"كلّ شيء يبدو باهتا بينما الطبيعة تقاوم النعاس. الهواء المسائي العليل يتأوّه بين أوراق الشجر والطيور والأزهار تؤدي صلاتها الأخيرة قبل هبوط الظلام".
- جان باتيست كميل كورو
من المدهش أن نقرأ كثيرا من كلمات المديح عن كميل كورو من قبل جيل الرسّامين الذين بلغوا بالكاد مرحلة النضج عند وفاته. والغريب أن هؤلاء، وعلى رأسهم كلود مونيه وديلاكروا، كانوا يوقّرون كورو كثيرا رغم انه كان يتظاهر بأنه بعيد عن التطوّرات الفنّية التي حدثت بالقرب من نهاية حياته ومن بينها أعمال مونيه وزملائه الانطباعيين.
أسلوب كورو في الرسم لا تخطئه العين. وبإمكانك أن تتعرّف بسرعة على طبيعته "الريشية" من قرى بلّلورية وأنهار وبحيرات موشّاة بالضباب والتي كانت تناسب ذوق الطبقة الفرنسية الوسطى في أواخر القرن التاسع عشر.
إن مفهوم الحداثة الذي تبنّاه مونيه، ومناظر الحياة الحضرية التي تخصّص فيها ادغار ديغا، والتجريب المتواصل الذي ميّز هذين الفنانين وغيرهما، كلّ هذا كان يبدو متناقضا مع رؤية كورو التأمّلية عن "أركاديا" مثالية وخالدة.
وعند القراءة أكثر، يتعلّم المرء انه في نهاية عشرينات القرن الماضي وبداية الثلاثينات، كان كلّ من الرسّام جاك اميل بلانش والمؤرّخ الفريد بار مؤسّس متحف نيويورك للفنّ الحديث يعتقدان بأن تأثير كورو على فنّ القرن العشرين سينافس تأثير سيزان. لكن هذه الآراء ما تزال بعيدة جدّا عن نظرة زمننا الحاضر لأهميّة كورو بالنسبة لتاريخ الرسم. وربّما تكون عملية إعادة تقييم فنّ هذا الرسّام بطريقة شاملة مهمّة فات أوانها منذ زمن طويل.
ومنذ الثلاثينات حاول المؤرّخون تقديم كورو باعتباره احد أسلاف الانطباعية الأوائل ومبتكر المناظر الطبيعية التي يضيئها نور الشمس ولا يكدّر صفوها أحداث أو أفكار ذات مغزى. وبعض الكتّاب الذين افتتنوا بمناظره الرائعة التي رسمها في الهواء الطلق في ايطاليا ينظرون إليه على انه رسّام ذو عين بريئة وأن شخوص لوحاته لا يشغلهم التفكير كثيرا على ما يبدو.
وهناك من النقّاد من وصف لوحته جسر عند نهر نارني بأنها مثال واضح على الانطباعية في طورها الأوّل. غير أن وصف كورو بالانطباعية أو حتى بالنيوكلاسيكية لا يكفي لتصنيف مجمل انجازاته الكثيرة. كما أن هذه التسميات لا تستوعب، بطريقة مُرضية، لوحاته التاريخية غير العاديّة مثل "هاجر في البرّية" و"هوميروس والرعاة"، بالرغم من أن هذه اللوحات بالذات هي التي صنعت شهرة كورو في أربعينات القرن الماضي. وهي نفس النوعية من اللوحات التي دفعت بودلير ذات مرّة للقول إن كورو يقف على رأس المدرسة الحديثة في تصوير الطبيعة.
هذه هي الأعمال التي ما تزال تثير اهتمام نقّاد الفنّ الحديث إلى اليوم. والغريب أن كورو اشتهر أحيانا بكونه رسّام أشخاص أكثر منه رسّاما للطبيعة. وقد فُتن بصفته هذه كلّ من فان غوخ وغوغان وسيزان. وفي مطلع القرن العشرين استنسخ كلّ من بيكاسو وغْريس بعضا من شخوصه.
غير أن كورو ما يزال إلى اليوم يحيّر مؤرّخي ونقّاد الفنّ. وهذا هو السبب الذي يتطلّب استعادة جميع أعماله لدراستها وإلقاء الضوء عليها بطريقة موضوعية وشاملة.
المشكلة أن مجموعة لوحاته الكاملة تعكس الأفكار المتناقضة للنيوكلاسيكية والرومانسية والواقعية والطبيعية. ومع ذلك فالرسّامون من ديلاكروا إلى كوربيه، ومن رينوار إلى بيكاسو عرفوا جميعا أعمال كورو وكانوا يحترمونها ويقدّرونها حقّ قدرها.
السوق النشط لأعمال كورو على مدى قرنين كاملين وسهولة تقليد أسلوبه في رسم المناظر الطبيعية كانا سببين في استنساخ لوحاته بكميّات كبيرة وتزويرها على نطاق واسع. وما أدّى إلى تفاقم هذه المشكلة هو موقف كورو نفسه الذي لم يكن يمانع في أن يستنسخ تلاميذه أعماله وحتى أن يقترضوا بعضها وكأنه كان يشجّع الآخرين على تزوير لوحاته والعبث بها. .
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .
الاثنين، فبراير 15، 2010
كورو: الانطباعية في طورها الأوّل
Credits
arthistory.net
arthistory.net
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)