من العبارات المنسوبة للفيلسوف الألماني غوته قوله: يتعيّن على الإنسان أن يصرف فائض وقته في الاستماع إلى أغنية أو موسيقى جميلة أو قراءة قصيدة جيّدة أو الاستمتاع برؤية صورة بديعة، وكلّما كان ممكنا، أن يقول بضع كلمات عاقلة.
والقراءة في رمضان لها متعة خاصّة. ورغم أن الوقت ضيّق فإن الإنسان لا يعدم بعض الدقائق التي يحسن تمضيتها في مطالعة بعض المواضيع الخفيفة والمفيدة.
ومن الأشياء الممتعة التي قرأتها في الأيام الماضية قصيدة بعنوان "ابن ادهم" للشاعر الانجليزي جيمس لي هانت (1784 – 1859). وابن ادهم متصوّف مسلم كان يكنّى بأبي إسحاق. وقد ذكره جلال الدين الرومي في بعض قصائده.
في القصيدة يتحدّث الشاعر عن حلم رآه إبراهيم بن ادهم في إحدى الليالي. رأى، في ما يرى النائم، غرفته وقد غمرها ضوء القمر وأحالها إلى ما يشبه حقلا من السوسن. وبين خيوط النور لمح ملاكا يكتب في كرّاس من ذهب. جوّ الهدوء والسكينة دفع العجوز إلى أن يسأل الملاك: ماذا تكتب؟ رفع الملاك رأسه وقال وعلى وجهه ابتسامة وضيئة: اكتب أسماء أولئك الذين يحبّون الله.
سأل ابن ادهم: وهل إسمي من بينهم؟ ردّ الملاك: لا. قال ابن ادهم بصوت خفيض، لكن ما تزال تعمره الطمأنينة: إذن أتوسّل إليك أن تكتب اسمي من بين من يحبّون إخوانهم من البشر. سجّل الملاك كلامه ثم اختفى. في الليلة التالية أتى الملاك مرّة ثانية وسط هالة من نور. وعرض على العجوز أسماء من منحهم الربّ محبّته ورضاه. كان اسم العجوز أوّل تلك الأسماء.
الدرس الذي تقدّمه هذه القصيدة – القصّة بسيط لكنه عميق المغزى. ويمكن تلخيصه في جملة واحدة: أن الله يحبّ من يحبّ الإنسان ويعطف عليه ويعمل على خدمته، تماما مثلما كان يفعل ذلك المتصوّف الإنسان.
بعض الشعراء والفلاسفة تشعر وأنت تقرأ لهم كم أنهم يتمتّعون بقدر عال من الإنسانية والإحساس بمشاكل ومآسي البشر. ومع ذلك فقد استمتعت بقراءة صفحات من كتاب عنوانه عن الحرب للقائد الألماني كارل فون كلوزيفيتز. هذا الرجل كان جنرالا ومنظّرا عسكريا مرموقا في زمانه. وقد عاش في القرن التاسع عشر وهو معروف جدّا بكتابه المشهور والمذكور آنفا. وبعض عباراته التي ضمّنها ذلك الكتاب أصبحت مأثورة وتتردّد على كثير من الألسن. ومن أشهر ما قاله "الحروب ليس لها نتائج نهائية". وأيضا "الغزاة دائما محبّون للسلام، فهم يفضّلون احتلال بلدان الغير دون مقاومة". و"النظرية يجب أن تكون دراسة وليست عقيدة". وأيضا قوله "من العبث استنباط مبدأ للاعتدال في فلسفة الحرب". و"الحرب ليست أكثر من استمرار للسياسة، لكن بوسائل أخرى". غير أن أشهر عبارة منسوبة لـ فون كلوزيفيتز هي قوله "في السياسة لا يوجد أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون بل مصالح دائمة".
وبالمناسبة، كثيرا ما تُنسب الجملة الأخيرة لـ تشيرشل أو اللورد بالمرستون.
