:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، فبراير 11، 2010

درس من الحياة

القويّ يفترس الضعيف. هذا ما تقوله اللوحة فوق. السمك القويّ يأكل السمك الضعيف. والإنسان بدوره يأكل السمك كبيره وصغيره. القاعدة نفسها تنطبق على دنيا البشر. أحيانا، أتصوّر أن السبب الأول في تعاسة البشر يمكن تلخيصه في كلمة واحدة: الأنانية. حبّ الامتلاك والتطلّع إلى ما بأيدي الآخرين ومحاولة انتزاعه دون وجه حقّ هي من الأمور التي تتسبّب في الفقر وتجلب البؤس والتعاسة وتزرع الحقد في النفوس وتغذّي الصراعات بين بني الإنسان. ولو تمعّنت في تفاصيل المشهد الذي تصوّره اللوحة ستكتشف أن الجميع آكل ومأكول وقاتل ومقتول. رائحة السمك تكاد تشمّها في الجوّ. ولفرط الصراع والانهماك في الفتك والذبح والافتراس يتحوّل الرجل إلى اليسار إلى ما يشبه السمكة.
اليوم قرأت في أخبار الياهو قصّة لا يبتعد موضوعها كثيرا عن مضمون اللوحة. وجدير بكلّ منشغل بجمع المال، سواءً بالحلال أو الحرام، أن يتأمّل الدرس البليغ الذي يقدّمه المواطن البريطاني كارل رابيدر. كارل كان قبل سنوات إنسانا فقيرا ومعدما. وبعد كفاح طويل، استطاع أن يجمع ثروة تقدّر بأكثر من ثلاثة ملايين جنيه استرليني. لكنه اكتشف أن المال لم يجلب له السعادة التي كان يتمنّاها فقرّر التخلّص من كلّ ثروته بالتبرّع بها إلى الجمعيات الخيرية.
وقد صرّح لبعض الصحف بقوله انه قرّر إنفاق كلّ سنت من ثروته، لأنه اكتشف أن لا جدوى من جمع المال، كما أن المال لا يجلب السعادة. وقال أيضا انه سينتقل من منزله الفخم في جبال الألب ليسكن بيتا متواضعا من الخشب.
وأضاف رابيدر: كنت اعتقد أن الثروة والترف يعنيان المزيد من السعادة. لكن مع مرور الوقت اكتشفت أنني كنت اشتغل كالعبيد كي أحقّق أشياء لم أكن أتمنّاها ولا احتاجها. ولديّ شعور أن الكثير من الأغنياء يساورهم نفس هذا الإحساس".
هذا الرجل يقدّم مثالا رائعا في نبذ الأنانية والتضحية من أجل الآخرين. مع أن البعض ربّما يعتبره شخصا ساذجا وأن تصرّفه يفتقر للحكمة والحصافة.
وقد أعجبني كلام بعض القرّاء ممّن علّقوا على القصّة. احدهم كتب قائلا: المشكلة أننا في هذا العصر الاستهلاكي نضع لأنفسنا الكثير من المطالب دون أن نحقّق أوّلا احتياجاتنا الأساسية. شركات السيارات تنصحنا بشراء الموديل الفلاني لأنه يحقق لنا السعادة، فنكتشف بعد أسابيع أننا أصبحنا فريسة للديون وجشع البنوك مقابل قطعة من الحديد. وشركات الالكترونيات تعدنا بالسعادة إن اشترينا جهاز تلفزيون بشاشة عريضة، والنتيجة أننا نجلس أمام التلفزيون لساعات طوال وننسى احتياجاتنا الإنسانية والتزاماتنا العائلية والاجتماعية".
وقال آخر: إنني احترم الدرس الذي يقدّمه هذا الرجل. وإن كنت اشكّ كثيرا في أن لديه زوجة".
