لا أعرف مدى صحّة العبارة التي تقال أحيانا من أن الإنسان لم يُسمّ إنسانا إلا بسبب انه كثير النسيان. ولكنْ ممّا لا شكّ فيه أن النسيان يُعتبر صفة ملازمة للإنسان وجزءا لا يتجزّأ من طبيعته وتكوينه.
وفي السنوات الأخيرة لاحظت أنني أصبحت أنسى كثيرا. والمشكلة أن مظاهر هذا النسيان كثيرة ومتعدّدة. يحدث أحيانا أن أقابل شخصا لأوّل مرّة فيعرّف كل منّا نفسه بالآخر. لكن ما أن أقابل نفس الشخص بعد بضعة أيّام حتى أقع في الحرج عندما اكتشف أنني نسيت اسمه.
وقبل أيّام كنت في زيارة لموظّف بإحدى الشركات الخدمية. وبعد أن غادرت مكتبه ووصلت إلى سيّارتي، اكتشفت أنني نسيت هاتفي المحمول عنده. وكنت متأكّدا من أنني تركت الهاتف في مكان ما على مكتبه لأنني تذكّرت أنني أجريت آخر مكالمة وأنا جالس هناك.
وعندما عدت إليه لأساله ما إذا كان قد رأى الهاتف، أجاب بالنفي. ومع ذلك بحث على المكتب وفتّش كثيرا بين الأوراق فلم يجد شيئا. ثم قال: عندي فكرة. كم رقم هاتفك حتى اتصل به من هاتفي لنستدلّ على مكانه؟ قلت وأنا اشعر ببعض الحرج: للأسف لا أحفظ الرقم. ضحك من ردّي ثم قال بأدب: بسيطة، لست وحدك من لا يتذكّر رقم هاتفه. لكنْ هناك حلّ آخر، حاول أن تتصل بأحد معارفك واطلب منه الرقم. قلت: إذا كنت لا أحفظ رقمي الخاصّ فكيف تتوقع منّي أن أحفظ رقم شخص أخر! وأضفت: أنا لست مهتمّا بالجهاز نفسه بل بالأرقام التي بداخله والتي إن ضاع فستضيع إلى الأبد. ثم دوّن رقم هاتفه على ورقة صغيرة أمامه وقال: خذ، هذا رقم هاتفي. اتصل بي قبل نهاية الدوام. وبدوري سأطلب من عمّال المبنى البحث عنه.
ولحسن الحظ اتصلت به مساء نفس اليوم وأبلغني بأنهم عثروا على الهاتف محشورا في زاوية ضيّقة تحت المكتب.
أن لا يحفظ الإنسان رقم هاتفه قد يعتبره البعض أمرا غريبا ونادرا. لكن المشكلة أن الإنسان قد يتعرّض لظروف ومواقف يتحتّم عليه فيها أن يعرف رقم هاتفه، على الأقلّ.
المشكلة أن النسيان لا يقتصر على الأرقام. أصبحت أنسى حتى اسم كاتب قرأت له منذ أيّام، أو اسم موسيقيّ طالما استمعت إلى موسيقاه وأعجبتني، أو اسم كتاب قرأته مؤخّرا أو سمعت عنه من الناس.
تذكّرت قصتّي مع النسيان وأنا اقرأ مقالة طريفة عن الموضوع لكاتب اسمه بيلي كولينز. تخيّلت انه يتكلّم نيابة عنّي، غير انه تحدّث عن المشكلة بطريقة ابلغ وأعمق. يقول: يحدث كثيرا أن ننسى سريعا الأشياء التي كنّا نظنّ أننا لن ننساها. خذ، مثلا، كتابا قرأته منذ بعض الوقت. أوّل ما يتلاشى من ذاكرتك اسم المؤلّف، وبعد ذلك العنوان. ثم لا تلبث أن تنسى الكتاب نفسه. وشيئا فشيئا تشعر انك لم تقرأ الكتاب، بل ولم تسمع به مطلقا. الذكريات التي اعتدنا أن نحتفظ بها تُقرّر شيئا فشيئا أن تتقاعد في الجزء الخلفي من أدمغتنا، تماما مثلما يذهب الصيّادون إلى قرية صغيرة لا يوجد بها تليفون.
ويضيف: منذ زمن طويل ودّعت أسماء الملهمات التسع وراقبت المعادلات التربيعية وهي تحزم حقيبتها وتذهب إلى غير رجعة. وبينما تجهد نفسك وأنت تحاول أن تحفظ تسلسل الكواكب، ينزلق من ذاكرتك اسم زهرة، أو عنوان لأحد أقربائك أو اسم لعاصمة احد البلدان.
وأيّا ما كان الشيء الذي تحاول أن تتذكّره، فإنه لن يأتي على طرف لسانك مهما فعلت. كلّ شيء كنّا نتذكّره يذهب بعيدا ليستقرّ في نهر عميق ومظلم. وفي طريقك إلى النسيان، ستنضمّ إلى أولئك الذين نسوا حتى كيف يسبحون أو كيف يركبون درّاجة.
لا تستغرب إذن إن استيقظت في منتصف إحدى الليالي لتبحث عن تاريخ معركة مشهورة في كتاب عن الحرب. ولا تندهش إن اكتشفت أن القمر خارج النافذة يبدو كما لو انه انحرف خارج قصيدة حبّ كنت تحفظها ذات يوم عن ظهر قلب.
البعض يقول إن النسيان نعمة غير خالصة. لكنّي اعتبره في بعض الأحيان آفة ونقمة. وقد اكتشفت أن محاولاتي في أن اشحذ ذاكرتي وأن اُظهِر مزيدا من الحرص على تذكّر بعض الواجبات العملية التي يتعيّن عليّ القيام بها بشكل عاجل لم يغيّر من واقع الحال شيئا.
لكنّي أحيانا أجد بعض السلوى في أقوال بعض الحكماء والفلاسفة الذين كانوا يمجّدون النسيان في كتاباتهم ويعتبرونه من تمام النِعَم. "طوبى لمن ينسون"، يقول نيتشه. "النسيان أغنية، طائر يفرد جناحيه الأبيضين، مطر في الليل"، يقول آخر.
"لا تبتئس إذا نسيت. الأهرامات نفسها نسيت منذ زمن طويل أسماء من شيّدوها"، يقول ثالث. "الرياح تهدأ والينابيع تجفّ والندى يتلاشى والنجوم تأفل .. والإنسان ينسى!"، يقول كاتب رابع.
ومع ذلك، وعلى مستوى أعمّ، أحاول جهدي أن اعمل بنصيحة حكيم قديم عندما قال: في هذه الحياة حاول أن لا تنسى الأشياء التي يجب أن تتذكّرها، وأن لا تتذكّر الأشياء التي يجب أن تنساها.
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الأحد، ديسمبر 26، 2010
نهر النسيان
الأربعاء، ديسمبر 22، 2010
ميغرين: مزوّر اللوحات الأشهر
وُلد هان فان ميغرين في هولندا عام 1889 وكان مفتونا بالرسم منذ طفولته. كان من عادته أن ينفق كلّ ما في جيبه من نقود على شراء مستلزمات وعدّة الرسم. وقد كوفيء وهو صبيّ على موهبته الفنّية بمنحه ميدالية ذهبية بعد انتهائه من رسم ديكور إحدى الكنائس.
وفي احد الأيّام رأته زوجته وهو يستنسخ لوحة كي يبيعها على أساس أنها أصلية. وقد ثنته الزوجة عن ذلك العمل. لكن تلك الحادثة كانت أوّل مؤشّر على اهتمام ميغرين الجدّي بالتزوير.
وانتقل ميغرين وزوجته بعد ذلك إلى لاهاي حيث درس فيها ونال درجة البكالوريوس في الفنّ عام 1914م. وخلال العشر سنوات التالية كان يرسم ويبيع لوحاته بأثمان معقولة. وكانت رسوماته وقتها عبارة عن مناظر داخلية ولوحات دينية وأحيانا بورتريهات.
وكان اتجاهه السياسي كاثوليكيا ومعاديا لليهود ومتحفّظا إلى درجة الفاشيّة. كما كان معارضا لكافّة الاتجاهات الحديثة في الفنّ. ورغم انه لم يكن غير ناجح كفنّان، إلا أن النقّاد كانوا سلبيين تجاه أعماله. لذا نفر منهم وأصبح يشعر بالمرارة تجاههم وتجاه مروّجي الرسم الحديث.
وبعد فترة أدرك ميغرين انه لن يحقّق كرسّام ما كان يصبو إليه من نجاح ومجد. لذا قرّر أن يحترف تزوير اللوحات الفنّية. والغريب أن مهنته الجديدة جلبت له قدرا كبيرا من الثروة والشهرة.
واليوم يقترن اسمه بشكل وثيق باسم يوهانس فيرمير الرسّام الهولندي الذي كان ميغرين يقلّد لوحاته.
لكن لماذا فيرمير بالذات؟ السبب هو انه لم يكن يُعرف الكثير عن حياة فيرمير. فتاريخ مولده ووفاته على وجه الدقّة ما يزال مجهولا. ثم إن فيرمير لم يحصل في زمانه على التقدير الذي كان يستحقّه. وهناك سبب آخر وهو أن الناس مختلفون حول عدد مجموعته الكاملة من اللوحات. وظلّ العدد يتغيّر باستمرار إلى أن استقرّ في مطلع القرن الماضي عند خمس وثلاثين لوحة.
كان ميغرين يدرك أن الناس في شوق لرؤية المزيد من لوحات فيرمير المجهولة. وكانت جميع لوحاته لا تحمل تواريخ. وهذا بالضبط هو حلم أيّ مزور. وصور فيرمير المشهورة والتي رسمها في ستّينات القرن السابع عشر، مثل الفتاة ذات القرط اللؤلؤي وصانعة الدانتيل وامرأة تمسك بميزان، كانت تتضمّن علامة فيرمير الفارقة وأسلوبه المميّز والذي يحمل بصمة معلّم قديم.
كانت مهمّة ميغرين فعّالة دون شك. وقد أخذ دروسا ساعدته على أن ينجح في أولى لوحاته المزوّرة والمنسوبة لـ فيرمير بعنوان سيّدة ورجل أمام ارغن. وتلقّى على اللوحة ثناءً فوريّا من مؤرّخ الفنّ البروفيسور ابراهام بريديوس الذي قال عن اللوحة أنها عمل أصيل من أعمال فيرمير.
في السنوات الأربع التالية، كان ميغرين يعيل نفسه من خلال رسم البورتريهات. لكنه كان أيضا يدرس تقنيّات الطلاء الذي كان مستخدما في فنّ القرن السابع عشر وأنماط التشقّقات التي عادة ما تظهر بشكل طبيعي على أسطح اللوحات التي تعود لتلك الفترة. وقد تمكّن من إتقان التكنيك الذي وظّفه في عمليات التزوير الكبرى التي أجراها على فيرمير.
استراتيجية ميغرين من وراء تلك العملية كانت ذكيّة. فقد سمع بعض النقّاد آنذاك يتحدّثون عن احتمال أن يكون فيرمير رسم لوحات دينية في بدايات حياته وأنها قد تظهر في المستقبل وأن فيرمير قد يكون ذهب إلى ايطاليا لدراسة هذا النوع من اللوحات.
وقد انتهز ميغرين الفرصة وحقّق للنقاد أحلامهم عندما رسم لوحة "المسيح في ايموس" التي يظهر فيها واضحا تأثير كارافاجيو، ومن ثمّ نسبَها إلى فيرمير.
وزيادة في الإقناع، اخترع ميغرين قصّة عائلة ايطالية فقيرة كانت تحتفظ بتلك اللوحة لأجيال. وزعم أن العائلة رفضت الكشف عن هويّتها. ثم قدّم اللوحة إلى احد متعهدّي الفنّ الهولنديين. وعندما رآها الناقد ابراهام بريديوس سقط في حبّها على الفور ونشر خبرا عن "هذه اللحظة الرائعة في حياة محبّ للفنّ"، كما كتب في إحدى المجلات. وأضاف: إن أمامنا لوحة تقول لنا بوضوح إن كل إنش فيها ينطق باسم فيرمير. إننا لا يمكن أن نجد في أيّ لوحة من لوحات المعلّم العظيم مثل هذه العاطفة والفهم العميق لقصّة الإنجيل التي لا يمكن أن يعبّر عنها سوى الفنّ الرفيع".
لكن كانت هناك شكوك حول اللوحة في بعض الأوساط. فقد وصفها احد متعهدّي الفنّ في نيويورك بأنها "تزوير متعفّن". لكن بفضل شهادة بريديوس عن أصالة اللوحة فقد بيعت إلى متحف بـ روتردام لقاء مبلغ مذهل قدره مليونا دولار أمريكي.
في تلك المرحلة، بدأ ميغرين يشعر بمعنى الثراء، فانغمس في تناول الكحول والمخدّرات وأصبح مدمنا على المورفين. ورغم انه كان يتوق للاعتراف بعمليات التزوير كي يذلّ النقّاد الذين تجاهلوه، إلا انه قرّر أن يزوّر لوحتين أخريين لـ فيرمير أثناء سنوات الحرب.
لكن لسوء حظّه، تمّ القبض عليه بعد أيّام من نهاية الحرب العالمية الثانية، لا بسبب كونه مزوّرا وإنما بتهمة اخطر هي بيع الكنوز الوطنية الهولندية إلى العدوّ. فقد أخذت إحدى لوحاته المنسوبة كذبا إلى فيرمير طريقها إلى المجموعة الشخصية للزعيم النازي هيرمان غورنغ.
ولكي ينقذ ميغرين نفسه من احتمال الحكم عليه بالتعامل مع العدوّ النازي، فقد اعترف انه مذنب بالجريمة الأقلّ خطرا، أي التزوير. كما اقرّ بأنه زوّر أربع لوحات حقيقية لـ فيرمير. لكنّ اعترافاته تلك ووجهت بعدم التصديق.
وقد شُكّلت لجنة للنظر في الأمر. بينما اقترح ميغرين نفسه القيام برسم لوحة جديدة لـ فيرمير وهو ما يزال في السجن بانتظار المحاكمة. واتضح بعد ذلك أن اللوحة رُسمت بنفس اليد التي رسمت اللوحات الأخرى المزوّرة.
وقد اجتذبت محاكمته وقتها تغطية عالمية واسعة. وصوّر ميغرين نفسه أثناءها كرجل محبّ للرسم، كما وضع اللوم على "النقّاد الخبثاء" الذين أرادوا تدمير مستقبله.
وفي النهاية حُكم عليه بالسجن سنة واحدة في نوفمبر 1947م. لكن نتيجة لانغماسه في حياة الترف والمجون ومعاناته من مرض القلب، تعرّض ميغرين إلى نوبة قلبية أودت بحياته في ديسمبر من نفس السنة.
عندما نتمعّن اليوم في اللوحات التي زوّرها ميغرين، فإننا لا يمكن أن نقارنها بلوحات فيرمير، ربّما باستثناء لوحة أو اثنتين. فنوعية الوجوه في هذه اللوحات تذكّر بالصور الفوتوغرافية . كما أن التشريح الدقيق فيها يذكّر أكثر بالتعبيريين الألمان في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، وليس بعصر فيرمير.
إن قصّة ميغرين، بما تتضمّنه من عناصر الغرابة والجشع والتباهي والسذاجة والمهارة الفنّية والخبث وحتى الدعابة، تناولت بعض الإشكاليات التي ما تزال تؤرّق عالم الفنّ إلى اليوم.
ربّما لم يكن هان فان ميغرين رسّاما عظيما. لكنّه، من خلال ما فعل، جعل الناس يفكّرون بشكل أعمق في الأسئلة التي تتعلّق بماهيّة الفنّ والأسباب التي تدعو الناس إلى تقدير الأعمال الفنّية وتقييمها بشكل صحيح.
en.wikipedia.org
الاثنين، ديسمبر 20، 2010
نافذة على فنّ كميل بيسارو
ورغم أن الكثيرين يعتبرون بيسارو انطباعيّا فرنسيّا، إلا انه ولد في جزر العذراء لأب برتغالي وأمّ من جمهورية الدومينيكان. ولم يذهب إلى باريس إلا في عام 1855 عندما قصدها لتعلّم الرسم حيث تتلمذ على يد كميل كورو وغوستاف كوربيه.
