تبدَّت لنا وسطَ الرّصافةِ نخلةٌ : تناءتْ بأرضِ الغَرب عن بلدِ النخْلِ
فقلت: شبيهي في التغرّبِ والنّوَى : وطولِ اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلِي
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ : فمثلكِ في الإقصاء والمُنتأى مثلي
هل سبق أن اشتقت الى مكان ما أو الى السير في طرق تعرفها مثل راحة يدك؟
ربّما تتمنّى أن ترى شمس المساء في مسقط رأسك مرّة أخرى.
وقد تأخذك نفحة سريعة من عطر أمّك إلى الوقت الذي كانت فيه تحملك بين ذراعيها.
هذه الحوّاس المألوفة عن الأماكن هي ما يُعرف بالتوبوفيليا Topophilia أو حبّ المكان. وأصل الكلمة يوناني، ويتكوّن من توبوس بمعنى المكان وفيليا بمعنى الحبّ.
والكلمة تجسّد بشكل جميل حالة الناس وعلاقتهم بالمكان. وهي تشبه العديد من صفاتنا الإنسانية التي تعيش طالما أن غريزتنا القديمة تسمح لنا بتشكيل الأماكن ومن ثمّ تشكيل أنفسنا بها.
وقد استخدم هذا المعنى العديد من الفنّانين والكتّاب مثل "غاستون باشلار" و"أودن" و"يو فو توان". وكلّ منهم خرج بنظريّته الخاصّة. ونقيض حبّ المكان هو الخوف من المكان او التوبوفوبيا Topophobia، ومثاله المكان الذي يُلقي عليه الخوف بظلاله المظلمة ويَشعُر المرء فيه بالرهبة أو القلق.
في كتابه الصادر عام 1974، قدّم عالم الجغرافيا الأمريكي يو فو توان عرضا لكيفية اختلاف الروابط العاطفية مع البيئة المادّية من شخص لآخر. وتشمل العوامل التي تؤثّر على عمق استجابة الفرد للبيئة الخلفية الثقافية والجنس والعرق والظروف التاريخية.
ورأى توان أن التوبوفيليا او حبّ المكان قد لا تكون أقوى المشاعر الإنسانية، بل في الواقع يشعر الكثير من الناس باللامبالاة التامّة تجاه البيئات التي تصوغ حياتهم. لكن عند تفعيل تلك المشاعر فإنها تستطيع الارتقاء بمكان ما ليصبح حاملا للأحداث المشحونة عاطفيا أو النظر إليه باعتباره رمزا.
وتقدير الجمال هو إحدى الطرق التي يستجيب بها الناس للبيئة، مثل تأمّل قوس قزح ملوّن بعد أمطار غزيرة بعد الظهر أو شارع مدينة مزدحم ينبض بالتفاعل البشري.
وعندما يكون المكان موطنا، أو عندما يصبح موضعا للذكريات أو وسيلة لكسب العيش، فإنه كثيرا ما يثير مجموعة أعمق من الارتباطات من تلك التي تعتمد فقط على العناصر البصرية. فهناك استجابة أخرى للبيئة تعتمد على الحواسّ البشرية كاللمس والشم، أي الاستمتاع بملمس ورائحة الهواء والماء والأرض.
ومن ذلك قول الشاعر العربي القديم:
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ : مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرتْهمُ : عهودَ الصّبا فيها فحنُّوا لذلِكا
وقول آخر:
وأذكرُ أيّامَ الحِمى ثمّ أنثني : على كبِدي من خشيةٍ أن تَصَدّعا
فليسَت عَشيّاتُ الحِمى برَواجعٍ : عليكَ ولكنْ خَلِّ عينيكَ تدمَعا
كأنّا خُلقنا للنوى وكأنّما : حرامٌ على الأيّامِ أن نتجَمّعا
من الصعب تصميم التوبوفيليا أو قياسها. كان مفسّروها الأكثر وضوحا هم الفلاسفة، مثل هنري ديفيد ثورو الذي استحضر إحساسا معقّدا ورائعا بالمكان في والدن بوند، ومثل توان الذي وصف مطوّلا انجذابه العميق للصحراء.
أحيانا قد لا ترى أن المكان الذي تعيش فيه يكتسب أيّ أهمية بالنسبة لك، كما انه ليس أكثر جمالا بطبيعته من أيّ مكان آخر على الأرض. ما يجعل المكان مميّزا هو الطريقة التي يدخل بها الى القلب، وليس ما إذا كان مسطّحا أو وعرا، غنيّا أو متقشّفا، لطيفا أو قاسيا، دافئا أو باردا، جامحا أو مروّضا. كلّ مكان، مثل أيّ إنسان، يرتقي بالحبّ والاحترام الذي يُظهَر له وبالطريقة التي يتميّز بها.
