هذا الكتاب كثيرا ما يقارَن بكتاب "الحياة في الغابات Walden" لهنري ديفيد ثورو. عنوان الكتاب "المنعزل في الصحراء "Desert Solitaire، ويتحدّث فيه مؤلّفه إدوارد آبي عن تجربته وأنشطته كحارس في متنزّه "آرتشيز" في صحراء موآب في ولاية يوتا الامريكية في أواخر خمسينيات القرن الماضي.
الكتاب يوصف بأنه واحد من الأعمال المؤثّرة التي ساهمت في رواج "كتابات الطبيعة" في الستّينات والسبعينات. وفيه يتأمّل آبي في الدين والفلسفة والأدب وتقاطعاتها مع حياة الصحراء، بالإضافة إلى أفكار مختلفة حول التوتّر بين الثقافة والحضارة ومشاكل الحفاظ على البيئة.
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار الكتاب نوعا من السيرة الذاتية. وهو مكتوب كسلسلة من القصص القصيرة التي تتناول الأوصاف الحيّة للحيوانات والنباتات والجيولوجيا والسكّان، بالإضافة الى الروايات المباشرة عن استكشاف البرّية والجدل حول التنمية ومضارّ السياحة الصناعية.
يقول المؤلّف في مقدّمة الكتاب: عندما بدأت تسجيل انطباعاتي عن المشهد الطبيعي، سعيت جاهداً إلى اتباع الدقّة قبل كلّ شيء، لأنني أعتقد أن هناك نوعاً من الشعر في الحقيقة البسيطة. إن اللغة تصنع شبكة فضفاضة وقويّة يمكن من خلالها صيد الحقائق البسيطة عندما تكون الحقيقة لا نهائية. وبما أنه لا يمكنك إدراج الصحراء في كتاب بأكثر مما يستطيع الصيّاد سحب البحر بشباكه، فقد حاولت خلق عالم من الكلمات بحيث تظهر الصحراء كوسيط أكثر منها مادّة".
آبي، الذي ألّف كتابه قبل أكثر من نصف قرن، يصف الكتاب بأنه "ليس دليلاً سياحياً بل مرثية". فبينما يروي كيف ضلّ طريقه على مسافة عشرين ميلاً في عمق الصحراء، يتساءل عن عدد الأماكن الداخلية الأرضية التي قد يضيع فيها المرء من أجل أن يعثر على نفسه، وكم عدد الأماكن غير المتوقّعة في العزلة المقدّسة التي نستطيع من خلالها الوصول إلى دواخلنا".
آبي يكتب عن الحالة الإنسانية وكيف أن الإنسان لا ينفصل عن الأرض، وكيف أن البريّة لا تنفصل عن الحضارة، بل هي جزء لا يتجزّأ منها. إنه يدعو إلى الاستمتاع بالطبيعة من خلال معايشتها وليس استهلاكها. وانسحابه إلى عالم الصخور الجافّة هو محاولة منه لفهم العالم بشكل أفضل.
لم يكن آبي مجرّد كاتب، بل شخصية أدبية لها أتباع. ولا تزال فلسفته المثيرة للجدل تلهم ناشطي البيئة. لكن، بحسب أحد النقّاد، لو كان ما يزال حيّا فمن المرجّح أن يكون في السجن بتهمة الإرهاب البيئي!
وأنت تقرأ كلماته ستتناثر روائح الأعشاب والغبار والندى والأزهار والحصى. ومن خلال كلماته سترى الصحراء، ليس باعتبارها مجرّد مكان لاستكشافه، ولا مجرّد مورد لاستغلاله، بل كجسد سياسي وجغرافي وثقافي وانثروبولوجي في نفس الوقت.
الأسطر التالية عبارة عن فقرات مترجمة ممّا دوّنه إدوارد آبي من آراء وأفكار وتأمّلات في كتابه.