وقد تركت لوحات كورو وغيره من أعضاء مجموعة باربيزون عن الطبيعة انطباعا عميقا في نفس بيسارو. كان منجذبا بوضوح نحو رسم الطبيعة. وطوال العشر سنوات التالية، درس في كلّية الفنون الجميلة التي كانت تقدّم دروسا مجّانية في الرسم.
وفي عام 1857 شجّعه كورو على التخلّي عن أسلوب الرسم التقليدي وأن يرسم بدلا من ذلك في الهواء الطلق وفي الطبيعة المفتوحة. ورغم أن لوحاته المبكّرة كانت صدى لأسلوب كوربيه، إلا انه كان فيها روح انطباعية لا تخطئها العين.
وربّما بسبب تنوّع خلفيّته العرقية، فإن بيسارو كان دائما شخصا غريبا إلى حدّ ما عن الجماعة الانطباعية. ومثل العديد من الانطباعيين، ترك بيسارو بيته في الريف الفرنسي عند نشوب الحرب بين فرنسا وبروسيا وقصد لندن بمعيّة كلود مونيه. ونتيجة للحرب، تم تدمير العديد من لوحاته من قبل الجنود الغزاة البروسيين.
وأثناء إقامته في لندن، تعرّض بيسارو لتأثير رسّامي الطبيعة الانجليز مثل تيرنر وكونستابل. ورغم انه عاد بعد ذلك إلى فرنسا، إلا انه زار انجلترا مرارا في ما بعد حيث رسم عددا من معالمها الرئيسية.
في ثلاثينيات القرن الماضي، انضمّ بيسارو إلى جيل الرسّامين الأكثر شبابا مثل جورج سورا وبول سينياك في تبنّيهم للأساليب الانطباعية الجديدة. وعلى غرار العديد من الفنّانين والكتاب في عصره، أصبح بيسارو رسّاما فوضويّا. وتخلّى تدريجيا عن الانطباعية الجديدة مفضّلا عليها أسلوبا مكّنه بشكل أفضل من الإمساك بالأحاسيس التي تعبّر عنها الطبيعة.
وبينما استمرّ يرسم الطبيعة والفلاحين في المناطق الريفية، بدأ مغامرة جديدة تمثّلت في رسم طبيعة المدينة. وفي لوحاته عن باريس، حاول اكتشاف التأثيرات المتغيّرة للضوء والجوّ بينما عبّر عن حيوية المدينة الحديثة.
ومن بين جميع الانطباعيين كان بيسارو رسّاما محافظا إلى حدّ كبير. وبخلاف مونيه مثلا، لم يقم بتذويب أشجاره وتحويلها إلى كتل من الضوء النقيّ. كان حبّه للأشياء الصلبة والمتماسكة واضحا في كلّ تفصيل من لوحاته. فالضوء يفيض على أسطح الأشياء لكنّه لا يخفيها.
وفي لوحاته الريفية عن الحصاد والرعي، تتحوّل فرشاته الحسّاسة إلى بِرَك متوهّجة من اللون تعكس حركة الريح والسحب والحقول.
في إحدى تلك اللوحات، يرسم ضوء شمس الربيع الشاحبة وهي تضرب جذوع مجموعة من الأشجار التي تبدو وكأنها تتراجع إلى الوراء. وفي لوحة أخرى، يرسم بيسارو امرأة فلاحة من الصعب تمييزها عن الأرض المورقة من حولها بينما تنحني فوق نهر يبدو مثل طريق في مقدّمة اللوحة. وهذا مثال كلاسيكي على التصوير المثالي للطبيعة عند بيسارو والتي كان ينظر إليها كملاذ من متاعب وصخب المدينة.
ومن المهمّ تذكير القارئ بأهميّة أن ينظر إلى هذه اللوحات الجميلة بعينين ناقدتين. كما لا يجب أن ننسى أن الأعمال الانطباعية المحبوبة الآن كانت في أيّامها فنّا راديكاليا انتقدته وندّدت به المؤسّسة الفنّية آنذاك.
بالرغم من أن بيسارو لم يكن إنسانا متديّنا، إلا أن تربيته المحافظة أسهمت كثيرا في تشكيل وعيه الاجتماعي. وهو كان ينحدر من عائلة بورجوازية، إلا انه كان متماهيا مع الطبقة العاملة وكان يشير إلى نفسه دائما كـ "بورجوازي مفلس".
وعندما انتقل إلى باريس عاش فيها كمواطن يهودي وفوضوي. ورغم انه لم يكن محافظا على الطقوس الدينية وكان ضدّ فكرة الربّ أو الدين المنزل، إلا انه لم يُدر ظهره لليهودية بشكل كامل.
لكن من الواضح انه لم يكن يهتمّ كثيرا بالتقاليد الدينية. وعندما أراد ابنه مشورته بعد أن اشترطت عليه عائلة خطيبته اليهودية أن يخضع للختان إن هو أراد أن يتزوّج من ابنتهم، كان بيسارو قاطعا في نصيحته لابنه بأن يرفض الخضوع لطلبهم.
صحيح أن لم يبع سوى القليل من لوحاته أثناء حياته. غير أن أعماله اليوم لا تُقدّر بثمن. ورغم دوره الأبويّ في الحركة الانطباعية، إلا أن بيسارو كان ذا رؤية واضحة وأسلوب لم يكن يشبه أسلوب احد. كان يعوّل على الحدس أكثر من الدراسة والتلقين.
كان بيسارو يبحث دائما عن أساليب جديدة للتعبير. وكان احد أكثر الرسّامين ابتكارا. وقد عُرف بتعاطفه وتواضعه. لكنه مرّ بمشاكل مزمنة نتيجة عدم قدرته على بيع لوحاته وإعاشة أولاده. كان يعول ثمانية أطفال توفّي ثلاثة منهم أثناء حياته. ومع ذلك لم يعرف اليأس إلى قلبه طريقا.
في نهايات حياته كان بيسارو يوزّع وقته بين باريس وبلدته روين. وعندما توفّي في نوفمبر عام 1903 عن ثلاثة وسبعين عاما، كان قد بدأ يحصل على بعض الاعتراف. واليوم يمكن رؤية لوحاته في بعض أشهر وأهمّ المتاحف العالمية وفي العديد من المجموعات الخاصّة حول العالم.
camillepissarro.org
visual-arts-cork.com
الأحد، ديسمبر 19، 2010
سرب يمام
"سبحان الله الذي أبدع كلّ شيء صنعا". قلت مردّدا بيني وبين نفسي وأنا أتطلّع عبر نافذة الطائرة إلى المنظر تحتنا.
كنّا قد اقلعنا وقت السحر. وها نحن نقترب من اللحظة التي ستشرق فيها الشمس. الأرض التي نعرفها لم نعد نراها. كلّ ما يمكن رؤيته كان عبارة عن تشكيلات غريبة من الغيوم في الأسفل.
كان هناك منظران يعلو كلّ منهما الآخر. المنظر السفلي بدا شديد الشبه بالصحراء مع مرتفعات هنا وهناك تشبه إلى حدّ كبير جبال الملح الضخمة.
والمنظر الذي تحتنا مباشرة كان يشبه بحرا عظيما تتوزّع وسط مياهه الزرقاء جزر أشبه ما تكون بجبال الجليد الهائلة. وأحيانا تتحوّل الصورة لتأخذ شكل أكوام ضخمة من القطن الناصع البياض. وبين كلّ كومة وأخرى انتشرت بقع متوهّجة كأنها حبّات ضوء في مغارات صامتة.
مرأى الغيوم من هذا الارتفاع يدفعك إلى النظر بعمق في ما وراء الطبقات. كلّ طبقة تخفي خلفها ما يشبه الجبل أو النهر أو الشجرة أو البحر. وكلّ واحد من هذه العناصر يبعد عن الآخر بما يكفي لأن يعطي المنظر عمقاً اكبر.
خامرني في تلك اللحظة شعور ساذج. تمنّيت لو أن قوانين الفيزياء تتعطّل بضع دقائق كي اخرج إلى هذا الفضاء الرحيب فأتنفّس بعض الهواء وألامس الغيم بيديّ العاريتين وأغرس قدميّ عند ابعد نقطة في الأفق.
بعد دقائق، لاحت على البعد بقعة أرجوانية صغيرة. ووراءها ارتفع حاجز أشبه ما يكون بالحائط العملاق وقد اصطبغ بلون برتقالي. اللون الأرجواني لم يلبث أن ارتفع عن خطّ الأفق، ثم بدأ يتّسع ويكبر إلى أن غمر المكان ضوء ساطع ومبهر.
منظر الشمس وهي تشرق من السماء منظر ساحر ويحبس الأنفاس. تذكّرت لحظتها حقول فان غوخ وسماواته الزرقاء والبقع الحمراء والبرتقالية والذهبية في خلفيّتها.
نظرت إلى الراكب الجالس بجواري وأشرت بيدي إلى المنظر خارج الطائرة. قال: الشمس؟ سبحان الله. منظر عجيب فعلا". واصلنا معا تأمّل المنظر بصمت لم يقطعه سوى وصول المضيفة. طلبت عصير برتقال. بينما امتنع جاري عن طلب شيء.
عدت إلى النافذة متأمّلا المنظر الذي أمامي.
وبعد دقائق التفت جاري نحوي فجأة وقال: هذا العصير بكم؟ قلت: ماذا تقصد؟ قال: عصير البرتقال الذي طلبته. كم دفعت مقابله؟ قلت: لم ادفع شيئا. هو من ضمن قيمة التذكرة. يبدو انك تركب الطائرة لأوّل مرّة". بدت على الشابّ ملامح الإحراج والارتباك وقال: صحيح. لم اركب الطائرة قبل الآن".
صمتّ قليلا وأنا أفكّر في مغزى سؤال الراكب الطيّب. قلت في نفسي: كلّنا، بشكل أو بآخر، نشبه هذا الشخص. ما أكثر ما نفرّط في أبسط حقوقنا ونتنازل عنها بسبب جهلنا بها. ولو أنّنا عرفنا حقوقنا جيّدا لسهُل علينا أن نتمسّك بها وندافع عنها في وجه كلّ من يحاول اغتصابها ومصادرتها. عدم وعي الإنسان بأبسط حقوقه هو في الواقع السبب الرئيسي في انه كثيرا ما يجري استغفاله وظلمه وتهميشه.
بعض هذه الحقوق أساسي ولا ينبغي التفريط بها بأيّ حال. حقّ الإنسان في الحياة والكرامة والعدالة والمساواة. حقّه في التنمية وفي اكتساب الوعي والقيم الايجابية. حقّه في رفض الفساد والاستبداد. وحقّه في التعبير عن رأيه بحرّية ودون وصاية من احد. حقّ التعبير حقّ مقدّس لأنه مرتبط بالحرّية. والحرّية هي أغلى ما وهبه الله للإنسان. وليس من حقّ احد أن يمنعها أو يصادرها تحت أيّ ظرف أو مبرّر.
عدت أحدّق من وراء النافذة. في ابعد نقطة من هذا الفراغ الواسع المهيب، خُيّل إليّ أنني أرى أجساما بيضاء تشبه في هيئتها وحركتها سربا من اليمام.
مرّت لحظات. كنت أراقب الشمس وهي ترتفع أكثر فأكثر، بينما كان السرب يتحرّك مبتعدا إلى أن اختفى تماما وراء الأفق.
الأربعاء، ديسمبر 15، 2010
المرأة التي ألهمت كليمت
كانت المرّة الأولى التي اسمع فيها باسم اميلي فلوغي عندما كنت أدرس تاريخ الفنّ. وأعتقد أن ذلك كان نوعا من القدَر.
كنت قد بحثت طويلا عن فنّان مناسب كي ادرسه، شخص ما يمكن أن يلهمني ويثير اهتمامي. وقد وجدت هذا في غوستاف كليمت. إن سرّ شعبية كليمت الدائمة هو قدرته على اخذ الحياة الداخلية لشخصياته وإسقاطها من خلال صورة خارجية. وكليمت يعمل مع الألوان الزاهية والأشكال المجرّدة لخلق صورة بصرية عن الحالة العاطفية التي تشعر بها الشخصيات التي يرسمها.
ومع ذلك، عندما كنت ادرس حياة هذا الفنّان اللامع لم أكن اعرف إلا القليل عن ملهمته العظيمة اميلي فلوغي.
إنها صاحبة الوجه الذي يظهر في إحدى أشهر تحف كليمت "بورتريه اميلي فلوغي" والذي تطوّر ليصبح تجسيدا للحداثة التي تمثّل جوهر الجمال في فيينّا.
كان كليمت قد أنجز الكثير عندما قابل اميلي وعائلتها. وكان وشقيقه ارنست وطالب آخر قد أسّسوا مجتمعين شراكة ناجحة وكُلّفوا برسم لوحات لمسرح بورغ الذي كان قد أعيد بناؤه. وعندما انتهت اللوحات، مُنحوا وسام الاستحقاق الذهبي من قبل الامبراطور فرانز جوزيف.
وقد تزوّج ارنست كليمت من "هيلين" شقيقة اميلي في عام 1891م. وبعد فترة وجيزة بدأ غوستاف كليمت علاقته الطويلة مع اميلي.
اميلي فلوغي هي شخصية تاريخية. لكن لأنه لا يُعرف عن حياتها سوى النزر اليسير، فإن الكاتبة اليزابيث هيكي اضطرّت لإعادة كتابة حياة اميلي لروايتها القبلة المرسومة والتي هي عبارة عن سرد روائي حول الصداقة التي ربطت بين كليمت واميلي.
ومع ذلك فإن اميلي فلوغي يتمّ تذكّرها اليوم، ليس فقط بسبب علاقتها بـ كليمت، وإنما أيضا لأنها كانت واحدة من ألمع مصمّمي الأزياء في فيينّا في الفترة ما بين عامي 1904 و1938م.
وكانت اميلي قد أسّست دار الأزياء الخاصّة بها عام 1904 بالتعاون مع شقيقتيها هيلين وبولين. وكان كليمت شخصيا مشاركا في ذلك المشروع.
في البورتريه، كان النمط الخاصّ بالفستان الفضفاض الذي ترتديه اميلي هو الذي تبنّته حركة إصلاح اللباس. وفي 1897 أسّس كليمت مع عدد من أصدقائه جمعيّتهم الفنّية المسمّاة "الانفصال". كان كليمت رئيس تلك الجمعية وكان هدفها تنشيط الفنّ النمساوي. اهتمام كليمت بإصلاح اللباس كانت له علاقة وثيقة بدعوة "الانفصال" إلى المشاركة الإبداعية في جميع جوانب الفنون الزخرفية.
ولم يقتصر نشاط كليمت على تصميم ملابس لـ اميلي، بل كانت مجموعتها من الأقمشة والمنسوجات الشعبية متأثرة ومستوحاة من نقوشه وأنماطه التجريدية والملوّنة الموجودة في لوحاته.
وعلى الرغم من إصرار عائلتيهما وأصدقائهما على أن العلاقة بين الاثنين كانت مجرّد علاقة صداقة، إلا انه ما يزال هناك نقاش حول ما إذا كان هناك شيء ما أكثر. ومن الواضح أن هذا النقاش قد لا يُحسم أبدا.
لسنوات، كان كليمت مرتبطا بعلاقة صداقة وثيقة مع هذه المرأة. لكنه لم يجرؤ على تحمّل مسؤولية إسعاد امرأة أحبّها لأعوام عديدة. وقد كوفئت فحسب بالحقّ في رعايته في لحظات الألم التي سبقت وفاته.
ومع ذلك، فبعد وفاة كليمت في العام 1918 متأثّرا بالالتهاب الرئوي، احتفظت اميلي بغرفة كانت تُحكم إقفالها حيث حفظت بداخلها جميع أدواته ولوحاته.
لم يستطع كليمت أن يقول نعم لامرأة واحدة. ومع ذلك يقال انه كان أبا لـ 14 طفلا على الأقل. والفكرة الرائجة عنه تقول انه كان رجل نساء. فقد ربطته قصص حبّ مع العديد من نساء الطبقات الاجتماعية العليا. لكنّ كلّ هذا تغيّر في اللحظة التي قابل فيها اميلي التي كان عمرها في ذلك الوقت اثني عشر عاما.