فقلت: شبيهي في التغرّبِ والنّوَى : وطولِ اكتئابي عن بنيَّ وعن أهلِي
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ : فمثلكِ في الإقصاء والمُنتأى مثلي
هل سبق أن اشتقت الى مكان ما أو الى السير في طرق تعرفها مثل راحة يدك؟
ربّما تتمنّى أن ترى شمس المساء في مسقط رأسك مرّة أخرى.
وقد تأخذك نفحة سريعة من عطر أمّك إلى الوقت الذي كانت فيه تحملك بين ذراعيها.
هذه الحوّاس المألوفة عن الأماكن هي ما يُعرف بالتوبوفيليا Topophilia أو حبّ المكان. وأصل الكلمة يوناني، ويتكوّن من توبوس بمعنى المكان وفيليا بمعنى الحبّ.
والكلمة تجسّد بشكل جميل حالة الناس وعلاقتهم بالمكان. وهي تشبه العديد من صفاتنا الإنسانية التي تعيش طالما أن غريزتنا القديمة تسمح لنا بتشكيل الأماكن ومن ثمّ تشكيل أنفسنا بها.
وقد استخدم هذا المعنى العديد من الفنّانين والكتّاب مثل "غاستون باشلار" و"أودن" و"يو فو توان". وكلّ منهم خرج بنظريّته الخاصّة. ونقيض حبّ المكان هو الخوف من المكان او التوبوفوبيا Topophobia، ومثاله المكان الذي يُلقي عليه الخوف بظلاله المظلمة ويَشعُر المرء فيه بالرهبة أو القلق.
في كتابه الصادر عام 1974، قدّم عالم الجغرافيا الأمريكي يو فو توان عرضا لكيفية اختلاف الروابط العاطفية مع البيئة المادّية من شخص لآخر. وتشمل العوامل التي تؤثّر على عمق استجابة الفرد للبيئة الخلفية الثقافية والجنس والعرق والظروف التاريخية.
ورأى توان أن التوبوفيليا او حبّ المكان قد لا تكون أقوى المشاعر الإنسانية، بل في الواقع يشعر الكثير من الناس باللامبالاة التامّة تجاه البيئات التي تصوغ حياتهم. لكن عند تفعيل تلك المشاعر فإنها تستطيع الارتقاء بمكان ما ليصبح حاملا للأحداث المشحونة عاطفيا أو النظر إليه باعتباره رمزا.
وتقدير الجمال هو إحدى الطرق التي يستجيب بها الناس للبيئة، مثل تأمّل قوس قزح ملوّن بعد أمطار غزيرة بعد الظهر أو شارع مدينة مزدحم ينبض بالتفاعل البشري.
وعندما يكون المكان موطنا، أو عندما يصبح موضعا للذكريات أو وسيلة لكسب العيش، فإنه كثيرا ما يثير مجموعة أعمق من الارتباطات من تلك التي تعتمد فقط على العناصر البصرية. فهناك استجابة أخرى للبيئة تعتمد على الحواسّ البشرية كاللمس والشم، أي الاستمتاع بملمس ورائحة الهواء والماء والأرض.
ومن ذلك قول الشاعر العربي القديم:
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ : مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرتْهمُ : عهودَ الصّبا فيها فحنُّوا لذلِكا
وقول آخر:
وأذكرُ أيّامَ الحِمى ثمّ أنثني : على كبِدي من خشيةٍ أن تَصَدّعا
فليسَت عَشيّاتُ الحِمى برَواجعٍ : عليكَ ولكنْ خَلِّ عينيكَ تدمَعا
كأنّا خُلقنا للنوى وكأنّما : حرامٌ على الأيّامِ أن نتجَمّعا
من الصعب تصميم التوبوفيليا أو قياسها. كان مفسّروها الأكثر وضوحا هم الفلاسفة، مثل هنري ديفيد ثورو الذي استحضر إحساسا معقّدا ورائعا بالمكان في والدن بوند، ومثل توان الذي وصف مطوّلا انجذابه العميق للصحراء.
أحيانا قد لا ترى أن المكان الذي تعيش فيه يكتسب أيّ أهمية بالنسبة لك، كما انه ليس أكثر جمالا بطبيعته من أيّ مكان آخر على الأرض. ما يجعل المكان مميّزا هو الطريقة التي يدخل بها الى القلب، وليس ما إذا كان مسطّحا أو وعرا، غنيّا أو متقشّفا، لطيفا أو قاسيا، دافئا أو باردا، جامحا أو مروّضا. كلّ مكان، مثل أيّ إنسان، يرتقي بالحبّ والاحترام الذي يُظهَر له وبالطريقة التي يتميّز بها.
