:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، أغسطس 11، 2024

آبي: صوت من البَرّية


هذا الكتاب كثيرا ما يقارَن بكتاب "الحياة في الغابات Walden" لهنري ديفيد ثورو. عنوان الكتاب "المنعزل في الصحراء "Desert Solitaire، ويتحدّث فيه مؤلّفه إدوارد آبي عن تجربته وأنشطته كحارس في متنزّه "آرتشيز" في صحراء موآب في ولاية يوتا الامريكية في أواخر خمسينيات القرن الماضي.
الكتاب يوصف بأنه واحد من الأعمال المؤثّرة التي ساهمت في رواج "كتابات الطبيعة" في الستّينات والسبعينات. وفيه يتأمّل آبي في الدين والفلسفة والأدب وتقاطعاتها مع حياة الصحراء، بالإضافة إلى أفكار مختلفة حول التوتّر بين الثقافة والحضارة ومشاكل الحفاظ على البيئة.
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار الكتاب نوعا من السيرة الذاتية. وهو مكتوب كسلسلة من القصص القصيرة التي تتناول الأوصاف الحيّة للحيوانات والنباتات والجيولوجيا والسكّان، بالإضافة الى الروايات المباشرة عن استكشاف البرّية والجدل حول التنمية ومضارّ السياحة الصناعية.
يقول المؤلّف في مقدّمة الكتاب: عندما بدأت تسجيل انطباعاتي عن المشهد الطبيعي، سعيت جاهداً إلى اتباع الدقّة قبل كلّ شيء، لأنني أعتقد أن هناك نوعاً من الشعر في الحقيقة البسيطة. إن اللغة تصنع شبكة فضفاضة وقويّة يمكن من خلالها صيد الحقائق البسيطة عندما تكون الحقيقة لا نهائية. وبما أنه لا يمكنك إدراج الصحراء في كتاب بأكثر مما يستطيع الصيّاد سحب البحر بشباكه، فقد حاولت خلق عالم من الكلمات بحيث تظهر الصحراء كوسيط أكثر منها مادّة".
آبي، الذي ألّف كتابه قبل أكثر من نصف قرن، يصف الكتاب بأنه "ليس دليلاً سياحياً بل مرثية". فبينما يروي كيف ضلّ طريقه على مسافة عشرين ميلاً في عمق الصحراء، يتساءل عن عدد الأماكن الداخلية الأرضية التي قد يضيع فيها المرء من أجل أن يعثر على نفسه، وكم عدد الأماكن غير المتوقّعة في العزلة المقدّسة التي نستطيع من خلالها الوصول إلى دواخلنا".
آبي يكتب عن الحالة الإنسانية وكيف أن الإنسان لا ينفصل عن الأرض، وكيف أن البريّة لا تنفصل عن الحضارة، بل هي جزء لا يتجزّأ منها. إنه يدعو إلى الاستمتاع بالطبيعة من خلال معايشتها وليس استهلاكها. وانسحابه إلى عالم الصخور الجافّة هو محاولة منه لفهم العالم بشكل أفضل.
لم يكن آبي مجرّد كاتب، بل شخصية أدبية لها أتباع. ولا تزال فلسفته المثيرة للجدل تلهم ناشطي البيئة. لكن، بحسب أحد النقّاد، لو كان ما يزال حيّا فمن المرجّح أن يكون في السجن بتهمة الإرهاب البيئي!
وأنت تقرأ كلماته ستتناثر روائح الأعشاب والغبار والندى والأزهار والحصى. ومن خلال كلماته سترى الصحراء، ليس باعتبارها مجرّد مكان لاستكشافه، ولا مجرّد مورد لاستغلاله، بل كجسد سياسي وجغرافي وثقافي وانثروبولوجي في نفس الوقت.
الأسطر التالية عبارة عن فقرات مترجمة ممّا دوّنه إدوارد آبي من آراء وأفكار وتأمّلات في كتابه.