ولو افترضنا وجود منافسة لـ اميلي، فلا شكّ أنها كانت ألما شيندلر التي كانت في سنّ التاسعة عشرة عام 1898م. وكان كليمت مفتونا بها كثيرا. غير أن والد ألما سارع إلى كبح كليمت بسرعة وأبعده عنها.
وقد ظهرت اميلي في عدد من الصور الفوتوغرافية التي التقطها لها كليمت عام 1906م. وليس مفاجئا أنها ترتدي ملابس من تصميم جماعة إصلاح اللباس. وكانت تلك إحدى المرّات الأخيرة التي استخدمها فيها كموديل.
في يوليو 1908، اخبر كليمت اميلي بأن البورتريه الذي رسمه لها تمّ شراؤه. وقد وبّخته والدته على بيع البورتريه وأظهرت سخطها وألزمته بأن يرسم بورتريها آخر بأسرع وقت ممكن. لكن كليمت لم ينفّذ طلب والدته أبدا.
ورغم الضجيج الكثير الذي يحيط بعلاقة كليمت واميلي، إلا أن معظم مؤرّخي الفنّ يعتقدون أنهما لم يكونا عاشقين. والمراسلات التي كانا يتبادلانها توحي بأن العلاقة بينهما كانت أفلاطونية إلى حدّ كبير.
لكن إذا لم يكونا كذلك، فلماذا ضحّت اميلي، وهي الجميلة والموهوبة على أكثر من صعيد، بالحبّ والزواج والأطفال في سبيل كليمت الذي بدا واضحا انه لم يكشف لها عن مشاعره وظلّت هي مخلصة له حتى نهاية حياته؟
هل كانت اميلي فلوغي امرأة سبقت عصرها وفضّلت الوظيفة والانجازات الشخصية على العيش في ظلّ رجل؟
هل كانت مؤمنة أصيلة بالأفكار النسوية التي تدعو إلى الاستقلالية وتحقيق الذات؟
كانت اميلي فلوغي المرأة الوحيدة التي استطاعت ترويض جموح كليمت في تلك الأوقات الصعبة. وكانت بنفس الوقت ملهمته وطبيبته التي خفّفت عنه آثار نوبات الاكتئاب التي كان يعاني منها.
البورتريه الذي رسمه لها يقدّمها كأيقونة من جمال مذهّب. كان البورتريه راديكاليا بالنسبة لعصرهما. وربّما لهذا السبب لم تحبّه اميلي كثيرا ولا عائلتها.
كان كليمت يكبر اميلي بعدّة سنوات. ومع ذلك كانا يروقان لبعضهما البعض، وأصبحت هي موضوعا للكثير من لوحاته.
وبالتأكيد لم يدر بخلد الإثنين أن قصّتهما ستصبح مشهورة جدّا وأن الناس سيتذكّرونها لعدّة قرون تالية.
- دانيال سارتوري "مترجم بتصرّف"
الجمعة، ديسمبر 10، 2010
الأربعاء، ديسمبر 08، 2010
قراءات في أدب وسينما الرعب
ومنذ أيّام استمتعت بقراءة بعض الكتابات التي تتحدّث عن الموتيفات والأفكار التي تظهر بشكل متواتر في أدب وسينما الرعب. مثلا، هل خطر ببالك أن تساءلت من قبل عن الوظائف الدرامية والمدلولات السيكولوجية التي يؤدّيها ظهور البوم والمرايا والضباب والقلاع والحصون القديمة والقمر المكتمل والضباب والماء والكلاب وغيرها من الصور في أدب وسينما الرعب؟
الحديث في هذا الموضوع ممتع وذو شجون. كما انه يثير بعض التفكير والتأمّل.
الضباب:
يلعب الضباب دورا مهمّا في هذا النوع من الروايات والأفلام. وظيفة الضباب في الأساس أنه يخفي الأسرار التي قد لا يكون مسموحا لنا بمعرفتها. وبعض الحضارات القديمة كانت تؤمن بأن "أمّنا الطبيعة" يمكن أن تستخدم الضباب كي تبعدنا عن أشياء معيّنة لا ينبغي لنا أن نعرفها أو ندركها. وهناك العديد من أفلام الرعب التي تروّج لفكرة مؤدّاها أن الناس يصبحون أكثر أمنا إذا هم تجنّبوا النظر في ما يحجبه الضباب.
أيضا يمكن أن تكون وظيفة الضباب في الأفلام والروايات هي حجب ما أو من سيأتي. في الأفلام على وجه الخصوص، يَحول الضباب الكثيف دون رؤية الشخص القادم إلى أن يصبح على مسافة لا تسمح له بالهرب. ويمكن أن يكون الضباب علامة شؤم أو نذيرا بوقوع خطر وشيك.
ومن الأشياء اللافتة أن صنّاع الأفلام استخدموا الضباب لزيادة ظلمة بعض الأماكن مثل قلعة دراكيولا ومختبر فرانكنشتاين والغابات التي تخفي الرجل الذئب .
في بعض الحالات يمكن أن يلعب الضباب دور الخصم في الفيلم. وهناك أفلام وروايات يظهر فيها الضباب كشخصية رئيسية ومستقلّة لها كيان وعقل قائم بذاته. وفي حالات أخرى يمكن أن يُستخدم كستارة أو حاجز بين عالمنا والعوالم الأخرى المجهولة.
القلاع والحصون:
ما أن يرى الإنسان منظرا لقلعة في احد أفلام الرعب حتى تسري القشعريرة في جسمه ويتملّكه الذعر. القلاع في الروايات والسينما ترمز للمعرفة المفقودة التي فُرض على البشر أن لا يعرفوها أو أن ينسوها.
وأنت تقرأ رواية مخيفة أو تشاهد فيلما مرعبا، لا بدّ وأن تلاحظ انه في كلّ قلعة هناك مكتبة تحتوي على كتب متربة ومهترئة. وأحيانا تتضمّن المكتبة كتبا ملعونة مثل "جماعة الغيلان" أو "كتاب ايبون" قد تكون مخبّأة في داخلها.
القلعة وظيفتها في الأساس هي أنها تفصلنا عن ما لا نريد أن نعرفه. وبعض الأفلام وقصص الرعب تتحدّث عن مخلوقات خفيّة أو منسيّة أو بشر مشوّهين يعيشون في أعماق قلعة.
القلعة قد تكون ملاذا أو سجنا لهذا الكائن أو ذاك. والغرباء الذين يدخلون القلعة يجب أن يتوفّروا على معرفة كافية. وبدونها لا يستطيعون مغادرة القلعة بمفردهم. في بعض الأحيان ترمز القلاع لتلك الأماكن في العالم التي لا نشعر فيها بالأمان. لاحظ أن القلاع شُيّدت في الأساس كي تكون أماكن آمنة أو واقية. لكن في أفلام وأدب الرعب، تتحوّل القلاع إلى أماكن يذهب إليها البشر كي يموتوا أو يختفوا إلى الأبد.
في احد الأفلام، يذهب مجموعة من الجنود إلى إحدى القلاع المهجورة كي يعيدوا تنظيم أنفسهم. وهناك يُقتلون الواحد تلو الآخر بفعل شيء غامض. في هذه الحالة، تمنح القلعة شعورا زائفا بالأمان.
وفي بعض الأفلام، يظهر سرداب طويل ممتدّ إلى أعماق القلعة. هنا يصبح السرداب رمزا لشرّ مخفيّ وعلينا أن نتجنّبه. الممرّات السرّية في قلعة ما ترمز للأسرار المخبّأة عن الشخصيات أو المُشاهد أو القارئ. والقلاع كما يقدّمها أدب وسينما الرعب يمكن أن تكون ملاذا آمنا للشيطان. ومع البرق القويّ والخاطف، تصبح القلعة أكثر إثارة للخوف والشؤم.
المرايا:
كانت المرايا وما تزال تُستخدم بشكل متكرّر في أفلام وروايات الرعب. أحيانا تظهر المرآة لتعطي إحدى الشخصيّات الرئيسية لمحة عما يخبّئه المستقبل. والنظر إلى المرآة يمكّن الشخصيّة من رؤية الأحداث التي لم تقع بعد. وهذا له ارتباط مباشر بالاعتقاد الذي يقول إن المرايا يمكن استخدامها للنظر إلى المستقبل. وفي بعض الحالات تُستخدم المرآة لاستعادة حادث أو أحداث وقعت في الماضي. وبعض المخرجين السينمائيين يستخدمونها لرؤية الماضي الذي يُفترض انه قد تمّ نسيانه. بعض شخصيّات الأفلام المخيفة تنظر إلى المرآة وترى فيها مشهدا يُفترض انه أصبح جزءا من الماضي. وإجمالا يمكن اعتبار المرآة نافذة على عقل وروح الشخصيّة. وإحدى الكليشيهات المألوفة في أفلام الرعب هي تلك التي تنظر فيها إحدى الشخصيات في المرآة فترى شبحا أو مخلوقا أو مجرما يقف خلفها مباشرة. في هذه الحالة تتحوّل المرآة إلى عين إضافية في مؤخّرة الرأس.
وهناك من يعتقد أن المرايا يمكن استخدامها لرؤية الموتى. أي أن المرآة تستطيع رؤية ما لا تتمكّن العين الطبيعية من رؤيته. وبعض الناس الذين يؤمنون بقوى ما فوق الطبيعة يعتقدون أن المرايا يمكن أن تكون بوّابات تصل ما بين هذه الحياة وعالم ما بعد الموت. وهناك أيضا من يعتقد أن الأبعاد الأخرى يمكن بلوغها من خلال المرايا.
وفي أفلام وروايات الرعب، كثيرا ما تُستخدم المرايا لإقناع المشاهد أو القارئ بأن الأشباح والشياطين قادرة على أن تعبُر من خلال المرآة إلى واقعنا.
البوم:
صورة البوم في أدب وسينما الرعب مرتبطة برمزيّته في الثقافات والأساطير القديمة. فطوال تاريخ الإنسان، كان البوم يرمز للرعب والمعرفة والحكمة والموت. ومع مرور الزمن تغيّرت النظرة إليه، فأصبح اليوم يرمز إلى الندرة البيئية بالإضافة إلى رمزيّته القديمة كما تعكسها المعتقدات الثقافية والدينية. ولآلاف السنين لعب هذا الطائر دورا فريدا في الأساطير. والأكيد انه ليس هناك طائر آخر أثار كل هذا الافتتان به واستُدعي للأساطير مثل البوم. وقد تعامل معه الناس بالإعجاب حينا وبالخوف أحيانا. تارة يكون حكيما وتارة أخرى غبيّا ومحتقرا. ولطالما اقترن بالسحر والطبّ والطقس والميلاد.
في الأساطير الهندية القديمة، يرمز البوم للحكمة كما انه يتمتّع بقدرات تنبّؤية نادرة. هذه الفكرة تكرّرت في أساطير ايسوب الإغريقية. وفي أوربّا العصور المظلمة، ارتبط البوم بالساحرات وساكني الظلام وبالأماكن المعزولة والنائية. وهذه الجزئية هي ما تركّز عليه السينما والأدب كثيرا. فالبوم يظهر غالبا في الليل، أي عندما يكون الناس "عميانا" وعاجزين. وهذا الظهور له علاقة بالمجهول وبالقوى الخفيّة. والسينما والأدب يستغلان شعورا متجذّرا في وعي البشر منذ القدم وهو أن صوت البوم يعتبر نذير شؤم ومؤشّرا على شرّ مقترب. لكن بعض الأعمال الأدبية والسينمائية اليوم، وهي قليلة، تنبّهت إلى حقيقة أن هذا العصر شهد موت الخرافات القديمة في الغرب. ونتيجة لذلك، عاد البوم إلى مكانته القديمة كرمز للحكمة.
العُري:
العُري في أفلام الرعب لا يُقصد به بالضرورة إرضاء نزوات المشاهدين أو القرّاء من الذكور. أحيانا يُستخدم العُري كرمز للبراءة. أصل الفكرة هنا هي أننا أتينا إلى هذا العالم عراة، وبالتالي أبرياء وطاهرين. وعندما يُستخدم العري بهذا المعنى في رواية أو فيلم، فإن هذا مؤشّر على أن الشخصية بريئة وغير واقعة تحت هاجس حتمية الخطيئة. ومع ذلك، فإن شخصية المرأة التي لا تظهر في مشهد عري هي التي يُكتب لها البقاء غالبا.
لكن العري لا يقترن بالبراءة دائما. آدم وحوّاء أدركا أنهما كانا عاريين بعد أن ارتكبا الخطيئة. وعلى مرّ القرون أصبح العري شيئا مستنكرا من قبل الدين. وفي العديد من أفلام الرعب، لا بدّ وأن تلاحظ أن الشخصيات التي تموت في الفيلم هي تلك التي تظهر في مشاهد عارية. وهؤلاء يموتون إما أثناء العري أو بعد ارتداء الملابس مباشرة. وهناك جانب آخر لرمزية العري يتعلّق بدراسة الأحلام. بعض العلماء يقولون إن رؤية الإنسان نفسه عاريا في حلم يمكن أن يكون كناية عن توقّف النموّ أو صعوبة التحرّك إلى الأمام في الحياة. وكذلك الأمر في الأفلام والروايات، مع بعض الفارق. فالشخصية العارية يجري منعها من النموّ بسبب الموت غالبا. أيضا تتكرّر في بعض الأفلام مشاهد لأثداء مكشوفة. المعنى هنا لا علاقة له بالإغراء بل يتضمّن معنى رمزيا أعمق. والحقيقة أن الرمزية المبكّرة للثديين العاريين لم يكن لها علاقة بالجنس. فالحضارات الأقدم في العالم استخدمت الثدي العاري ليرمز إلى طبيعة المرأة الواهبة للحياة. الثدي هو الذي يمنح الحليب ويمدّ الطفل بالحياة. وهذا احد الأسباب المهمّة في أن النحّاتين والرسّامين الأوائل استخدموا الثدي العاري في أعمالهم الفنّية.
الجانب الآخر المتعلّق بالثدي العاري والذي أضاعته أفلام الرعب هو ذلك الذي يرمز للخصوبة. فتمثال امرأة بصدر عار كان يرمز إلى خصوبة المرأة وليس إلى جاذبيّتها الجنسية. وهذا هو السبب في أن معظم الإلهات المبكّرات للخصوبة كنّ يظهرن في الرسم والنحت بأثداء مكشوفة. الصدر العاري يمكن أن يرمز أيضا إلى فنّ الشكل الأنثوي المثالي. ولهذا السبب رسمه الفنّانون منذ القدم لإظهار أن الجمال يستمرّ تحت طبقات ملابس المرأة الخارجية.
القمر المكتمل:
للقمر رمزية خاصّة في أفلام وروايات الرعب. بعض جماهير السينما تعتقد أن القمر المكتمل هو مجرّد كليشيه لهذه النوعية من الأفلام. لكنهم لا يدركون المستويات المتعدّدة لرمزية الهلال. الأوربّيون القدماء كانوا يخافون من القمر المكتمل لأن أسطورة كانت تقول انه في الليالي المقمرة تجتمع الساحرات في أرجاء أوربّا ويرقصن مع الشيطان. وحتى اليوم، هناك في أوربّا من لا يزال يؤمن بخطورة السفر في الليالي المقمرة لأن من شأن ذلك أن يحدّ من تأثير أنشطة السحر وجلب اللعنة على سكّان القرى. ومن الواضح أن الأساطير والقصص الفولكلورية الريفية أصبحت مصدر إلهام لأفلام الرعب.
في عصور الظلام أدركت الكنيسة انه ليس فقط الساحرات هنّ من يمارسن طقوسهن تحت ضوء القمر المكتمل، بل حتى الأديان الوثنية كانت تؤمن بنفس الاعتقاد. لذا بادرت الكنيسة في بعض الأحيان إلى فرض حظر على الأنشطة في الليالي القمرية. وهناك طقوس مظلمة أخرى تجعل من القمر الكامل فكرة جذّابة لأفلام الرعب الجيّدة. وقد ساد في أوربّا اعتقاد يقول إن مصّاصي الدماء والإنسان الذئب يتجوّلون في الريف الأوربّي تحت قمر كامل. ولعدّة قرون كان أناس كثيرون يعتقدون أن القمر له تأثير من نوع ما على تصرّفات البشر. ولم يُكتشف هذا إلا مؤخّرا، أي قبل أربعين عاما تقريبا، عندما أشار علماء النفس أن هذه النظريات ربّما تكون صحيحة.
