمد على الطبيعة. فالجهد البشري له حدوده وهو دائما مرتبط بقوانين الطبيعة التي تحكم كلّ شيء.
نحن لا نستطيع أن نزرع نباتا، مثلا، بمعزل عن قوانين النموّ الطبيعي، رغم أنه يمكننا التأثير عليه والتلاعب به أحيانا، ولكن بقدر محسوب ومحدود.
يقول لاو تسو إن العالم يحكم نفسه بنفسه ولا يحتاج إلى تدخّلنا نحن البشر. ويضيف: عندما تصل إلى حالة عدم اتخاذ أيّ إجراء، فلن يُترك أيّ شيء دون تغيير".
وتشبه هذه الفكرة المفهوم الياباني المعروف بـ عدم الفعل أو عدم القيام بشيء (wu-wei). والطاوية تقدّم عدّة طبقات فيما يتعلّق بكيفية تعزيز هذا المفهوم لعلاقتنا بالعالم، وكيف أن هذا الفنّ القديم المتمثّل في "ترك الأشياء تحدث" لا يجعلنا بالضرورة سلبيين أو متفرّجين، بل يمكنه في الواقع تحسين طريقة تصرّفنا إزاء الأحداث، ما يؤدّي إلى نتائج أفضل.
وربّما يكون التفسير الأكثر شيوعا لمفهوم اللافعل هو مواءمة أفعالنا مع الطبيعة وعدم الإكراه على فعل شيء والتصرّف فقط عندما يكون ذلك مناسبا.
يقول لاو تسو إن استخدام القوّة يؤدّي دائما إلى مشاكل غير منظورة". وهو لا يقصد المعنى الحرفيّ للقوّة، بل التدخّل لإجبار حركة الطبيعة على السير في اتجاه محدّد.
إن للطبيعة مسارها، وهي تعمل دائما في الخلفية. كما أنها كامنة في جذر وجودنا الإنساني، وتخلق وتعيد خلق ما يسمّيه الطاويّون بالعشرة آلاف شيء: أي كلّ ما هو تحت السماء وما خلفها.
ولكن على الرغم من الدفع الهائل للكون، إلا أن مجتمع اليوم ما زال يولي أهميّة كبيرة للجهد الإنساني قبل كلّ شيء. إننا نحتفل بالجهد، بغضّ النظر عن فعاليّته الحقيقية، بحيث نظلّ مشغولين دائما من أجل الانشغال نفسه. ومثل سيزيف في الأسطورة القديمة، ندفع بالصخرة إلى الأعلى، فقط من أجل الدفع.
إن بذل الجهد شيء، وبذل الجهد بذكاء شيء آخر. صحيح أنه في بعض الأحيان يكون العمل الجادّ ضروريّا، ويكون الإجراء مناسبا. ولكن في كثير من المناسبات، لا يكون كذلك. والأمر يعتمد على إيقاع اللعبة وعلى الأوراق التي توزّع عليك وما إذا كان الدور دورك. والتصرّف خارج الدور يعني الوقوف ضدّ حركة اللعبة.
وكثيرا ما أدّى "إكراه الأشياء على الحدوث" أو الدفع بالأمور إلى ما هو أبعد من قيود الطبيعة، كثيرا ما أدّى إلى الخراب على المدى الطويل وأتى بنتائج عكسية. يجب أن نكفّ عن لعب دور "سيزيف المعاصر" الذي يدفع بالصخرة الى قمّة الجبل، وعندما يقترب من القمّة تتدحرج الصخرة الى السفح، ثم يعاود محاولته العبثية في دفعها الى فوق مرّة بعد أخرى دون أن يثمر جهده عن شيء. إن المواقف والمشاكل كثيرا ما تحلّ نفسها عندما لا نتدخّل أو ندفع بها قسرا في اتجاه معيّن. وعندما نسمح للأشياء بالحدوث من تلقاء نفسها فإن الأمور تُنجز بشكل طبيعي.
لقد كان ذلك المزارع المبتدئ يحتاج ببساطة إلى ترك محاصيله وشأنها والتحلّي بقليل من الصبر، بينما تتكفّل الطبيعة بالباقي. ولكن عندما يحين وقت الحصاد، ينبغي على المزارع أن يشمّر عن ساعده ويقوم ببقيّة العمل.


يقول لاو تسو: إن الطاو لا يتصّرف بالقوّة أبدا، ومع ذلك لا يوجد شيء لا يستطيع فعله". والمعنى هو أننا إذا كنّا نساير الطبيعة فإن كلّ شيء يسير بسلاسة. إن مهمّة المزارع هي زرع البذور، ومهمّة البذور هي أن تنمو لتصبح محاصيل، وبعد ذلك تأتي مهمّة المزارع، وهي جني المحاصيل عندما تكون جاهزة. هذه هي الطريقة التي تعمل بها الطبيعة على النحو الأمثل.
كان لاو تسو يعتقد أن العالم لا يمكن حكمه كما يحكم هو نفسه. إنه خارج نطاق السيطرة تماما. ومحاولة التحكّم فيه هي دائما معركة خاسرة. كما أن قضاء حياتنا في محاربة الطبيعة هو مضيعة للوقت، مهما كثر الناس الذين يمتدحوننا لانهماكنا في مثل هذا "المسعى البطولي".