وكتب ثالث: لقد فقدت وظيفتي وبعت منزلي وعن قريب سأفقد كلّ شيء عملت من اجله. وأتمنى أن أكون سعيدا مثله، وإن كنت اشكّ في ذلك".
شخصيا، اعتقد لو أن الكثيرين من أصحاب المليارات والأموال الطائلة في أوطاننا اكتشفوا مبكّرا ما عرفه هذا الرجل لعاد ذلك عليهم بالخير ولتقلّصت مساحة الفقر والبؤس في مجتمعاتهم. الأنانية والجشع وحبّ الامتلاك خصال نقيضة للسخاء والإيثار والعطف. أحيانا أتساءل كيف لإنسان أن يهنأ بالثروة ويذوق طعم السعادة وهو يرى من حوله أناسا يتناوشهم الفقر والبؤس وذلّ الحاجة.
وهذا الرجل اكتشف ما لا يتمكّن الكثيرون من إدراكه إلا بعد زمن طويل. وهو أن الثروة لا تجلب السعادة لصاحبها بالضرورة. يمكن للمال أن يجعل الحياة أسهل، لكنه قد يشكّل عبئا على صاحبه فيحرمه راحة البال ويسلب منه سلامه الداخلي.

الأربعاء، فبراير 10، 2010

جدلية العلاقة بين الرسم والموسيقى

الهارموني "أو التناغم" والريثم "أو الإيقاع" هما مصطلحان موسيقيّان في الأساس. لكننا نستخدمهما عادةً عند الحديث عن خصائص لوحة ما أو عمل تشكيلي معيّن. هذا الاستهلال قد يكون أفضل دليل يوضّح ما بين الرسم والموسيقى من أواصر وعلاقات قربى.
الناقد جيم لين يفصّل ذلك بقوله: العلاقة بين الرسم والموسيقى وثيقة بل وقديمة جدّا. إذ يمكن القول، مثلا، أن أيّ عمل نحتي ما هو في الواقع سوى لوحة ثلاثية الأبعاد. وهناك أمثلة كثيرة عن نحّاتين رسموا تماثيلهم ورسّامين نحتوا لوحاتهم.
الأدب، والشعر خاصّة، غالبا ما يقارن بالرسم من حيث أن اللوحة لها خصائص غنائية. واللوحات التي تصوّر الحياة اليومية غالبا ما يكون لها طبيعة سردية. وأحيانا يلجأ الكثير من كتّاب القصص إلى الاستعانة برسومات توضيحية من اجل تعزيز العنصر السردي في أعمالهم. الرقص والدراما، وحتى المعمار، لها نظيراتها في الرسم. وكثيرا ما يرتبط الرسم بذلك النوع من الملاحم والقصص التي تتحدّث عن الأبطال الشعبيّين.
لكن لا توجد علاقة أقوى من تلك التي تربط الرسم بالموسيقى. وهي علاقة تعود إلى عصور قديمة. زخرفة الخزف اليوناني، مثلا، كانت تستعين بصور الآلات الموسيقية.
والرسم والموسيقى يشتركان في نفس اللغة تقريبا. الألوان لها ظلال ونغمات، وكلا الفنّين يشار إليهما كتراكيب وتوليفات.
الرسّامون منذ القدم تنافسوا في رسم لوحات تتضمّن عناصر موسيقية. ومن هؤلاء كارافاجيو و اوراتزيو جينتيليسكي وكونراد كيسل و بيكاسو وجورج فريدريك واتس وجول لوفافْر.
لكنّ هناك من الرسّامين من خطوا خطوة ابعد مثل كاندينسكي الذي كان يرسم وهو يستمع إلى الموسيقى كي ينقل الإحساس الذي تثيره الأنغام في النفس.
جيمس ويسلر، الرسّام الأمريكي، اخذ خطوة مماثلة عندما أطلق على لوحاته مسمّيات موسيقية مثل "سيمفونية" و"نوكتيرن". وفي الجهة المقابلة، ألّف الموسيقي الأمريكي جورج غيرشوين مقطوعته الشهيرة "رابسودي إن بلو" التي حاول فيها المزج بين اللون والنغم.