إنني هنا، لا لأهرب لبعض الوقت من الصخب والضوضاء، بل لأواجه العظام العارية للوجود. أريد أن أتمكّن من النظر إلى شجرة عرعر أو قطعة كوارتز أو نسر أو عنكبوت، وأن أراها كما هي في ذاتها، خاليةً من كلّ الصفات المنسوبة إلى البشر. أريد أن ألتقي بالله أو ميدوسا وجهاً لوجه، حتى لو كان ذلك يعني المخاطرة بكلّ ما هو إنساني في داخلي. أحلم بتصوّف قاسٍ ووحشي، حيث تندمج الذات العارية مع عالم غير بشري، ومع ذلك تظلّ على قيد الحياة بطريقة أو بأخرى، سليمةً فردية ومنفصلة.
لا تقفز إلى سيّارتك وتسرع إلى الوادي على أمل أن ترى على الطبيعة شيئاً مما كتبته في هذه الصفحات. فأوّلا، لن تتمكّن من رؤية أي شيء من السيّارة، عليك أن تخرج من هذه الآلة اللعينة وتمشي، والأفضل من ذلك أن تزحف على يديك وركبتيك فوق الحجر الرملي وعبر شجيرات الشوك والصبّار.
وعندما تبدأ آثار الدماء في ترك أثر على دربك، ربّما سترى شيئاً وربّما لا. ثانياً، لأن معظم ما كتبت عنه في هذا الكتاب قد اختفى بالفعل أو يختفي بسرعة. هذا ليس دليلاً سياحياً بل مرثيّة، نصب تذكاري. أنت تحمل بين يديك شاهد قبر، صخرة ملطّخة بالدماء. لا تُسقطها على قدمك، بل ألقِها على شيء كبير وزجاجي. ماذا لديك لتخسره؟!
أستيقظُ قبل شروق الشمس، وأُخرِج رأسي من الكيس، وألقي نظرة عبر نافذة متجمّدة على مشهد خافت وغامض مع ضباب متدفّق وأشكال خيالية مظلمة تلوح في الأفق. إنه منظر طبيعي غير متوقّع، في المكان الأكثر جمالاً على الأرض.
تُشرق الشمس وسط رياح صفراء عاصفة. إنه وقت الإفطار. الآن داخل المقطورة، أطهو لحما مقدّدا وأقلي بيضا، وأسمع صوت الرمال وهي تتساقط مثل المطر على الجدران المعدنية وتضرب زجاج النوافذ. يتراكم الطمي الناعم أسفل الباب وعلى حافّة النافذة. تهتزّ المقطورة في هبّة ريح مفاجئة. سواءً كانت عاصفة رملية أو حرارة شمس، أنا راضٍ عن كلّ شيء طالما لديّ ما آكله وبصحّة جيّدة ولديّ أرض أقف عليها وضوء خلف عينيّ لأرى من خلاله.
إن رائحة العرعر المحترق هي أطيب رائحة على وجه الأرض، وأشكّ في أن كلّ المباخر المدخّنة في جنّة دانتي يمكن أن تدانيها. إن نفَسا واحدا من دخان العرعر مثل عطر الشيح أو الميرمية بعد المطر.. يحفّز المشاعر وينقّي الروح. بعد موتي، إذا ساعَدَت جثّتي المتحلّلة في تغذية جذور شجرة عرعر أو أجنحة نسر، فهذا يكفيني من الخلود.
هذه أقواس طبيعية وثقوب في الصخر ونوافذ من الحجر لا مثيل لها، متنوّعة في الشكل كما هي متنوّعة في الأبعاد. وقد تشكّلت على مدى مئات الآلاف من السنين بفعل عوامل التعرية التي لحقت بجدران الحجر الرملي الضخمة، أو الزعانف التي توجد فيها. ولم تكن هذه الأقواس من صنع الإنسان ولا نحتتها الرياح الحاملة للرمال كما يعتقد الكثيرون، بل نشأت بسبب تأثير مياه الأمطار وذوبان الثلوج والصقيع والجليد بمساعدة الجاذبية.
عندما أقف هناك مذهولاً أمام هذا المشهد الوحشي غير البشري من الصخور والسحب والسماء والفضاء، أشعر بجشع ورغبة في التملّك تملأ كياني. أريد أن أعرف كلّ شيء وأن أمتلك كل شيء وأن أحتضن المشهد بأكمله بحميمية وعمق وبشكل كامل، كما يرغب الرجل في امرأة جميلة. هل هذه رغبة مجنونة؟! ربّما لا!