القلاع القوطية:
مرأى قلعة قوطية من الخارج يمكن أن يذكّرك بـ دراكيولا أو بمكان مسكون. في الأدب والسينما، أصبح هذا النوع من القلاع مكانا للعلماء المجانين ولكلّ أشكال الشرّ الأخرى. الكثير من أعمال إدغار آلان بو تتحدّث عن الأشباح والغيلان التي تسكن القلاع القوطية. والعديد من المخرجين يعمدون إلى خلق نوع من الإثارة والتشويق من خلال استيراد تلك الصور ودمجها في مشاهد أفلامهم. وإذا تمعّنت عن قرب في فكرة القلاع القوطية كما تظهر في الأدب والسينما، فإنك ستكتشف أن أسرار القلعة محفوظة في أمان في مكان ما من البرج. وقد يتضمّن المكان أيضا غرفة للساحرات وجسد إنسان ميّت أو شقيق مجنون أو حتى أسير وُضع هناك بعيدا عن الضوء لسنوات.
الكلاب:
احد الواجبات الأساسية المعطاة للكلاب هو التدريب كي تكون قادرة على العمل كخط دفاع ضدّ الغرباء والمتطفّلين. الكلاب في الأفلام تنبح دائما على البطل وهو يتسلّل حول سور المنزل. رمزية الكلاب تأتي من حقيقة أنها قادرة على أن تزعج وترعب. لكن البطل يمكن أن يتجاهل تلك الإنذارات ويعتبرها غير ذات أهمّية. وأحد الجوانب التي كانت محلّ دراسة لسنوات هو قدرة بعض الكلاب على الحكم على شخص ما من خلال رائحته أو نوع الهالة غير المرئية التي تنبعث منه.
في الأفلام تُستخدم الكلاب لتشير إلى الظلمة في روح البطل وأنه شرّير بدليل الهالة التي تنبعث من جسده، ما يجعل الكلاب تنبح أو تدمدم أو تهرب بعيدا وهي تصرخ.
الصلاة:
في بعض أفلام الرعب، أصبح شيئا مألوفا أن ترى شخصا وهو يصلّي. التفسير البسيط هو أن هذا الشخص يعتقد أن الصلاة ستساعده على الخروج من مأزق أو مشكل ما. الأطفال أيضا في بعض الأفلام يمكن مشاهدتهم وهم يصلّون قبل الذهاب إلى النوم. مثل هذا التصرّف يراد منه الطلب من الله أن يُبقي الوحوش بعيدا عن المكان. هذا النوع من الصلاة يُظهر براءة الطفل ويدغدغ مشاعر الأبوّة والأمومة عند جمهور المشاهدين. الصلاة يمكن أن تعبّر أحيانا عن نقاء الشخصية وتقديسه لله. وأحيانا يصلّي الشخص لأنه استنفد كلّ وسيلة أخرى ويتمنّى أن يتدخّل الله في اللحظة الأخيرة. في مثل هذه الحالة، تصبح الصلاة ملاذا أخيرا. لكن إذا مات الشخص فإن هذا يمكن أن يكون دليلا على انعدام تديّنه أو عدم إيمانه بالله. وبعض روايات الرعب المشهورة تتحدّث عن مخلوقات خرافية وقويّة جدّا لا تنفع معها الصلاة ولا يمكن لله عمل الكثير لإيقافها أو السيطرة عليها.
الماء:
في سينما وأدب الرعب، يكتسب الماء أهمّية خاصّة لما له من خصائص روحية ومقدّسة. مصّاصو الدماء في الأفلام غير مسموح لهم بأن يعبروا جدول ماء جارٍ. حتى الأرواح في أساطير اليابان وأمريكا الشمالية والصين لا تستطيع عبور المياه الجارية. وهذه النظرة لها جذور. ففي المسيحية مثلا، يُقال أن المسيح حوّل الماء إلى نبيذ وأنه مشى فوق الماء. ومن المعروف أن المسيحيين يُعمّدون في الماء. وبعض القصص الدينية حول الماء أضفت عليه طابعا من القداسة، مثل طوفان نوح وابتلاع الحوت لـ يونس وغير ذلك من القصص. لكن الحضارات التي سبقت المسيحية والأديان عموما كانت تعتبر الماء عنصرا مقدّسا. والأساطير البدائية أيضا اعتبرته مقدّسا انطلاقا من حقيقة أن البشر والحيوانات والنباتات تستمدّ بقاءها من الماء. واعتمادا على هذا، استمرّت أفلام وروايات الرعب في إيراد قصص عن مخلوقات وأرواح تتمتّع بقوى خارقة. ولكنها مع ذلك لا تستطيع إلا أن تحترم هذه الأواصر المقدّسة والقديمة مع الماء.
review.gale.com
السبت، ديسمبر 04، 2010
بيرنيني: عندما ينطق الحجَر
من يستطيع النظر إلى تمثال جيان لورنزو بيرنيني نشوة القدّيسة تيريزا (1644-1647) بعينين بريئتين؟
منذ بضع سنوات، وفي ظهيرة يوم قائظ من أيّام روما، جاءت ثلاث راهبات إلى كنيسة ديلا سانتا ماريا فيتوريا المظلمة. وكنت جالسا في إحدى المقصورات المواجهة أفكّر بانتشاء في ما كنت أراه. ومن وقت لآخر، كانت قطع عملات معدنية توضع داخل خانة الدفع مقابل الإنارة.
وعندما أتى الضوء، ظهر اغرب منظر فنّي يمكن للمرء أن يراه. رأس القدّيسة مائل إلى الخلف. فمها، الشفة العلوية مشدودة إلى الوراء، العينان نصف مغلقتين، والكتفان مشدودان إلى الأمام في حالة نكوص وشغف. وإلى جانبها، يقف ملاك صغير يكشف عن صدرها برفق وهو يبتسم قبل أن يمرّر سهمه إلى قلبها.
بقيت الراهبات لمدّة عشر دقائق، ساكنات ومتذلّلات، قبل أن يغادرن. وجلست الراهبة الثالثة في مقصورة أخرى وهي تخفض رأسها في صلاة طويلة. ومن وقت لآخر كنت استرق النظر باتجاهها وأنا أحاول التفكير فيمَ عساها تفكّر وكيف تشعر.
تمثال بيرنيني عبارة عن مشهد يقع على الحدّ الفاصل بين الغموض المقدّس والصورة الفاحشة. وقد سعى الخبراء طويلا كي يقنعونا بأن ما نراه قد لا يكون لحظة من لحظات الاستسلام الحسّي. ويصرّ المفسّرون على أن لا علاقة للمنظر بالتاريخ على الإطلاق. وبناءً عليه، لا يجب أن يتخيّل احد أن المهندس المعماري للبابا يمكن أن يفكّر في تمثيل السموّ الصوفيّ لقدّيسة كلحظة من لحظات النشوة المتشنّجة.
المفارقة في الأمر هي أن التمثال لا يصوّر عملية اتحاد الجسد والروح التي كانت هاجسا للكثير من الشعراء والكتاب في القرن السابع عشر. انه عبارة عن فصل محكم بين التجربة الحسّية والروحية. وزمن بيرنيني، كانت النشوة مفهومة ومجرّبة ولا يمكن تجزئتها حسّيا.
لكن بعد قرن من انجاز هذه المعجزة الفنّية المشحونة عاطفيا، مرّ بـ روما ثريّ فرنسي ومتذوّق للفنّ يُدعى دي بروسي وألقى نظرة واحدة على تمثال القدّيسة. ثم أبدى ملاحظة أصبحت مشهورة لسخريّتها المتكلّفة عندما قال: حسنا، إذا كان هذا هو الحبّ الإلهي فأنا أعرف عنه كلّ شيء".
قبل بيرنيني، كان الشغل الشاغل للنحت هو تصوير الخلود. وعندما ينظر النحّاتون الحديثون إلى العصور القديمة ويتعلّمون منها، فإن ما يرونه هو محاولة لتحويل الإنسان القابل للفناء إلى شيء ما أكثر نقاءً ودواما، أي إلى إله أو بطل.
المهمّة التي اختارها ميكيل أنجيلو لنفسه كانت أن يُخرج من الرخام تلك النماذج المثالية المحبوسة بداخله. لذا فإن القوّة البطولية لتمثاله "ديفيد" (1504) تكمن بالتحديد في جموده اللا إنساني. لم يكن ميكيل أنجيلو مهتمّا كثيرا بجعل الهيئات متشابهة والوجوه متماثلة بشكل مبتذل. كان شغفه الكبير يتمثّل في تقريب البشر من هيئة الآلهة.
بيرنيني، من جهته، كان هاجسه حركة الشخصيّات كما تعبّر عنها هيئات الأجساد والوجوه في منحوتاته. شخصيّاته التمثالية تتحرّر من الجاذبية ومن اسر قاعدة التمثال كي تتطوّر وتصرخ وتتلوّى وتتنفّس وترشق أنفسها بالسهام في نوبات من المشاعر القويّة والمحمومة.
وكثيرا ما توصف أعماله بأنها ضرب من السحر. وهذا على وجه التحديد هو السبب في تعرّضه للهجوم بعد وفاته من العديد من الفنّانين. الفنّان البريطاني السير جوشوا رينولدز انتقد بيرنيني لكونه "ساحرا رخيصا ومتخصّصا في الخدع المسرحية، ولأنه فضّل إدهاش المتديّنين على حساب نقاء الموادّ التي كان يوظّفها في أعماله".
وإحدى المؤاخذات الأخرى عليه هي أن منحوتاته ذات حمولة عاطفية مفرطة، وانه بإسرافه في محاكاة أسطح ونسيج موادّ أخرى كالصلب والفراء والجلد إنما خان سلامة ونقاء الحجر وابتعد عن سموّ الرخام وجرّ معه الناظر إلى الأرض.
وحسب الكاتب الايطالي المعاصر فيليبو بالدينوتشي، فإن بيرنيني كان يتباهى بأن الرخام في يديه يتحوّل ليأخذ شكل الشمع اللدن أو العجين الناعم.
رخام بيرنيني يبدو انه فعلا يتحوّل إلى موادّ أخرى كالحبال الليفية والفولاذ اللامع وخصلات الشعر. ومن خلال فهمه لتأثيرات الضوء والظلّ، عرف كيف يُظهر الأسطح المصقولة للغاية وكيف يجعل الجلد يبدو وكأنه يتصبّب عرقا.
كلّ هذا جعل منه خبيرا مسرحيا استثنائيا، تماما مثلما لعبت موهبته كرسّام دورا مهمّا في إضفاء الألوان الحيّة والبديعة على شخصيّاته الحجرية.
حياة بيرنيني الشخصية كانت مليئة بالحركة والضجيج والعاطفة المتأجّجة، مثلما هي منحوتاته. كان على علاقة بامرأة تُدعى كوستانزا بوناريللي. وكانت المرأة زوجة لمساعده. وهي نفس المرأة التي نحت لها تمثالا نصفيّا يعتبره النقّاد من أفضل أعماله.
كان بيرنيني يتّسم بمزاج حادّ وثائر. وفي احد الأيّام جاءه شخص وهمس في أذنه بأن خليلته كوستانزا تنام مع شخص آخر. ولم يكن ذلك الشخص سوى شقيقه الأصغر لويجي. في ذلك المساء وعلى مائدة العائلة، أعلن بيرنيني انه سيذهب إلى الريف لانجاز بعض الأعمال. لكنه بدلا من ذلك، ذهب إلى منزل كوستانزا ورأى شقيقه يخرج منه بينما كانت المرأة ترتدي فستان النوم. وأثناء المعركة العنيفة التي تلت ذلك حاول بيرنيني قتل شقيقه باستخدام قضيب معدني ونجح في كسر اثنين من أضلاعه.
وفي البيت حاول مرّة أخرى أن يقتل شقيقه بسيفه. وعندما هرب الأخير ليلوذ بإحدى الكنائس، تُرك بيرنيني لوحده وهو يركل باب البيت بغضب.
لكن بيرنيني لم يكن قد استنفد غضبه بعد. فقد أرسل احد خدمه إلى بيت كوستانزا ووجدها في السرير. وبناءً على أوامر سيّده قام الخادم بتمزيق وجهها بشيفرة حلاقة. وقد قُبض على الخادم وأودع السجن، بينما وجّهت إلى المرأة تهمة الزنا وحُكم عليها بالسجن.
وفي ما بعد نُفي لويجي إلى بولونيا خوفا على سلامته، بينما عُنّف بيرنيني وغُرّم.
بعد انفضاح أمر العلاقة بين بيرنيني وكوستانزا، نصحه صديقه وراعيه البابا اوربان الثامن بأن يتخذ له زوجة مخافة أن يؤدّي الأمر إلى قتل أيّ من الرجلين.
وبعد أشهر تزوّج بيرنيني من كاتيرينا تيزيو التي اشتهرت بكونها أجمل امرأة في روما. ويبدو انه كان سعيدا بذلك الزواج وأنجب منها احد عشر طفلا.
كلّ ما كان في ذخيرة بيرنيني استُدعي لإبداع تمثال القدّيسة المتصوّفة، ذلك الصهر الجميل والمتكامل من كلّ الفنون: اللون، الحركة، الضوء، والإحساس بالموسيقى.
وقد قيل إن بيرنيني كان يتردّد طوال حياته على مبنى الكنيسة حيث التمثال. كان بإمكان أيّ شخص أن يراه هناك وهو راكع في صلاة طويلة أمام ما كان يسمّيه "اقلّ الأشياء التي أنجزها سوءا".
البعض منّا قد يجد صعوبة في الصلاة عند ما يرى تلك المرأة وهي تشتعل من فرط النشوة. لكننا مع ذلك نحدّق فيها كما لا نحدّق في أيّ تمثال آخر.
ولعلّ قوّة السحر تأتي من إدراكنا أن بيرنيني استخدم قوّة الفنّ لإنجاز أصعب الأشياء في العالم، أي تصوير ما لا يمكن تصويره.
- عن كتاب "قوّة الفنّ" لـ سايمون شاما "مترجم بتصرّف"
السبت، نوفمبر 20، 2010
كرسيّ
"أريد أن ازرع فيك ولو جزءا بسيطا من إيماني الكبير بأننا سننجح في أن نبتكر شيئا يمكن له أن يدوم ويستمرّ".
كتب فان غوخ هذه الكلمات إلى صديقه غوغان قبل ثلاثة أسابيع من انتقال الاثنين للعيش معا في المنزل الأصفر في آرل.
في لوحتَي فان غوخ المشهورتين والتي رسم في كلّ منهما كرسيّا، نرى بوضوح رؤيته عن نفسه وعن صديقه غوغان كما تعكسها قطعة من القماش رسم عليها أثاثا ساكنا.
وقد رسم كرسيّه مواجها اليمين، بينما رسم كرسيّ غوغان مواجها اليسار. وبالتالي، عندما توضع هاتان اللوحتان معا فإنهما تُحدثان تأثيرا متناغما.
وبرؤية كلا الكرسيين معا، نستطيع أن نتبيّن بوضوح ما الذي كان يقصده فان غوخ عندما رسمهما.
صحيح أن الاثنين يُعتبران اليوم رسّامَين مشهورين. إلا أنهما اكتشفا فرقا هائلا في طريقة تعامل كلّ منهما مع الرسم.
النقاشات الساخنة التي كانت تجري بينهما ترسم صورة لشخصين يائسين لم يجدا أبدا أرضية للتفاهم والوئام. وكان ذلك يثير فيهما التعب والإحساس بالمرارة. ومع ذلك كانت خلافاتهما ومشاكلهما الصاخبة تتلاشى أحيانا لتظهر الرابطة الروحية الكامنة بينهما.
