:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، فبراير 08، 2018

فيرمير والآخرون


لماذا تكلّف نفسك عناء الذهاب إلى متحف لرؤية لوحة عظيمة، بينما بإمكانك أن تراها على شاشة حاسوبك وعلى مسافة اقرب ممّا يتيحه الحضور لأيّ متحف؟
في هولندا القرن السابع عشر، كانت المعارض الفنّية نادرة، وكان الناس بشكل عامّ يرون اللوحات في مجموعات خاصّة، أو وهي معروضة للبيع في معرض، وأحيانا عندما تُقدَّم كجوائز.
ولو قُدّر للناس في ذلك الوقت أن يروا الإمكانيات الكبيرة التي تُعرض بها الأعمال الفنّية في المتاحف هذه الأيّام لأصيبوا بالدهشة: الغرف الواسعة، وتقنيات الإضاءة الخاصّة، والألوان اللامعة على الجدران، وتزاحم الناس الذين يُطلب منهم أن يبقوا على مسافة.
صُوَر يوهانس فيرمير كانت تُرسم بطلب من أشخاص، وكان الناس يرونها في فراغات اصغر وأكثر إعتاماً. كانوا يرونها في النهار عندما يكون الطقس مناسبا، وأحيانا كانوا يقدّرونها أكثر في الأضواء الباهتة في وقت ما بعد الظهيرة، أو مضاءةً بالشموع في الأمسيات المظلمة والباردة. وبعض تلك اللوحات كانت تُحمى بستارة أو حاجز أو تؤخذ إلى خارج الغرف لرؤيتها في مكان خاصّ.
النوعية الخاصّة سمة غالبة في لوحات فيرمير، بمعنى أن فيها دائما شيئا ما يدفع المتلقّي لأن يشعر بأن هذه اللوحة أو تلك رُسمت من اجله فقط.
ومن هنا يبرز السؤال: ترى ما الذي يغري أيّ شخص لأن يرى تلك اللوحات وسط حشد من الناس في متحف؟ ما الشيء الذي لا يمكن إيصاله في الصور والطبعات المستنسخة؟
اللوحات الأصلية المعروضة في المتاحف تقدّم لنا أشياء شخصية لا توفّرها الصور المستنسخة. القماش يقدّم لك نفسه، مقاسه يناسب مقاسك، وأنت تقرؤه بشكل طبيعيّ عندما تراه عموديّا أمام عينيك.
أمام لوحة في معرض، ستفهم كيف حرّك الرسّام يده ليعمل، وكيف قرّبها ثم أبعدها عن القماش، وستلحظ بوضوح تغيير اتجاه الفرشاة وكثافة النسيج وسمك الطلاء.
وربّما يكون فيرمير قد اخذ هذا من فنّانين آخرين، لكن فنّه مختلف. وبعكس الآخرين، فإن صُوَره تتوهّج على الجدران كما لو أنها مضاءة من داخلها. وشخوصه يجذبوننا أكثر ويحرّضوننا على أن نتوقّف وننظر. وشيئا فشيئا، نبدأ في فهم إيقاع الصورة ونترك أعيننا تتجوّل حيث يسمح لنا الرسّام، نتوقّف حيث يتوقّف، ونتحرّك حيث يتحرّك.
ثم نبدأ في اكتشاف المعالم الأساسية في اللوحة، ونرى الأشياء المكرّرة ومدى تناسبها مع بُنية التوليف. ثم نرى تحوّلات الألوان من القاتمة إلى الفاتحة وبالعكس. وفي الأثناء، نشعر بنسيم "ديلفت" البارد والخفيف من حولنا ونحسّ بلمعان اللؤلؤ ورهافة الريش والفِراء والحرير.


نساء فيرمير يقفن في غرف مُشعّة. وهو يمسك بهنّ في لحظات تفكير، أو وهُنّ يبتسمن أو يتحدّثن. وأنت تراقب وتتمعّن متأمّلا أن يكون ما تراه حقيقيّا. وأمام اللوحة، أنت تقف على مسافة قريبة من المكان الذي كان يقف فيه فيرمير عندما رسمها. تُحوّل وجهك باتجاه الضوء المتسرّب من النافذة، وتنتظر أن تتطوّر الصورة في حدقة عينك وأن تترك انطباعا لا يُمحى من ذاكرتك.
ما الذي تتمنّاه عندما تذهب إلى معرض لترى لوحة لفيرمير؟ ما تتمنّاه غالبا هو أن تُحْدِث الصورة في ذهنك ارتباطا مع شيء ما يدوم ويستمرّ إلى ما لا نهاية.
فيرمير وزملاؤه الهولنديون الآخرون، مثل جيرارد تير بورش و غيريت دو و بيتر دي هوك و غابرييل ميتسو و فرانز فان ميريس و يان ستين ، كانوا يرسمون أفكارا متجذّرة في حياة عصرهم. لكن الطريقة التي كانوا يقدّمون بها تلك الأفكار تُعزى إلى الرؤى الجمالية المشتركة السائدة في ذلك الوقت.
تأمّل صُوَر نساء فيرمير بمعاطفهنّ الأنيقة وقصّات شعرهنّ الحديثة. كان يصوّرهن في لحظات حميمة وهنّ يعزفن الموسيقى أو يطرّزن الملابس و يؤدّين أعمالا منزلية أخرى. وكثيرا ما تُربط هذه الموتيفات بفيرمير، لكننا نكتشف أن فيرمير إنّما كان يترّسم خطى تير بورش، وهو رسّام منجِز كان يكبر فيرمير بخمسة عشر عاما على الأقلّ. وكان هو أوّل من استكشف صور النساء في لحظات خاصّة وحالات حميمية.
وأكثر الرسّامين ابتكارا في ذلك الوقت كانوا يعرفون ماذا كان زملاؤهم من مختلف الأعمار يفعلون. حتى الرسّامين الذين كانوا يعملون في أماكن بعيدة كانوا على تواصل مع زملائهم الآخرين. في ذلك الوقت كان السفر من وإلى حواضر هولندا الصغيرة المساحة سريعا وسهلا نسبيا.
لذا كان من السهل على الرسّامين أن يروا أعمال بعضهم البعض في المحترفات والمجموعات. ورغم تشابه الموتيفات، إلا أنهم لم يكونوا يقلّدون بعضهم البعض، بل كان كلّ منهم يترجم أفكاره الخاصّة ويركّز على مواطن قوّته المتفرّدة. وأحيانا كانوا يتنافسون على أيّ منهم يستطيع رسم أكثر الملابس جمالا وابتكارا.
النظر إلى لوحات رسّامين متعدّدين من شانه أن يوسّع فهمنا للطريقة التي كان يعمل بها رسّامو العصر الذهبيّ الهولنديّ. لكن ممّا لا شك فيه أن صُوَر فيرمير بالذات هي التي تسترعي اهتمامنا أكثر من غيرها، رغم جمال أعمال الآخرين وتشابه أفكارها.
قد يكون السبب هو أن لا احد استطاع تشييد التوليف بمثل دقّة وبراعة فيرمير، ولهذا السبب قُدّر لأعماله أن تستمرّ وأن يُكتب لها الخلود أكثر من غيره.

Credits
theartnewspaper.com