صحيح أن فون كلوزيفيتز كان رجلا عسكريا. لكن من يقرأ آراءه لا يساوره أدنى شكّ في أن هذا الرجل كان بنفس الوقت مفكّرا وفيلسوفا ومنظّرا في علم الاجتماع والأخلاق. وهي صفات يندر أن تجتمع في قائد عسكري.
وعودا على بدء، يحسن التوقف مجدّدا عند بعض الأشعار الصوفية. طبعا معظمنا سمع بـ رابندرانات طاغور، الشاعر الهندي الكبير. لكنّ هناك شاعرا هنديا آخر لا يقلّ شعره عمقا وجمالا مع انه لا يحظى بنفس شهرة طاغور. اسمه أسد الله غالب. ومثل طاغور، يتسم شعر غالب بالنزعة الصوفية والتأمّلية. والكثير من قصائده نجدها مبثوثة في الأفلام والأغاني والأعمال الأدبية والشعرية المكتوبة باللغة الأردية.
ومن بين قصائد أسد الله غالب قرأت له قصيدة جميلة اخترت منها المقاطع التالية: "قد تحتاج الزفرة حياة كاملة كي تؤتي أثرها. من الذي يملك عمرا كافيا ليتطلّع في طيّات شعرك؟ كلّ قطرة ندى تنتظر الموت عند وصول أشعّة الشمس، وأنا أيضا انتظر أن أتحرّر عندما ترمقينني بنظرة. في الحبّ، لا فرق بين الحياة والموت. نحيا على صورة الكافر الذي قد نموت لأجله. بحقّ الله، لا ترفع العباءة التي تغطّي الكعبة، أخشى أن يكون الكافر الذي تحتها معشوقي! شتّان ما بين باب المسجد وباب الحان، ما أعلمه أنني عندما غادرت الحان بالأمس رأيت الفقيه يدخله".
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الثلاثاء، سبتمبر 15، 2009
خواطر رمضانية
جميلة جدّا هذه القصيدة، وجميلة أكثر الطبقات المتعدّدة من المعاني والدلالات التي ضمّنها إياها الشاعر.
وأذكر ذات مرّة أنني حكيت لصديق هندي كيف أنني لم استمتع كثيرا بقراءة مذكّرات طاغور ولم أجد فيها ما يثير اهتمامي. فقال: السبب بسيط. طاغور كان يكتب باللغة الهندية. وهي لغة تفتقر للشاعرية وللنفَس الفلسفي والتأمّلي. ولهذا السبب، تجد أن كتابات محمّد إقبال، مثلا، أكثر شاعرية وأشدّ قربا من النفس لأنها مكتوبة بالأردية وهي بطبيعتها لغة شعر وعاطفة.
حوارات أسد الله غالب وتأمّلاته الممتعة والتي تحتمل أكثر من معنى قادتني بالصدفة إلى حوار آخر لا ينقصه الفكر ولا التأمّل العميق.
هذا الحوار استوقفني كثيرا. شخصان يتحاوران أمام شجرة وجبل.
يسأل الأوّل صديقه: هل ترى تلك الشجرة التي نمت هناك في قاع الصخرة على طرف الجبل؟
- نعم.
من الواضح انه لا توجد شجرة هناك غيرها.
- صحيح.
ألا تعتقد أن تلك الشجرة وحيدة هناك؟
- لا.
لماذا لا؟ انظر جيّدا. لا توجد حولها أعشاب ولا نباتات من أي نوع. هي وحيدة ومنعزلة في ذلك المكان النائي والموحش.
- لا أظنّ. لو لم تكن الشجرة هناك لكان الجبل نفسه أكثر إحساسا بالوحدة.