وفي احد الأوقات، بدا أن النار التي كانت تشتعل بالقرب منهما أصبحت تنذر بما هو أسوأ. لكن بدلا من أن يوجّه فان غوخ عنفه إلى صديقه، بادر في نوبة غضب محموم إلى بتر حلمة أذنه لينتهي به الأمر في المستشفى.
رسم فان غوخ هاتين اللوحتين في تلك الفترة. وكلّ منهما يصحّ اعتبارها بورتريها لكلّ منهما. ويبدو أن التوتّر الذي شاب علاقتهما وهما يحاولان أن يجدا طريقة للعيش بانسجام معا لم يؤثّر كثيرا على فان غوخ.
اللوحة التي رسمها فان غوخ لكرسّيه الأصفر مليئة بالضوء. وهو يصوّر كرسيّه متّبعا طريقته المعتادة في توظيف النسيج الثقيل والخطوط الواضحة. الكرسيّ الخشبي المرسوم في وسط اللوحة ملتفّ إلى الخارج لإبراز جماله البسيط، وتحته أرضيّة من البلاط الأحمر، وخلفه جدار من الألوان البحرية الخضراء. وعلى سترة الكرسي رسم غليونه وكيسا من التبغ. المعروف أن فان غوخ كان يدخّن الغليون لأن تشارلز ديكنز كان ينصح بتدخينه كعلاج للاكتئاب. وفي الخلفية رسم صندوق بصل وضع عليه توقيعه. وسنرى بعد قليل أن هذه الأشياء البسيطة والتافهة تتناقض تماما مع الأشياء الأنيقة والقيّمة التي اختار أن يمثّل بها صديقه.
كرسيّ فان غوخ بسيط ودافئ، وطفولي إلى حدّ ما. واللون الغالب عليه هو الأصفر الذي كان قد أصبح لونه الخاص.
لكن كيف رسم كرسيّ صديقه؟ كرسيّ غوغان يبدو رسميّا تماما. وهو دون شكّ يعتبر إحدى تحف فان جوخ بالنظر إلى الشعور الثقيل والصارم الذي يستثيره. الكرسيّ الخشبي ذو اللون البنّي يبدو جميلا بهيكله المقوّس وخطوطه الغامقة السوداء. البساط تحته مزخرف بأنماط حمراء وممتدّ على كامل المساحة حتى الجدار الأخضر الصارخ الذي يحتلّ أكثر من ثلث مساحة اللوحة.
كرسيّ غوغان هو أيضا مرسوم وسط اللوحة ويواجه الخارج. وعلى بطانته الخضراء وضع فان غوخ كتابين وشمعة محترقة.
من المستحيل أن ننظر إلى هذه الأشياء المرسومة بطريقة بسيطة دون أن نلاحظ رمزيّتها. المعرفة والإضاءة هما جزء لا يتجزّأ من روح وشخصيّة صديقه.
لكن هناك من فسّر اللوحتين بطريقة مختلفة. بعض النقّاد، مثلا، يقولون إن فان غوخ رسم كرسيّ غوغان كي يعبّر من خلاله عن انتقاده لصديقه ونفوره من أسلوب لوحاته وطريقة فهمه للفنّ. وقد وضع الكتب على الكرسيّ كي يشير ضمنا إلى أن غوغان كان يرسم لوحاته اعتمادا على أفكار غيره. وكان احد مآخذه الأخرى على غوغان هو انه كان يستخدم ضوء الشموع في لوحاته بدلا من الضوء الطبيعي. ولكي يكرّس هذا الانطباع، رسم فان غوخ كرسيّ غوغان بدعّامتين بينما اغفل هذه الجزئية في كرسيّه.
لكن وأيّا ما كان المعنى المقصود، فإن ممّا لا شكّ فيه أن فان غوخ كان يلقّب غوغان بالمعلّم وكان يعتبره فنّانا ومثقّفا كبيرا.
وعلى الرغم من أن العلاقة بينهما أصبحت عاصفة، إلا أن المفارقة تكمن في أن تلك الخلافات كانت حافزا للتغيير في حياة الاثنين المهنية. وفي وقت لاحق سينعكس ما حدث إيجابا على حركة وحيوية الفنّ الغربيّ الحديث.
هذا هو تراث فان غوخ الذي ظلّ باقيا إلى اليوم. كانت غايته منذ البداية أن "يخلق شيئا من شأنه أن يدوم وأن يستمرّ".
وقد تحقّق له ذلك، لكن ليس بالطريقة التي كان يتصوّرها. "مترجم".
الثلاثاء، نوفمبر 16، 2010
رحلة على طريق الحرير
هناك من العبارات ما يستدعي للذهن عوالم كاملة من صور ورحلات وذكريات، سواءً كانت حقيقية أو متخيّلة. وطريق الحرير هو إحدى هذه العبارات. مجرّد ذكر اسمه يستحضر مناظر لقوافل تمرّ عبر صحارٍ وواحات خالدة، وجِمالٍ محمّلة بنفائس الحرير، ورجالٍ وسيمي الوجوه، تشعّ أعينهم بالبريق يرتدون العمائم ويحملون الياقوت واللآليء والتمور والزعفران والفستق من بلاد فارس، والزجاج من مصر، والصِبر وخشب الصندل وشتّى أنواع العطور من الجزيرة العربية.
طريق الحرير، أيضا، ما أن يُذكر اسمه حتى تتوارد إلى الذهن إيحاءات وأفكار عن التسامح وامتزاج الحضارات. أصبحت هاتان المفردتان نوعا من مصطلحات العصر الجديد وباتت دلالتهما تخترق كلّ شيء، من الموسيقى العالمية إلى كتب الطبخ النباتي.
صورتنا الذهنية عن طريق الحرير قد تكون تشكّلت، إلى حدّ كبير، من خلال مكتشفين جغرافيين من أمثال اوريل ستين وسفن هيدين اللذين أعادا اكتشاف كنوز المنطقة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. تلك القصص المثيرة ألهمت في ما بعد سلسلة المغامرات التي يقوم ببطولتها علماء آثار أسطوريون من قبيل ما عرضه فيلم انديانا جونز لـ ستيفن سبيلبيرغ.
الرومانسية المرتبطة بطريق الحرير يمكن عزوها إلى ماركوبولو. فالمكتشف الايطالي كان عمره سبعة عشر عاما فقط عندما بدأ رحلاته إلى الصين عبر طريق الحرير القديم. وما رآه كان عصيّا على الوصف أو التخيّل. وقد عاد إلى بلاده بمجموعة من الكنوز كان أكثرها إدهاشا قصصه التي سجّلها في كتبه.
يصف ماركوبولو الطريق من بغداد إلى الصين موصلا إحساسا بالدهشة والإثارة. فالعالم الجديد الذي رآه كان كلّ شيء فيه يبدو غريبا ومختلفا.
كان لـ ماركوبولو روح شاعر. تأمّل هذه الكلمات التي كتبها واصفا الترحال في الصحراء. "عندما يكون الإنسان مسافرا في هذه الصحراء ليلا ويباغته النوم لسبب ما وينفصل عن رفاقه، فإنه يسمع أصواتا لأرواح تتحدّث بألسنة رفاقه وأحيانا تناديه باسمه. وكثيرا ما تستدرجه هذه الأصوات بعيدا عن الطريق الذي قد لا يهتدي إليه أبدا بعد ذلك. والكثير من المسافرين ضاعوا وماتوا لهذا السبب. وفي الليل قد يسمع المسافر ضوضاء من بعيد وربّما يخيّل إليه أنها أصوات رفاقه الذين أضاعهم. وعندما يتوجّه إلى مصدر الأصوات لا يتبيّن له فداحة خطئه إلا عندما يبزغ نور الصباح. وبعض الذين كانوا يعبرون الصحراء ليلا، رأوا جماعة من الرجال يأتون باتجاههم. وبدافع الخوف من أن يكونوا لصوصا، هربوا ليجدوا أنفسهم وقد ابتعدوا عن الطريق وتاهوا. وحتى في ضوء النهار قد تسمع أصوات الأرواح ويُخيّل إليك كما لو انك تستمع إلى أصوات آلات موسيقية أو إلى قعقعة سلاح".
في كتابه "ظلال طريق الحرير" يسجّل كولين ثوبرون وقائع رحلته على طول أعظم طريق برّي على الأرض. من قلب الصين إلى جبال آسيا الوسطى، وعبر شمال أفغانستان وسهول إيران إلى تركيا الكردية، يغطّي ثوبرون حوالي سبعة آلاف ميل في ثمانية أشهر. وهو يستخدم في ترحاله أنواعا شتّى من وسائل المواصلات من الحافلات والشاحنات إلى السيّارات والعربات التي تجرّها الجمال والبغال. ويسافر من قبر الإمبراطور الأصفر، الأب الأسطوري للشعب الصيني، إلى ميناء أنطاكيا القديم في رحلة ربّما تكون أصعب أسفاره التي دامت أربعين عاما.
طريق الحرير هو شبكة ضخمة من الشرايين التي تتقاطع وتتلاقى عبر اتساع القارة الأسيوية. ولكي تسافر عبر هذا الطريق، يلزمك أن تتذكّر أنه لم يكن طريقا للتجارة والجيوش فقط، وإنما للأفكار والاختراعات والأديان أيضا. لكن إلى جانب استعراض هذا الماضي الثريّ والمدهش، فإن الكتاب يحكي أيضا عن آسيا اليوم وما تشهده هذه القارّة الكبيرة من مشاكل واضطرابات.
إحدى أهم السمات التي تميّز كتب كولين ثوبرون عن الأسفار هي جمال نثره. والسمة الأخرى هي موهبته في الحديث إلى الناس وحملهم على التحدّث إليه. وكتابه هذا يتحدّث عن البلدان الإسلامية من نواح كثيرة. كما يتناول التغييرات في الصين وما شهدته من تحوّلات منذ الثورة الثقافية. أيضا يتطرّق الكاتب إلى القوميات المزيّفة والمهمّشين والساخطين في العالم، حيث الحدود الحقيقية ليست حدود الجغرافيا والسياسة، وإنما تلك التي ترسمها القبيلة والعرق واللغة والدين.
طبقا للفيلسوف الانجليزي من القرن السابع عشر فرانسيس بيكون، هناك ثلاثة أشياء يمكن القول إنها هي التي خلقت عصر النهضة الأوربّية: الطباعة، والبارود والبوصلة المغناطيسية. وكلّ هذه الاختراعات الثلاثة ظهرت أوّل ما ظهرت في الصين. ثم أخذت طريقها إلى أوربّا عبر طريق الحرير، جنبا إلى جنب مع عجلات الغزْل ونبات الراوند والرِكاب المعدني، وبطبيعة الحال، الحرير.
وسارت في نفس الاتجاه أيضا العربات والأواني الزجاجية والذهب والتوابل والأقمشة الصوفية والعبيد وطيور الطاووس والكحل والعنبر، وكذلك البوذية والإسلام والمسيحية النستورية.
وقد انتظم النستوريون الصينيون على طول طريق الحرير متّجهين إلى أوربّا على أمل أن يحوّلوا البابا وملك انجلترا إلى ديانتهم.
والشيء المدهش في أمر كلّ هذه الحركة التي استغرقت ألفي عام هو انه لم يكن هناك شيء اسمه طريق الحرير. فهو مصطلح ابتكره جغرافيّ ألماني في القرن التاسع عشر ليصف به شبكة واسعة من الطرق ومسارات الإبل ودروب تتفرّع في كلّ اتجاه بين تشانغان في الصين والبحر المتوسط.
ومنذ أيّام الدولة الرومانية في الغرب وسلالة هان الصينية في الشرق وحتى ما قبل خمسمائة عام فقط، أي عندما أغلقت سلالة مينغ الصينية حدودها، فإن نصف سكّان الأرض كانوا يتبادلون السلع والأفكار والأديان وحتى البشر على طول هذه الشبكة الكبيرة والمعقّدة من الطرق.
كان طريق الحرير والحضارة شيئا واحدا من الناحية العملية. وبعد أن أسّس المغول امبراطوريّتهم على طول الطريق في القرن الثالث عشر، قيل إنه لمائة عام كان بوسع أيّ امرأة تحمل الذهب والجواهر أن تمشي لوحدها من الصين إلى تركيا دون أن تتعرّض لأيّ أذى. ومعظم طريق الحرير يقع اليوم ضمن دار الإسلام. لكن المؤسف، بحسب المؤلف، انه لا يمكن لأيّ امرأة اليوم أن تذهب بعيدا على هذا الطريق دون أن تتعرّض للمشاكل، سواءً كانت تحمل أو لا تحمل ذهبا".
القصص التي يحكيها كولين ثوبرون في كتابه تحمل شهادة كئيبة عن العنف والبؤس والفقر الذي كان يلفّ الجميع تقريبا، عدا حكام الإمبراطورية، على طول الطريق بل وعلى مرّ التاريخ كلّه. ويصف الكاتب المذابح وعمليات الاضطهاد وحروب الإبادة والإخفاء عن وجه الأرض التي لم تتوقّف أبدا.
أوزبكستان الحديثة، مثلا، قامت للتوّ بإعادة تيمورلنك إلى الحياة باعتباره بطلا قوميا، على الرغم من انه لم يكن اوزبكيا أصلا.
ويتجوّل المؤلف عبر الطبيعة المدمّرة ومناطق الحروب وبين المدن "التي هي أفضل قليلا من زرائب الخنازير". ويتذكّر الممالك الضائعة وقصورها الفخمة المتألقة والمحتشدة بالعلماء والفنّانين والموسيقيين. في واحة كوتان في تركستان الصينية، يخبرنا ثوبرون عن الأديرة القديمة وعن أسراب الطيور والطبيعة الخلابة. لكن اليوم لم يبق شيء من هذه الجنّة البوذية، وحلّ مكانها حزن مخيّم يعكسه سكون الرمال.
حتى اللغة المشتركة لطريق الحرير "السوغديانية" لم تعد موجودة إلا في بضع قرى من تاجيكستان. مع انه قبل بضع مئات من السنين فقط، كانت هذه اللغة تتردّد في مساحات واسعة من آسيا بحجم الإمبراطورية الرومانية.
يسافر كولين ثوبرون عبر سلاسل جبال شاهقة وصحارى ممتدّة وذات جمال وحشي. ويصبح نثره أثيريا تقريبا وهو يحاول إيصال الإحساس بهذا الجمال وسط كلّ تلك الخرائب التي تبدو بلا نهاية. وأثناء ذلك لا يكفّ عن البحث عن المعابد والأديرة والقبور وبقايا القصور من الأزمنة القديمة والتي يعرف الكثير من قصصها وحكاياتها الحميمة. غير أن البلسم الحقيقي وسط تلك الوحشة واليأس هي أحاديثه وحواراته مع الناس العاديين الذين يلتقيهم أو ينجذب إليهم.
وبفضل إجادته للانجليزية والروسية والصينية، ينسج الكاتب حيوات مجموعة مذهلة من أصدقائه القدامى وبعض من تعرّف عليهم مصادفة في رحلته هذه. من بين هؤلاء ناجون من الثورة الثقافية في الصين، وفلاحون من قرغيزستان، ومجموعة من الشباب الإيرانيين المتمرّدين، وقرويون شقر وذوو عيون عسلية من قرية في أقصى غرب الصين يعتقدون أنهم من نسل الجنود الرومان الذين بيعوا في سوق العبيد قبل ألفي عام. على طول طريق الحرير، يبدو من المستحيل الفصل بين ما يؤمن به الناس وما يعتقده المؤرّخون.
أسلوب المؤلف تأمّلي غالبا وقديم الطراز أحيانا. ولا يخلو سرده من رومانسية وشاعرية، خاصّة عندما يتحدّث عن أباطرة طريق الحرير القدماء.
ولا بدّ وأن ثوبرون كان يعرف أن كتب الرحلات لا تبيع كثيرا هذه الأيّام. وفي محاولة لإنعاش هذا النوع من الكتابة، ضمّن المؤلف كتابه حوارات تخيّلية بينه وبين بعض التجّار الذين سلكوا الطريق في الماضي.
لكن، خلف الأسلوب الجميل يكمن إحساس بالفقد والحنين. في مدينة القوافل "سمرقند"، يكتشف أن الحرير والذهب التتاري استُبدل بالأقراص الرقمية التي تحوي أفلاما إباحية مستوردة من الغرب. ويعلّق قائلا: بعد أن لوّثتهم قيم الرأسمالية، ترى ما الذي سيحلّ بأهل سمرقند"؟!