أحيانا تنتقل إلى مكان جديد وتشعر أنه ليس مكانك. وربّما كنت تقيم في مكان ما لسنوات، أو حتى لعقود من الزمن، لكن لم ينشأ لديك بعد شعور بالتجذّر فيه. وقد تعيش في بلدة أو مدينة، ولكنك لا تشعر بأنك تنتمي إلى مجتمع حقيقي، ولا تشعر بأنك جزء من سياق العلاقات والبيئة والثقافة فيه.
وبينما أن الشعور بالانتماء إلى البيت قد يبدو شيئا يأتي تلقائيا مع مرور الزمن، مثل كلّ شيء في الحياة، الا ان التوبوفيليا أو حبّ المكان يتطلّب قصديةً وعمدا لكي ينشأ. ومثل الوقوع في حبّ شخص آخر، فإن تطوير الانجذاب إلى مكان معيّن يتضمّن التعرّف عليه عن كثب ومعرفة كلّ التفاصيل عنه.
أحيانا نتعرّف على بعض الأشخاص الذين قد يَبدون في البداية غير جذّابين، ولكن لديهم شخصيات دافئة ومرحّبة، ويبدون أكثر جاذبية كلّما ازدادت معرفتنا بهم، وكذلك الأمر بالنسبة للأماكن الأقلّ جاذبية.
وحتى لو كنت لا تعتقد أن المكان الذي تقيم فيه حاليا هو المكان الوحيد الذي تملكه وتحتفظ به حتى يفرّق بينكما الموت، فإن الأمر يستحقّ محاولة تطوير علاقة أعمق معه.
حاول مثلا أن تخرج للمشي أو ركوب الدراجة. هذه الرحلات تساعد على رؤية الجمال الحقيقي للمكان الذي تعيش فيه على نطاق أبطأ وأصغر. ربّما تكتشف جداول صغيرة وبقعا من المروج المليئة بالزهور البرّية، أو المتنزّهات الصغيرة وملاعب الأطفال التي لم تكن لتراها بغير هذه الطريقة.
ومن الطبيعي أن تلاحظ أشياء كنت ستفوّتها لو كنت متنقّلا بالسيارة مثلا. وسيكون بمقدورك أن تنظر حولك وتُشرك جميع حواسّك. وستلقي بالتحيّة على الأشخاص الذين تقابلهم في الطريق والذين هم في الواقع جيرانك، حتى لو كنت على بعد أميال قليلة من منزلك. ثم من الممتع أن تنظر حولك أثناء المشي، الى المنازل والسماء وفي النباتات والحيوانات.
وإحدى أفضل الطرق لتطوير التوبوفيليا أو حبّ المكان هي الخروج إلى طبيعة المكان وتجربة الطقس والمناظر الطبيعية والبيئة. وهناك شيء يتعلّق بإدخال تراب التضاريس إلى أنفك والتعرّف على ملمس الهواء ورائحته عند الفجر والغسق، وهو ما يحرّك مكانا قصيّا في أدمغتنا.
ثم عليك التعرّف على الناس في المكان الذي تعيش فيه. في الواقع ليس من المهم تكوين صداقات فورية، بل إن مجرّد معرفة الوجوه في مجتمعك الصغير يوفّر بعض الشعور بالتقدير ويجعل إلقاء التحيّة أمرا أكثر دفئا. فمن الثابت علميّا أننا نحبّ الناس بسبب الألفة وحدها. صحيح أن هناك الكثير من الأشخاص في منطقتنا الذين قد لا نعتبرهم أصدقاء جيّدين، ولكن يمكن أن يفيد التعرّف عليهم في الشعور بأننا ننتمي إلى المكان.
اللافت للنظر في تجربة العالِم توان هو أنه انفصل عن الدراسات المعاصرة للإدراك البيئي، والتي تضمّنت في الغالب استخدام الأساليب النفسية. وقدّم تفسيرا للتجربة البيئية من منظور واسع لباحث إنساني وجغرافي نسَج معا أفكارا استمدّها من الشعراء واليونان الكلاسيكية ونقّاد الفن وعلماء الأنثروبولوجيا وعلم الكونيات ومدن الحدائق ونيويورك والضواحي والعصور الوسطى.