  • إنني هنا، لا لأهرب لبعض الوقت من الصخب والضوضاء، بل لأواجه العظام العارية للوجود. أريد أن أتمكّن من النظر إلى شجرة عرعر أو قطعة كوارتز أو نسر أو عنكبوت، وأن أراها كما هي في ذاتها، خاليةً من كلّ الصفات المنسوبة إلى البشر. أريد أن ألتقي بالله أو ميدوسا وجهاً لوجه، حتى لو كان ذلك يعني المخاطرة بكلّ ما هو إنساني في داخلي. أحلم بتصوّف قاسٍ ووحشي، حيث تندمج الذات العارية مع عالم غير بشري، ومع ذلك تظلّ على قيد الحياة بطريقة أو بأخرى، سليمةً فردية ومنفصلة.
  • لا تقفز إلى سيّارتك وتسرع إلى الوادي على أمل أن ترى على الطبيعة شيئاً مما كتبته في هذه الصفحات. فأوّلا، لن تتمكّن من رؤية أي شيء من السيّارة، عليك أن تخرج من هذه الآلة اللعينة وتمشي، والأفضل من ذلك أن تزحف على يديك وركبتيك فوق الحجر الرملي وعبر شجيرات الشوك والصبّار.
    وعندما تبدأ آثار الدماء في ترك أثر على دربك، ربّما سترى شيئاً وربّما لا. ثانياً، لأن معظم ما كتبت عنه في هذا الكتاب قد اختفى بالفعل أو يختفي بسرعة. هذا ليس دليلاً سياحياً بل مرثيّة، نصب تذكاري. أنت تحمل بين يديك شاهد قبر، صخرة ملطّخة بالدماء. لا تُسقطها على قدمك، بل ألقِها على شيء كبير وزجاجي. ماذا لديك لتخسره؟!
  • أستيقظُ قبل شروق الشمس، وأُخرِج رأسي من الكيس، وألقي نظرة عبر نافذة متجمّدة على مشهد خافت وغامض مع ضباب متدفّق وأشكال خيالية مظلمة تلوح في الأفق. إنه منظر طبيعي غير متوقّع، في المكان الأكثر جمالاً على الأرض.
  • تُشرق الشمس وسط رياح صفراء عاصفة. إنه وقت الإفطار. الآن داخل المقطورة، أطهو لحما مقدّدا وأقلي بيضا، وأسمع صوت الرمال وهي تتساقط مثل المطر على الجدران المعدنية وتضرب زجاج النوافذ. يتراكم الطمي الناعم أسفل الباب وعلى حافّة النافذة. تهتزّ المقطورة في هبّة ريح مفاجئة. سواءً كانت عاصفة رملية أو حرارة شمس، أنا راضٍ عن كلّ شيء طالما لديّ ما آكله وبصحّة جيّدة ولديّ أرض أقف عليها وضوء خلف عينيّ لأرى من خلاله.
  • إن رائحة العرعر المحترق هي أطيب رائحة على وجه الأرض، وأشكّ في أن كلّ المباخر المدخّنة في جنّة دانتي يمكن أن تدانيها. إن نفَسا واحدا من دخان العرعر مثل عطر الشيح أو الميرمية بعد المطر.. يحفّز المشاعر وينقّي الروح. بعد موتي، إذا ساعَدَت جثّتي المتحلّلة في تغذية جذور شجرة عرعر أو أجنحة نسر، فهذا يكفيني من الخلود.
  • هذه أقواس طبيعية وثقوب في الصخر ونوافذ من الحجر لا مثيل لها، متنوّعة في الشكل كما هي متنوّعة في الأبعاد. وقد تشكّلت على مدى مئات الآلاف من السنين بفعل عوامل التعرية التي لحقت بجدران الحجر الرملي الضخمة، أو الزعانف التي توجد فيها. ولم تكن هذه الأقواس من صنع الإنسان ولا نحتتها الرياح الحاملة للرمال كما يعتقد الكثيرون، بل نشأت بسبب تأثير مياه الأمطار وذوبان الثلوج والصقيع والجليد بمساعدة الجاذبية.
  • عندما أقف هناك مذهولاً أمام هذا المشهد الوحشي غير البشري من الصخور والسحب والسماء والفضاء، أشعر بجشع ورغبة في التملّك تملأ كياني. أريد أن أعرف كلّ شيء وأن أمتلك كل شيء وأن أحتضن المشهد بأكمله بحميمية وعمق وبشكل كامل، كما يرغب الرجل في امرأة جميلة. هل هذه رغبة مجنونة؟! ربّما لا!
