:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، أغسطس 17، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • اليوغين Yūgen مفردة يابانية تعني حرفيّا الجمال العميق والغامض، وهو أحد المبادئ الأساسية للثقافة اليابانية، ويغطّي مجالات فنيّة مختلفة مثل الأدب والرسم والترفيه والهندسة المعمارية.
    والكلمة تشير إلى الجمال الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات أو رؤيته بالعين، ولكن يمكن للإنسان أن يشعر به في أعماقه. وهو شعور لا يستمتع بجمال ما هو موجود الآن فحسب، بل يتخيّل أيضا الجمال الخفيّ للشيء والذي يُضفي عليه عمقا وعاطفة.
    مثلا، عندما تنظر إلى زهرة وتعتقد أنها جميلة، فلأنها جميلة بصورتها الماثلة أمامك الآن، لكن الزهور الجميلة لها ماضٍ في مقاومة الرياح والأمطار والثلوج وما إلى ذلك. وبغضّ النظر عن مدى جمالها، فإنها سوف تذبل يوما ما. وعادةً فإن الزهور الجميلة وحدها تثير إعجابنا، لكن عندما نفكّر في الماضي والمستقبل الذي يكمن وراء مظهرها الذي هي عليه الآن، فإن جمالها يدفعنا إلى ما هو أبعد من "المظهر الحالي".
    وإذا فكّرت في اليوغين على أنه عاطفة متبقية أو صدى أو إيحاء، فسيصبح فهمه أسهل قليلا. ولأن الخيال ضروري لتجربة العمق، فقد قام الفنّانون اليابانيون بتحسين كيفية جعل المتلقي يستخدم خياله. وفي عالم الرسم الياباني، تشمل الأمثلة المساحات البيضاء والتبسيط وعدم الانتظام والألوان الصامتة والتركيب واللون الذهبي.
    وهناك راهب "زِن" اسمه سوزوكي، عاش في عصر الميجي، وتُعتبر كتاباته حجّة في اليوغين والتنوير. في ذلك العصر، كانت اليابان تجذب الاهتمام اليها من جميع أنحاء العالم. لكن في الوقت نفسه كان هناك الكثير من سوء الفهم. وقد أصبح كتاب ذلك الراهب بعد ترجمته الى الإنغليزية من بين الكتب الأكثر مبيعا عن ثقافة اليابان، الى جانب أعمال أخرى مثل "كتاب الشاي" لأوكاكورا و"بوشيدو او روح اليابان" لنيتوبي، وغيرهما.

    ❉ ❉ ❉

  • ينقسم رسم الطبيعة إلى ثلاثة أنواع: الطبيعة الرعوية والطبيعة المشهدية والطبيعة المتسامية.
    الطبيعة الرعوية: ومناظرها هادئة، من قبيل محاصيل الحقول والحدائق والمراعي والماشية والرعاة الخ. هذه هي الطبيعة التي روّضها الإنسان وسخّرها لتوفّر له الغذاء الذي يحتاجه والأمان والإحساس بالجمال.
    الطبيعة المشهدية: وهي الطبيعة في حالتها الخام، أي التي لم يفسدها الإنسان، مثل مناظر الجبال وحيوانات الغابات ومناظر الغروب والشروق وخلافها. هذه الطبيعة لا تثير خوف الإنسان، بل تسمو بمشاعره وترتقي بوجدانه. كما أنها رمز لقدرة البشر على السيطرة على الطبيعة.
    والرسّامون يصورون هذين النوعين من الطبيعة كمصدر راحة وجدانية وروحانية للإنسان. أما الطبيعة المتسامية فتشير إلى المتعة الممزوجة بالخطر والرهبة التي يشعر بها الإنسان في مواجهة طبيعة فطرية لم تُروّض قواها الجامحة كالعواصف والفيضانات والبرق والرعد الخ، وحيث يبدو الإنسان بلا حول ولا قوّة أمام عناصرها، كالأنهار الجارفة والجبال الشاهقة والوديان العميقة والحيوانات المفترسة والعواصف العنيفة وما الى ذلك.
    وهذا النوع من الطبيعة سُمّي بالمتسامي لأنه يمكن، رغم خطورته، أن يسمو بالإنسان إلى حالة من الروحانية العميقة عندما يتذكّر هشاشته أمام القدرة الخارقة للخالق عزّ وجل كما تتمثّل في الطبيعة.

    ❉ ❉ ❉

  • بينما كان مسافران يسيران على شاطئ البحر، رأيا عن بعد شيئا طافيا فوق الأمواج. قال أحدهما: قد تكون سفينة آتية من بلاد بعيدة ومحمّلة بكنوز ثمينة". كان الشيء الذي رأياه يقترب أكثر فأكثر من الشاطئ. وقال الآخر: هذه ليست سفينة ولا كنزا. هذا قارب صيد صغير يحمل حصيلة من الأسماك الشهيّة".
    ثم اقترب الجسم أكثر فأكثر إلى أن جرفته الأمواج واستقرّ على الشاطئ. وصاح المسافران: إنه صندوق من الذهب ضاع في حادثة غرق سفينة". ثم أسرعا إلى الشاطئ، ولكنهما لم يجدا هناك سوى جذع شجرة غارق في الماء.
    الدرس المستفاد من هذه القصّة: لا تبالغ في توقّعاتك ولا تدع آمالك وتخيّلاتك تأخذك بعيدا عن الواقع.
  • كان هناك رجل مستاء للغاية من رؤية ظلّه وسماع صوت خطواته، لدرجة أنه صمّم على التخلّص من ثقلهما عن طريق الهروب منهما. لكن في كلّ مرّة يضع قدمه على الأرض، كانت هناك خطوة أخرى وكان ظلّه يرافقه دون أدنى صعوبة.
    وظنّ أن السبب أنه لا يركض بالسرعة الكافية، فركض أسرع فأسرع، وواصل ركضه دون توقّف إلى أن سقط أخيرا ميّتا من الإرهاق والتعب. لقد فشل في إدراك أنه إذا دخل إلى الظلّ فحسب فإن ظلّه سيختفي، وإذا جلس وبقي ساكنا فلن يسمع وقع أيّ خُطى.

    ❉ ❉ ❉

  • ❉ ❉ ❉

  • تُعدّ ذكور غزلان المِسك من أكثر الأنواع المهدّدة بالانقراض على وجه الأرض. ويُطلق عليها أيضا اسم "الغزلان الميلانية" بسبب كميّة الميلانين الكبيرة التي تنتجها، وهو ما يفسّر سبب كون فرائها يبدو داكنا ولامعا. كما تنتج أجسادها أغلى رائحة في العالم تُعرف بالكاستوري وتحظى بتقدير كبير كمثبّت للعطور وكدواء للعديد من الأمراض منذ أقدم العصور.
    وهناك أسطورة تُحكى عن قصّة غزال كان يجوب سلاسل جبال الهيمالايا في الهند، عندما شمّ ذات يوم رائحة غامضة وجميلة تضوع في الهواء. وقد انجذب الغزال بقوّة إلى ذلك العطر، لدرجة أنه كان يذهب يوميّا ولسنوات طوال متنقّلا ما بين الأدغال الكثيفة والغابات والتلال بحثا عن مصدر تلك الرائحة.
    وبدا كما لو أنه وقع في هوى شبح أو كائن لا يُرى، فلم يعد الغزال يأكل أو يشرب أو ينام. وأخيرا، ونتيجة شعوره بالجوع والإعياء، انزلق من أعلى إحدى الصخور وأصيب بجروح قاتلة. وعندما اخترق قرنه بطنه، امتلأ الهواء حوله بشذى ذلك العطر الساحر. وفي تلك اللحظة، أدرك الغزال أن العطر الذي كان يبحث عنه طوال حياته كان يأتي من داخله.
    الكثيرون منّا يشبهون حال ذلك الغزال. فهم يقضون حياتهم في البحث عن شيء موجود بالفعل في داخلهم دون أن يعلموا. فنحن مثلا نبحث عن الإلهام في الآخرين وفي العالم الخارجي، متجاهلين أن المصدر الأقوى للحكمة والتغيير يكمن في نفوسنا. وفي أحيان كثيرة، نقع في فخّ الشعور بنقص الكفاءة أو عدم الجدارة. ومثل غزال المسك، نتجاهل صوتنا الداخلي وقدراتنا الثمينة لكن غير المكتشفة.
    من وقت لآخر، يُفترض بنا أن نتوقّف قليلاً، ونأخذ نفسا عميقا ونعزّز انتباهنا ونفتح قلوبنا، فقد نكتشف مصدر نورنا الخاص. إن العالم مليء بأفراد قيّدوا إمكانياتهم دون علم منهم، ووضعوا سقفاً لتطلّعاتهم ورضوا بما هو أدنى مما يستحقّون، في حين أن النجاح ليس حقّا مقتصرا أو محجوزا لقلّة من الناس، بل مشهد واسع ينتظر أن يستكشفه أولئك الذين يجرؤون على المغامرة وارتياد المجهول والثقة في إمكانياتهم الكامنة وبوصلتهم الداخلية.