وبنفس الإحساس، يكتب عن مدينة الريّ التاريخية. "في العصور الخوالي، كانت الريّ مدينة القوافل الفارسية بقصورها الفارهة وتجارتها المزدهرة. كانت تقارن ببغداد في ذروة ازدهار طريق الحرير. هذه الأيّام، الريّ ليست أكثر من ضاحية صغيرة في جنوب طهران؛ المدينة الملوّثة التي يعيش فيها 14 مليون نسمة والتي تضاعف عدد سكّانها خلال العشرين عاما الماضية. الغريب انه في أوج شهرة الريّ، لم تكن طهران نفسها موجودة."
في بعض ثنايا الكتاب يقيم المؤلّف حوارا متخيّلا مع شريك له يظهر في أوقات معيّنة من الرحلة. والشريك تاجر ينتمي إلى قوم كانوا يعيشون في إحدى إمبراطوريات آسيا الوسطى التي استفادت كثيرا من موقعها الذي كان يتوسّط طريق الحرير القديم.
يسأل التاجر المؤلّف في احد حواراتهما: ما سبب هذا الافتتان بالأديان الغريبة؟ هل يعود السبب إلى انك فقدت دينك؟
"في البداية لم أجد إجابة. السبب قد يكون مرور الزمن. عندما تكون شابّا، قد لا تهتم. من الصعب أن تهتمّ بهذه الأمور. لكن الآن هناك الكثير ممّن ماتوا. الذين تحبّهم يأخذون عند موتهم جزءا منك. لذا يظلّ للأرض النقيّة جمالها الخاصّ كما لو أنها مكان عشنا فيه ذات مرّة، لكنه ضاع. ومع ذلك نتذكّره بشيء من الحنين".
أثناء زيارته لكلّ من قيرغيزستان واوزبكستان يجد المزيد من المفارقات الحيّة، مثل الجدّة الاوزبكية التي تمجّد ستالين على الرغم من انه قتل والدها وزوجها.
الأمور البشعة لا تقتصر على الماضي القريب. فالمؤلّف يحكي قصصا عن الجزّارين الكبار في ماضي آسيا الوسطى؛ عن تيمورلنك وأهرامات الجماجم وتدمير المغول لـ بلخ وطوس ونيسابور والريّ. "لم يكن الضحايا يُدفنون في الخرائب بل كان يُقضى على كلّ اثر لهم. كان المغول يجمعون سكّان المدن خارج البوّابات، الرجال والنساء والأطفال، ثم يقومون بذبحهم جميعا. ولم يكونوا يوفّرون حتّى الكلاب والقطط . كانوا يعمدون إلى حرث الجثث وجرفها داخل الأرض لإخفاء كلّ اثر لها".
في احد أجزاء الكتاب يخبرنا المؤلّف أن نقطة بدء طريق الحرير هو جيان الصينية التي يقوم فيها سوبر ماركت يعلوه إعلانان عن البطاقات الائتمانية. "في كشغر أقيم حديثا فندق يؤمّه بعض التجّار الباكستانيين الذين يأتون عن طريق كاراكورم ليشتروا أجهزة التلفزيون والشاي. وهم يروحون ويجيئون في أيّام العطلات حيث يتحرّرون من أفكارهم الطُهرانية مؤقّتا كي يشربوا الخمر ويتعقّبوا النساء.
ترى هل يختلف الأمر عمّا كان عليه الحال هنا منذ آلاف السنين"؟
على أن بعض أجمل الحوارات في الكتاب هي تلك التي يجريها المؤلّف في إيران. الإيرانيون الذين قابلهم يتساءلون عن مكانهم في العالم، مؤكّدين على خصوصيّتهم الثقافية. لكنّهم يعبّرون عن إحباطهم وسخطهم من الإنهاك الذي أصابهم بسبب الايديولوجيا الحكومية. حميد، ذو التسعة عشر عاما، يتساءل عن طهر بلده الذي يخرّبه الغرب. نصف عدد النساء في جامعته ينمن مع الرجال، كما قال. ومثل معلّمه في تبريز، فإن حميد تؤرّقه مسألة عفّة المجتمع. هذا الوسواس جرّد كلّ شيء من حوله من لونه الخاصّ. وقد بدأ حميد يأسرني. هو يكره الغرب لكنه معجب به. "بريتني سبيرز هي مطربتي المفضّلة، إذهب إلى موقعها الاليكتروني واحصل على كلّ شيء. ثم جينيفر لوبيز، هل تعلم أنها أمّنت على مؤخّرتها بمبلغ مليوني دولار"؟
ويتمتم حميد بكلمات أغنية تقول: كيف يمكنني أن أبقى ليلة بدونك. أيّ نوع من الحياة تلك. احتاجك بين ذراعيّ"!
يمكن القول إن كولين ثوبرون كاتب جريء إلى درجة التهوّر، وهو لا يتردّد في اقتحام أكثر الأماكن حرمة وخطورة. من هذه الأمكنة مسجد إيراني مزدحم ومغلق أمام الكفّار، وأرض وعرة يسيطر عليها جماعة من قطّاع الطرق في أفغانستان.
طريقة الكاتب في سرد تفاصيل أسفاره ممتعة وفاتنة. لكن لغته أحيانا تكتسي بنوع من الحزن. ترى هل كان تعبه من العالم هو الذي دفعه للقيام بهذه الرحلة غير العادية؟
وأحيانا تحسّ أن الكتاب هو عن الناس الذين قابلهم الكاتب أكثر من الأمكنة التي زارها. وسواءً كان من التقاه رجل أعمال متفائلا من جيان، أو قوميا اويغورياً غاضبا من كشغر، أو مزارعا فقيرا من إحدى قرى غانسو، فإن حكاياتهم جميلة ودافئة وتدخل القلب.
الكتاب نفسه تشعر وأنت تقرؤه انك تطالع رواية مليئة بالأوصاف المدهشة والشخصيات الملوّنة. "في الخارج، كانت نتف الثلج ما تزال تتساقط. وفي السماء البيضاء، تركت الجبال وراءها آثارا من حجارتها مثل رقائق بيضاء معلّقة في الفراغ". "مترجم بتصرّف".
الأحد، نوفمبر 14، 2010
محطّات
هل ما تراه لوحات تجريدية؟
صحيح أن بعض نماذج الرسم التجريدي يمكن أيضا أن تكون مصدرا للمتعة البصرية. لكنّك هنا لا تجد كتلا لونية كبيرة مثل تلك التي تظهر في الرسوم التجريدية عادة.
كما أن الرسّام لا يكتفي باستخدام الخطوط والأشكال والألوان والأنماط كي يعبّر عن مشاعره الخاصّة ولكي يستثير انفعالات المتلقي. بل يملأ لوحاته بصور الأسماك الصغيرة الشفّافة والملوّنة والنباتات البحرية والفواكه والأزهار التي يسهل تمييزها.
ألوان يونغ يو المائية باذخة ومناظره البدائية تجذب العين بجمالها وأناقتها. كما أنها تثير في النفس إحساسا شاعريا غريبا من خلال هذا الامتزاج والذوبان المتولّد عن حركة فرشاته الدائرية.
هنا نماذج من أعماله.
❉ ❉ ❉
مصطلح التجريد مرتبط بكلّ عمل تشكيليّ يمثّل أشياء لا يمكن التعرّف عليها. ما نستطيع التعرّف عليه عموما يُعرف بالرسم التمثيليّ أو التجسيديّ، أي تلك اللوحات التي تصوّر أشياء محدّدة يمكن التعرّف عليها وتمييزها.
هذا النوع من الرسم من السهل فهمه لأن له تأثيرا علينا، كما أننا نتعرّف من خلاله على قدرة الفنّان ومن ثمّ تقدير الألوان والجماليات والنسَب التي وظّفها في لوحته.
لكن ماذا يحدث عندما نقف بمواجهة لوحة ليس فيها نِسَب ولا يمكن التعرّف عليها؟ هنا لا بدّ وأن تتعقّد الأمور أكثر. لكن، صدّق أو لا تصدّق، يمكنك أن تتعلّم لتستمتع بهذا النوع من الفنّ. والأمر يتعلّق بأن تعرف أين وكيف تنظر. فالفنّ التجريديّ تطوّر تدريجيا من الفنّ التمثيليّ على مدى عقود طويلة.
عندما تنظر إلى لوحة كلاسيكية ينتابك فورا إحساس سلبيّ أو ايجابيّ حيال الصورة. وما يجب أن تبحث عنه هو الإحساس والألوان والأشكال والخطوط والأنماط، وليس ما إذا كنت تعرف الأشياء أو الموضوع في اللوحة.
وإذا درست لوحة قد لا تبدو واقعية إطلاقا، فإن اللوحة يمكن أن تصبح واقعية إذا نظرت إليها عن قرب وبذا تتكوّن لديك فكرة عن نوعية الإحساس أو الانفعال الذي كان الفنّان ينوي قوله من خلال الرسم.
وهناك في الحقيقة نوعان من الرسم التجريديّ. الأوّل هو الرسم التجريديّ الذي يحاكي أشياء مستمدّة من الطبيعة. والآخر عبارة عن تجريد خالص لا تجد فيه أيّ أشكال حقيقية يمكن التعرّف عليها.
وعندما تنظر إلى لوحة من النوع الأخير خاصّة، لا يمكنك إلا أن تتساءل: ما الذي يُفترض أنها تعني؟ ولكي تقدّر هذا الشكل من الفنّ، يجب أن تأخذ اللوحة وتنظر إليها من وجهة مختلفة، أي من زاوية بيئة الفنّان وثقافته وحالته الذهنية.
في النهاية، يجب علينا أن ندرك أن الفنّ صالح لكلّ زمان ومكان. والجانب الجماليّ والمبهج منه هو أنه شخصيّ وخاصّ ويمكن تفسيره من قبل كلّ شخص تبعاً لحالته النفسية ووجهة نظره الخاصّة.
إن سرّ التقدير الحقيقي للفنّ التجريديّ هو أن تدرس الفنّان مسبقا، وهذا سيعطيك فكرة أعمق عن اللوحة ككلّ. وإذا درست الفنّان، ستدهش لكمّية الأشياء التي يمكن أن تفصح عنها اللوحة. وهذا بدوره سيساعدك على أن تمسك بجوهر العمل الفنّي وتقدّره حقّ قدره.
ليس من الحكمة في شيء أن نوقف اهتمامنا عند حدود الفنّ التمثيليّ التقليديّ. وعلينا أن نفهم أن الفنّ لا يجب أن تحدّه حدود لأنه يمثّل حرّية الفنّان، سواءً كان محترفا أم هاويا، في أن يعبّر عن مواقفه وانفعالاته بالأسلوب الذي يراه انسب من غيره.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
الرجل العجوز والسيّدة الظاهران في اللوحة هما من أصدقاء الرسّام وينسلو هومر. وكان هومر يهتمّ في رسوماته بإظهار تأثيرات الطقس في البيئات الاستوائية، وخاصّة الظلال التي تتركها الغيوم فوق مياه الشاطئ.
وكانت فلوريدا من الأماكن المحبّبة إليه والتي كان يقصدها دائما لرسم طبيعتها. لكن لوحاته تتضمّن أيضا صورا لصّيادي السمك وأشجار النخيل والجبال والبحيرات والأنهار والمستنقعات والتماسيح والطيور الغريبة.
وعندما نشبت الحرب الأهلية الأمريكية، اُرسِل الفنّان إلى جبهة القتال، حيث رسم مشاهد لمعارك كما صوّر طبيعة الحياة في المعسكرات.
وفي ما بعد ذهب هومر إلى فرنسا حيث بدأ برسم الطبيعة مستخدما الألوان المائية. وقد أدركته الشهرة اعتبارا من سبعينات القرن التاسع عشر عندما بدأ يعرض لوحاته في المتاحف والغاليريهات. وكان الطلب على أعماله كبيرا أثناء حياته واستمرّ كذلك إلى اليوم.
ونسلو هومر، الذي توفّي في محترفه الخاصّ عن عمر جاوز السبعين، يُعتبر اليوم احد أشهر وأهمّ الرسّامين الأمريكيين.
winslow-homer.com
الجمعة، نوفمبر 12، 2010
الصين الجميلة
هناك الكثير من الأشياء التي تتبادر إلى الذهن عندما يرد ذكر اسم بيجين عاصمة الصين: المدينة المحرّمة، تجديد المراكز الحضرية، كثافة حركة المرور وارتفاع نسبة التلوّث. وعلى الأرجح لن يكون الفنّ الحديث احد تلك الأشياء.
لكن على الرغم من ذلك، فإن بيجين تشهد الآن حركة فنون نشطة ومزدهرة. كما أنها أصبحت مركزا كبيرا للفنّ الطليعي، بالإضافة لاحتضانها العديد من الورش والغاليريهات الفنّية.
مشهد الفنّ الصيني المعاصر تطوّر بسرعة خلال العشر سنوات الماضية. وكان لحرّية السوق وتوظيف التكنولوجيا الحديثة وازدياد هامش حرّية التعبير دور مهم في ازدهار الفنّ في البلاد.
وفي السنوات الأخيرة أصبح الفنّ الصيني المعاصر يحظى بشعبية واسعة في الغرب. في الصين نفسها اشتهر اسم ضاحية داشانزي شرق العاصمة بكونها منطقة جذب للفنّانين والتجّار وأصبحت مكانا مزدحما يعجّ، ليس بالفنّ فقط، وإنما بالمقاهي العصرية ومتاجر التحف القديمة والملاهي الليلية الغريبة.
وبطبيعة الحال، فالذين يكسبون الأرباح يرحّبون بنجاح المنطقة التجاري. والدلائل على ذلك في كلّ مكان. ففي بداية مزاد خُصّص للفنّ الصيني المعاصر في دار مزاد كريستيز في هونغ كونغ، حقّقت لوحة للفنان زاو ووجي أربعة ملايين دولار أمريكي.
كما أحرز فنّان صيني آخر يُدعى شانغ شياوغانغ نجاحا اكبر عندما بيعت لوحته بعنوان "ساحة تيانان مين" بحوالي مليونين ونصف المليون دولار في نفس المزاد نهاية العام الماضي.
وقد أصبح فنّ هذا الرسّام شعبيا جدّا لدرجة انه يمكنك أن تشتري من سوق التحف المحليّة نسخة من سلسلة لوحاته بعنوان "العائلة"، وهي بورتريهات مزعجة من زمن الثورة الثقافية لعائلات صينية يظهر أفرادها بلا وجوه. تشياو غانغ يمزج تجاربه الشخصية ومعتقداته الصينية ببعض التأثيرات الغربية ويتلاعب بمفهوم الهويّة إذ يرسم أشخاصا بلا انفعالات وبالأسود والأبيض غالبا.
غير أن وانغ يووي، مديرة إحدى المجموعات الفنّية الصينية، تعتقد أن هناك مجموعة من الفنّانين الصينيين الذين يتبنّون العديد من الأعمال والأفكار الجيّدة. "الرسّامون الصينيون المعاصرون يعنون كثيرا بالمفاهيم وهم منفتحون جدّا على استخدام أنواع مختلفة من الوسائط".
ومؤخّرا أطلق غاليري ساتشي البريطاني موقعا باللغة الصينية لتشجيع الفنانين الصينيين على التفاعل بين بعضهم البعض وعرض ومناقشة أعمالهم بلغتهم الأصلية.
ويقال أن هناك أكثر من عشرين ألف فنّان في الصين حاليا. كما تشير تقديرات ساتشي إلى أن حوالي ألف طالب يتخرّجون كلّ عام من كلّيات ومعاهد الفنّ.
التطوّرات الثقافية والفنّية التي تشهدها الصين حاليا تعود بداياتها إلى ما قبل حوالي ثلاث سنوات عندما تمّ افتتاح مئات الغاليريهات العامّة والخاصّة في كلّ أرجاء البلاد. ويُنتظر أن يؤدّي هذا إلى انتعاش ونموّ الفنّ الصيني وفق معدّلات غير مسبوقة خلال السنوات القليلة القادمة. "مترجم".