وهناك رسّامون ترجموا أجواء بعض المقطوعات الموسيقية إلى لوحات، مثل غوستاف كليمت الذي رسم السيمفونية التاسعة لـ بيتهوفن ورافائيل لوبينسكي الذي رسم مقطوعة أخرى لـ بيتهوفن هي فيديليو.
اللوحات الدينية كانت غالبا تصوّر الملائكة وهم يعزفون الموسيقى. ومع تطوّر رسم الحياة اليومية، أضاف رسّامون مثل بيتر بريغل عناصر موسيقية إلى لوحاتهم التي تصوّر مظاهر من الحياة البسيطة للناس. فالمزارعون يظهرون وهم يعزفون الناي والفلوت احتفالا بمناسباتهم الخاصّة. في حين يُصوَّر أفراد الطبقات الأكثر ثراءً وهم يعزفون اللوت "أو العود".
وفي العام 1670 رسم فيرمير إحدى لوحاته التي تُظهِر امرأة تعزف على آلة موسيقية شبيهة بالهاربسيكورد وإلى يسارها آلة فيولا، ما يوحي بأن المرأة تتوقّع مجيء شخص آخر كي يشاركها في العزف.
الفنّان الفرنسي انطوان واتو رسم لوحة بعنوان مباهج الحفلة صوّر فيها مجموعة من الفرنسيين الباحثين عن المتعة وهم يرقصون على أنغام اوركسترا متوارية تحت ظلال ممرّ إحدى الحدائق. المزاج في اللوحة خفيف وعفوي وحيوي تبدو من خلاله أصوات الطبيعة في حالة تناغم مع أصوات الموسيقيين.
بعد حوالي قرن من ذلك أتى الانطباعيون الذين صوّروا في أعمالهم حياة الليل والموسيقى لمجتمع مقاهي باريس.
إدغار ديغا، مثلا، رسم أغنية الكلب عام 1876 ، بينما جلب رسّامون آخرون مثل تولوز لوتريك ورينوار وسورا الأصوات الصاخبة في قاعات الموسيقى إلى لوحاتهم.
في أعماله، يحاول ديغا الإمساك بالضجيج والدخان والإحساس المشوّش الذي تستثيره صالات الموسيقى عادة.
في ما بعد، أتى الفنّ التعبيري الذي استطاع تحقيق اندماج غير مسبوق بين الرسم والموسيقى. لوحة مارك شاغال بعنوان الزواج التي رسمها عام 1961 هي مثال واضح على هذا. فالعريس والعروس يندمجان في مشهد الزفاف اليهودي ليصبحا كيانا واحدا. والتشيللو يتوحّد مع عازفه كما لو أن الآلة تلاعب نفسها.
وخلافا لمشهد الموسيقيين المختبئين في لوحة واتو، فإن عازفي الموسيقى في لوحة شاغال يحتلّون على الأقلّ نصف اللوحة. والرسّام يوظّف الألوان الحمراء والبرتقالية في زخارف وتفاصيل الحفل كي يجذب الانتباه إلى الأصوات المسيطرة لدرجة انه يُخيّل للناظر انه يسمع نغمات الموسيقى وهي تتقافز من اللوحة.

الأحد، فبراير 07، 2010

دايانا و آكتيون: النظرة المحرّمة

مؤخّرا، اشترى الناشيونال غاليري في لندن لوحة تيشيان دايانا وآكتيون من دوق ساذرلاند بمبلغ خمسين مليون جنيه إسترليني. وقد تمّت الصفقة بعد مساومات طويلة وجدل كثير. المبلغ كبير ولا شكّ. لكن قيل أن اللوحة تستحق. ترى، ما الذي يجعل من هذه اللوحة عملا فنّيا خاصّا ومتميّزا؟
المقال التالي هو خلاصة لبعض أهمّ الآراء التي تناولت اللوحة بالشرح والتحليل وتحدّثت عن سيرة حياة الرسّام وخلفية اللوحة وسرّ متعتها وغموضها.