  • إن كلّ رجل وامرأة يحمل في قلبه وعقله صورة المكان المثالي والمكان الصحيح والوطن الحقيقي الوحيد، المعروف أو غير المعروف، الفعليّ أو الخيالي: منزل عائم في كشمير، أو منظر أسفل شارع أتلانتيك في بروكلين، أو مزرعة قوطية رمادية اللون على ارتفاع طابقين في نهاية طريق أحمر في جبال ألليغيني، أو كوخ على شاطئ بحيرة زرقاء في منطقة أشجار التنّوب والصنوبر، أو زقاق مترب بالقرب من الواجهة البحرية لهوبكين.
    ليس هناك حدود لقدرة الإنسان على الشعور بالعودة إلى الوطن. حتى علماء الدين وطيّارو السماء وروّاد الفضاء شعروا بجاذبية الوطن الذي يناديهم من أعلى، في المناطق النائية المظلمة والباردة من الفضاء الخارجي بين النجوم.
  • فوق رؤوسنا، تنطلق صيحات البوم تحت القمر الضائع بين الغيوم، تهبّ رياح ما قبل الفجر وهي تتنهّد عبر أشجار القطن. صوت أوراقها الجافّة الرقيقة يشبه همهمة الماء من بعيد أو همسات الأشباح في كاتدرائية قديمة فارغة محكوم عليها بالإعدام.
  • في إحدى الأمسيات، عندما كشفت لزائرٍ أفكاري عن الصحراء، اتهمني بأنني ضد الحضارة وضد العلم وضد الإنسانية. وبطبيعة الحال، شعرت بالإطراء وفي الوقت نفسه بالدهشة والأذى والصدمة. كيف، وأنا عضو في الإنسانية، يمكنني أن أكون ضد الإنسانية دون أن أكون ضد نفسي التي أحبّها وإن لم يكن كثيرا؟
    كيف يمكنني أن أكون ضد العلم عندما أُعجب بقدر ما أستطيع بطاليس وديموكريتيس وفاوستوس وباراسيلسوس وكوبرنيكوس وغاليليو وكيبلر ونيوتن وداروين وآينشتاين؟ وكيف يمكنني أن أكون ضد الحضارة عندما يكون كلّ ما أدافع عنه وأقدّسه عن طيب خاطر، بما في ذلك حبّ البرّية، جزءا لا يتجزّأ من الحضارة؟!


  • إن الحياة البرّية ليست رفاهية، بل ضرورة للروح الإنسانية. وهي حيوية لحياتنا مثل الماء والخبز الجيّد. إن الحضارة التي تدمّر ما تبقّى من الحياة البرّية تقطع نفسها عن أصولها وتخون مبدأ الحضارة نفسها.
  • الشخص الذي يسير على قدميه أو على ظهر حصان أو على درّاجة، سيرى ويشعر ويستمتع في ميل واحد بأكثر مما يستطيع السائح الذي يستخدم السيّارة أن يستمتع به في مائة ميل.
  • المدينة التي ينبغي أن تكون رمزا ومركزا للحضارة يمكن أن تتحوّل أيضا إلى معسكر اعتقال. وهذا أحد الاكتشافات المهمّة في العلوم السياسية المعاصرة.
  • عندما تشكّ في الشرب من نبع مجهول، فابحث عن الحياة. فإذا كان الماء مليئا بالطحالب والديدان واليرقات والعناكب والديدان الكبدية، فكن مطمئنا واشرب بسخاء. ولكن إن بدا لك الماء بريئا ونقيّا فاحذر!
  • يمكن للإنسان أن يكون عاشقا للبريّة ومدافعا عنها دون أن يغادر أبدا في حياته حدود الأسفلت وخطوط الكهرباء والأسطح ذات الزوايا القائمة. إننا بحاجة إلى البرّية، سواءً وضعنا أقدامنا فيها أم لا. نحن بحاجة إلى ملجأ حتى لو لم نلمسه بأقدامنا أبدا. نحتاج الى البرّية تماما كما نحتاج إلى الأمل، وبدونها فإن حياة المدن ستدفع الناس إلى الجريمة أو المخدّرات أو الأمراض النفسية.