الجمعة، نوفمبر 05، 2010
نافذة على عالم بول كْلِي
تمتلئ لوحات بول كْلي بالرموز الخفيّة التي قد تبدو للوهلة الأولى معقّدة أو خالية من أيّ معنى. لكن عندما نقترب من تلك الرموز محاولين تفسيرها في سياق الأسلوب الذي كان الفنّان يستخدمه في لوحاته، فإن فهم فنّه يصبح مهمّة سهلة وبسيطة.
جينيفر شيبون تتحدّث في المقال المترجم التالي عن الزمن والأسماك والمربّعات السحرية في فنّ الرسّام السويسري المشهور.
لكي نفهم لوحات بول كْلِي والمعاني والرموز الكامنة في صوره، علينا أوّلا أن نعرف شيئا عن حياته وشخصيّته. كان كْلِي رسّاما تعبيريا سويسريا عاش من عام 1879 إلى عام 1941م. وقد نشأ في كنف عائلة تهتمّ بالموسيقى وكان يعزف الكمان في شبابه.
في الجامعة لقي كْلِي صعوبة في الاختيار بين أن يتخصّص في الموسيقى أو الفنّ. لكنّه في النهاية قرّر أن يختار الفنّ. ولهذا السبب كان يميل إلى وصف لوحاته بتعابير ومفردات موسيقية. كما كان، بوعي، يرسم لوحاته بطريقة تثير شعورا بالأنغام والإيقاعات الموسيقية.
وقد مات بول كْلِي في عام 1940، أي عند بداية الحرب العالمية الثانية متأثّرا بمضاعفات إصابته بمرض تيبّس الجلد الذي عانى منه طويلا وشوّه ملامحه وشلّ أطرافه.
وفنّه يحتوي على مزيج من التأثيرات السوريالية والتكعيبية والبدائية.
"سحر السمك" اسم لوحة رسمها بول كْلِي عام 1925 مستخدما ألوانا زيتية ومائية. وقد رسم في اللوحة ما يبدو وكأنه ساعة وكواكب ومهرّج وشخص يشير بيده. وفي منتصف اللوحة يظهر مربّع كبير من مادّة إضافية تمّ إلصاقها برقعة الرسم باستخدام الغراء.
وليس من الواضح ما إذا كان كْلِي وضع المربّع هناك كي يخفي خطئاً ما أو انه وضعه على الرقعة متعمّدا من اجل إنتاج تأثير فنّي من نوع ما.
وفي كلا الحالتين، فإن وجود انعكاس معتم من الستائر إلى أعلى يسار المربّع يكشف عن نيّة الرسّام في أن تكون هذه صورة ضمن صورة.
رسم بول كْلِي لوحات كثيرة تُظهِر أسماكا. غير أن هذه اللوحة تختلف عن لوحات الفنّان الأخرى عن الأسماك في أنها الوحيدة التي تتضمّن صورا لأشياء لا توجد عادة في البحر. مثلا، في منتصف اللوحة هناك شكل لساعة، وغير بعيد عنها دائرة أخرى تضمّ بداخلها ما يشبه الكوكب. هاتان الدائرتان ترمزان على الأرجح للقمر والشمس اللذين يتكرّران كثيرا في لوحات الرسّام. وبعض النقّاد يقولون إن كْلِي إنما كان يقارن بين زمن الأرض المحدود وزمن السماء اللانهائي، وهو احد مواضيعه المفضّلة.
وعند تفحّص هذه اللوحة عن قرب، سنكتشف أن وجه الساعة لا يتضمّن الأرقام المألوفة الموجودة على كلّ ساعة، بل يحتوي على أربعة أرقام فقط هي واحد واثنان وخمسة وتسعة. وعند إعادة ترتيب هذه الأرقام وفق نسق معين فإنها تشير إلى 1952، أي السنة التي رسم فيها الفنّان اللوحة.
موضوع الزمن يتكرّر كثيرا في أعمال بول كْلِي. وهو كان يرى أن جميع البشر وإبداعاتهم منصاعة لقوانين الزمن. وفي لوحاته، فإن الزمن أعظم من مجرّد اتّحاد روحين أو دينين أو أيّ فكرتين أو بنائين من صنع الإنسان. الزمن اكبر حتّى من نفسه لأنه يخضع لقوانينه الخاصّة.
الساعات والأسماك موتيفات مفضّلة عند بول كْلِي. أحيانا، تمثّل السمكة التي يرسمها نفسها، أي أنها سمكة فحسب. إلا أنها غالبا تعني ما هو أكثر. في الثقافات الشرقية القديمة يرمز السمك للثروة والوفرة والسعادة والخصب والرخاء. واللون الأرجواني يرمز تقليديا إلى الغموض والسحر وسعة الخيال. دراسات كْلِي في التاريخ الطبيعي أثارت في نفسه حبّا عظيما للأسماك بوصفها مجموعة من المخلوقات التي تتميّز بكثرتها وتنوّعها. وكان مفتونا كذلك بحياة الأسماك الغامضة والخفيّة والعابرة التي تعيشها تحت سطح المحيط دون أن يلاحظها احد.
كان يعتبر الأسماك حلقة وصل بين أقدم وأبسط أنواع الكائنات الحيّة وبين الأنواع الأحدث والأكثر تعقيدا وتنوّعا.
وبالتالي فإن الأسماك التي تظهر في لوحاته تتألّف غالبا من نفس الأنماط المتكرّرة. والأزهار تتألّف، هي أيضا، من نفس البتلات والأوراق والأغصان. وكلّها أدلّة على الوحدة العضوية وغير المتطوّرة التي يمثّلها السمك، من وجهة نظر كْلِي.
بول كْلِي معروف أيضا بصوره التوأمية وذات الوجهين. وهذه اللوحة يغلب عليها مزاج الحماس والمرح. السمك يعوم ببراءة وهو يبدو راضيا باستمراريّة نوعه بالرغم من زواله وفنائه السريع.
في عام 1932م رسم بول كْلِي لوحته بارناسوم التي تعتبر مثالا محكما على تقنية مربّعه السحري. وقد تأثّر في هذه اللوحة ومثيلاتها بدراسته للتشريح المقارن والانثروبولوجيا والتاريخ الطبيعي.
وأراد كْلِي أن يعكس في تلك اللوحات نظريّته الشخصية عن الطبيعة واستخدم في رسمها ما اسماه بالمربّعات السحرية. كما وظّف فيها الألوان الأساسية الثلاثة التي تأخذ دائما مركز الصدارة عنده، أي الأحمر والأصفر والأزرق.
فكرة المربّعات السحرية استوحاها الرسّام من زيارته إلى تونس عام 1914م والتي رأى خلالها الموازييك الملوّن الذي أقنعه بنظريته عن نقاء اللون. كما رسم في تلك الفترة لوحته بعنوان قباب حمراء وبيضاء.
المربّعات السحرية في لوحة بارناسوم تشكّل صورة قد ترمز إلى واحد أو أكثر من عدّة مفاهيم. اسم اللوحة ربّما يحيل إلى جبل بارناسوس حيث كان يعيش أبوللو والملهمات، أو إلى الأهرام التي رآها كْلِي أثناء زيارته لمصر عام 1928م.
الجمعة، أكتوبر 29، 2010
دردشة مع فرناندو بوتيرو
الرسّام الكولومبي فرناندو بوتيرو شخص مثير للجدل. النقّاد لا يستسيغونه كثيرا. بينما يتنافس جامعو الأعمال الفنية على شراء واقتناء لوحاته. شهرته في بلده كولومبيا لا تختلف عن شهرة مواطنه الروائي غارسيا ماركيز. ورغم ارتباطه الكبير بوطنه، إلا انه لا يقضي فيه أكثر من شهر واحد في السنة لأسباب أمنية. وفي كلّ الأحوال، لا ينام بوتيرو في بيته إلا بصحبة شخصين أو ثلاثة، كما يستخدم في تنقّلاته اليومية سيّارة مضادّة للرصاص.
بوتيرو حلّ مؤخّرا في لندن، وكانت تلك مناسبة للحديث معه وسماع بعض الحكايات منه عن الاختطاف والفساد وسرّ حبّه للنساء البدينات.
بوتيرو رجل غاضب غالبا. وقد أتى إلى لندن لحضور أوّل معرض يقام للوحاته في المملكة المتّحدة منذ 26 عاما. "لا أحد دعاني إلى هنا. وإحساسي أن هذا الأمر قد يكون مجرّد مصادفة". غير أن بوتيرو يعتقد انه محظور. "لقد ظلّ النقّاد يكتبون عنّي طوال حياتي بغضب وحنق".
لوحات بوتيرو، التي يصوّر فيها جنرالات كولومبيا وصالات الرقص ومحلات الدعارة والرهبان والأساقفة وأفراد الطغمة العسكرية الحاكمة، معروفة في جميع أنحاء العالم.
بعض نقّاد الفنّ المعاصر يصفون لوحاته بأنها مبتذلة ومثيرة للشفقة وأحيانا ساذجة.
غير أن السفر مع الرسّام في موطنه كولومبيا يعطي فكرة مختلفة عن الطريقة التي ينظر إليه بها الناس هناك.
الكثيرون هناك يعتبرونه بطلا قوميا ورمزا ثقافيا أكثر منه فنّانا أو مبدعا. في بلدته ميديين، يحاط بحشود من الناس الذين يريدون رؤيته أو الطلب منه أن يترك لهم توقيعه على أيّ شيء يحملونه.
بوتيرو يُعتبر ولا شكّ واحدا من انجح الرسّامين بالمعنى التجاري والشعبي. ولوحاته تتعامل مع عدد كبير من القضايا التي كانت وما تزال تقع في قلب العملية الإبداعية والفنية في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين.
وصوره على اتساع نطاقها وتنوّع موضوعاتها تمنح جمهوره نظرة بانورامية عن كلّ ما هو نبيل وسيّئ في المجتمع الحديث على طرفي الأطلنطي وفوق وتحت خط الاستواء.
كلمة بوتيرو أصبح لها معنى عام. في الإدراك الجمعي، يمكن أن يشير الاسم إلى رجل أو امرأة أو شيء متحرّك أو ساكن، ضخم ومستدير. وبالنسبة للكثيرين فإن بوتيرو يمثّل احتفاءً بالإثارة الحسّية أو العربدة والشهوانية. لكن من خلال المعارض الفنّية وعبر شوارع وميادين المدن الأكثر شهرة في العالم حيث تتواجد لوحاته وتماثيله، أصبحت أعماله معروفة ومميّزة جدّا مع أن معانيها ظلّت غامضة.
في الأسبوع الماضي ذهبت لتناول الشاي مع فرناندو الجميل وذكّرته بتلك المقولات المُرّة عن فنّه. واكتشفت أن تأثيرها عليه يشبه تأثير الصدمة الكهربائية. ينظر بوتيرو بعصبية ثم يومئ بعنف إلى بعض لوحاته المعلّقة على جدران الغاليري ويقول: هذا فنّ حديث ومعاصر بمعاييري أنا. الرسم لم يمت، حتى إن كان هؤلاء النقّاد يعتقدون ذلك. إنهم يقتلونك ويسخرون منك. لقد ظلّوا يحاولون قتلي طوال حياتي. إنهم يغضبون ويصرخون في وجهي دائما".
يهدأ بوتيرو قليلا ويبدو كما لو انه يبحث عن مساحة للتنفّس. ثمّ يقول: لو كان فنّي فظيعا، فلماذا تبادر المتاحف إلى شراء لوحاتي. ولماذا تتزايد الكتب التي تتحدّث عنّي وعن لوحاتي. لقد عرضت أعمالي في أكثر من ستّين معرضا. ومديرو المتاحف يحترمون لوحاتي أكثر من الأولاد الذين يأتون من معاهد الفنّ وينصّبون أنفسهم نقّادا ويستخدمونني ككيس للملاكمة".
ويقتبس بوتيرو عن نيكولا بوسان مفهومه لمعنى الفنّ بالقول انه عبارة عن مجموعة من الأشكال والألوان التعبيرية التي تمنح المتعة. المتعة كانت هدف الرسّامين منذ 500 عام. والقليل جدّا من الرسّامين كانوا يبحثون عن الجمال، مثل غويا".
قلت لـ بوتيرو: لو قلت هذا الكلام في حفل عشاء لعدد من الفنّانين المعاصرين فسيبتسمون من كلامك ويعتبرونه موضة قديمة. قال بصوت منخفض: نعم، هم الآن يقولون إن الجمال ضرب من الدعارة. ولكنّي أقول لك إنني إن اهتممت بما يقوله الآخرون فلن افعل شيئا على الإطلاق. لديّ قناعاتي الخاصّة وأنا لا اهتمّ بما يقوله أو يفعله غيري".
هل هذه مجرّد نوبة غضب أم حركة تمرّد يقودها رجل فرد لمناهضة اتجاهات الفنّ في عصرنا؟ بحسب بوتيرو، فإن التعبيرات الرديئة للفنّ اليوم هي ممّا يستحقّ الرثاء، وهناك الكثير مما يمكن أن يقال عن الموضوع".
ويضيف: في نهاية القرن التاسع عشر كان الفنّ مدهشا. كان هناك رينوار ومونيه وسيزان. وفي نهاية القرن العشرين أصبح الفنّ مثيرا للسخرية وسيّئا للغاية. حال الفنّ اليوم يشبه حال الإمبراطور الذي يظهر متجرّدا من ملابسه. الناس خائفون جدّا من أن يُصنّفوا بأنهم غير طليعيين ويخشون من أن يُطردوا من عربة الطليعية. الأمر مضحك جدّا".
إحدى أكثر اللحظات أهمّية في تاريخ تطوّر فرناندو بوتيرو حدثت عندما اشترى متحف الفنّ الحديث في نيويورك لوحته المسمّاة "الموناليزا في سنّ الثانية عشرة". في هذه اللوحة وفي غيرها من أعمال بوتيرو نرى بوضوح وعن قرب خصائص أعضاء شخصيّاته التي يمكن التعرّف عليها بسهولة. في الموناليزا، حوّل بوتيرو الطبيعة الايطالية في الخلفية إلى منظر من أمريكا الجنوبية مع لقطة لبركان ثائر.
بوتيرو يمزج رسم الأشخاص بإحساس جميل بالمرح والتعاطف الإنساني الذي لا نراه في أعمال غيره. وهو يتناول المرح والدعابة بعد أن كانا حكرا على رسّامي الكاريكاتير. هذه الحساسية تجاه تقلّبات الوجود الإنساني والاعتراف بجاذبية المتع الدنيوية هي خصائص تميّز فنّ بوتيرو وتضفي على أعماله سمات إنسانية عميقة.
والأفكار الرئيسية التي شغلت خيال بوتيرو مثل الدين والسياسة والجنس والإثارة والحياة اليومية في كولومبيا والحياة الساكنة ومصارعة الثيران، كلّ هذه الأفكار والمواضيع تعامل معها بطريقة خاصّة وكنموذج لنظرة الرسّام وفهمه الخاصّ للعالم.
لم يتأثّر بوتيرو بأعمال الرسّامين الايطاليين وحدهم، بل اخترق العوالم الأكثر خفّة للنهضة الشمالية. فقدّم لوحة فان ايك بعنوان زواج ارنولفيني في هيئة جديدة ومنحها حضورا معلميا في سياق بيئة القرن الحادي والعشرين. ووجد في روبنز نظيرا مثاليا له بسبب طموحاته الكبيرة. روبنز عُرف بلوحاته التاريخية الضخمة ومشاهده الميثية التي تشبه مناظر هوليوود وبحفلات الصيد واللوحات الدينية التي كان يملؤها بصور الرهبان والقدّيسين والعذروات الفاتنات والمثيرات.
لكن من بين جميع رسّامي عصري النهضة والباروك، لم يشعل احد اهتمام بوتيرو ولم يجذب انتباهه أكثر من الرسّام الاسباني العظيم دييغو فيلاسكيز. كان فيلاسكيز دائما مصدر الهام وتحدّ للرسّامين من اسبانيا وأمريكا اللاتينية. وكان بوتيرو قد رأى لوحات فيلاسكيز عيانا في مدريد عندما كان يدرس في أكاديمية سان فرناندو عام 1952م. كان متحف برادو المكان الذي اجتذبه. وسرعان ما أصبح فيلاسكيز وغويا معلّميه الأكثر أهمّية في تلك الفترة.
