مع تسارع وتيرة الحياة الحديثة وكثرة انشغالات الإنسان، أصبح الاستمتاع بقراءة كتاب من الأمور التي تدخل في باب الرفاهية. صحيح أن التكنولوجيا الحديثة لها بعض السلبيات، غير أن لها أيضا بعض المزايا والايجابيات. وإحداها هي انه يمكنك سماع كتاب بدلا من قراءته. ومنذ أشهر، تعرّفت على مزايا سماع كتاب أو محاضرة في السيّارة. والفضل في ذلك يعود إلى تسجيلات البودكاست التي تكثر في الانترنت وتستطيع من خلالها تنزيل أيّ مقال أو كتاب أو محاضرة وحفظه على جهاز فلاش ثم تشغيله في السيّارة. كما يمكنك أيضا سماع الكتاب أو المادّة المسجّلة وأنت تمشي أو تمارس الرياضة أو تتسوّق أو تنتظر في عيادة الطبيب في حال ما إذا توفّر لديك مشغّل ام بي ثري أو جهاز آيبود.
بعض المواقع الاليكترونية توفّر من خلال البودكاست موادّ سمعية كثيرة ومتنوّعة تلبّي كافّة الاحتياجات والاهتمامات. لكن يبدو أن هناك تركيزا خاصّا هذه الأيّام على الكتاب المسموع. وقد أشار مقال في صحيفة النيويورك تايمز مؤخّرا إلى أن أنصار الكتب المسموعة في ازدياد. كما أن مفهوم الكتاب الصوتي في حدّ ذاته فرض إعادة تعريف فكرة القراءة التي ظلّت تعتمد لقرون طويلة على الكلمة المطبوعة.
ومنذ بعض الوقت تعرّفت إلى تجربتين عربيتين تستحقان التنويه والإشادة في مجال الكتاب والأدب المسموع. الأولى مدوّنة اختار لها صاحبها اسم الكتاب المسموع. وتضمّ تسجيلات لعدد من أمّهات الكتب العربية والمترجمة. هذا النوع من المبادرات الثقافية جديرة بالتشجيع برغم بعض السلبيات التي يمكن ملاحظتها ومن ثمّ العمل على محاولة تفاديها مستقبلا. فغالبية الكتب المسموعة في هذه المدوّنة كان يمكن أن تُنفذ بصوت أفضل جودة وبعضها لا يخلو من الأخطاء النحوية واللغوية. ومن المستحيل مقارنتها بالكتب المسموعة الغربية والتي تتميّز بجودة الأداء ونقاوة الصوت وتوظيف التأثيرات الصوتية والموسيقية بطرق مبتكرة ومبهرة.
والتجربة الثانية يقدّمها موقع اسمه صِبا الصوت الذي يوفّر لزوّاره نصوصا شعرية مختارة بعناية لعدد من الشعراء العرب. ورغم أن الفكرة نفسها ليست جديدة تماما، إلا أن هذا الموقع يتناولها بطريقة احترافية ومختلفة. وهذا واضح من خلال الأصوات المتميّزة التي اختيرت لإلقاء الشعر واستعانة الموقع بآخر تقنيات هندسة وإنتاج الصوت.
شخصيّا أفضّل دائما أن اسمع القصيدة بصوت الشاعر نفسه. ومن خلال التجربة، صرت لا أتصوّر سماع قصيدة لنزار قباني أو لـ محمّد الثبيتي أو لأحمد مطر أو لمظفّر النوّاب أو لغازي القصيبي، مثلا، إلا من خلال صوت الشاعر نفسه. لا يمكن أن ينقل أحاسيس الشاعر واختلاجاته الداخلية أكثر من صوت الشاعر نفسه. غير أن هذا لا يقلّل من جهد أصحاب الموقع ولا من أهمّية ونبل الفكرة ذاتها. الموسيقى المختارة لترافق النصوص الشعرية في صِبا الصوت تنمّ أيضا عن ذوق رفيع ومعرفة واضحة بكيفية المزاوجة بين الشعر والموسيقى بأسلوب جذّاب ومؤثّر.
شعبيّة الكتاب المسموع تشهد ازديادا مطّردا كما هو واضح. لكن هناك نقاشا كبيرا هذه الأيّام بين النقّاد والكتّاب والقرّاء حول أفضل سبل استهلاك الكتب. بعض مشاهير الكتّاب في الغرب يفضّلون من حيث المبدأ أن تُقرأ كتبهم لا أن تُسمع. لكنّهم مع ذلك لا يمانعون في أن تُسمع بدلا من أن لا تُقرأ على الإطلاق. وبعضهم يصرّون على أن يسجّلوا كتبهم بأصواتهم وأحيانا يشترطون اسم ممثّل أو مذيع مشهور كي يقوم بمهمّة الراوي.
