تقرأ أحيانا بعض الأساطير والقصص القديمة فتكتشف أن من ألّفها ونسج تفاصيلها لا بدّ وأن يكون رجلا! أسطورة ليليث هي نموذج للقصص التي ظهرت ورُوّج لها بغرض تأكيد سلطة الرجل ومن ثمّ تهميش دور ومكانة المرأة. وقد أقيمت الأسطورة على أساس ديني كي تُعطى شيئا من الحجّية والمصداقية. تقول الأسطورة إن زوجة آدم الأولى لم تكن حوّاء بل امرأة أخرى تُدعى ليليث. لكن عندما تمرّدت ليليث على آدم وتخلّت عنه خلق الله حوّاء. سبب النزاع بين آدم وليليث لا يخلو من طرافة. إذ تذكر القصّة أن الخلاف دبّ بين الزوجين عندما أصرّ آدم على أن تنام ليليث تحته أثناء المعاشرة الزوجية. لكن لأن ليليث كانت تعتبر نفسها مساوية لآدم، فقد رفضت أوامره فحلّ عليها غضب الربّ وتحوّلت إلى شيطان! ويقال إنها طُردت بعد ذلك من الجنّة ووجدت نفسها أخيرا على الأرض قرب شاطئ احد البحار.
رسم أسطورة ليليث فنّانون كثر من بينهم مايكل انجيلو وجون كوليير، بالإضافة إلى دانتي غابرييل روزيتي الذي صوّر الأسطورة من منظور مختلف وخلع عليها مضمونا معاصرا.
في العام 1868 رسم دانتي غابرييل روزيتي لوحته "الليدي ليليث"، وهي صورة كان يتوقّع أن تصبح أفضل أعماله. وقد ركّز في اللوحة على مظاهر الزينة وعلى مكان الشخصية المحورية التي رسمها في مكان حميم يشبه المخدع.
ورغم أن اللوحة تصوّر "ليليث"، إلا أن من المثير للاهتمام أن نلاحظ انه اختار لها عنوان "الليدي ليليث" كي يدفع الناظر منذ البداية إلى التركيز على حسّية وأنوثة المرأة.
الليدي ليليث هي واحدة من "صور المرآة" العديدة التي رسمها روزيتي في تلك الفترة. وكلّ تلك الصور تركّز على شخصية الأنثى المستغرقة في تأمّل جمالها الخاصّ.
هذه الصورة كانت مقدّمة لسلسلة أخرى من اللوحات التي رسمها الفنان في ما بعد لإناث نرجسيات وذوات جمال قاتل. وقد لاحظ بعض المؤرّخين انه يندر أن تجد فنّانا في ذلك الوقت لم يرسم امرأة جالسة أو واقفة أمام مرآة. ورغم شيوع هذه الفكرة آنذاك، إلا أن الليدي ليليث هي التي ظلّت تمثّل النموذج الأوّل لهذه السلسلة.
إن نظرة سريعة إلى خلفية اللوحة قد تعطي انطباعا واهماً بأن المرأة تجلس في مكان ما من مخدعها. ورغم وجود مرآة وأشياء أخرى في الخلفية، إلا أن "الغرفة" تمتلئ أيضا بالأزهار، والأزهار البيضاء خاصّة التي ترمز للعاطفة الخالصة. وهي تنتشر في أعلى يمين اللوحة وبمحاذاة شعر المرأة. أزهار الخشخاش، رمز الموت، هي أيضا حاضرة. الفراغ واقعي وميثولوجي في الوقت نفسه. هذا الفراغ في الخلفية يوضّح المعنى المزدوج الذي تحدّث عنه روزيتي في قصيدته التي أرفقها باللوحة.
في هذه اللوحة، ثمّة شيء آخر غامض يتمثّل في المرآة السحرية إلى أعلى اليسار. المرآة تظهر انعكاس الشمعتين اللتين أمامها، ما يشير إلى أنها بالفعل مرآة حقيقية وليست نافذة تطلّ على عالم آخر. غير أن معظم الانعكاسات في المرآة تكشف عن منظر طبيعي لغابة ساحرة.
المرأة في هذه اللوحة أراد الرسّام أن يقدّمها باعتبارها تجسيدا للجمال الجسدي. احد النقاد يصفها بقوله: هنا امرأة جميلة مرسومة بطريقة رائعة. إنها تتكئ على أريكة وتمشط شعرها الأشقر الطويل بينما تتأمّل ملامح وجهها المنعكسة في المرآة التي في يدها. كما أنها محاطة بالأزهار وترتدي لباسا فضفاضا يكشف عن نحرها وكتفيها. إن رسّاما لم يتمكّن من الإمساك بجمال وسحر الجسد بمثل ما فعل روزيتي ".