إن كلّ رجل وامرأة يحمل في قلبه وعقله صورة المكان المثالي والمكان الصحيح والوطن الحقيقي الوحيد، المعروف أو غير المعروف، الفعليّ أو الخيالي: منزل عائم في كشمير، أو منظر أسفل شارع أتلانتيك في بروكلين، أو مزرعة قوطية رمادية اللون على ارتفاع طابقين في نهاية طريق أحمر في جبال ألليغيني، أو كوخ على شاطئ بحيرة زرقاء في منطقة أشجار التنّوب والصنوبر، أو زقاق مترب بالقرب من الواجهة البحرية لهوبكين.
ليس هناك حدود لقدرة الإنسان على الشعور بالعودة إلى الوطن. حتى علماء الدين وطيّارو السماء وروّاد الفضاء شعروا بجاذبية الوطن الذي يناديهم من أعلى، في المناطق النائية المظلمة والباردة من الفضاء الخارجي بين النجوم.
فوق رؤوسنا، تنطلق صيحات البوم تحت القمر الضائع بين الغيوم، تهبّ رياح ما قبل الفجر وهي تتنهّد عبر أشجار القطن. صوت أوراقها الجافّة الرقيقة يشبه همهمة الماء من بعيد أو همسات الأشباح في كاتدرائية قديمة فارغة محكوم عليها بالإعدام.
في إحدى الأمسيات، عندما كشفت لزائرٍ أفكاري عن الصحراء، اتهمني بأنني ضد الحضارة وضد العلم وضد الإنسانية. وبطبيعة الحال، شعرت بالإطراء وفي الوقت نفسه بالدهشة والأذى والصدمة. كيف، وأنا عضو في الإنسانية، يمكنني أن أكون ضد الإنسانية دون أن أكون ضد نفسي التي أحبّها وإن لم يكن كثيرا؟
كيف يمكنني أن أكون ضد العلم عندما أُعجب بقدر ما أستطيع بطاليس وديموكريتيس وفاوستوس وباراسيلسوس وكوبرنيكوس وغاليليو وكيبلر ونيوتن وداروين وآينشتاين؟ وكيف يمكنني أن أكون ضد الحضارة عندما يكون كلّ ما أدافع عنه وأقدّسه عن طيب خاطر، بما في ذلك حبّ البرّية، جزءا لا يتجزّأ من الحضارة؟!
الكتاب يوصف بأنه واحد من الأعمال المؤثّرة التي ساهمت في رواج "كتابات الطبيعة" في الستّينات والسبعينات. وفيه يتأمّل آبي في الدين والفلسفة والأدب وتقاطعاتها مع حياة الصحراء، بالإضافة إلى أفكار مختلفة حول التوتّر بين الثقافة والحضارة ومشاكل الحفاظ على البيئة.
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار الكتاب نوعا من السيرة الذاتية. وهو مكتوب كسلسلة من القصص القصيرة التي تتناول الأوصاف الحيّة للحيوانات والنباتات والجيولوجيا والسكّان، بالإضافة الى الروايات المباشرة عن استكشاف البرّية والجدل حول التنمية ومضارّ السياحة الصناعية.
يقول المؤلّف في مقدّمة الكتاب: عندما بدأت تسجيل انطباعاتي عن المشهد الطبيعي، سعيت جاهداً إلى اتباع الدقّة قبل كلّ شيء، لأنني أعتقد أن هناك نوعاً من الشعر في الحقيقة البسيطة. إن اللغة تصنع شبكة فضفاضة وقويّة يمكن من خلالها صيد الحقائق البسيطة عندما تكون الحقيقة لا نهائية. وبما أنه لا يمكنك إدراج الصحراء في كتاب بأكثر مما يستطيع الصيّاد سحب البحر بشباكه، فقد حاولت خلق عالم من الكلمات بحيث تظهر الصحراء كوسيط أكثر منها مادّة".