غير أن بعض النقّاد لا يشعرون بكثير ارتياح لفكرة الكتاب المسموع. حيث يرون أن متعة القراءة لا تتحقّق إلا من خلال التواصل بين الكاتب والمتلقّي، وهذا لا يتوفّر برأيهم إلا من خلال الكلمة المطبوعة.
كما يتهمّ النقّاد جمهور الكتب المسموعة بالكسل وتفضيلهم الراحة على إعمال العقل والخيال، وهو ما تمنحه القراءة الحقيقية. وثمّة فريق آخر يتمثّل في من يمكن تسميتهم بالقرّاء الرومانسيين الذين يستمتعون باحتضان الكتاب واستنشاق رائحة الحبر والورق ودفن أنفسهم في جوّ الرواية أو القصّة.
غير أن الذين يفضّلون الكتب المسموعة لهم أسبابهم وحججهم أيضا. مثلا، تستطيع أن تسمع الكتاب في السرير دونما حاجة لإزعاج شريكك في الغرفة بإبقاء النور مضاءً. ثم إن الكتاب المسموع يروق أكثر لمن حُرموا نعمة البصر أو الذين تصاب أعينهم بالإجهاد والتعب جرّاء القراءة المتواصلة. كما أن مبادلة هذا النوع من الكتب مع أشخاص آخرين أسهل من تبادل الكتب المطبوعة. يضاف إلى ذلك أن الكتب السمعية اقلّ كلفة من المطبوعة. كما أنها صديقة للبيئة لأنها تُبقي على الأشجار وتحفظ موارد الأرض. الكتب السمعية أيضا تجعلك أكثر استرخاءً وتحافظ على عينيك بدلا من الساعات الطوال التي تقضيها أمام الكمبيوتر. كما أن سماع الكتب يحسّن مهاراتك اللغوية والسمعية. ومن المميّزات الأخرى أن الحصول على الكتب السمعية أسهل وأسرع من الكتب المطبوعة. كما أن إنتاجها اقلّ تكلفة ولا تحتاج لحيّز تخزين في البيت. أي انه يمكنك الاحتفاظ بها بلا نهاية نظرا لسهولة حفظها وتخزينها. وإذا كنت تقضي الليل في مكان لا تتوفّر فيه إضاءة كافية، فالكتاب المسموع يصبح عندئذ خيارك المفضل.
واعتمادا على بعض المؤشّرات، فإن الرواية والقصّة القصيرة وقصص الأطفال سجّلت أعلى مبيعات الكتب المسموعة. وهذا ينطبق أيضا على كتب المذكّرات الشخصية. إذ ثبت أن الشخصيّات المهمّة التي تقرأ مذكّراتها تقيم علاقة حميمة ومباشرة مع المتلقّي لا تتوفّر بغير الصوت. بيل كلينتون وزوجته هيلاري، مثلا، ارتفعت مبيعات كتابيهما بطريقة فلكية عندما طرحا النسخة الصوتية من مذكّراتهما الشخصيّة. وهذا يدلّ على أن الناس تميل لسماع القصص مباشرة من فم المؤلّف.
وأخيرا ينبغي الإشارة إلى موقع ثقافي عربي متميّز هو الأخر هو موقع مشروعات عربية الذي يعمل على تطوير حركة النشر الاليكتروني العربي وتشجيع التدوين وتقديم النصح في كلّ ما يتعلّق بإنشاء وتطوير وإدارة المواقع الالكترونية. هذا الموقع يشتمل أيضا على العديد من الأخبار والتحليلات والمقالات والأفكار المفيدة. كما يتضمّن تسجيلات نادرة لبرامج ثقافية مسموعة ومصوّرة. ومؤخّرا أعلن القائمون على الموقع عن خطّة طموحة تهدف إلى وضع المخطوطات والوثائق العربية على الانترنت كي تكون في متناول المهتمّين من طلبة وباحثين ومختصّين.
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الخميس، يوليو 29، 2010
الكتاب المسموع
الأربعاء، يوليو 28، 2010
زمن البراءة
بعض الأعمال التشكيلية المعروفة وجدت طريقها إلى عدد من الأفلام السينمائية المشهورة. أحيانا تكون شهرة اللوحة أو قيمتها الإبداعية أو السعر الباهظ الذي بيعت به سببا يدفع بعض المخرجين إلى توظيفها في المشاهد الفخمة لأفلامهم.