    ❉ ❉ ❉

  • كتب الرسّام الأمريكي فريدريك آرثر بريدجمان بعض ملاحظاته وانطباعاته عن زيارته للجزائر التي وصلها عام 1872. يقول: من البحر بدت لنا مدينة الجزائر مثل حمامة بيضاء على تلّ. والعرب يشبّهونها بالماسة داخل إطار من الزمرّد. لكن منذ عام 1830، كنتَ تجد كلّ شيء على هذه التلال ما عدا الحمام: عصابات متعطّشة للدماء، لصوص، قراصنة، قطّاع طرق، مهرّبون الخ.
    وعندما وصلنا كان القمر في تمام اكتماله، وكان يضيء بأنواره الساطعة البيوت البيضاء، بينما كانت هناك أضواء حمراء خافتة تنبعث من المقاهي المتناثرة هنا وهناك، حيث يتسلّى العرب بأحاديث آخر الليل وبلعب الورق أو تعاطي الكيف.
    ولأنني ولدت في آلاباما التي تثقب حرارة شمسها العظام، فقد شعرت في الجزائر بأنني في وطني، وذلك منذ اللحظة التي وضعت فيها قدمي على أرضها. ومنذ وصولي شعرت بالسعادة وأنا أشمّ الروائح الغريبة لمدن الشرق: العطور والمسك والتبغ وأزهار البرتقال والقهوة والحشيش. كنت اتنشّق مزيجا حارقا من كلّ هذه الروائح في الملابس وفي الحوانيت والأسواق وأينما ذهبت.
    كان روّاد المقاهي يلعبون النرد أو الورق أو يراقبون ما يحدث لساعات. ولن تسمع من أحد أيّ ملاحظة عن الطقس أو ضوء الشمس أو السماء الزرقاء أو غيرها من الانطباعات التي تشغل عقول الغربيين عادةً. كما لاحظت أن العربي لا يعبّر عن تقديره للأشياء الجميلة في الطبيعة، كالبرد والحرارة والمطر أو لحظات الشروق أو الغروب، فكلّها أشياء متشابهة بالنسبة له. وقد ترى العربي وهو يلتحف بثيابه ويمشي تحت المطر المنهمر ببرود ولامبالاة.

    ❉ ❉ ❉

  • "التوقف عند الثلاثين" عبارة مشهورة مصدرها كتاب "مختارات كونفوشيوس". يقول الفيلسوف الصيني: إذا بلغت الثلاثين من عمرك ولم تحقّق شيئا من أهدافك في الحياة، فعليك أن تتوقّف عن السعي لأنك لن تحقّق شيئا بعد ذلك".
    ولهذه العبارة قصّة. فقد كان كونفوشيوس يحبّ تعلّم الكثير من المعارف منذ أن كان طفلاً. وعلى الرغم من أنه قرأ العديد من القصائد والكتب عندما كان صغيرا، إلا أنه لم يكن مفضّلاً لدى الآخرين بسبب شخصيته. ولحسن الحظ، كان واسع المعرفة وذا ذاكرة قويّة. ومرّت سنوات عديدة دون أن يحقّق أهدافه. وعندما شارف على السبعين من عمره، نظر إلى حياته وتذكّر كلّ أعماله السابقة، فكتب تلك العبارة.
    لكن لنتذكّر أن شخصا مشهورا مثل كونفوشيوس كان مجرّد شخص عادي عندما كان في الثلاثين من عمره. والناس في العصور القديمة كانوا يلتحقون بالمجتمع في سنّ المراهقة، بينما الآن يدخل معظم الناس الى المجتمع في العشرينات من عمرهم. فلماذا نضغط على أنفسنا ونحمّلها ما لا تطيق كي نصبح أشخاصا غير عاديين؟
    طالما أننا نفهم ما نريد وما نرغب في تحقيقه ونوعية النتائج التي نسعى اليها، فهذا وحده يكفي.

  • Credits
    the-yugen.com
    frederickarthurbridgman.org

    الخميس، أغسطس 15، 2024

    خواطر في الأدب والفن

  • الفيلسوف الهنديّ جيدو كريشنامورتي (1895-1986) سافر في جميع أنحاء العالم طوال 50 عاما، متحدّثا ومعلّما. وذات مرّة فاجأ جمهوره بقوله إنه سيكشف أهم سرّ في حياته. وكان الجميع يريدون سماع سرّ حكمته ويتطلّعون لأن يكشف عن السبب الذي جعله يعيش حياة واعية وكاملة ويجد الهدوء والتوازن الدائمين في حياته.
    وقال: هذا هو سرّي. لا أهتمّ أبدا بما يحدث!". قال هذه الجملة فقط ولم يسهب في التفاصيل. وعلى الرغم من أن ما قاله يبدو بسيطا جدّا، إلا أنه عميق للغاية. أنت عندما لا تكترث بما يحدث، فمعنى هذا أنك من الداخل منسجم مع كلّ شيء.
    لا يهمّ ما تحمله هذه اللحظة، سواءً كانت ممتعة أو غير ذلك. فالتوافق مع ما يحدث يعني أن تكون في علاقة داخلية متصالحة معه، ويعني عدم توصيف ما يحدث عقليّا على أنه جيّد أو سيّئ، بل تركه كما هو.
    هل يعني هذا أنك لم تعد قادرا على اتخاذ أيّ إجراء لإحداث تغيير في حياتك؟ الإجابة لا. فعندما يكون أساس أفعالك هو التوافق الداخلي مع اللحظة الحالية، فإن أفعالك تصبح مدعومة بذكاء الحياة نفسها.
    عندما نكون في انسجام مع اللحظة الحالية، مهما كانت، ودون أيّ مقاومة أو تجنّب، يذوب الخوف والقلق ونشعر بالسلام العميق في أعماقنا بينما نلعب دور المراقب.
    إن ما يتحدّث عنه كريشنامورتي في الواقع هو قبول ما يحدث وكأننا اخترناه. وهذا لا يعني أننا نحبّه أو نوافق عليه، بل يعني أننا نعلم أنه موجود بالفعل ومن غير المجدي مقاومته.
    هل يعني هذا أننا يجب ألا نحاول حلّ المشكلة؟ لا، بالطبع. يجب أن نغيّر كلّ ما في وسعنا. ولكن يمكننا أيضا أن نرى ما يحدث كبذرة لنموّنا ونضجنا الذاتي. والأمر المهم هو أننا لا نضيف إلى الصراع. فبدلا من إضافة غيوم من صنعنا قد تعمل على إقفال أدمغتنا، فإننا نعمل على تنقية السماء في أذهاننا، حتى نتمكّن من رؤية كل ما يحدث بوضوح أكبر. وهذا جزء من فنّ الحياة ورحلتها المذهلة.