إننا عندما نفهم التوبوفيليا فإن أهميّتها تصبح واضحة، وتتجلّى في العديد من تجارب الهواء الطلق، كالتزلّج والمشي لمسافات طويلة والجلوس في الشمس. وهذه الأنشطة نختبرها عندما نسافر إلى أماكن جذّابة، منتجعات أو مدن تاريخية أو غير ذلك، لأنها ثمرة جهود المهندسين المعماريين والمخطّطين لإنشاء تصاميم جميلة من الناحية الجمالية وإعدادات متوافقة مع عمل الناس وعيشهم.
كان يو فو توان كاتبا غزير الإنتاج ومفكّرا عميقا، وكان يُعرف بأبي الجغرافيا الإنسانية التي نشأت في السبعينيات كوسيلة لمواجهة ما اعتبره الإنسانيون ميلا للتعامل مع الأماكن على أنها مجرّد مواقع، بينما يذهب الجغرافيون الإنسانيون الى أن الأماكن التي نسكنها تحتوي على العديد من الشخصيات التي تقاطعت حياتها معها، وعلى الكثير من القصص التي نرويها عن تلك الأماكن وتقول لنا الكثير عن هويّتنا وعن المكان الذي زرعنا فيه أقدامنا.
ومن عبارات توان المشهورة أن الناس يعتقدون أن الجغرافيا تتعلّق بالعواصم والتضاريس وما إلى ذلك. لكن الأمر يتعلّق أيضا بالمكان؛ بلهجته العاطفية ومعناه الاجتماعي وإمكاناته التوليدية".
ومن الأفكار التي تَناولها توان الزمن والعمر والحزن والفقد والخير والسعادة ومفهوم المنزل. وكلّها موضوعات استكشفها بإسهاب في أكثر من 20 كتابا له، منها كتابه الأشهر "الفضاء والمكان" وكذلك "الجغرافيا الإنسانية". ويُلقي كلا الكتابين نظرة على حياة المؤلّف المبكّرة في الصين وصعوده ليصبح أحد أكثر المثقّفين شهرة وابتكارا في أمريكا.
وقد ساهمت أعماله في تشكيل تفكير أجيال من طلاب الجغرافيا والأكاديميين، كما أسهم تشكيله للجغرافيا الإنسانية في إحداث تحوّلات فلسفية مهمّة في هذا المجال.
ومن خلال التركيز على البشر ككائنات تفكّر وتحلم وتتخيّل العالم وقادرة على الخير والجمال والحقيقة وكذلك على الجشع والقسوة والسيطرة، أظهر لنا توان كيف تنعكس كلّ هذه السمات على مساحاتنا وأماكننا ومناظرنا الطبيعية.
وبينما أن الشعور بالانتماء إلى البيت قد يبدو شيئا يأتي تلقائيا مع مرور الزمن، مثل كلّ شيء في الحياة، الا ان التوبوفيليا أو حبّ المكان يتطلّب قصديةً وعمدا لكي ينشأ. ومثل الوقوع في حبّ شخص آخر، فإن تطوير الانجذاب إلى مكان معيّن يتضمّن التعرّف عليه عن كثب ومعرفة كلّ التفاصيل عنه.
أحيانا نتعرّف على بعض الأشخاص الذين قد يَبدون في البداية غير جذّابين، ولكن لديهم شخصيات دافئة ومرحّبة، ويبدون أكثر جاذبية كلّما ازدادت معرفتنا بهم، وكذلك الأمر بالنسبة للأماكن الأقلّ جاذبية.
وحتى لو كنت لا تعتقد أن المكان الذي تقيم فيه حاليا هو المكان الوحيد الذي تملكه وتحتفظ به حتى يفرّق بينكما الموت، فإن الأمر يستحقّ محاولة تطوير علاقة أعمق معه.
حاول مثلا أن تخرج للمشي أو ركوب الدراجة. هذه الرحلات تساعد على رؤية الجمال الحقيقي للمكان الذي تعيش فيه على نطاق أبطأ وأصغر. ربّما تكتشف جداول صغيرة وبقعا من المروج المليئة بالزهور البرّية، أو المتنزّهات الصغيرة وملاعب الأطفال التي لم تكن لتراها بغير هذه الطريقة.
ومن الطبيعي أن تلاحظ أشياء كنت ستفوّتها لو كنت متنقّلا بالسيارة مثلا. وسيكون بمقدورك أن تنظر حولك وتُشرك جميع حواسّك. وستلقي بالتحيّة على الأشخاص الذين تقابلهم في الطريق والذين هم في الواقع جيرانك، حتى لو كنت على بعد أميال قليلة من منزلك. ثم من الممتع أن تنظر حولك أثناء المشي، الى المنازل والسماء وفي النباتات والحيوانات.