وفي بعض الأحيان تضفي اللوحة جوّا من البذخ أو الرفاهية على قصّة الفيلم. وفي بعض الحالات تصبح اللوحة عنصرا رئيسيا في العمل السينمائي، إمّا للتأكيد على فكرة أو رسالة ما أو لتعميق الجانب التعبيري للفيلم.
ومن أبرز الرسّامين الذين وُظفت لوحاتهم في أفلام سينمائية مشهورة كلّ من ليوناردو دافنشي وبيتر بريغل وفان غوخ وغوستاف كليمت وغيرهم.
في الموضوع التالي تتحدّث مون سويونغ عن لوحة للرسّام الرمزي البلجيكي فيرناند كينوبف ظهرت مؤخّرا في فيلم زمن البراءة. كما تحاول الكاتبة فهم الدلالات الاجتماعية والسيكولوجية والفنّية والانثروبولوجية للوحة ضمن سياق قصّة الفيلم.
نيولاند آرتشر محام وسيم ووريث عائلة من الطبقة الثريّة في نيويورك أواخر القرن التاسع عشر. كان آرتشر يأمل بالزواج من شابّة جميلة من عائلة مكافئة لعائلته من حيث الوجاهة والثراء اسمها ماي ويلاند.
وهنا تدخل الكونتيسة إيلين اولنسكا، عمّة ماي، في الصورة. كانت إيلين تعيش في أوربّا بعد زواجها من كونت بولندي. لكنها لا تلبث أن تهجر زوجها الذي كان يسيء معاملتها وتعود إلى أمريكا. وعندما تصل إلى هناك تواجه استقبالا فاترا من الوسط الاجتماعي المحافظ الذي تنتمي إليه. لكنها ما تزال مصرّة على المضيّ قدما في خططها لتطليق زوجها. وهو تصرّف كان ممنوعا في ذلك الوقت. عائلة إيلين معارضة بقوّة للخطّة وتعتقد أنها ستجلب لهم العار. لذا تطلب من آرتشر أن يثنيها عن فكرة الطلاق. في النهاية، يوافق آرتشر على القيام بالمهمّة لكنه يشعر بافتنان وتعاطف مع إيلين وهو يراقب كفاحها ضدّ قيود المجتمع لوحدها.
هذه هي حبكة فيلم زمن البراءة الذي يستند إلى رواية بنفس الاسم فازت بجائزة البوليتزر للكاتبة إديث وارتون. وعندما أعلن مارتن سكورسيزي انه سيخرج الفيلم أصيب الكثيرون بالدهشة لأن المخرج كان معروفا بأفلامه الصعبة عن الشوارع الخلفية والعالم السفلي لـ نيويورك. ولم يسبق لـ سكورسيزي أن اخرج أفلاما ذات طبيعة رومانسية تحكي عن الأزمنة الأنيقة. وعندما سُئل عن قراره بإخراج الفيلم قال انه ينوي أن يصوّر الأشكال الخفيّة من العنف والتوحّش التي يمكن أن يجلبها المجتمع للفرد الذي يعيش فيه. وقد أنجز سكورسيزي ذلك الهدف بطريقة رائعة وذلك من خلال العناصر الصورية التي حشدها في الفيلم. فالمَشاهِد تلتقط المناظر الداخلية الفخمة للديكورات والملابس التي كانت شائعة في أواخر القرن التاسع عشر بتفصيل رائع ومذهل.
الفيلم يتضمّن أيضا مشاهد مبهجة للعين من خلال عدد من اللقطات الجميلة والمرتّب لها بعناية. كما انه يوظّف أشياء وعناصر معيّنة لتصوير مقاومة كلّ من إيلين ونيولاند ضدّ النظام الاجتماعي الصارم. والفيلم يحتشد بعدد لا بأس به من اللوحات الفنّية التي تزيّن قصور العائلات الغنيّة من بينها بعض أعمال جيمس تيسو ولورانس تاديما وغيرهما من رسّامي تلك الأيام. لكن أهم تلك العناصر هي لوحة في بيت إيلين تصوّر مخلوقا بوجه امرأة وجسد نمر وهو يتحسّس بمودّة وجه شابّ ذي صدر عاري.