    ❉ ❉ ❉

  • بعض الأعمال الفنّية تقول أشياء كثيرة، أحيانا بالتلميح الذي يُغني عن التصريح. هذه المنمنمة من القرن التاسع عشر، مثلا، مقسومة إلى جزأين: سفلي ويظهر فيه دارا ابن إمبراطور الهند المغولي شاه جهان، وعلوي ويظهر فيه اورانغزيب الابن الآخر للامبراطور.
    والتفاصيل في كل جزء تعطي لمحة عن شخصية كلّ من الرجلين.
    دارا كان شخصا متفتّحا ومتسامحا وكان يحيط نفسه، كما يظهر في الصورة، بعلماء وفلاسفة وبممثّلين لكلّ الأديان. وكان أيضا محبّا للآداب وراعيا للفنون.
    أما اورانغزيب فعلى العكس من أخيه، كان شخصا متعصّبا وضيّق الأفق وكارها للفنون. وهو يظهر في أقصى يسار الجزء العلوي من الصورة معطيا أوامره بهدم معبد يخصّ غير المسلمين.
    وبسبب هذا الاختلاف في الأمزجة والافكار، نشب صراع دامٍ على السلطة بين الأخوين استقوى فيه اورانغزيب برجال دين متطرّفين وأمرهم بإصدار فتوى بهدر دم دارا بتهمة الزندقة والارتداد عن الإسلام.
    وكان له ما أراد.

    ❉ ❉ ❉

  • ❉ ❉ ❉

  • ذات يوم، ومنذ زمن بعيد ويصعب تذكّره، تحوّلت امرأة حزينة وجميلة إلى نهر. وكان المقصود بهذا التحوّل أن يكون عقاباً لها من الآلهة لأنها لم تقدّر ما هي فيه من نعم كثيرة حقّ قدرها.
    ومع ذلك فقد اكتشفت المرأة بسرعة أنها استمتعت في الواقع بكونها نهراً. لم يكن ذلك مُملاً أبداً، فقد كانت تغنّي وتتحرّك وتتنزّه طوال النهار والليل. وكلّ ما كان عليها أن تفعله هو أن تهزّ شعرها فتحدث كلّ أنواع الأشياء المثيرة، وأحياناً ترى وجوهاً وتسمع أصواتاً بعضها يبدو مألوفاً لها من أيّامها كامرأة حزينة وجميلة. كان لديها، كنهر، تلك الهبة الرائعة: أن تكون في عدّة أماكن في نفس الوقت، وأن تسافر مراراً وتكراراً دون توقّف، أبعد من البلدة الصغيرة التي نشأت وعاشت فيها طوال حياتها.
    ولم يبدُ أن شيئاً تغيّر منذ تحوّلت إلى نهر. سمعت الضحكات السعيدة للأطفال وأصوات الصيّادين والنساء اللاتي كنّ يجتمعن في المياه الضحلة ليرمين غسيلهنّ على الصخور. بدا الجميع سعداء وأدركت أنه من المحتمل أن الناس الذين عرفتهم سابقاً قد أحبّوها كنهر بأكثر مما أحبّوها كامرأة. وهي نفسها لم تكن سعيدة كثيرا في ذلك المكان. كانت تشعر طوال الوقت أنها عالة على أمّها العجوز التي كانت حياتها الخاصّة محنة دائمة منذ حوّلت الآلهة زوجها إلى حيّة لسبّه الرياح.
    وفي كلّ يوم كانت المرأة التي استحالت نهراً تشعر بالبهجة لوجودها كماء متحرّك. لم يسبق أن كانت حرّةً هكذا كآدمية، وكثيراً ما شعرت بأنها كان يجب أن تُغضب الآلهة قبل ذلك بوقت طويل، كان انعتاقاً أن تكون بلا عظام وبلا شهية لأيّ شيء سوى التنقّل والتحوّل.
    إلا أنها أحبّت المطر وتطلّعت إلى التغيّرات الهادئة والساحرة التي يجلبها الشتاء. وبالطبع وجدت العديد من الأشياء السارّة طريقها إلى النهر، وجَمعت هذه الأشياء وحفظتها وتأمّلتها ووزّعتها كهبات ومفاجآت على زوّارها المفضّلين.
    لكن بعد زمن، تبيّن للآلهة أن عقابها استُقبل كمكافأة، وكانت استجابتها خاطفة وعديمة الرحمة. فقد أمرت بتجفيف النهر وأصبح الماء الذي كان متحرّكاً ذات مرّة أخدوداً قاحلاً، واستحالت المرأة رملاً.

    ❉ ❉ ❉

  • سمع جماعة من العميان أن حيواناً غريباً يقال له الفيل قدِم إلى بلدتهم. ولم يكن أيّ منهم قد رآه من قبل، وبالتالي لم يكونوا يعرفون شكله. فقالوا من باب الفضول: لا بدّ أن نتفحّصه ونعرفه باللمس". وذهبوا جميعا إلى حيث الفيل، ولمسه كلّ منهم.
    قال الرجل الأوّل الذي لمس ساقه: هذا عامود.
    وقال الثاني الذي لمس الذيل: إنه مثل الحبل.
    وقال الثالث الذي لمس الخرطوم: إنه مثل فرع طريّ من شجرة.
    وقال الرابع الذي لمس أذن الفيل: إنه مثل مروحة يد كبيرة.
    وقال الخامس الذي لمس بطنه: إنه مثل جدار ضخم.
    وقال السادس الذي لمس ناب الفيل: إنه مثل الأنبوب الصلب.
    ثم بدأوا يتجادلون حول ما لمسوه وأصرّ كلّ منهم أنه على حق. ومرّ رجل حكيم ورآهم على تلك الحال. وبعد أن استفسر منهم، أعلموه عن سبب خلافهم، فقال لهم: أنتم جميعا على حق. والسبب في أن كلّ واحد منكم يروي شيئا مختلفا هو أن كلا منكم لمس جزءا مختلفا من الفيل. لذا، فإن الفيل يتمتّع في الواقع بكلّ تلك الصفات التي ذكرتموها جميعا".
    الدرس المستفاد من هذه القصّة هو أن الحقيقة يمكن التعبير عنها بطرق مختلفة وأننا يجب أن نكون متسامحين مع الآخرين الذين لا نتفق مع آرائهم وتصوّراتهم وأن نحترم وجهات النظر المختلفة، لأن من شأن هذا أن يسمح لنا بالعيش في سلام ووئام مع المختلفين.
    كما تشير القصّة إلى أن تجربة المرء الذاتية يمكن أن تكون صحيحة، لكنها محدودة بطبيعتها لأنها لا تكفي لتفسير حقائق أخرى أو حقيقة كليّة.

  • Credits
    jkrishnamurti.org
    vam.ac.uk

    الثلاثاء، أغسطس 13، 2024

    ڤيريشاغين: ويلات الحرب


    "في السلام يدفن الأبناء آباءهم.
    وفي الحرب يدفن الآباء أبناءهم."