آبي، الذي ألّف كتابه قبل أكثر من نصف قرن، يصف الكتاب بأنه "ليس دليلاً سياحياً بل مرثية". فبينما يروي كيف ضلّ طريقه على مسافة عشرين ميلاً في عمق الصحراء، يتساءل عن عدد الأماكن الداخلية الأرضية التي قد يضيع فيها المرء من أجل أن يعثر على نفسه، وكم عدد الأماكن غير المتوقّعة في العزلة المقدّسة التي نستطيع من خلالها الوصول إلى دواخلنا".
آبي يكتب عن الحالة الإنسانية وكيف أن الإنسان لا ينفصل عن الأرض، وكيف أن البريّة لا تنفصل عن الحضارة، بل هي جزء لا يتجزّأ منها. إنه يدعو إلى الاستمتاع بالطبيعة من خلال معايشتها وليس استهلاكها. وانسحابه إلى عالم الصخور الجافّة هو محاولة منه لفهم العالم بشكل أفضل.
لم يكن آبي مجرّد كاتب، بل شخصية أدبية لها أتباع. ولا تزال فلسفته المثيرة للجدل تلهم ناشطي البيئة. لكن، بحسب أحد النقّاد، لو كان ما يزال حيّا فمن المرجّح أن يكون في السجن بتهمة الإرهاب البيئي!
وأنت تقرأ كلماته ستتناثر روائح الأعشاب والغبار والندى والأزهار والحصى. ومن خلال كلماته سترى الصحراء، ليس باعتبارها مجرّد مكان لاستكشافه، ولا مجرّد مورد لاستغلاله، بل كجسد سياسي وجغرافي وثقافي وانثروبولوجي في نفس الوقت.
الأسطر التالية عبارة عن فقرات مترجمة ممّا دوّنه إدوارد آبي من آراء وأفكار وتأمّلات في كتابه.
وعندما تبدأ آثار الدماء في ترك أثر على دربك، ربّما سترى شيئاً وربّما لا. ثانياً، لأن معظم ما كتبت عنه في هذا الكتاب قد اختفى بالفعل أو يختفي بسرعة. هذا ليس دليلاً سياحياً بل مرثيّة، نصب تذكاري. أنت تحمل بين يديك شاهد قبر، صخرة ملطّخة بالدماء. لا تُسقطها على قدمك، بل ألقِها على شيء كبير وزجاجي. ماذا لديك لتخسره؟!
ليس هناك حدود لقدرة الإنسان على الشعور بالعودة إلى الوطن. حتى علماء الدين وطيّارو السماء وروّاد الفضاء شعروا بجاذبية الوطن الذي يناديهم من أعلى، في المناطق النائية المظلمة والباردة من الفضاء الخارجي بين النجوم.
كيف يمكنني أن أكون ضد العلم عندما أُعجب بقدر ما أستطيع بطاليس وديموكريتيس وفاوستوس وباراسيلسوس وكوبرنيكوس وغاليليو وكيبلر ونيوتن وداروين وآينشتاين؟ وكيف يمكنني أن أكون ضد الحضارة عندما يكون كلّ ما أدافع عنه وأقدّسه عن طيب خاطر، بما في ذلك حبّ البرّية، جزءا لا يتجزّأ من الحضارة؟!
وهذه المرّة ربّما تتخذ مسارا مختلفا وأفضل. لقد رأيت المكان المسمّى "Trinity" في نيو مكسيكو، حيث فجّر "حكماؤنا" القنبلة الذريّة الأولى وصهرت حرارة الانفجار الرمال وحوّلتها الى زجاج أخضر. لقد عاد العشب بالفعل مع الصبّار والمسكيت (prosopis) وغيرها من النباتات الصلبة وذات الجذور العميقة.
ومن خلال خلع حذائي ودفن أصابع قدمي في الرمال، اتصلت بهذا العالم الأكبر، وهو شعور مبهج يؤدّي إلى اتّزان النفس. بالتأكيد كنت لا أزال وحدي. لم يكن هناك أشخاص آخرون حولي وما زال لا يوجد أحد. وفي خضمّ هذه الصورة العظيمة، فإن كلّ ما هو إنسانيّ ذاب في السماء وتلاشى وراء الجبال، وشعرت بأن الإنسان لا يمكن أن يجد صاحبا أفضل من نفسه.
Credits
academia.edu
academia.edu