المكان مغارة في غابة داكنة وكثيفة الأشجار. خلف الغابة سماء ساطعة زرقاء وغائمة. في المغارة، هناك نافورة صغيرة وجدول ماء تستحمّ فيه إلهة الصيد دايانا برفقة وصيفاتها اللاتي يسلّين أنفسهن وهنّ عاريات. الوصيفات مهتمّات بالإلهة وإحداهنّ تنشّف إحدى قدميها بقطعة قماش عند طرف النافورة. وسط هذا المشهد الأنثوي الحميم يندفع آكتيون الصيّاد. يزيح بيده الستارة ويَراهُنّ وهنّ في ذروة مجدهن الجسدي. خطيئة رهيبة أن يرى رجل إلهة متجردة ناهيك عن أن تكون دايانا نفسها، الصارمة العفيفة.
تيشيان يمسك باللحظة الكارثية في قصّة دايانا وآكتيون التي رسمها بناءً على تكليف من فيليب الثاني ملك اسبانيا في العام 1550م واعتمد في تفاصيلها على ما ذكره اوفيد في كتاب التحوّلات.
كان تيشيان يعتبر هذا العمل قصيدة بصرية ونوعا من المحادثة مع قصّة أوفيد، أكثر منها محاولة لإعادة بناء المشهد الذي حكى عنه الأخير في كتابه.
آكتيون صيّاد بريء قاده مصيره المشئوم إلى الغابة. وتيشيان يصوّر في اللوحة ردود فعل النساء وهنّ يرين الرجل الدخيل يقتحم عليهن خلوتهنّ. كما يصوّر حالة الهرج والمرج التي استبدّت بالنساء وهنّ يصرخن ويندفعن لتغطية الإلهة وستر جسدها. لكن دايانا ترتفع فوق مستوى المفاجأة. وجهها تعلوه حمرة الخجل والغضب جرّاء ما حدث وتنظر وراءها باحثة عن سهامها. لكن السهام ليست هناك. لذا تتناول اقرب شيء منها، حفنة من ماء لترشّه بها. تتحدّاه قائلة: الآن إذهب وقل للناس إنك رأيتني متجردة". من الواضح أنها تخشى القيل والقال. لكن الرجل يهرب من المكان بسرعة. وفي الطريق يرى انعكاس صورته في الماء. يريد أن يصرخ لكنّه لا يجد صوته. لقد رأى قرنين يبرزان من رأسه. وعرف انه في طريقه لأن يتحوّل إلى أيل. تلمحه كلابه وهو على تلك الحال، فتهجم عليه وتمسك به. وبينما تمزّق أطرافه وتنهش لحمه، تنادي الكلاب على سيّدها متسائلة لماذا هو غائب عن المشهد الممتع.
ما فعله تيشيان هو انه ادخل لحظة خاطفة أو إطارا متجمّدا في قصّة اوفيد. وما نراه في اللوحة هو لحظة وصول آكتيون.
آكتيون يدخل المشهد في لحظة واحدة. وجهه يتحوّل إلى لون قرمزي. يداه تعبّران عن مستوى الصدمة. المرأة القريبة من الستارة تحاول إعادتها إلى وضعها السابق وتلتفت لتنظر إلى سيّدتها في رعب. امرأة أخرى تختبئ وراء عامود. وثالثة تجلس على طرف النافورة مهتزّة وجلة. فقط المرأة السمراء التي تقف خلف دايانا تبدو متماسكة بينما تحدّق في وجهه. الإلهة تترك انطباعا بأنها ترى صورته المنعكسة في الماء.