    السهل الأصفر المحروق يمتدّ إلى حافّة الأفق. الطبيعة غائمة، ولا يخترق شعاع واحد السحب. ليس هناك أمل في هذا المكان، فقط اليأس.
    وفي منتصف هذه الأرض المحروقة يرتفع جبل ضخم من الجماجم، مطويّة على شكل هرم. وفوقها يحوم قطيع من الغربان. بعض الجماجم تظهر عليها آثار السيوف والرصاص، وبعضها يحتفظ بآخر مشاعر الرعب والمعاناة والعذاب.
    إنها لوحة مروّعة حقّا. لا يوجد شخص حيّ واحد فيها. فقط رائحة الموت المنتشرة في كلّ مكان.
    ومن بعيد يمكن رؤية سلسلة جبال وما يشبه القلعة القديمة. لكن هذا الشريط المظلم الرقيق يؤكّد فقط على ضخامة الرعب الصامت الذي جرى فوق هذه الأرض.
    وطيور الجيَف هذه لا بدّ أنها تمتّعت مؤخّرا بوليمة رائعة، وهي الآن تدور بكسل فوق العظام بحثا عن قطعة لحم باقية هنا أو هناك. هنا كانت حرب. وكلّ سنتيمتر من الأرض مشبع بالموت الذي يسمّم كلّ شيء. الحياة يبدو وكأنها تسرّبت حتى من العشب الأخضر ومن الأشجار التي كانت خصبة وارفة، والآن لم يبقَ منها سوى جذوع عارية وأغصان رفيعة تمتدّ إلى السماء بعتَب صامت.
    الصحراء الحارّة والواسعة التي لا حياة فيها، والأشجار الجافّة الميّتة والعشب المحروق، تحت سماء جنوبية صافية وغير مبالية، بالإضافة الى اللون الأصفر للصورة، كلّها عناصر تؤكّد الدمار الكامل الذي يعقُب الحرب عادةً. الغربان السُود فقط هي الكائنات الحيّة الوحيدة في الصورة، لكنها أيضا رمز للموت. والمدينة المدمّرة في الخلفية والمحَدّقة فينا بمحاجر عيون فارغة تذكّرنا بمدى سهولة تدمير عالم مزهر وهشّ وثمين. تلك هي النتيجة المحزنة للحرب.
    في الصورة، لا توجد أيّ إشارة إلى زمان أو مكان الحدث، أو مَن تسبّب في كلّ هذا الإجرام، ربّما لأن اللوحة ذات طبيعة رمزية. ورغم أن الصورة وُصفت في البداية بأنها تاريخية وتعكس نتائج حملات تيمورلنك الذي عُرف بشغفه الخاصّ بقطع الرؤوس، إلا أن الفكرة تجاوزت نفسها، وأصبحت اللوحة بمثابة بيان يفضح جميع الحروب. وبغضّ النظر عمّا يقاتل الناس من أجله، فإن النتيجة واحدة دائما: ضحايا ومدن مدمّرة وأراض كانت خصبة ثم تحوّلت إلى صحاري قاحلة لا يسكنها سوى الجوارح والهوام.
    كلّ جمجمة يبدو وكأنها تصرخ للناظر الواقف على هذا الجانب من الصورة. العظام الجافّة تشتاق إلى القيامة. كومة الجماجم تشبه كومة الحجارة التي يمكن للربّ أن يخلق منها أبناء آدم الجدد. وفي وسط هذه الصحراء، تُسمع كلمات الربّ لأولئك الذين لم يعودوا يأملون في العثور على الرجاء.
    بعد أن رأى الرسّام بعينيه ما فعله المحاربون برفات العدو، حاول نقل حزن هذا المكان ليقول إن الله لا يتكلّم هنا، بل الشيطان! إذ مَن لديه القوّة لمقاومة كلّ هذا اليأس والصمت والخراب؟
    توليف اللوحة لافت ومؤثّر. كومة الجماجم الشاهقة التي ترمز كلّ واحدة منها إلى حياة ضائعة، تخلق إحساسا بالحجم الهائل للمأساة. واللون الأصفر الذي رُسمت به اللوحة يرتبط بالانحدار ويؤكّد على عقم وانعدام الحياة في المكان الذي جرى فيه الحدث الرهيب.
    كان الروسي فاسيلي ڤيريشاغين من أشهر رسّامي الحرب في القرن التاسع عشر.
    كان رحّالة لا يكلّ ولا يمل. وقد سافر في جميع أنحاء آسيا الوسطى والقوقاز وعاش وعمل فترة طويلة في الهند وزار التبت وفلسطين، كما زار العديد من بلدان أوروبّا والولايات المتحدة.
    الكثيرون أطلقوا عليه لقب "الفنّان المزعج"، لأن لوحاته الدقيقة والبارعة كانت تعبّر عن الكثير من الحقائق المريرة. كما سجّلت فرشاته، قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي، أهوال الحرب بالتفصيل وبدقّة لا ترحم ودون أن يميّز بين الأصدقاء والأعداء.
    كان ڤيريشاغين معروفا بتصويره الصارم لوحشية الحرب. وتُعتبر "تأليه الحرب Apotheosis of War" واحدة من أقوى أعماله وأكثرها تأثيرا. إنها بمثابة تذكير مؤلم بالأكلاف البشرية المدمّرة للصراع المسلّح وبعبثية تمجيد الحروب.
    وقد رافق الرسّام جيش بلاده في حملاته في تركستان وسمرقند واليابان. وبعض لوحاته التي رسمها آنذاك تتضمّن صورا لجثث جنود قتلى في ميدان المعركة. وقد مُنع عرضها على الملأ بعد أن اتّهمته سلطات بلاده بتشويه صورة الجيش بسبب تصويره لفظائع الحرب وعبثيّتها.
    كان تصويره للحرب مقنعا ودقيقا للغاية. كما كانت صوره تنطق ببشاعة الموت وبمعاناة الجرحى في ساحة المعركة وحجم مفرمة اللحم البشري التي تنحدر إليها أيّ حرب مهما كانت الأهداف "النبيلة" التي تساق كمبرّرات لها. وأوضحت لوحاته كيف أن الحروب وغزو الشعوب ليست عملا نبيلا ولا بطوليّا.
    بعد عودته من تركستان، انتقل ڤيريشاغين إلى ميونيخ عام 1871، حيث رسم هناك "سلسلة تركستان"، التي تتضمّن 13 لوحة بما فيها لوحته الأشهر التي فوق، أي "تأليه الحرب".
    وقد فضح الفنّان بلوحاته الشجاعة جرائم الحروب وأظهر الجانب الذي لا يراه الناس منها عادة، لدرجة أن أحد جنرالات بروسيا نصح الإمبراطور الروسي ألكسندر الثالث بأن يأمر بحرق جميع لوحات ڤيريشاغين الحربية "لأنها ذات تأثير ضارّ".
    لم يكن ڤيريشاغين يرسم لوحات وطنية أو فخورة، بل كان يحاول اختراق أعماق قلب الإنسان المتعطّش للدماء والمعارك، وينقل حالة الجرحى والمحتضرين. ولم يكن ينظر إلى الحرب باعتبارها ظاهرة ملازمة للوجود الإنساني، بل بحسبانها مأساة كبرى لا يمكن لأيّ دوافع أن تبرّرها.
    وكانت صوره، وخاصّة "تأليه الحرب"، بمثابة صدمة حقيقية لجمهور العاصمة الروسية المدلّل. كانوا يتوقّعون منه أن يرسم لهم الزخارف الشرقية أو عناصر الحياة في آسيا الوسطى التي لاحظها، أو أيّ شيء جديد يمكن أن يضاف إلى القصص الكلاسيكية المعتادة. لكن الدم والرعب والموت الذي رآه وصوّره على القماش أخاف الجمهور وأبعده. وكانت الكثير من هذه اللوحات تتضمّن دعوة لإعادة التفكير في الواقع.
    النقد الفنّي السوفياتي لم يستطع تفسير سبب إثارة هذه الصورة الخوف والرهبة لدى الجمهور، مع أن السبب بسيط للغاية. فهذه الصورة المرسومة بواقعية شديدة تطرح على المتلقّين أسئلة عن الحياة والموت، الوجود والعدم، وعن معنى النصر. هل الإنسان مستعد لفعل الشرّ من أجل هدفه؟ هل أنت مستعد لترك جبل من الجماجم خلفك كنصب تذكاري لبسالتك العسكرية؟ وكم هو ثمن الانتصار في الحرب؟
    عنوان اللوحة "تأليه الحرب" له مغزى خاّص، فكلمة "تأليه" تعني رفع شخص أو شيء ما إلى المكانة الإلهية. وباستخدام هذا العنوان، يشير ڤيريشاغين إلى أن تمجيد الحرب وتبجيلها وإضفاء طابع مقدّس، أو حتى رومانسي، عليها هو عمل مضلّل وخطير، لأنه يمجّد عمليات القتل والمذابح بلا رحمة ويرفع شيئا مدمِّرا بطبيعته إلى مرتبة التقديس.
    والرسّام لا يرى أيّ معنى عملي لتأليه الحرب. ربّما توفر الحرب الرضا المعنوي لدائرة محدودة من الأشخاص المستعدّين لدفع أيّ ثمن لتحقيق رغباتهم ومطامعهم الخاصّة: ثروة ضخمة أو سلطة غير محدودة أو معتقدات دينية وما الى ذلك.