اللوحة الأصلية هي للرسّام الرمزي البلجيكي فيرناند كينوبف وتحمل اسم المداعبة أو أبو الهول. ويُحتمل أن هذه اللوحة تصوّر الوحش سفينكس أو أبو الهول الذي تذكر الأساطير الإغريقية أن له جسد لبؤة ورأس رجل والذي هزمه البطل اوديب عندما تمكّن من حلّ لغزه.
من المؤكّد أن اوديب لم يكن على علاقة عاطفية مع سفينكس، لكنه تزوّج والدته عن غير قصد ومن ثمّ ولد مصطلح "عقدة اوديب" الذي أصبح مشهورا في التحليل النفسي.
وحسب ما هو معروف، فإن جميع اللوحات التي يظهر فيها اوديب وسفينكس والتي رُسمت حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت وفيّة للأسطورة الأصلية. وفي جميع تلك اللوحات تقف الشخصيّتان متباعدتين عن بعضهما ومتّخذتين موقفا قتاليا في اللحظة التي يطرح فيها سفينكس لغزه.
غوستاف مورو كان رسّاما فرنسيا ورائدا للفنّ الرمزي. وقد رسم لوحة مختلفة كثيرا وصادمة عن اوديب وسفينكس. في اللوحة يحتضن سفينكس جسد اوديب ويحدّق فيه كما لو أنه يغازله. غير أن اوديب يستلّ رمحه ويوجّه له نظرات صارمة كما لو انه يريد مقاومة فتنة الإغراء بكلّ ما في وسعه. في هذه اللوحة لم يعد سيفنكس مجرّد وحش، بل يظهر كأنثى ذات جمال فتّاك تثقل كاهل الرجال بسحرها وتقرّر مصائرهم. وهي فكرة اعتنقها على نطاق واسع رسّامو القرن التاسع عشر.
السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف واتت هؤلاء الفنّانين فكرة تصوير سفينكس كامرأة فاتنة، خلافا لما تذكره الأسطورة الأصلية؟
ثمّة احتمال بأنهم تأثّروا بعلماء الانثروبولوجيا في وقتهم الذين كانوا يربطون بين سفينكس وصور النساء القويّات في العصور البدائية.
يتحدّث عالم الاجتماع السويسري يوهان باكوفن في كتابه "حقّ الأم" عن انتقال الجنس البشري من النظام الأمومي الذي كان سائدا في الأزمنة البدائية إلى النظام الأبوي، مشيرا إلى أن سفينكس القويّ كان واحدا من أهمّ رموز الأمومة. واللغز المشهور الذي يطرحه سفينكس على اوديب عن الشيء الذي يمشي على أربع أرجل في الصباح وعلى رجلين بعد الظهر وعلى ثلاث أرجل في المساء ليس مجرّد لغز، وإنما يتضمّن أيضا معنى رمزيا لدورة حياة الإنسان.
ويذكر بعض علماء الانثروبولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر أن المرأة في العصور البدائية كانت هي التي تحتكر أسرار الطبيعة ودورة حياة البشر. كما يشيرون إلى انه عندما حلّ اوديب اللغز فإنه إنما كان في الواقع يعلن نهاية ذلك الاحتكار وتحوّل السلطة من النساء إلى الرجال. ولو قُدّر للفنانين النسويين في أيّامنا هذه أن يرسموا سفينكس اعتمادا على تلك النظرية فإنهم بالتأكيد سيصوّرونه بطريقة أكثر جمالا ونبلا.
وعلى ما يبدو، كان الرسّامون الرجال في القرن التاسع عشر مثل مورو يركّزون على تصوير القلق والمشاعر المختلطة من الكراهية والحسّية التي كانت تثيرها صور النساء في الرجال طبقا لتلك النظرية. وفي ذلك الوقت كانت هناك لوحات كثيرة تُظهر سفينكس كأنثى ذات جمال قاتل، من قبيل لوحة كينوبف. هذه اللوحة بالذات خاصّة جدّا. فليس فيها توتّر جنسي قويّ مثل صور سفينكس الأخرى التي رُسمت في ذلك الزمن. كما أن الشخصين فيها لا يواجهان بعضهما البعض وإنما يقفان جنبا إلى جنب، بينما يبدو وجهاهما متشابهين بشكل غريب.
يقول المؤرّخ مايكل غيبسون في كتابه "الرمزية" إن الرجل الظاهر في اللوحة قد يكون الرسّام نفسه وليس اوديب، بينما يُحتمل أن يكون سفينكس خياله أو الأنا الأخرى بداخله. ومن المثير للاهتمام أيضا أن وجه سفينكس في اللوحة صيغ على ملامح وجه شقيقة الرسّام التي تظهر أيضا في العديد من لوحاته.