النصوص الأدبية المتميّزة كثيرة. منها هذا النصّ للشاعر اليوناني الاسكندري كونستانتين كافافي بعنوان "شموع" والذي يقول فيه: الأيّام الآتية ترتسم أمامنا. مثلما يرتسم صفّ متوهّج من الشموع الصغيرة. الأيّام التي راحت تبقى في الخلف، صفّاً كئيباً من شموع صغيرة مطفأة. ينبعث الدخان، ما يزال، من أقربها. شموع باردة، خامدة ومحنيّة تماما. يشجيني أن أفكّر في بريقها الأوّل. أنظر إلى الشموع الصغيرة التي تضيء أمامي. لا أريد أن التفت إلى الوراء فأكتشف مذعورا السّرعة التي يستطيل بها الصفّ المعتم. السّرعة التي تتراكم بها الشموع المطفأة".
في بداية الأسبوع الحالي، قضيت بعض الوقت متصفّحا مواقع بعض المتاحف الكبيرة لعلّي أجد فيها لوحة تصلح لإدراجها في المدوّنة الأخرى. ووجدت بالفعل لوحات كثيرة ومهمّة. غير أن ما لفت انتباهي في الحقيقة هو انتشار اللوحات الفنية في طول الانترنت وعرضها. هذا ليس اكتشافا جديدا بالتأكيد. لكننا قد لا ننتبه له لأوّل وهلة لكثرة ما ألفناه. هل أقول عشرات الآلاف أم ملايين اللوحات؟! هذه الظاهرة تدفع الإنسان لأن يتخيّل انه سيأتي وقت قريب تنتفي فيه الحاجة إلى وجود غاليريهات أو معارض فنية. شاشة الكمبيوتر أصبحت في الواقع وبفضل الانترنت أقرب ما يكون للغاليري أو صالة العرض. تستطيع من خلال الاستعانة بأيّ محرّك بحث أن تحصل على أيّ لوحة تشكيلية لأيّ رسّام تريد. وتستطيع أيضا بقليل من الحيل الفنية أن تحصل على نسخ مكبّرة وغاية في الوضوح من أيّ لوحة لتزيّن بها حيطان غرفتك أو صالة الجلوس في منزلك. يبدو أن الانترنت لم تجنِ فقط على الصحف وعلى التلفزيون والسينما وعلى شركات توزيع الموسيقى وإنما نجحت أيضا في تقويض أهمية ودور المتاحف ومعارض الفنّ التشكيلي. حتى أصحاب الملايين اليوم يتردّدون في شراء الأعمال التشكيلية الكبيرة والمتميّزة لأن التنافس على اقتنائها وشرائها أصبح نوعا من الثقافة المبتذلة وغير المجدية في ظلّ ما فرضته الانترنت من قيم وسلوكيات جديدة.
وبطبيعة الحال فإن الخاسر الأكبر من تغوّل الانترنت وتخطّيها للكثير من الحدود والحواجز هم الفنانون الذين بات لزاما عليهم إما أن يكفّوا عن الرسم أو أن يكتفوا بالخربشة على الحجارة أو جدران الكهوف.
في الختام، كلّ عام وأنتم بخير وعساكم من عوّاده.
وأذكر ذات مرّة أنني حكيت لصديق هندي كيف أنني لم استمتع كثيرا بقراءة مذكّرات طاغور ولم أجد فيها ما يثير اهتمامي. فقال: السبب بسيط. طاغور كان يكتب باللغة الهندية. وهي لغة تفتقر للشاعرية وللنفَس الفلسفي والتأمّلي. ولهذا السبب، تجد أن كتابات محمّد إقبال، مثلا، أكثر شاعرية وأشدّ قربا من النفس لأنها مكتوبة بالأردية وهي بطبيعتها لغة شعر وعاطفة.
حوارات أسد الله غالب وتأمّلاته الممتعة والتي تحتمل أكثر من معنى قادتني بالصدفة إلى حوار آخر لا ينقصه الفكر ولا التأمّل العميق.
هذا الحوار استوقفني كثيرا. شخصان يتحاوران أمام شجرة وجبل.