في بعض لوحات بوتيرو إحساس بالوعي والنقد الاجتماعي. في إحداها يتناول أهمّية الذات ودور الفساد السياسي. رئيس الجيش يرتدي لباسا عسكريا جميلا بينما تتدلّى الأوسمة من صدره وعنقه. زوجته أو خليلته تلبس فستانا مصنوعا من فرو الثعالب النفيس. رأس الحيوان المسكين يتدلّى إلى وسط الفستان. غرور السيّدة تؤكّده ملابسها الزاهية والباهظة الثمن. وفي لوحة السيّدة الأولى، تظهر زوجة الرئيس ممتطية صهوة جواد بينما تظهر خلفها غابة من أشجار الموز.
أسأل بوتيرو عن رأيه في داميان هيرست. فيقول: هيرست؟ انه رجل ذكي، ذكيّ جدّا. لكن لا أعتقد أن ما يقدّمه فنّ عظيم. لديه إبداع يذكّرني بما تفعله وكالات الدعاية والإعلان. الفنّ شيء مختلف تماما. فنّ داميان هيرست فيه أفكار وإثارة. وإذا فرزنا الفنّ عمّا سواه فلن يبقى عنده فنّ كثير".
ولد فرناندو بوتيرو قبل 70 عاما في مدينة ميديين التي كانت قرية صغيرة ضائعة في جبال الأنديز قبل أن تتحوّل اليوم إلى مدينة كبيرة تشتهر بالكوكايين وبالبنوك.
في بوغوتا، وفي سنّ التاسعة عشرة بدأ يخالط الطليعيين الكولومبيين، ثم اخذ يرسم لوحات تذكّر بمرحلة بيكاسو الزرقاء.
وشيئا فشيئا، بدأ بوتيرو في السير على خطى فان ايك وديورر وروبنز وفيلاسكيز وغويا وريفيرا. ثم توجّه إلى أوربا ليدرس أعمال الرسّامين الكبار في متحفي برادو واللوفر. كان اللوفر قلعة ملكية بناها فيليب الثاني في أواخر القرن التاسع عشر. لكن كولومبيا هي التي كانت دائما في عقل بوتيرو. شوارعها، ناسها، جبالها، مناظرها البحرية؛ كلّ هذه الأشياء هي التي أعطته فنّه.
وفي سنّ الخامسة والعشرين أصبحت لوحات بوتيرو متميّزة وبات من السهل التعرّف عليها.
حياة فرناندو بوتيرو غنيّة بالزوجات وبالأطفال. فقد تزوّج من غلوريا زيا وزيرة الثقافية الكولومبية السابقة ورُزق منها بطفلين. ثم تزوّج من سيسيليا زامبرانو وأنجب منها طفلا. وتزوّج من الفنّانة اليونانية صوفيا فاري التي يعيش معها اليوم متنقّلا بين باريس وتوسكاني.
في التسعينيات أصبحت حياة بوتيرو وفنّه قاتمين، تماما مثل كولومبيا التي كانت تترنّح تحت عجلة العنف السياسي والحرب على المخدّرات. وفي عام 1994 اختطفه مجهولون اقتحموا منزله عنوة. وفي العام التالي انفجرت قنبلة تحت إحدى منحوتاته في شارع بـ بوغوتا، ما أدّى إلى مقتل 27 شخصا.
ابن بوتيرو الأكبر، وهو وزير دفاع سابق، قضى في السجن حوالي ثلاثين شهرا لتقاضيه رشوة بـ 6 ملايين دولار من كارتيل كالي للمخدّرات.
ولم يتحدّث بوتيرو مع ولده لمدّة ثلاث سنوات بعد الإفراج عنه. وقبل تسع سنوات حُكم على الابن بستّة وثلاثين شهرا أخرى في السجن بتهمة السرقة.
إن من الصعب الإمساك بحياة بوتيرو. لكن فهم فنّه يبدو أكثر صعوبة. وعلى العكس من زوجاته، تبدو نساؤه المرسومات على درجة من الضخامة والبدانة.
يقول بوتيرو محاولا شرح الأمر: أمريكا وبريطانيا تعبدان كيت موس وفيكتوريا بيكهام وبوش سبايس والجسد الاسطواني النحيل، خاصّة عندما يكون تجسيدا للضعف. البروتستانتية نفسها هي ثقافة نحافة وإنكار. ويضيف: حياة أمريكا اللاتينية والشعوب الناطقة بالبرتغالية والإسبانية والفرنسية "باستثناء كندا" هي حياة فائضة. إننا نعيش حياتنا كاملة. نشرب كثيرا. نمارس الحبّ كثيرا. نشرب الشمبانيا كثيرا. بينما انتم البروتستانت تشربون الماء". إذن فالحياة الكاملة هي السبب في أن راهبات بوتيرو وممرّضاته يبدين حسّيات على نحو مخجل، بينما يظهر جنرالاته منتفخين بلحم أردافهم التي تبرز من داخل زيّهم العسكري.
من الواضح أن بوتيرو ابتكر أسلوبه الخاصّ في الرسم والذي تمسّك به طوال حياته منذ كان مراهقا. كان متعاطفا مع شخصيّات روبنز وقد درس أسلوب المعلّم الهولندي بعمق. لكن فنّ بوتيرو هو عن الحياة في كولومبيا. لماذا، إذن، لم يعش في كولومبيا؟ لماذا يقضي معظم السنة في باريس؟ ولماذا عاش 14 عاما في نيويورك، وطن البروتستانت الذين ينكرون الحياة؟! الجواب هو أن بوتيرو لا يشعر بالأمان في كولومبيا. منظّمات الجريمة والمخدّرات تحكم قبضتها على الريف وعلى المدن الصغيرة مثل ميديين وغيرها.
وقد كان بوتيرو نفسه هدفا للاختطاف وربّما ما هو أسوأ. وفي عام 2000 بدأ يرسم مناظر من العنف الكولومبي. وفي عام 2007 رسم سلسلة من اللوحات التي تصوّر بعضا من مشاهد التعذيب التي جرت في سجن أبو غريب العراقي.
ويوافق بوتيرو على أن كولومبيا هي اليوم أكثر أمنا ممّا كانت عليه قبل عهد الرئيس الجديد. لكنّه ما يزال يكتفي بالإقامة فيها مدّة شهر واحد فقط في السنة.
"في كلّ الأحوال، لا استطيع النوم في البيت إلا برفقة شخصين أو ثلاثة ينامون معي. هذا مع أنني محميّ جيّدا وأتنقّل في سيّارة مصفّحة".
فرناندو بوتيرو يحتاج لأن يبقى في أوربّا. ففيها تسعة وتسعون بالمائة من المتعاملين معه وطالبي لوحاته.
أقول له: أنت رجل من هذا العالم وتعيش بسعادة في المنفى. يردّ بصوت أجشّ: لا، أنا رجل من كولومبيا، أنا كولومبي مائة بالمائة. موضوعاتي كولومبية، ولم اشعر بكوني أمريكيا بعد أن عشت في أمريكا لأربعة عشر عاما. كما لا أحسّ بانتمائي لـ فرنسا مع أنني أعيش في باريس منذ سنوات. لو كُتب لحياتي سيناريو مختلف لكنت عشت بسعادة في كولومبيا. كولومبيا مكان صعب. إنها ارض أمراء الحروب وتجّار المخدّرات ورجال العصابات. ولكي أنمو وينمو فنّي معي، كان عليّ أن أغادر. كان من الضروريّ بالنسبة لي أن اخرج من ذلك المكان كي أنمو وتنمو معي نسائي البدينات". "مترجم بتصرّف".
الأحد، أكتوبر 24، 2010
الانطباعية الزُخْرفية
في بدايات القرن الماضي، تحوّلت قرية جيفرني الفرنسية إلى قبلة للرسّامين الذين قصدوا القرية بحثا عن فرص الرسم في الهواء الطلق والحياة الاجتماعية.
وكان هناك عامل إضافي اجتذبهم إلى ذلك المكان وتمثّل في وجود كلود مونيه رائد الانطباعية الذي استقرّ في جيفرني منذ مطلع العام 1883م. ورغم أن مونيه لم يشجّع الآخرين على أن يقتفوا أثره إلى القرية التي أقام فيها ابتداءً من عام 1883، إلا أن جيفرني أصبحت بسرعة حاضنة للرسّامين من جميع أرجاء العالم.
وكان من بين من قصدوها مجموعة من الرسّامين الأمريكيين الذين عبّروا عن رؤيتهم الفريدة عن الطبيعة الفرنسية من خلال أسلوب جديد في الرسم سُمّي في ما بعد بالانطباعية الزخرفية.
ويرجع الفضل في صياغة مصطلح "الانطباعية الزخرفية" للكاتب كريستيان برينتون الذي استخدمه لأوّل مرّة عام 1911. وقد اختاره برينتون عنوانا لمقال كتبه عن مواطنه الرسّام الأمريكي فريدريك كارل فريسيكا احد أعضاء مستعمرة جيفرني المشهورة للانطباعيين الأمريكيين.
ومع ذلك، فقد تمّ إحياء استخدام هذا المصطلح في العقود الأخيرة من قبل مؤّرخ الفنّ وليام غيرتس ليصف به اللوحات التي تصوّر أشخاصا والتي رسمها فريسيكا وعدد من زملائه الآخرين مثل ريتشارد ميلر ولويس ريتمان وروبرت ريد.
ونفس هذا المصطلح جرى تطبيقه على رسّامين آخرين من مدرسة جيفرني الذين كانوا يرسمون الأشخاص، مثل كارل اندرسون وغاي روز وألبيرت بور.
والانطباعية الزخرفية تصف أسلوبا في رسم الشخصيات الإنسانية يحاول الفنّان من خلاله التوفيق بين الأساليب الأكاديمية والتأثيرات الانطباعية وما بعد الانطباعية.
وأعمال هؤلاء الرسّامين تصوّر النساء غالبا، إمّا في الهواء الطلق أو داخل المنازل، حيث يظهر الأشخاص مغمورين بالضوء الطبيعي الذي يتسرّب من خلال نوافذ البيوت.
والعديد من هذه اللوحات تطغى عليها الزخرفة بشكل واضح. وهي تحاكي أسلوب الرسم الياباني الذي يركّز على الاستخدام المكثّف للأنماط في الخلفيات.
وأعمال المؤسّسين الأوائل للانطباعية الزخرفية كانت مشهورة كثيرا في بدايات القرن الماضي. لكن هذا الأسلوب استمرّ حتى منتصف القرن نفسه من خلال بعض تلاميذ رسّامي مدرسة جيفرني. وفي السنوات الأخيرة انتعش الأسلوب من جديد على يد بعض رسّامي الأشخاص المعاصرين.
وبينما كان الفنّانون الانطباعيون الأمريكيون يرسمون لوحاتهم في قرية جيفرني الفرنسية الصغيرة منذ نهايات القرن التاسع عشر، فإن الرسّامين الذين ابتكروا أسلوب الانطباعية الزخرفية استقرّوا في النورماندي في مطلع القرن العشرين.
كان هؤلاء على علم بتطوّر الانطباعية وما بعد الانطباعية في فرنسا. وكانوا يطمحون إلى توظيف بعض العناصر من هذه الحركات في أعمالهم. وكانت لكلّ واحد منهم طريقته الخاصّة في العمل وأسلوبه في استخدام الفرشاة. لكنهم كانوا جميعا معروفين بجمال مواضيعهم وبهاء أسلوبهم الزخرفي.
كان فريدريك كارل فريسيكا احد مواطني ميشيغان وقد تلقى تدريبا في الرسم على يد فنّان درس الرسم في باريس. وقد استقرّ فريسيكا في جيفرني عام 1906 حيث رسم نساءً في بيئات خارج البيوت باستخدام ألوان الباستيل. ومن الواضح انه كان متأثرا بـ رينوار، كما كان يولي عناية فائقة لطريقة تصميم مناظره.
ريتشارد ادوارد ميللر نشأ ودرس في سينت لويس بـ ميزوري، ثم درس في فرنسا. وفي ما بعد عرض بعض لوحاته في صالون باريس. أعمال ميللر المبكّرة تُظهر أشخاصا مرسومين بعناية مع خلفيات ممثّلة بطريقة فضفاضة. لكن بعد أن استقرّ به المقام في جيفرني أصبحت لوحاته أكثر سطوعا واستنبط لنفسه أسلوبا خاصّا في تمثيل شخوصه.
غاي روز درس الرسم في سان فرانسيسكو ثم في باريس، حيث تأثر بالمدرسة الطبيعية ثم بالانطباعية الفرنسية. روز يوصف غالبا بأنه الأكثر "فرنسية" من بين جميع الانطباعيين الأمريكيين. وقد زار جيفرني قبل أن يستقرّ فيها نهائيا بمعيّة زوجته ايتيل في العام 1904. كان روز يركز على رسم الطبيعة والأشخاص. وفي جيفرني أصبح يرسم النساء خارج بيئة المنازل وباستخدام أسلوب تغلب عليه السمات الانطباعية.
لوتون باركر كان فنّانا ومعلّما سافر كثيرا بين الولايات المتحدة وأوربّا إلى أن قرّر الإقامة في جيفرني عام 1903. وعلى الرغم من أن باركر كان متأثّرا بـ فريسيكا، إلا انه لم يكن ميّالا إلى رسم أشخاص في بيئة الحدائق قبل عام 1909. لكنه في ما بعد رسم نفس المواضيع التي كان يرسمها رفاقه الأمريكيون في جيفرني.
ادوارد غريسين المولود في نيويورك وصل إلى جيفرني عام 1907 حيث رسم سلسلة من اللوحات التي تصوّر حدائق وبيئات منزلية بتأثيرات فرنسية واضحة.
كارل اندرسون حلّ هو الآخر في جيفرني ولوقت قصير. ثم ما لبث أن غيّر مسيرته بعد ذلك. لكن أعماله ظلّت مرتبطة بأجواء القرى الفرنسية حيث تبنّى نفس المواضيع والأسلوب الفنّي الذي دشّنه زملاؤه.
في ديسمبر من عام 1910، نظّم ستّة من رسّامي جيفرني، هم فريسيكا وميلر وباركر وروز وغريسين وأندرسون، معرضا لأعمالهم في غاليري ماديسون في نيويورك، حيث أطلق عليهم "مجموعة جيفرني" ووصفهم احد الكتّاب بأنهم "انطباعيون من نوع خاصّ".
الرسّام الأمريكي لويس ريتمان المولود في روسيا جاء هو أيضا إلى جيفرني في العام 1911 وأمضى فيها الأعوام الثمانية عشر التالية. وقد بقي هناك حتى بعد أن اندلعت شرارات الحرب العالمية الأولى التي دفعت معظم زملائه الأمريكيين للعودة إلى وطنهم . كان ريتمان متأثّرا كثيرا بـ فريسيكا وقد رسم هو الآخر نساءً في بيئات داخل وخارج البيوت. وكان يقارب شخوصه بطريقة حسّاسة ويتعامل مع الخلفيات بأسلوب يذكّر بالانطباعية الفرنسية.
وهناك رسّام أمريكي آخر تقع رسوماته ضمن تصنيف الانطباعية الزخرفية هو روبرت ريد. ورغم أن ريد لم يكن جزءا من مستعمرة جيفرني، إلا انه تلقّى تدريبا في باريس وكان يحاول التوفيق بين تدريبه الأكاديمي والجانب الزخرفي. وكان يستخدم تراكيب ديكورية جريئة مملوءة بالألوان الباردة التي تذكّر ببعض مدارس الرسم الحديث.
ولأن العديد من أعضاء مستعمرة جيفرني كانوا معلّمين وموجّهين لعدد من الرسّامين الأمريكيين، فإن أسلوبهم في الرسم عاش وبقي من خلال أعمال تلاميذهم.
اثنان من هؤلاء هما ثيودور لوكيتس وكريستيان فون شنيداو اللذان انتهى بهما المطاف في كاليفورنيا التي احتضنت وشجّعت الانطباعية الأمريكية أكثر من أيّ مكان آخر. "مترجم بتصرّف".