    هناك آراء مختلفة بشأن المصدر الذي استلهم منه الفنّان موضوع لوحته. قيل مثلا أن ڤيريشاغين استلهم تأثير الحملات المدمّرة التي قام بها القائد المغولي تيمورلنك (ق 14)، وكانت نجاحاته العسكرية مصحوبة بأهرامات من جماجم العدوّ في أراضي الشعوب المهزومة. لكن آثار الرصاص الواضحة على الجماجم في اللوحة تشير إلى أن تيمورلنك قد لا تكون له علاقة بفكرتها.
    كما أن الرسّام كتب نقشا على إطار اللوحة يقول: مهداة الى جميع الفاتحين العظماء في الماضي والحاضر والمستقبل". وكانت تلك دعوة إلى كلّ المهووسين بالحروب للتفكير في عواقب الحرب والأهوال والدمار الذي تسبّبه والثمن الباهظ للانتصارات العسكرية.
    من جهة أخرى، قيل إن الفنّان استوحى فكرة اللوحة من أسطورة نساء دمشق وبغداد اللاتي قيل إنهن أتين إلى تيمورلنك ليشتكين له رجالهنّ الغارقين في الفجور. وقد أمر القائد جنوده بقطع رؤوس الخُطاة ووضعها في كومة واحدة. وكانت المحصّلة سبعة أهرامات من الرؤوس المقطوعة نُصبت في ميدان.
    المثير للدهشة أن هذا "الإرث" الدامي لتيمورلنك استمرّ في آسيا الوسطى لعدّة قرون. واليوم يعتبر الكثيرون هذا الرجل قدّيسا، وله ضريح يقصده الناس للدعاء له والتماس البركة منه.
    وهناك رواية أخرى عن فكرة اللوحة، إذ يقال إن ڤيريشاغين سمع عن قصّة إعدام حاكم كشغر لرحّالة أوروبّي يُدعى أدولف شلاغنتويت عام 1857. وقد أمر الحاكم بوضع رأس الرحّالة فوق هرم من جماجم الأشخاص الآخرين الذين سبق أن أُعدموا.
    كان شلاغنتويت رحالّة وجغرافيّا مشهورا، وكانت أعماله ذات قيمة في جميع أنحاء العالم. وفي عامه الأخير، قرّر التوغّل في تركستان الشرقية وتسلّق قمم الجبال هناك ووضع بعض الرسومات والخرائط. ثم قرّر أن ينتقل شرقا، وانتهى به الأمر في كشغر الواقعة اليوم ضمن حدود الصين، حيث قُبض عليه من قبل الحاكم المحلّي المشهور بقسوته. ولم يكن من الممكن أبدا معرفة سبب سوء التفاهم بين الرحّالة والحاكم.
    وعلى ما يبدو، لم يكن حاكم كشغر المستبد يرحم أعداءه ولم يكن يدخّر حتى أصدقاءه من الانتقام. وبعد وصوله إلى الحكم، بدأ في استعادة النظام باستخدام أساليب وحشية وأصبحت عمليات الإعدام المتكرّرة أمرا عاديّا. كما لم يكن الحاكم يحبّ الغرباء واعتبرَ كلّ مسافر جاسوسا. لذا أعدم الرحّالة الغربي ووضع رأسه على قمّة هرم من الجماجم البشرية.
    لكن هناك شبه اجماع بين مؤرّخي الفن بأن الرسّام تأثّر إلى حدّ كبير برحلته الخطيرة إلى تركستان، حيث خدم في عهد الحاكم الروسي هناك، وكان عليه أن يواجه العواقب المدمّرة للحرب وأن يشارك في المعارك بنفسه.
    في تركستان كان ڤيريشاغين يرى الموت وجبال الجثث يوميا. وكان رفضه للحرب يتزايد كلّ يوم. وهكذا وُلدت "سلسلة تركستان" التي صوّر فيها مشاهد المعارك والحياة اليومية لسكّان آسيا الوسطى. وكانت ذروة الرحلة وإعادة التفكير في الوضع هي لوحته "تأليه الحرب".
    كانت أسفار الرسّام الواسعة في مناطق آسيا الوسطى التي دمّرتها الحملات العسكرية للإمبراطورية الروسية، ولقاءاته مع السكّان المحليين الذين كانوا في كثير من الأحيان ضحايا هذه الصراعات، قد عزّزت فهمه للخسائر البشرية للحرب وتصميمه على كشف حقائقها.
    والعديد من لوحات ڤيريشاغين الأخرى تتبع نفس المنحى، إذ تتحدّى الاتجاه السائد لتمجيد الصراعات المسلّحة. كان الفنّان يهدف إلى تحطيم أسطورة الحرب باعتبارها عملا بطوليا ونبيلا، ويكشف واقعها الوحشيّ الحقيقي. كما أن لوحاته تروّج لرسالة السلام والإنسانية بتسليطها الضوء على الخسائر البشرية الهائلة والمعاناة التي تلحق بأولئك الذين لا يشاركون في القتال.
    وبالإضافة الى هذا، فإن صوره تنتقد بشكل مباشر السياسات الكولونيالية والطموحات العسكرية لمختلف القوى، بما في ذلك الإمبراطورية الروسية، التي شعر أنها مسؤولة عن الكثير من سفك الدماء والمعاناة.
    ويمكن القول أيضا إن فنّ ڤيريشاغين كان صوتا قويّا ومؤثّرا في تحدّيه للروايات السائدة المحيطة بالحرب وسعيه إلى تعزيز رؤية عالمية أكثر تعاطفا وميلا نحو السلام والتعايش.
    وكان لتجاربه الشخصية والمآسي التي شهدها بنفسه تأثير عميق على وجهة نظره حول الحرب وعواقبها، ما دفعه لأن يصبح منتقدا صريحا لتمجيدها، وهو ما انعكس بوضوح في لوحاته القويّة.
    كان ڤيريشاغين متأثّرا بالأفكار السلمية والإنسانية لتولستوي الذي انتقد تمجيد الحرب والمجمّع الصناعي العسكري. وشكّلت هذه الآراء الفلسفية مهمّة ڤيريشاغين الفنيّة لتحدّي الروايات السائدة عن الصراعات المسلحة.
    ولم يكن ڤيريشاغين نفسه محصّنًا ضدّ مآسي الحرب. فقد قُتل شقيقه، وهو ضابط عسكري، أثناء الحرب الروسية التركية، ما زاد من عزمه على كشف التكلفة البشرية للحرب من خلال فنّه.
    وبالاعتماد على تجاربه وملاحظاته المباشرة، فضلا عن معتقداته الفلسفية والإنسانية، أنجز ڤيريشاغين مجموعة من الأعمال الفنّية التي تتناقض بشكل صارخ مع التصوير الرومانسي للحرب الذي كان سائدا في فنّ القرن التاسع عشر والذي كان يصوّر بطولة وبسالة الجنود. وكانت لوحاته تلك بمثابة صوت قويّ ومؤثّر ضدّ تمجيد الصراع المسلح وعواقبه المدمّرة.
    ومن أشهر اعماله الأخرى عن أهوال ووحشية وعبثية الحرب لوحته بعنوان "الجندي المنسي"، وفيها تظهر جثّة جنديّ روسي تُرك وحيدا في ساحة المعركة. وفي لوحة أخرى بعنوان "طريق أسرى الحرب" يرسم صفّا طويلًا من أسرى الحرب، بما في ذلك النساء والأطفال، وهم يسيرون عبر منطقة مثلجة ووعرة.
    وهناك لوحتان أخريان له تصوّران حدثا واحدا هو الهجوم على حصن خِيوا في أوزبكستان. وتُظهر اللوحة الأولى رتلا من القوّات الروسية وهي تبدأ هجومها. وفي اللوحة الثانية نرى عواقب ذلك الهجوم: جنود موتى ممدّدون على الأرض، وعلى مسافة نرى جنودا ناجين وهم متعبون ويسيرون على غير هدى وغير مكترثين بما حدث لزملائهم. لا يوجد هنا أيّ إحساس بالقوّة، بل نظرة إلى الحرب على أنها شرسة وغير مبالية.
    بين عام 1882 وعام 1903، سافر ڤيريشاغين كثيرا، واختار في تلك المرّة أن يزور دولا مثل الهند وفلسطين وسوريا. ثم سرعان ما اشتعلت حرب أخرى، هذه المرّة بين روسيا واليابان.
    ومن المؤسف أن تلك الحرب شهدت نهاية الفنّان الذي كثيرا ما رسم ويلات الحروب في لوحاته. وتوفّي ڤيريشاغين في ابريل 1904 متأثّرا بجروحه إثر انفجار البارجة الروسية بتروبافلوفسك ثم غرقِها في بحر الصين.