بناء هذه اللوحة شُيّد بعناية فائقة كأنما أراد الرسّام دعوة المشاهد للمشاركة في جوّ التوتّر والاضطراب والوقوف مع آكتيون على طرف الغدير.
بعد لحظات، ستقف دايانا على تلك الساقين الطويلتين وستتناول الإناء الزجاجي الذي يفصل بينهما.
النظرات يمكن أن تقتل. هذا هو الدرس الذي تقدّمه القصّة. جمجمة الأيل المستقرّة فوق العامود في الخلف تذكّرنا بمسار الأحداث المروّعة التي ستلي تلك اللحظة.
قصّة دايانا وآكتيون هي واحدة من سلسلة من القصص التي يسردها اوفيد في كتابه والتي يتحدّث من خلالها عن تأثير النظر إلى الأشياء. بعد النهاية المحزنة لـ آكتيون، يحكي اوفيد عن قصّة سيميل. جمال هذه المرأة راق لعيني جوبيتر. وقع في حبّها ثم لم يلبث أن نام معها. كان يحبّها كثيرا وقد وعدها بأن يحقّق لها أيّ رغبة تتمنّاها. في إحدى الليالي طلبت أن تراه وهو في أوج مجده المقدّس مجرّدا من قناعه البشري الفاني. استسلم لطلبها، لكنّه كان يعرف إلى أين ستنتهي الأمور. عندما رأته المرأة في هيئته الحقيقية انفجر جسدها إلى أشلاء صغيرة. أخذ جوبيتر الجنين الذي كان قد نما في بطنها. في ما بعد سيكبر الطفل ويصبح باخوس إله الخمر.
ثم ينتقل اوفيد إلى قصّة نارسيس الذي وقع في حبّ صورته المنعكسة في الماء وما جلبه عليه ذلك من تعاسة وشؤم.
النظر خطير ويمكن أن يورد صاحبه المهالك. الجاذبية أيضا خطيرة وقاتلة أحيانا.
قصّة دايانا وآكتيون رسمها الكثير من الفنّانين. لكن لا احد جسّد الإحساس بالهلاك والدراما المثيرة التي تتضمّنها القصّة بمثل ما فعل تيشيان.
النظرة، وحتّى اللمحة الخاطفة، يمكن أن تكون شيئا خطيرا في عالم الشعر الغنائي اللاتيني. في كتابه "مراثي الحبّ"، يكتب الشاعر بروبيرتيوس في السطر الأول من أولى قصائد ديوانه يقول: سينثيا كانت أوّل من أسرتني بعينيها. الحبّ قمع نظرتي لما يعنيه الفخر والعناد". نظرة سينثيا في عيني عاشقها ليست نظرة حالمة. بل لمحة نارية أخضعته تماما، كما تقول قصيدة تالية.
ربّما يذكّرنا هذا بلوحة أخرى لـ تيشيان اسمها الأعمار الثلاثة للإنسان. العاشقان البالغان يجلسان على العشب إلى يسار الصورة ويحدّق كلّ منهما بعمق في عين الآخر.
دايانا وآكتيون أعطت تيشيان فرصة كبيرة للسعي إلى المجد من خلال أجساد النساء.
في عصر النهضة الفينيسية الذي كان تيشيان احد روّاده، كانت المحظيات معترفا بهنّ كجزء من المجتمع. وكان الفنّانون يرسمونهن، لكن ليس بطريقة أكثر إثارة من هذه اللوحة. فرشاة تيشيان ترتعش بالرغبة. هذه ليست مجرّد لوحة تصوّر نساء عاريات. بل إنها تذهب إلى أعماقهن، وربّما تمارس الحبّ معهنّ. وهي تضيف تعقيدا وإثراءً لعالم تيشيان المتخيّل.