في احد مشاهد فيلم زمن البراءة، يقف نيولاند وإيلين معا في غرفة، بينما تظهر خلفهما لوحة كينوبف. نيولاند يقف أمام الرجل في حين تقف إيلين أمام سفينكس. قد لا تكون إيلين نموذجا للأنثى ذات الجمال القاتل. لكنها يمكن أن تتماهى مع سفينكس لأن لها روحا قويّة كما أنها تقاوم القواعد الصارمة للمجتمع. ونيولاند يمكن أن يتماهى مع الرجل في اللوحة برغم ما يبدو على ملامحه من علامات الحزن والتردّد. غير انه يكتشف روحه المتمرّدة من خلال إيلين. إنه مفتون بها ومعجب بشجاعتها، غير انه بنفس الوقت متردّد في أن يقبلها بسبب القيود الاجتماعية الصارمة التي يعيش الاثنان في ظلّها.
الاثنين، يوليو 26، 2010
عندنا وعندهم
استدعى المدير، وهو من بلد أوربّي، احد موظفيه من العرب إلى مكتبه لأمر مهم. وعندما جلس الموظّف على كرسيّه خاطبه المدير قائلا: تعرف جيّدا انه لا يربطنا معا أيّ نوع من الودّ أو الصداقة. فنحن مختلفان جدّا في كلّ شيء تقريبا. ومنذ أن عُيّنت في هذا المنصب قبل عام، حاولت جاهدا أن أفهَمك وأن أتفهّم بعض تصرّفاتك وردود أفعالك. لكنّي لم افلح أبدا. أنا وأنت على طرفي نقيض كما يبدو. هذا ما أنا متأكّد منه. نحن مختلفان في طريقة التفكير وحتى في اللباس والذوق، بل وفي اصغر الأمور شأنا". وأضاف: كلّ هذه الأمور خطرت لي وأنا اشرع في كتابة التقرير الخاصّ بتقييم أدائك".
كان الموظف يستمع إلى كلام رئيسه بكثير من التوجّس والخوف. وكان يدرك أن كلام الرجل لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة. وعلى كلّ حال، لم يكن رأيه هو في رئيسه يختلف كثيرا عن رأي رئيسه فيه. كلاهما كانا دائما متنافرين ومتباعدين على المستوى الشخصي والإنساني.
قال المدير متابعا كلامه: صحيح أنني قد لا أستسيغك ولا ارتاح لشخصك. لكن هذا لا يمنعني من الاعتراف انك من أفضل الموظفين هنا جدّية وإخلاصا ومثابرة. وقد قدّرت أن من الأفضل أن أطلعك على تقرير الأداء الخاصّ بك كي تكون الأمور واضحة ولمنع أيّ التباس أو سوء فهم. والأمر الآخر هو أنني أحبّ أن تكون قراراتي مدروسة ومحكومة بأكبر قدر من الشفافية والمصارحة".
ثم دفع إليه بالتقرير. وما أن رأى الموظف مضمونه حتى أصابته المفاجأة وعقدت الدهشة لسانه. فقد نال الدرجة الكاملة تقريبا في كلّ شيء. كلّ أجزاء التقرير كانت تحمل علامة امتياز. وكانت هناك ملاحظة مقتضبة في آخر صفحة تتضمّن ثناءً على مهارات الموظف وإشادة بأفكاره المتطوّرة والمبتكرة وتوصية بترقيته إلى مرتبة أعلى من مرتبته الحاليّة.
سمعت القصّة السابقة من صديق وتذكّرت قصّة مشابهة لها كنت احد شهودها. في هذه الحالة، كان المدير عربيا والموظف الذي يعمل تحت إشرافه خبيرا من احد بلدان أمريكا اللاتينية. ولم يكن قد مضى على تعيين ذلك الخبير في وظيفته سوى شهرين وعشرين يوما. أي انه كان ما يزال في طور التجربة.