    Credits
    musings-on-art.org
    tretyakovgallery.ru

    الأحد، أغسطس 11، 2024

    آبي: صوت من البَرّية


    هذا الكتاب كثيرا ما يقارَن بكتاب "الحياة في الغابات Walden" لهنري ديفيد ثورو. عنوان الكتاب "المنعزل في الصحراء "Desert Solitaire، ويتحدّث فيه مؤلّفه إدوارد آبي عن تجربته وأنشطته كحارس في متنزّه "آرتشيز" في صحراء موآب في ولاية يوتا الامريكية في أواخر خمسينيات القرن الماضي.
    الكتاب يوصف بأنه واحد من الأعمال المؤثّرة التي ساهمت في رواج "كتابات الطبيعة" في الستّينات والسبعينات. وفيه يتأمّل آبي في الدين والفلسفة والأدب وتقاطعاتها مع حياة الصحراء، بالإضافة إلى أفكار مختلفة حول التوتّر بين الثقافة والحضارة ومشاكل الحفاظ على البيئة.
    من ناحية أخرى، يمكن اعتبار الكتاب نوعا من السيرة الذاتية. وهو مكتوب كسلسلة من القصص القصيرة التي تتناول الأوصاف الحيّة للحيوانات والنباتات والجيولوجيا والسكّان، بالإضافة الى الروايات المباشرة عن استكشاف البرّية والجدل حول التنمية ومضارّ السياحة الصناعية.
    يقول المؤلّف في مقدّمة الكتاب: عندما بدأت تسجيل انطباعاتي عن المشهد الطبيعي، سعيت جاهداً إلى اتباع الدقّة قبل كلّ شيء، لأنني أعتقد أن هناك نوعاً من الشعر في الحقيقة البسيطة. إن اللغة تصنع شبكة فضفاضة وقويّة يمكن من خلالها صيد الحقائق البسيطة عندما تكون الحقيقة لا نهائية. وبما أنه لا يمكنك إدراج الصحراء في كتاب بأكثر مما يستطيع الصيّاد سحب البحر بشباكه، فقد حاولت خلق عالم من الكلمات بحيث تظهر الصحراء كوسيط أكثر منها مادّة".
    آبي، الذي ألّف كتابه قبل أكثر من نصف قرن، يصف الكتاب بأنه "ليس دليلاً سياحياً بل مرثية". فبينما يروي كيف ضلّ طريقه على مسافة عشرين ميلاً في عمق الصحراء، يتساءل عن عدد الأماكن الداخلية الأرضية التي قد يضيع فيها المرء من أجل أن يعثر على نفسه، وكم عدد الأماكن غير المتوقّعة في العزلة المقدّسة التي نستطيع من خلالها الوصول إلى دواخلنا".
    آبي يكتب عن الحالة الإنسانية وكيف أن الإنسان لا ينفصل عن الأرض، وكيف أن البريّة لا تنفصل عن الحضارة، بل هي جزء لا يتجزّأ منها. إنه يدعو إلى الاستمتاع بالطبيعة من خلال معايشتها وليس استهلاكها. وانسحابه إلى عالم الصخور الجافّة هو محاولة منه لفهم العالم بشكل أفضل.
    لم يكن آبي مجرّد كاتب، بل شخصية أدبية لها أتباع. ولا تزال فلسفته المثيرة للجدل تلهم ناشطي البيئة. لكن، بحسب أحد النقّاد، لو كان ما يزال حيّا فمن المرجّح أن يكون في السجن بتهمة الإرهاب البيئي!
    وأنت تقرأ كلماته ستتناثر روائح الأعشاب والغبار والندى والأزهار والحصى. ومن خلال كلماته سترى الصحراء، ليس باعتبارها مجرّد مكان لاستكشافه، ولا مجرّد مورد لاستغلاله، بل كجسد سياسي وجغرافي وثقافي وانثروبولوجي في نفس الوقت.
    الأسطر التالية عبارة عن فقرات مترجمة ممّا دوّنه إدوارد آبي من آراء وأفكار وتأمّلات في كتابه.