المرآة الصغيرة على النافورة، الإناء الزجاجي إلى جانبها، والاهمّ من هذا وذاك المياه الخضراء التي تتحوّل فيها الصور والأشكال إلى نماذج طيفية وغريبة، كلّها عناصر تضاعف من متعة النظر إلى هذه اللوحة.
الأشياء الناعمة في كلّ مكان. المخمل الأحمر الناعم الذي تجلس عليه دايانا، المناشف، الستارة الوردية الطويلة التي تفشل في إخفاء النساء المستحمّات عن عيني الرجل المتلصص، الأنسجة المخملية المليئة بالإيحاءات الايروتيكية.
الأشجار والأعشاب والغيوم الزرقاء في السماء تضفي مسحة واقعية على المشهد الميثي.
أوراق الخريف في اللوحة ربّما تذكّرنا بأن تيشيان كان يتقدّم في السنّ. اللوحة هي احتفاء أخير بالجسد. نظرة أخيرة قبل الصيام الكبير.
كلب دايانا الصغير النابح يواجه بجسارة كلب آكتيون الأسود الضخم.
المرأة التي تقف وتعطي ظهرها للناظر تبدو مختلفة عن رفيقاتها. بشرتها زيتونية وعضلاتها ذكورية. الأمر يبدو مثيرا للاهتمام. وصيفة دايانا السمراء هي مثال على عبقريّة الرسّام في التلوين. من عناصر الإبهار في اللوحة سطوع بشرة دايانا اللؤلؤية التي يعمّقها مجاورتها لبشرة المرأة السمراء. هل ضمّن تيشيان اللوحة امرأة سمراء كي يلمّح إلى انه إنما كان في الواقع يصوّر محظيات فينيسيا في زمانه؟ ربّما!

في ما بعد، رسم تيشيان لوحة أخرى بعنوان موت آكتيون. كان ذلك بتكليف من فيليب الثاني أيضا. لكنّ الرسّام احتفظ باللوحة في محترفه حتى وفاته في العام 1576م. هذه هي اللوحة التوأم لـ دايانا وآكتيون. وهي تتحدّث عن الجزء الثاني من القصّة. كما أنها تعتمد إلى حدّ كبير على رواية اوفيد. لكنّها مفعمة بروح تيشيان الشاعرية والمجنّحة.
يتحدّث كتاب التحوّلات عن كلاب آكتيون. كلّ واحد منها له اسمه الخاصّ وصفاته المميّزة. وفكرة المشهد تركّز على أن الرجل قُتل على أيدي الكلاب، رفاقه المقرّبين. في هذه اللوحة الأخيرة يصوّر تيشيان آكتيون لحظة هجوم الكلاب عليه وتمزيق جسده بضراوة. ويُفترض أن دايانا غائبة عن المشهد بعد أن أدّت مهمّتها بكفاءة. لكنّها هناك، في مقدّمة اللوحة. هي جزء من الفعل وجوّ الإثارة. الكلاب تبدو كما لو أنها تثِب من جسدها. آكتيون في منتصف المسافة إلى تحوّله. أصبح رأسه رأس أيل، لكنّ بقيّة جسده ما تزال تحمل ملامح إنسان. وتعاطفا مع غضب الإلهة المقدّس، تبدو السماء مظلمة والطقس عاصفا ومياه النهر متقلّبة وثائرة.
أولى لحظات الرعب بالنسبة إلى آكتيون هي تلك اللحظة التي يرى فيها جسده منعكسا في مياه النهر وهو يتحوّل. في هذه اللوحة عَكْس متقن لمضمون اللوحة الأولى. النظرة المهمّة هنا هي نظرة دايانا. عينها، عين الصيّاد البارع، تحاصر الفريسة آكتيون ولا تتركه قبل أن تُمضي عليه حكمها.
الطريقة التي وضع بها الرسّام الطلاء في خلفية المنظر الطبيعي المغبرّ والمشوّش تبدو مناسبة تماما لفكرتي الموت والتحوّل.