  • معظم جولاتي في الصحراء كانت بمفردي. ولم يكن هذا من باب الاختيار بل من باب الضرورة، فأنا أفضل عادةً الذهاب إلى أماكن لا يرغب أحد آخر في الذهاب إليها. وأجد أن متعتي في التأمّل في عالم الطبيعة تكون أعظم إذا لم يكن برفقتي آخرون يتأمّلونها معي.
  • في أواخر شهر أغسطس، لا يمكن مقاومة إغراء الجبال. فبعد أن أكون قد احترقت تحت حرارة الشمس اللافحة، أحلم بأن أرى المياه الجارية مرّة أخرى وأن أعانق شجرة صنوبر وأن أنقش أحرف اسمي الأولى في لحاء شجرة حور وأن أتعرّض للدغة بعوضة وأن أرى طائرا أزرق جبليّا وأن أضيع وسط أشجار التنّوب وأن أستحمّ في الشمس على الثلج وأن آكل بعض الجليد وأن أتسلّق الصخور وأن أقف في مهبّ الريح على قمّة الجبل القريب.
  • إذا كان لدى الانسان معرفة كافية، فإنه يستطيع أن يؤلّف كتابا كاملاً عن شجرة العرعر. ليست كلّ أشجار العرعر، بل تلك الشجرة بالذات التي تنمو على حافّة الحجارة الرملية العارية بالقرب من المدخل القديم لنصب "آرتشيز" الوطني.
  • لقد اتفقنا على عدم قيادة سيّاراتنا إلى الكاتدرائيات وقاعات الحفلات الموسيقية والمتاحف الفنّية والجمعيات التشريعية وغرف النوم الخاصّة وغيرها من الأماكن المقدّسة في ثقافتنا. ويجب أن نعامل حدائقنا ومتنزّهاتنا الوطنية بنفس الاحترام لأنها هي أيضا أماكن مقدّسة. وباعتبارنا شعبا وثنيّا متعجرفا (!)، فإننا يجب أن نتعلّم أن الغابات والجبال والوديان الصحراوية أكثر قداسة من كنائسنا. لذلك دعونا نتصرّف تبعاً لذلك.
  • لقد أتينا من البريّة وعشنا بها وسنعود إليها. وحبّها هو أكثر من مجرّد رجوع إلى ما هو بعيد المنال. إنه أيضا تعبير عن الولاء للأرض، الأرض التي ولدتنا ودعمتنا، والمنزل الوحيد الذي نعرفه.
  • بحسب علماء الجيولوجيا وفكرتهم عن العصور والدهور، كلّ شيء متغيّر. ولكن من وجهة نظر بشرية فانية، فإن منظر كولورادو يشبه جزءا من الأبدية، إنها بلا زمن. في كلّ سنواتي في بلاد الوديان لم أرَ صخرة تسقط من تلقاء نفسها. ولكي اقنع نفسي بحقيقة التغيير، وبالتالي الزمن، أدفع أحيانا حجرا فوق حافّة جرف وأراقبه وهو يهبط وأنتظر. لست مقتنعا تماما بفرضيات علم التشكّل الجيولوجي.
  • يعود الليل ويحتضنني الهدوء العظيم. أستطيع أن أرى النجوم مرّة أخرى وعالم ضوء النجوم. أنا على بعد عشرين ميلاً أو أكثر من أقرب إنسان، ولكن بدلاً من الشعور بالوحدة أشعر بالجمال، الجمال والابتهاج الهادئ.
  • يبدو لي من المحتمل أن العديد من الحيوانات غير المستأنسة تعاني من مشاعر غير معروفة لنا. ماذا تعني الذئاب عندما تصرخ للقمر؟ ماذا تحاول الدلافين بصبر أن تخبرنا؟ ما الذي كان يدور في ذهن الثعبانين المذهولين اللذين انزلقا امامي فوق الحجر الرملي العاري بالأمس؟ لو كانت لديّ الثقة ولم أكن خائفا، لربّما تعلّمت شيئا جديدا أو بعض الحقائق القديمة جدّا والتي نسيناها جميعا.
  • سواءً كنّا نعيش أو نموت، فهذا أمر لا يهمّ الصحراء على الإطلاق. الصحراء لا تكترث كثيرا بحضورنا أو غيابنا، ببقائنا أو ذهابنا. فليفجّر البشر في جنونهم كلّ مدينة على الأرض وليحوّلوها إلى أنقاض سوداء وليغلّفوا الكوكب بأكمله بسحابة من الغاز المميت. ستظلّ الوديان والتلال والينابيع والصخور هنا، وستأتي أشعّة الشمس وستتشكّل المياه وينتشر الدفء على الأرض. وبعد وقت كافٍ، قد يطول وقد يقصر، ستظهر الكائنات الحيّة في مكان ما وتنضمّ وتقف مرّة أخرى.