يسأل الأوّل صديقه: هل ترى تلك الشجرة التي نمت هناك في قاع الصخرة على طرف الجبل؟
- نعم.
من الواضح انه لا توجد شجرة هناك غيرها.
- صحيح.
ألا تعتقد أن تلك الشجرة وحيدة هناك؟
- لا.
لماذا لا؟ انظر جيّدا. لا توجد حولها أعشاب ولا نباتات من أي نوع. هي وحيدة ومنعزلة في ذلك المكان النائي والموحش.
- لا أظنّ. لو لم تكن الشجرة هناك لكان الجبل نفسه أكثر إحساسا بالوحدة.
النصوص الأدبية المتميّزة كثيرة. منها هذا النصّ للشاعر اليوناني الاسكندري كونستانتين كافافي بعنوان "شموع" والذي يقول فيه: الأيّام الآتية ترتسم أمامنا. مثلما يرتسم صفّ متوهّج من الشموع الصغيرة. الأيّام التي راحت تبقى في الخلف، صفّاً كئيباً من شموع صغيرة مطفأة. ينبعث الدخان، ما يزال، من أقربها. شموع باردة، خامدة ومحنيّة تماما. يشجيني أن أفكّر في بريقها الأوّل. أنظر إلى الشموع الصغيرة التي تضيء أمامي. لا أريد أن التفت إلى الوراء فأكتشف مذعورا السّرعة التي يستطيل بها الصفّ المعتم. السّرعة التي تتراكم بها الشموع المطفأة".
في بداية الأسبوع الحالي، قضيت بعض الوقت متصفّحا مواقع بعض المتاحف الكبيرة لعلّي أجد فيها لوحة تصلح لإدراجها في المدوّنة الأخرى. ووجدت بالفعل لوحات كثيرة ومهمّة. غير أن ما لفت انتباهي في الحقيقة هو انتشار اللوحات الفنية في طول الانترنت وعرضها. هذا ليس اكتشافا جديدا بالتأكيد. لكننا قد لا ننتبه له لأوّل وهلة لكثرة ما ألفناه. هل أقول عشرات الآلاف أم ملايين اللوحات؟! هذه الظاهرة تدفع الإنسان لأن يتخيّل انه سيأتي وقت قريب تنتفي فيه الحاجة إلى وجود غاليريهات أو معارض فنية. شاشة الكمبيوتر أصبحت في الواقع وبفضل الانترنت أقرب ما يكون للغاليري أو صالة العرض. تستطيع من خلال الاستعانة بأيّ محرّك بحث أن تحصل على أيّ لوحة تشكيلية لأيّ رسّام تريد. وتستطيع أيضا بقليل من الحيل الفنية أن تحصل على نسخ مكبّرة وغاية في الوضوح من أيّ لوحة لتزيّن بها حيطان غرفتك أو صالة الجلوس في منزلك. يبدو أن الانترنت لم تجنِ فقط على الصحف وعلى التلفزيون والسينما وعلى شركات توزيع الموسيقى وإنما نجحت أيضا في تقويض أهمية ودور المتاحف ومعارض الفنّ التشكيلي. حتى أصحاب الملايين اليوم يتردّدون في شراء الأعمال التشكيلية الكبيرة والمتميّزة لأن التنافس على اقتنائها وشرائها أصبح نوعا من الثقافة المبتذلة وغير المجدية في ظلّ ما فرضته الانترنت من قيم وسلوكيات جديدة.
وبطبيعة الحال فإن الخاسر الأكبر من تغوّل الانترنت وتخطّيها للكثير من الحدود والحواجز هم الفنانون الذين بات لزاما عليهم إما أن يكفّوا عن الرسم أو أن يكتفوا بالخربشة على الحجارة أو جدران الكهوف.
في الختام، كلّ عام وأنتم بخير وعساكم من عوّاده.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)