كان آكتيون قد تعب من التجوال في الوادي فقصد الغابة كي يروي عطشه من نبعها. تيشيان ادخل دايانا في المشهد، وهي تظهر ممسكة بقوس وكاشفة عن ثديها الأيمن. آكتيون يصرخ في كلابه: أنا سيّدكم. لكن صيحاته تذهب مع الريح والكلاب لا تعبأ بتوسّلاته.
تيشيان أعطى الحكاية بعدا مأساويا. وثمّة احتمال بأنه ضمّن المشهد اعترافا ذاتيا. فهي تحكي عن رجل يتحوّل إلى وحش عند رؤيته إلهة متخففة وتطارده كلابه كما لو أنها نوازعه الجنسية.
معنى الصورة، مثل أيّ عمل فنّي عظيم، لا يمكن تحديده تماما. غير أنها تثير إحساسا بالحزن والنهاية. الصورة مثيرة جدّا للمشاعر. ويُحتمل أنها تتضمّن معنى الوداع. أوراق الخريف الذابلة الصفراء التي تثيرها الرياح الباردة تعمّق هذا الإحساس.
في الأساطير اليونانية القديمة، كان الرجال والنساء يُكافَأون أو يُعاقبون بتحويلهم إلى نجوم وأزهار وأشجار وحيوانات.
ويرجّح أن اوفيد ألّف التحوّلات في فترة قريبة جدّا من مولد المسيح. وكان الكتاب مصدرا أساسيا لفنّ عصر النهضة بالقدر الذي كان فيه العهد الجديد مصدرا للمسيحية.
القصص الحزينة عن وحشية الآلهة تجاه الإنسان نقلها الرسّامون إلى لوحاتهم وأضافوا إليها الكثير من الإحساس والعاطفة والحزن وبطريقة لا تختلف كثيرا عن أسلوب تصويرهم لحادثة صلب المسيح.
اوفيد في قصّة دايانا وآكتيون يعطي النساء أسماءً ويفصّل كثيرا في الحديث عن واجباتهنّ تجاه الإلهة. كما يتحدّث عن الكلاب وأيّها هاجم الرجل أوّلا وكيف وأين عضّته.
عندما ننظر إلى القصّة ونتأمّل تفاصيلها قد يخطر لنا أن عنف دايانا غير مبرّر. فكلّ ذنب الرجل انه ضلّ الطريق ولم يكن باستطاعته أن يفعل غير ما فعل. الأمر لا يعدو كونه حادثة بسيطة مع شيء من الفضول.
لوحتا تيشيان عن القصّة يمكن اعتبارهما إسهاما من الفنان في النقاش الذي كان يجري في عصره حول أيّهما أعظم: الرسم أم الشعر؟
في اللوحة الأخيرة ما يزال آكتيون ممتلكا لعقله ومشاعره ولم يتحوّل بعد بالكامل إلى وحش. وقد أضاف تيشيان شيئا على الحكاية الأصلية. فـ دايانا تستأنف صيدها وكأن شيئا لا يحدث. والطريدة التي تصوّب عليها قوسها تقع خارج حدود الصورة. إنها لا تبالي حتى بإلقاء نظرة أخيرة على آكتيون في محنته رغم انه في نفس اتجاهها.
تذكر القصّة انه خرج في بداية الأمر مع عدد من أصدقائه للصيد. غير انه ضلّ طريقه. ذلك كان خطأه الوحيد، أي النظر إلى إلهة متجردة. يقول اوفيد: ليس هناك خطيئة في أن يضلّ الإنسان سبيله".
لقد أخطأ آكتيون. قد يكون ركّز عينيه على نهدي المرأة أو فخذيها. وربّما يكون حاول أن لا ينظر. غير أن دايانا لم تكن مهتمّة بمسألة ما إذا كان مذنبا أم بريئا.