وذات يوم جاء مديره إلى الرئيس وقال له: تعرف الخبير المعيّن حديثا في إدارتنا. قال: نعم. قال: هذا الرجل اعتبره من أفضل الأفراد لدينا. خبرته نادرة وأداؤه من أحسن ما يمكن. هو مجدّ في عمله ودقيق في مواعيده. كما انه لا يتأخّر عن إسداء النصح والمساعدة لمن يطلبهما من زملائه. وباختصار، هو موظف نموذجي وقدوة في كلّ شيء". ردّ الرئيس قائلا: هذا عظيم. هل افهم إذن من كلامك انك موافق على أن الرجل اجتاز مرحلة التجربة بنجاح وأنك تريد الاحتفاظ به؟ قال المدير: لا. ليس هذا بالضبط ما عنيته. فعلى الرغم من كلّ ما يتمتّع به من مميّزات وخصال، إلا أنني لا أريده في القسم ولا اطمح أن يستمرّ معنا. وقد حاولت جهدي أن أغيّر هذا الانطباع ولم استطع. أنا متأسّف أن أقول إنني لا أطيق هذا الرجل ولم أعد احتمل رؤيته معنا في القسم لسبب لا يد لي فيه على الإطلاق. وأضاف: لا أدري، أشعر بأنه معتدّ بنفسه كثيرا وإلى حدّ الغطرسة أحيانا رغم ما يبدو عليه من علامات الرصانة والوقار. وقد جئت لأقول إنني أريده أن يرحل وحبّذا لو بحثتم عن شخص آخر يحلّ مكانه بأسرع وقت".
كان الرئيس يستمع باستغراب وذهول إلى حديث ذلك المدير. وقد اختار أن ينهي النقاش عند ذلك الحدّ على وعد بأن يوافيه برأيه في المسألة لاحقا.
في ما بعد، طُلب منّي أن ابدي رأيي في الموضوع فقلت: اعتقد انه لا يجوز التعويل على ما قاله المدير عن ذلك الموظف. وأرى أن حجّته تفتقر إلى النزاهة الأخلاقية والمهنية. كما أن ما قاله عن الرجل يدلّ على سذاجته وتخلّف تفكيره عندما قدّم المسائل الشخصية على الاعتبارات المهنية ومصلحة العمل. وأنا إلى الآن لم اسمع اغرب من هذا الكلام، بل ولم يخطر بذهني يوما أن يأتي شخص في موقع مسئولية ليقول بكلّ جرأة وصفاقة انه يريد أن يستغني عن موظف لأن وجهه أو لون عينيه أو طريقة لباسه لا تعجبه. ولو شاع مثل هذا التفكير الطفولي بين المسئولين، فقل على الإدارة السلام". وختمت كلامي بالقول: أنا اعرف ذلك الموظف جيّدا ومتأكّد بأنه من خيرة الموظفين أداءً وخلقا. قد يكون وراء الأكمة ما وراءها كما يقال، وهناك احتمال وجود دوافع شخصية قد لا نكون على علم بها. والأفضل والحالة هذه أن يُرفع الموضوع إلى الإدارة العليا كي ترى رأيها فيه".
المهم انه بعد نقاشات مطوّلة وكثير من الأخذ والردّ، خضع الجميع لرأي المدير الصغير وتمّ بالفعل إلغاء عقد ذلك الموظف على الرغم من جميع التحفّظات والاعتراضات. وعندما علم بأمر إنهاء عقده جاء إلى الإدارة غاضبا وقال: رغم أنني لا أعرف سببا منطقيا لفصلي عن العمل، إلا أنني سأنصاع مضطرّا لقرار الإدارة. لكن ليكن معلوما للجميع أنني لن اتأخّر عن اللجوء للقضاء في بلدي ورفع قضيّة ضدّكم إذا ما ترتّب على هذا القرار إضرار بمستقبلي الوظيفي والمهني". وانتهت القصّة عند هذا الحدّ.
الدرس المستفاد من هاتين القصّتين ومن عشرات القصص المماثلة هو أن المفاهيم الإدارية وقيم العمل عندنا ما تزال متخلّفة ومحكومة بالتخبّط والاعتبارات الشخصية قياسا إلى ما هو موجود في البلدان المتطوّرة والعالم المتحضّر.
ومن هذه الناحية أتصوّر أن الغربيين أكثر إنسانية ونزاهة منّا عندما يتعلق الأمر بالممارسات الإدارية وقيم العمل. عندنا محسوبية وفساد ومحاباة وسوء إدارة، وعندهم من الأخلاقيات والمثل الرفيعة كالمساواة والنزاهة والشفافية ما أهّلهم لأن يتفوّقوا علينا وأن يحققوا من الانجازات الحضارية والنجاحات المبهرة ما لا نحلم نحن بتحقيقه ولو بعد عشرات السنين.