  • إنني هنا، لا لأهرب لبعض الوقت من الصخب والضوضاء، بل لأواجه العظام العارية للوجود. أريد أن أتمكّن من النظر إلى شجرة عرعر أو قطعة كوارتز أو نسر أو عنكبوت، وأن أراها كما هي في ذاتها، خاليةً من كلّ الصفات المنسوبة إلى البشر. أريد أن ألتقي بالله أو ميدوسا وجهاً لوجه، حتى لو كان ذلك يعني المخاطرة بكلّ ما هو إنساني في داخلي. أحلم بتصوّف قاسٍ ووحشي، حيث تندمج الذات العارية مع عالم غير بشري، ومع ذلك تظلّ على قيد الحياة بطريقة أو بأخرى، سليمةً فردية ومنفصلة.
  • لا تقفز إلى سيّارتك وتسرع إلى الوادي على أمل أن ترى على الطبيعة شيئاً مما كتبته في هذه الصفحات. فأوّلا، لن تتمكّن من رؤية أي شيء من السيّارة، عليك أن تخرج من هذه الآلة اللعينة وتمشي، والأفضل من ذلك أن تزحف على يديك وركبتيك فوق الحجر الرملي وعبر شجيرات الشوك والصبّار.
    وعندما تبدأ آثار الدماء في ترك أثر على دربك، ربّما سترى شيئاً وربّما لا. ثانياً، لأن معظم ما كتبت عنه في هذا الكتاب قد اختفى بالفعل أو يختفي بسرعة. هذا ليس دليلاً سياحياً بل مرثيّة، نصب تذكاري. أنت تحمل بين يديك شاهد قبر، صخرة ملطّخة بالدماء. لا تُسقطها على قدمك، بل ألقِها على شيء كبير وزجاجي. ماذا لديك لتخسره؟!
  • أستيقظُ قبل شروق الشمس، وأُخرِج رأسي من الكيس، وألقي نظرة عبر نافذة متجمّدة على مشهد خافت وغامض مع ضباب متدفّق وأشكال خيالية مظلمة تلوح في الأفق. إنه منظر طبيعي غير متوقّع، في المكان الأكثر جمالاً على الأرض.
  • تُشرق الشمس وسط رياح صفراء عاصفة. إنه وقت الإفطار. الآن داخل المقطورة، أطهو لحما مقدّدا وأقلي بيضا، وأسمع صوت الرمال وهي تتساقط مثل المطر على الجدران المعدنية وتضرب زجاج النوافذ. يتراكم الطمي الناعم أسفل الباب وعلى حافّة النافذة. تهتزّ المقطورة في هبّة ريح مفاجئة. سواءً كانت عاصفة رملية أو حرارة شمس، أنا راضٍ عن كلّ شيء طالما لديّ ما آكله وبصحّة جيّدة ولديّ أرض أقف عليها وضوء خلف عينيّ لأرى من خلاله.
  • إن رائحة العرعر المحترق هي أطيب رائحة على وجه الأرض، وأشكّ في أن كلّ المباخر المدخّنة في جنّة دانتي يمكن أن تدانيها. إن نفَسا واحدا من دخان العرعر مثل عطر الشيح أو الميرمية بعد المطر.. يحفّز المشاعر وينقّي الروح. بعد موتي، إذا ساعَدَت جثّتي المتحلّلة في تغذية جذور شجرة عرعر أو أجنحة نسر، فهذا يكفيني من الخلود.
  • هذه أقواس طبيعية وثقوب في الصخر ونوافذ من الحجر لا مثيل لها، متنوّعة في الشكل كما هي متنوّعة في الأبعاد. وقد تشكّلت على مدى مئات الآلاف من السنين بفعل عوامل التعرية التي لحقت بجدران الحجر الرملي الضخمة، أو الزعانف التي توجد فيها. ولم تكن هذه الأقواس من صنع الإنسان ولا نحتتها الرياح الحاملة للرمال كما يعتقد الكثيرون، بل نشأت بسبب تأثير مياه الأمطار وذوبان الثلوج والصقيع والجليد بمساعدة الجاذبية.
  • عندما أقف هناك مذهولاً أمام هذا المشهد الوحشي غير البشري من الصخور والسحب والسماء والفضاء، أشعر بجشع ورغبة في التملّك تملأ كياني. أريد أن أعرف كلّ شيء وأن أمتلك كل شيء وأن أحتضن المشهد بأكمله بحميمية وعمق وبشكل كامل، كما يرغب الرجل في امرأة جميلة. هل هذه رغبة مجنونة؟! ربّما لا!
  • إن كلّ رجل وامرأة يحمل في قلبه وعقله صورة المكان المثالي والمكان الصحيح والوطن الحقيقي الوحيد، المعروف أو غير المعروف، الفعليّ أو الخيالي: منزل عائم في كشمير، أو منظر أسفل شارع أتلانتيك في بروكلين، أو مزرعة قوطية رمادية اللون على ارتفاع طابقين في نهاية طريق أحمر في جبال ألليغيني، أو كوخ على شاطئ بحيرة زرقاء في منطقة أشجار التنّوب والصنوبر، أو زقاق مترب بالقرب من الواجهة البحرية لهوبكين.
    ليس هناك حدود لقدرة الإنسان على الشعور بالعودة إلى الوطن. حتى علماء الدين وطيّارو السماء وروّاد الفضاء شعروا بجاذبية الوطن الذي يناديهم من أعلى، في المناطق النائية المظلمة والباردة من الفضاء الخارجي بين النجوم.
  • فوق رؤوسنا، تنطلق صيحات البوم تحت القمر الضائع بين الغيوم، تهبّ رياح ما قبل الفجر وهي تتنهّد عبر أشجار القطن. صوت أوراقها الجافّة الرقيقة يشبه همهمة الماء من بعيد أو همسات الأشباح في كاتدرائية قديمة فارغة محكوم عليها بالإعدام.
  • في إحدى الأمسيات، عندما كشفت لزائرٍ أفكاري عن الصحراء، اتهمني بأنني ضد الحضارة وضد العلم وضد الإنسانية. وبطبيعة الحال، شعرت بالإطراء وفي الوقت نفسه بالدهشة والأذى والصدمة. كيف، وأنا عضو في الإنسانية، يمكنني أن أكون ضد الإنسانية دون أن أكون ضد نفسي التي أحبّها وإن لم يكن كثيرا؟
    كيف يمكنني أن أكون ضد العلم عندما أُعجب بقدر ما أستطيع بطاليس وديموكريتيس وفاوستوس وباراسيلسوس وكوبرنيكوس وغاليليو وكيبلر ونيوتن وداروين وآينشتاين؟ وكيف يمكنني أن أكون ضد الحضارة عندما يكون كلّ ما أدافع عنه وأقدّسه عن طيب خاطر، بما في ذلك حبّ البرّية، جزءا لا يتجزّأ من الحضارة؟!