هي كانت إلهة محتشمة. في تلك اللحظة لم يكن قوسها حاضرا لذا ألقت بالماء، الماء السحري، في وجهه. وبعد وقت قصير من ذلك، أحسّ بالتهاب في وجهه وبأن شيئا ما على وشك أن يبرز في طرفي رأسه.
حتى صوته فقده عندما أراد أن يخبر الكلاب انه هو. الكلاب في اللوحة تمسك بسيّدها المسكين. هي متحمّسة ونشطة وتفعل ما كان درّبها على فعله.
الشيء الغريب انك عندما تنظر إلى رأس آكتيون لن تستطيع أن ترى عينيه. تيشيان عُرف ببراعته في تصوير أعماق وانعكاسات العيون. لكنه هنا اختار أن يُعمي آكتيون في ما يبدو وكأنه معادل فنّي لحرمان اوفيد له من الكلام.
لوحة تيشيان لا تخلو من روح الدعابة. القصّة أساسا هي عبارة عن كوميديا سوداء عن العقاب الذي يتعرّض له المتلصّص. غير أن تيشيان يستمتع بالحضور الفخم لـ دايانا بطريقة احتفالية ومبهجة. لكنْ تظلّ اللوحة حزينة بل ومثيرة للشفقة كثيرا.
المأساة تظهر في الأشجار أيضا. إنها صفراء شاحبة وخريفية. هي ليست أشجارا شابّة طازجة وخضراء، بل تبدو أشجارا متعبة أضناها التآكل والشيخوخة. لكنّ تلك الأشجار ما تزال جميلة وذات نسيج سميك. بإمكانك أيضا أن تحسّ بالجوّ العاصف وبالنسيم البارد قبل العاصفة وبالسحب المتحوّلة من الرمادي إلى الأصفر وكأنها وعد مشئوم من السماء.
لوحة موت آكتيون لم تذهب إلى اسبانيا أبدا. ولم تُضمّ إلى مجموعة فيليب الثاني. بل ظلّت في محترف الرسّام إلى أن مات. ويبدو أن هذه اللوحة تتضمّن عنصرا شخصيّا. إنها إحدى اللوحات التي يتحدّث فيها تيشيان عن نفسه. وقد يكون هو آكتيون الذي تتقدّم به السنّ سريعا، الإنسان الشقيّ الواقع تحت رحمة عينيه المتجوّلتين المتفحّصتين دوما.

كان تيشيان رسّاما عظيما. كان أمير الرسّامين ورسّام الملوك والأمراء وعامّة الناس. وقد ظلّ الفنانون يتعلّمون منه ويدرسونه ويستمدّون منه الإلهام. فيلاسكيز وروبنز ورمبراندت كانوا بعض أتباعه المخلصين. وأهميّته لا تختلف عن تلك التي لـ ليوناردو ومايكل انجيلو. كان يرتدي قناعا طوال عمره. وقد عاش حياته كلّها في فينيسيا التي كانت في وقته أرقى مدينة في العالم.
كان مشهورا منذ سنوات عمره الأولى. وقد عرف كبار الكتّاب والشعراء وأرسِل في مهامّ ديبلوماسية. وهذا صقله كثيرا ورفع مكانته وفتح له الباب إلى مجالس الملوك والأمراء.
ومع ذلك فإن حياته ما تزال مجهولة وغامضة، تماما مثل غموض الكثير من لوحاته.
ويقال إن تيشيان مات وله من العمر 104 أعوام. ويرجّح أن في هذا مبالغة. في ذلك الوقت - أي قبل حوالي خمسمائة عام - كان كلّ من يعيش حتى الخمسين يعتبر إنسانا محظوظا. جورجيوني، معاصر تيشيان وأحد أنجب تلاميذه، مات بالطاعون وعمره لا يتجاوز الرابعة والثلاثين.
والاحتمال الأكثر ترجيحا هو أن تيشيان كان بين الثمانين والتسعين عند وفاته.


Credits
artnet.com