وبدلاً من إهدار طاقاتنا في محاولة السيطرة على ما هو طبيعيّ وتغييره، من الأفضل أن نقبل ما هو موجود ونسايره بمرونة مثلما يتدفّق الماء بسلاسة عبر سطح صخريّ باتجاه المحيط.
إن البشر مختلفون في مواهبهم وقدراتهم وملكاتهم. البعض من المفترض أن يقودوا، والبعض الآخر من المفترض أن يتبعوا. البعض يجب عليهم أن يكدّوا ويجهدوا دائما، بينما يتمتّع البعض الآخر بأوقات رغدة وسهلة. وبعض البشر كبار وأقوياء بطبيعتهم، والبعض الآخر صغار وضعفاء بطبيعتهم. بعضهم ستتوفّر لهم الحماية والرعاية، بينما يُترك الاخرون ليواجهوا المتاعب لوحدهم.
إن "ترك الأشياء تحدث" معناه أن نبحر في منطقة مجهولة دون أن ندع المجهول العظيم يزعجنا، أن ننطلق في مجرى النهر دون أن نفكّر في المكان الذي يقودنا إليه، أن نسبح مع التيّار وليس ضدّه، وأن نجعل طريقنا سلسا وخاليا من التردّد والخوف.
عندما تذهب الى موعد، يكون الشخص الذي ستقابله مهتمّا بشيء واحد فقط: التعرّف عليك، أي على الشخص الذي تكونه أنت في تلك اللحظة. لكن الكثير من الناس يبالغون في الاستعداد والتحضير والتحليل والتدرّب على ما سيقولونه. ومن هنا يأتي التوتّر والقلق، لأننا نميل الى التركيز كثيرا على النتائج.
يريد معظمنا أن يصبح هذا الموعد ناجحا، ونريد أن يكون الشخص الآخر مثلنا. لذلك يكون هناك ضغط وثمن يجب الفوز به. وإذا لم نحصل عليه نشعر بالتعاسة.
وهكذا، فإن ما كان يمكن أن يكون ليلة ممتعة ومبهجة، يصبح مرهقا ومنهكا، مع الكثير من الأفكار الزائدة والاستعدادات الذهنية مقدّما.
إننا نقف في طريق أنفسنا بمحاولتنا أن نمنع التدفّق الطبيعي للكون، وهو ما لا نستطيع فعله أصلا ولا السيطرة عليه، بغضّ النظر عن كميّة التفكير والتخطيط الذي نبذله.
لكن تخيّل أنك تدخل موعدا وأنت غير مستعدّ أو متهيّء له على الإطلاق، بل حتى دون أن تتوقّع حلوله. ستتصرّف بشكل طبيعي، وفي هذه اللحظة ستبدو عفويّا لأنه لم يكن لديك فرصة للتفكير الزائد فيه. لم يكن هناك وقت للتخطيط والتخيّل والتحليل، وكلّ ما تبقّى هو أنت نفسك الحاضر والمتوحّد مع اللحظة.
لذا، إذا تمكّنا من التخلّي عن النتائج أو التفكير فيها، سيمكننا التصرّف بسهولة وباستجابة أكبر، فقط من أجل الفعل نفسه.
من الواضح أننا بسبب تجارب الماضي أو التكييف الاجتماعي أو الأيديولوجيات، شكّلنا أنفسنا لنتناسب مع السياق الذي نعيش فيه. لذا يحثّنا لاو تسو على العودة إلى "حالة غير معالَجة"، أو ما يسمّيه هو بـ "الحالة غير المنحوتة". ويقصد بها حالة الشخص غير المثقل بأمتعة الثقافة التي تشوّش رؤيته للعالم.
يجب أن نتحلّى بالشجاعة الكافية للتخلّي عما الكثير ممّا تعلّمناه، والاستغناء عن أُطرنا الثابتة وافتراضاتنا المسبقة. أو كما قال لاو تسو: تخلّ عن المعرفة وستنتهي مشاكلك".
يُروى أن تلميذا لكونفوشيوس أراد أن يسافر الى مملكة بعيدة بعدما سمع عن مشاكلها العديدة مع حاكمها المستبد. لذلك خطّط هذا التلميذ لاستخدام معرفته وحكمته لإلقاء محاضرة على ذلك الملك لمحاولة إقناعه بإدارة المملكة بحكمة وتعقّل.
لكن كونفوشيوس أقنع تلميذه الساذج بعدم القيام بذلك وأخبره أن خططه مدفوعة بالأنا أكثر من اللازم ولن تجدي نفعا. في نهاية المطاف، لا أحد ينتظر أن يأتي شخص من العدم ويعرف "كلّ شيء" ليخبرك بكيفية أداء عملك. اعتنِ بشئونك بنفسك قبل أن تهتم بطاغية منشغل بذاته.
ومع ذلك، قدّم كونفوشيوس بديلاً أطلق عليه "صيام القلب"، وهو شكل من أشكال التأمّل الذي يقود الى ترك تصوّراتنا المسبقة وإفساح المجال للانفتاح على النفس وعلى الكون.

Credits
ctext.org