الأمر الأكثر إثارة من الناحية البصرية في هذه اللوحة هو ملابس ليليث. الملابس تبدو وكأنها على وشك أن تُخلع. وجسد المرأة يستطيع بالكاد أن يبقى داخل نطاق لباسها. هنا يدعو الرسّام الناظر لأن يقرأ ليليث باعتبارها رمزا للجمال والشهوة.
روزيتي نفسه كان يؤمن أن هذه الصورة مختلفة عن الصور المبكّرة لـ ليليث. وكان يدرك بأن هذه الصورة تمثّل ليليث الحديثة التي تختلف عن تلك التي تذكرها الأساطير والروايات الدينية.
ومن خلال تأمّل المرأة في ذاتها، بالنظر في المرآة، أراد الفنان إخراج ليليث من الماضي وإدخالها في سياق ظروف القرن التاسع عشر. فهي موجودة بالفعل في مخادع وغرف نوم الطبقة الرفيعة في العصر الفيكتوري. كما أن تأثيرها على العقل الذكوري في القرن التاسع عشر لا يقلّ عن تأثيرها على عقل الرجل في العصور القديمة.
احد العناصر الأساسية في هذه اللوحة يتمثّل في جمال ليليث المغري والذي يعمقّه شعرها الجميل بما ينطوي عليه من مضامين ايروتيكية. هذه السمة بالذات تلعب دورا أساسيا في الصورة. والتركيز على الشَعر يعيد إلى الذهن الصور المبكّرة عن ليليث، بما فيها صور الشَعر عند غوته الذي كان له تأثير قويّ على روزيتي .
الصور المجازية المرتبطة بشََعر المرأة كانت رائجة دائما، خاصّة في العصر الفيكتوري. تقول اليزابيث غيتر: كلّما كان الشَعر وفيرا، كلّما كان أكثر قدرة على الاستثارة الجنسية. كما أن التقاليد الأدبية والتحليل النفسي يتفقان على أن وفرة وغزارة الشَعر هي مؤشّر على الجاذبية الجنسية وحتى على الانحلال والفسوق".
الطريقة التي تفرد بها ليليث شعرها، متظاهرة أنها تمشطه، هي بمثابة استعراض جنسي صريح على ورقة الرسم. هذا هو الانطباع الأوّل والأخير الذي يتكوّن لدى المتفرّج وهو ينظر إلى اللوحة.
تأثير غوته على هذه اللوحة مباشر وواضح. يقول على لسان فاوست: ليليث، الزوجة الأولى للرجل الأوّل، زوجة آدم الأولى. فلتحذر من شعرها الطويل البرّاق، لقد سحرت شبّانا كثيرين، ابتسامة النصر ترتسم على وجهها، لكن الويل لمن ينتهي في أحضانها".
صرخة التحذير هذه واضحة في لوحة روزيتي. فـ ليليث الجميلة لا يبدو وكأنها تدعو المتلقّي للنظر إليها. نظرتها لا تتجاوز نظرة الرضا عن الذات.
تقول جين اوشر في كتابها فانتازيا الأنوثة: تقف الليدي ليليث كمثال كلاسيكي على التصوير الفنّي لهذه المرأة العاطفية المخيفة. إنها لوحة لامرأة جميلة ومتعجرفة، يدها تلاعب شعرها الطويل الفاخر، بينما تحدّق بلا ابتسام في صورتها المنعكسة في المرآة. ليليث تبدو منشغلة وراضية عن نفسها وليس عن أيّ رجل متلصّص. إنها مثيرة ومغرية. والأخطر من ذلك أنها تعطي مظهرا زائفا للمرأة المذعنة التي يسهل خداعها. الخوف من المرأة واشتهاؤها بنفس الوقت يتجسّد في لوحة واحدة. إنها مثيرة وأنانية بنفس الوقت، تنظر إلى نفسها برضا، كرمز لرفضها للرجل".
المقطع السابق يشير إلى دور روزيتي في فتح الشخصية الأسطورية لـ ليليث على التفسيرات الأنثوية. الشاعر الانجليزي كيتس يشير، هو أيضا، إلى أن ليليث جميلة، لكن دون عاطفة أو حنان تجاه الآخرين. إنها لا ترفض الرجل فحسب، وإنما ترفض أيضا دورها كزوجة وترفض الدور الذي يُعطى للمرأة غالبا ككائن جنسي يسهل قياده وتوجيهه.
ليليث الجميلة والمحدّقة في نفسها في المرأة تثير رغبة الرجال لكنها تهدّدهم بقوّتها. جمالها من النوع العنيد الذي لا يقاوَم ولا يمكن بلوغه. ما من رجل يستطيع دخول عالمها عنوةً. وكلّ من يحاول، سينتهي به الأمر لا محالة إما إلى الأسر أو الإخصاء أو الموت.
والذين يقرءون دانتي غابرييل روزيتي شاعرا، سيلاحظون أن قصّة هذه المرأة القويّة والمتسلّطة كانت موضوعا لقصيدته التي كتبها لتصاحب هذه اللوحة.
rossettiarchive.org
themystica.com