وإحدى أفضل الطرق لتطوير التوبوفيليا أو حبّ المكان هي الخروج إلى طبيعة المكان وتجربة الطقس والمناظر الطبيعية والبيئة. وهناك شيء يتعلّق بإدخال تراب التضاريس إلى أنفك والتعرّف على ملمس الهواء ورائحته عند الفجر والغسق، وهو ما يحرّك مكانا قصيّا في أدمغتنا.
ثم عليك التعرّف على الناس في المكان الذي تعيش فيه. في الواقع ليس من المهم تكوين صداقات فورية، بل إن مجرّد معرفة الوجوه في مجتمعك الصغير يوفّر بعض الشعور بالتقدير ويجعل إلقاء التحيّة أمرا أكثر دفئا. فمن الثابت علميّا أننا نحبّ الناس بسبب الألفة وحدها. صحيح أن هناك الكثير من الأشخاص في منطقتنا الذين قد لا نعتبرهم أصدقاء جيّدين، ولكن يمكن أن يفيد التعرّف عليهم في الشعور بأننا ننتمي إلى المكان.
اللافت للنظر في تجربة العالِم توان هو أنه انفصل عن الدراسات المعاصرة للإدراك البيئي، والتي تضمّنت في الغالب استخدام الأساليب النفسية. وقدّم تفسيرا للتجربة البيئية من منظور واسع لباحث إنساني وجغرافي نسَج معا أفكارا استمدّها من الشعراء واليونان الكلاسيكية ونقّاد الفن وعلماء الأنثروبولوجيا وعلم الكونيات ومدن الحدائق ونيويورك والضواحي والعصور الوسطى.
إننا عندما نفهم التوبوفيليا فإن أهميّتها تصبح واضحة، وتتجلّى في العديد من تجارب الهواء الطلق، كالتزلّج والمشي لمسافات طويلة والجلوس في الشمس. وهذه الأنشطة نختبرها عندما نسافر إلى أماكن جذّابة، منتجعات أو مدن تاريخية أو غير ذلك، لأنها ثمرة جهود المهندسين المعماريين والمخطّطين لإنشاء تصاميم جميلة من الناحية الجمالية وإعدادات متوافقة مع عمل الناس وعيشهم.
كان يو فو توان كاتبا غزير الإنتاج ومفكّرا عميقا، وكان يُعرف بأبي الجغرافيا الإنسانية التي نشأت في السبعينيات كوسيلة لمواجهة ما اعتبره الإنسانيون ميلا للتعامل مع الأماكن على أنها مجرّد مواقع، بينما يذهب الجغرافيون الإنسانيون الى أن الأماكن التي نسكنها تحتوي على العديد من الشخصيات التي تقاطعت حياتها معها، وعلى الكثير من القصص التي نرويها عن تلك الأماكن وتقول لنا الكثير عن هويّتنا وعن المكان الذي زرعنا فيه أقدامنا.
ومن عبارات توان المشهورة أن الناس يعتقدون أن الجغرافيا تتعلّق بالعواصم والتضاريس وما إلى ذلك. لكن الأمر يتعلّق أيضا بالمكان؛ بلهجته العاطفية ومعناه الاجتماعي وإمكاناته التوليدية".
ومن الأفكار التي تَناولها توان الزمن والعمر والحزن والفقد والخير والسعادة ومفهوم المنزل. وكلّها موضوعات استكشفها بإسهاب في أكثر من 20 كتابا له، منها كتابه الأشهر "الفضاء والمكان" وكذلك "الجغرافيا الإنسانية". ويُلقي كلا الكتابين نظرة على حياة المؤلّف المبكّرة في الصين وصعوده ليصبح أحد أكثر المثقّفين شهرة وابتكارا في أمريكا.
وقد ساهمت أعماله في تشكيل تفكير أجيال من طلاب الجغرافيا والأكاديميين، كما أسهم تشكيله للجغرافيا الإنسانية في إحداث تحوّلات فلسفية مهمّة في هذا المجال.
ومن خلال التركيز على البشر ككائنات تفكّر وتحلم وتتخيّل العالم وقادرة على الخير والجمال والحقيقة وكذلك على الجشع والقسوة والسيطرة، أظهر لنا توان كيف تنعكس كلّ هذه السمات على مساحاتنا وأماكننا ومناظرنا الطبيعية.
Credits
yifutuan.org
thoreausociety.org
yifutuan.org
thoreausociety.org