  • إن الحياة البرّية ليست رفاهية، بل ضرورة للروح الإنسانية. وهي حيوية لحياتنا مثل الماء والخبز الجيّد. إن الحضارة التي تدمّر ما تبقّى من الحياة البرّية تقطع نفسها عن أصولها وتخون مبدأ الحضارة نفسها.
  • الشخص الذي يسير على قدميه أو على ظهر حصان أو على درّاجة، سيرى ويشعر ويستمتع في ميل واحد بأكثر مما يستطيع السائح الذي يستخدم السيّارة أن يستمتع به في مائة ميل.
  • المدينة التي ينبغي أن تكون رمزا ومركزا للحضارة يمكن أن تتحوّل أيضا إلى معسكر اعتقال. وهذا أحد الاكتشافات المهمّة في العلوم السياسية المعاصرة.
  • عندما تشكّ في الشرب من نبع مجهول، فابحث عن الحياة. فإذا كان الماء مليئا بالطحالب والديدان واليرقات والعناكب والديدان الكبدية، فكن مطمئنا واشرب بسخاء. ولكن إن بدا لك الماء بريئا ونقيّا فاحذر!
  • يمكن للإنسان أن يكون عاشقا للبريّة ومدافعا عنها دون أن يغادر أبدا في حياته حدود الأسفلت وخطوط الكهرباء والأسطح ذات الزوايا القائمة. إننا بحاجة إلى البرّية، سواءً وضعنا أقدامنا فيها أم لا. نحن بحاجة إلى ملجأ حتى لو لم نلمسه بأقدامنا أبدا. نحتاج الى البرّية تماما كما نحتاج إلى الأمل، وبدونها فإن حياة المدن ستدفع الناس إلى الجريمة أو المخدّرات أو الأمراض النفسية.
  • معظم جولاتي في الصحراء كانت بمفردي. ولم يكن هذا من باب الاختيار بل من باب الضرورة، فأنا أفضل عادةً الذهاب إلى أماكن لا يرغب أحد آخر في الذهاب إليها. وأجد أن متعتي في التأمّل في عالم الطبيعة تكون أعظم إذا لم يكن برفقتي آخرون يتأمّلونها معي.
  • في أواخر شهر أغسطس، لا يمكن مقاومة إغراء الجبال. فبعد أن أكون قد احترقت تحت حرارة الشمس اللافحة، أحلم بأن أرى المياه الجارية مرّة أخرى وأن أعانق شجرة صنوبر وأن أنقش أحرف اسمي الأولى في لحاء شجرة حور وأن أتعرّض للدغة بعوضة وأن أرى طائرا أزرق جبليّا وأن أضيع وسط أشجار التنّوب وأن أستحمّ في الشمس على الثلج وأن آكل بعض الجليد وأن أتسلّق الصخور وأن أقف في مهبّ الريح على قمّة الجبل القريب.
  • إذا كان لدى الانسان معرفة كافية، فإنه يستطيع أن يؤلّف كتابا كاملاً عن شجرة العرعر. ليست كلّ أشجار العرعر، بل تلك الشجرة بالذات التي تنمو على حافّة الحجارة الرملية العارية بالقرب من المدخل القديم لنصب "آرتشيز" الوطني.
  • لقد اتفقنا على عدم قيادة سيّاراتنا إلى الكاتدرائيات وقاعات الحفلات الموسيقية والمتاحف الفنّية والجمعيات التشريعية وغرف النوم الخاصّة وغيرها من الأماكن المقدّسة في ثقافتنا. ويجب أن نعامل حدائقنا ومتنزّهاتنا الوطنية بنفس الاحترام لأنها هي أيضا أماكن مقدّسة. وباعتبارنا شعبا وثنيّا متعجرفا (!)، فإننا يجب أن نتعلّم أن الغابات والجبال والوديان الصحراوية أكثر قداسة من كنائسنا. لذلك دعونا نتصرّف تبعاً لذلك.
  • لقد أتينا من البريّة وعشنا بها وسنعود إليها. وحبّها هو أكثر من مجرّد رجوع إلى ما هو بعيد المنال. إنه أيضا تعبير عن الولاء للأرض، الأرض التي ولدتنا ودعمتنا، والمنزل الوحيد الذي نعرفه.
  • بحسب علماء الجيولوجيا وفكرتهم عن العصور والدهور، كلّ شيء متغيّر. ولكن من وجهة نظر بشرية فانية، فإن منظر كولورادو يشبه جزءا من الأبدية، إنها بلا زمن. في كلّ سنواتي في بلاد الوديان لم أرَ صخرة تسقط من تلقاء نفسها. ولكي اقنع نفسي بحقيقة التغيير، وبالتالي الزمن، أدفع أحيانا حجرا فوق حافّة جرف وأراقبه وهو يهبط وأنتظر. لست مقتنعا تماما بفرضيات علم التشكّل الجيولوجي.
  • يعود الليل ويحتضنني الهدوء العظيم. أستطيع أن أرى النجوم مرّة أخرى وعالم ضوء النجوم. أنا على بعد عشرين ميلاً أو أكثر من أقرب إنسان، ولكن بدلاً من الشعور بالوحدة أشعر بالجمال، الجمال والابتهاج الهادئ.
  • يبدو لي من المحتمل أن العديد من الحيوانات غير المستأنسة تعاني من مشاعر غير معروفة لنا. ماذا تعني الذئاب عندما تصرخ للقمر؟ ماذا تحاول الدلافين بصبر أن تخبرنا؟ ما الذي كان يدور في ذهن الثعبانين المذهولين اللذين انزلقا امامي فوق الحجر الرملي العاري بالأمس؟ لو كانت لديّ الثقة ولم أكن خائفا، لربّما تعلّمت شيئا جديدا أو بعض الحقائق القديمة جدّا والتي نسيناها جميعا.
  • سواءً كنّا نعيش أو نموت، فهذا أمر لا يهمّ الصحراء على الإطلاق. الصحراء لا تكترث كثيرا بحضورنا أو غيابنا، ببقائنا أو ذهابنا. فليفجّر البشر في جنونهم كلّ مدينة على الأرض وليحوّلوها إلى أنقاض سوداء وليغلّفوا الكوكب بأكمله بسحابة من الغاز المميت. ستظلّ الوديان والتلال والينابيع والصخور هنا، وستأتي أشعّة الشمس وستتشكّل المياه وينتشر الدفء على الأرض. وبعد وقت كافٍ، قد يطول وقد يقصر، ستظهر الكائنات الحيّة في مكان ما وتنضمّ وتقف مرّة أخرى.
    وهذه المرّة ربّما تتخذ مسارا مختلفا وأفضل. لقد رأيت المكان المسمّى "Trinity" في نيو مكسيكو، حيث فجّر "حكماؤنا" القنبلة الذريّة الأولى وصهرت حرارة الانفجار الرمال وحوّلتها الى زجاج أخضر. لقد عاد العشب بالفعل مع الصبّار والمسكيت (prosopis) وغيرها من النباتات الصلبة وذات الجذور العميقة.
  • هناك أشياء، مثل قبضة يد طفل في يدك ونكهة التفّاح وعناق صديق أو حبيب وأشعّة الشمس على الصخور والأوراق وملمس الموسيقى ولحاء الشجرة وتآكل الغرانيت والرمل والغوص في الماء الصافي لبركة ووجه الريح.. ماذا نحتاج غير ذلك؟
  • ما السبب الذي يجعلنا - نحن الأميركيين - نعتقد أن مجتمعنا سينجو بالضرورة من الانجراف العالمي نحو التنظيم الشمولي للبشر والمؤسّسات؟
  • عندما تناولت طعامي في الخارج بجانب شجرة العرعر المحترقة في الموقد، حيث الصحراء والجبال أكثر ممّا يمكنني استكشافه، فكّرت في عالم أكبر بكثير، عالم يمتدّ إلى الماضي والمستقبل دون أيّ حدود معروفة للبشرية.
    ومن خلال خلع حذائي ودفن أصابع قدمي في الرمال، اتصلت بهذا العالم الأكبر، وهو شعور مبهج يؤدّي إلى اتّزان النفس. بالتأكيد كنت لا أزال وحدي. لم يكن هناك أشخاص آخرون حولي وما زال لا يوجد أحد. وفي خضمّ هذه الصورة العظيمة، فإن كلّ ما هو إنسانيّ ذاب في السماء وتلاشى وراء الجبال، وشعرت بأن الإنسان لا يمكن أن يجد صاحبا أفضل من نفسه.
  • لنفترض أن البريّة تثير الحنين إلى الماضي، وهو حنين مبرّر وليس مجرّد حنين عاطفيّ إلى أميركا المفقودة التي عرفها أسلافنا. إن كلمة البريّة تشير إلى الماضي والمجهول، وإلى رحم الأرض الذي خرجنا منه جميعا. إنها تعني شيئا ضائعا وما يزال حاضرا، شيئا بعيدا وفي نفس الوقت حميما، شيئا مدفونا في دمائنا وأعصابنا، شيئا يتجاوزنا ولا حدود له.
  • أثناء تجوالي ذات مرّة، بدا لي أن غرابة الوجود وعجائبه تتجلّى هنا في الصحراء من خلال الندرة النسبية للنباتات والحيوانات. فالحياة ليست مزدحمة ولكنها متناثرة في كلّ مكان، مع مساحة سخيّة لكلّ عشبة وشجيرة وشجرة، بحيث يبرز الكائن الحيّ جريئا وحيويا على الرمال الخالية من الحياة والصخور القاحلة.
  • اكتوبر. شجيرات الأرانب تتفتّح بكامل إزهارها. الأعشاب الزاحفة تتحرّك بِتَوق لأن تكون في مكان آخر، والآلاف منها تتدحرج عبر السهول أمام الريح. شيء يشبه الطفح الجلدي الأصفر ينتشر على جوانب الجبال: غابات الحور المهتزّة في روعة الخريف. غروب الشمس كلّ مساء: ارتجالات دموية عظيمة باللونين القرمزي والذهبي تذكّرني بالفطائر السماوية التي صنعها الله.
  • ستظلّ الصحراء هنا في الربيع. لكن عندما أعود، هل سيكون الأمر كما كان، هل سأكون أنا كما كنت، هل سيعود أيّ شيء إلى ما كان عليه مرّة أخرى إذا عدت؟

  • Credits
    academia.edu