    وهذه المرّة ربّما تتخذ مسارا مختلفا وأفضل. لقد رأيت المكان المسمّى "Trinity" في نيو مكسيكو، حيث فجّر "حكماؤنا" القنبلة الذريّة الأولى وصهرت حرارة الانفجار الرمال وحوّلتها الى زجاج أخضر. لقد عاد العشب بالفعل مع الصبّار والمسكيت (prosopis) وغيرها من النباتات الصلبة وذات الجذور العميقة.
  • هناك أشياء، مثل قبضة يد طفل في يدك ونكهة التفّاح وعناق صديق أو حبيب وأشعّة الشمس على الصخور والأوراق وملمس الموسيقى ولحاء الشجرة وتآكل الغرانيت والرمل والغوص في الماء الصافي لبركة ووجه الريح.. ماذا نحتاج غير ذلك؟
  • ما السبب الذي يجعلنا - نحن الأميركيين - نعتقد أن مجتمعنا سينجو بالضرورة من الانجراف العالمي نحو التنظيم الشمولي للبشر والمؤسّسات؟
  • عندما تناولت طعامي في الخارج بجانب شجرة العرعر المحترقة في الموقد، حيث الصحراء والجبال أكثر ممّا يمكنني استكشافه، فكّرت في عالم أكبر بكثير، عالم يمتدّ إلى الماضي والمستقبل دون أيّ حدود معروفة للبشرية.
    ومن خلال خلع حذائي ودفن أصابع قدمي في الرمال، اتصلت بهذا العالم الأكبر، وهو شعور مبهج يؤدّي إلى اتّزان النفس. بالتأكيد كنت لا أزال وحدي. لم يكن هناك أشخاص آخرون حولي وما زال لا يوجد أحد. وفي خضمّ هذه الصورة العظيمة، فإن كلّ ما هو إنسانيّ ذاب في السماء وتلاشى وراء الجبال، وشعرت بأن الإنسان لا يمكن أن يجد صاحبا أفضل من نفسه.
  • لنفترض أن البريّة تثير الحنين إلى الماضي، وهو حنين مبرّر وليس مجرّد حنين عاطفيّ إلى أميركا المفقودة التي عرفها أسلافنا. إن كلمة البريّة تشير إلى الماضي والمجهول، وإلى رحم الأرض الذي خرجنا منه جميعا. إنها تعني شيئا ضائعا وما يزال حاضرا، شيئا بعيدا وفي نفس الوقت حميما، شيئا مدفونا في دمائنا وأعصابنا، شيئا يتجاوزنا ولا حدود له.
  • أثناء تجوالي ذات مرّة، بدا لي أن غرابة الوجود وعجائبه تتجلّى هنا في الصحراء من خلال الندرة النسبية للنباتات والحيوانات. فالحياة ليست مزدحمة ولكنها متناثرة في كلّ مكان، مع مساحة سخيّة لكلّ عشبة وشجيرة وشجرة، بحيث يبرز الكائن الحيّ جريئا وحيويا على الرمال الخالية من الحياة والصخور القاحلة.
  • اكتوبر. شجيرات الأرانب تتفتّح بكامل إزهارها. الأعشاب الزاحفة تتحرّك بِتَوق لأن تكون في مكان آخر، والآلاف منها تتدحرج عبر السهول أمام الريح. شيء يشبه الطفح الجلدي الأصفر ينتشر على جوانب الجبال: غابات الحور المهتزّة في روعة الخريف. غروب الشمس كلّ مساء: ارتجالات دموية عظيمة باللونين القرمزي والذهبي تذكّرني بالفطائر السماوية التي صنعها الله.
  • ستظلّ الصحراء هنا في الربيع. لكن عندما أعود، هل سيكون الأمر كما كان، هل سأكون أنا كما كنت، هل سيعود أيّ شيء إلى ما كان عليه مرّة أخرى إذا عدت؟

  • Credits
    academia.edu