:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أغسطس 13، 2024

ڤيريشاغين: ويلات الحرب


"في السلام يدفن الأبناء آباءهم.
وفي الحرب يدفن الآباء أبناءهم."

السهل الأصفر المحروق يمتدّ إلى حافّة الأفق. الطبيعة غائمة، ولا يخترق شعاع واحد السحب. ليس هناك أمل في هذا المكان، فقط اليأس.
وفي منتصف هذه الأرض المحروقة يرتفع جبل ضخم من الجماجم، مطويّة على شكل هرم. وفوقها يحوم قطيع من الغربان. بعض الجماجم تظهر عليها آثار السيوف والرصاص، وبعضها يحتفظ بآخر مشاعر الرعب والمعاناة والعذاب.
إنها لوحة مروّعة حقّا. لا يوجد شخص حيّ واحد فيها. فقط رائحة الموت المنتشرة في كلّ مكان.
ومن بعيد يمكن رؤية سلسلة جبال وما يشبه القلعة القديمة. لكن هذا الشريط المظلم الرقيق يؤكّد فقط على ضخامة الرعب الصامت الذي جرى فوق هذه الأرض.
وطيور الجيَف هذه لا بدّ أنها تمتّعت مؤخّرا بوليمة رائعة، وهي الآن تدور بكسل فوق العظام بحثا عن قطعة لحم باقية هنا أو هناك. هنا كانت حرب. وكلّ سنتيمتر من الأرض مشبع بالموت الذي يسمّم كلّ شيء. الحياة يبدو وكأنها تسرّبت حتى من العشب الأخضر ومن الأشجار التي كانت خصبة وارفة، والآن لم يبقَ منها سوى جذوع عارية وأغصان رفيعة تمتدّ إلى السماء بعتَب صامت.
الصحراء الحارّة والواسعة التي لا حياة فيها، والأشجار الجافّة الميّتة والعشب المحروق، تحت سماء جنوبية صافية وغير مبالية، بالإضافة الى اللون الأصفر للصورة، كلّها عناصر تؤكّد الدمار الكامل الذي يعقُب الحرب عادةً. الغربان السُود فقط هي الكائنات الحيّة الوحيدة في الصورة، لكنها أيضا رمز للموت. والمدينة المدمّرة في الخلفية والمحَدّقة فينا بمحاجر عيون فارغة تذكّرنا بمدى سهولة تدمير عالم مزهر وهشّ وثمين. تلك هي النتيجة المحزنة للحرب.
في الصورة، لا توجد أيّ إشارة إلى زمان أو مكان الحدث، أو مَن تسبّب في كلّ هذا الإجرام، ربّما لأن اللوحة ذات طبيعة رمزية. ورغم أن الصورة وُصفت في البداية بأنها تاريخية وتعكس نتائج حملات تيمورلنك الذي عُرف بشغفه الخاصّ بقطع الرؤوس، إلا أن الفكرة تجاوزت نفسها، وأصبحت اللوحة بمثابة بيان يفضح جميع الحروب. وبغضّ النظر عمّا يقاتل الناس من أجله، فإن النتيجة واحدة دائما: ضحايا ومدن مدمّرة وأراض كانت خصبة ثم تحوّلت إلى صحاري قاحلة لا يسكنها سوى الجوارح والهوام.
كلّ جمجمة يبدو وكأنها تصرخ للناظر الواقف على هذا الجانب من الصورة. العظام الجافّة تشتاق إلى القيامة. كومة الجماجم تشبه كومة الحجارة التي يمكن للربّ أن يخلق منها أبناء آدم الجدد. وفي وسط هذه الصحراء، تُسمع كلمات الربّ لأولئك الذين لم يعودوا يأملون في العثور على الرجاء.
بعد أن رأى الرسّام بعينيه ما فعله المحاربون برفات العدو، حاول نقل حزن هذا المكان ليقول إن الله لا يتكلّم هنا، بل الشيطان! إذ مَن لديه القوّة لمقاومة كلّ هذا اليأس والصمت والخراب؟
توليف اللوحة لافت ومؤثّر. كومة الجماجم الشاهقة التي ترمز كلّ واحدة منها إلى حياة ضائعة، تخلق إحساسا بالحجم الهائل للمأساة. واللون الأصفر الذي رُسمت به اللوحة يرتبط بالانحدار ويؤكّد على عقم وانعدام الحياة في المكان الذي جرى فيه الحدث الرهيب.
كان الروسي فاسيلي ڤيريشاغين من أشهر رسّامي الحرب في القرن التاسع عشر.
كان رحّالة لا يكلّ ولا يمل. وقد سافر في جميع أنحاء آسيا الوسطى والقوقاز وعاش وعمل فترة طويلة في الهند وزار التبت وفلسطين، كما زار العديد من بلدان أوروبّا والولايات المتحدة.
الكثيرون أطلقوا عليه لقب "الفنّان المزعج"، لأن لوحاته الدقيقة والبارعة كانت تعبّر عن الكثير من الحقائق المريرة. كما سجّلت فرشاته، قبل ظهور التصوير الفوتوغرافي، أهوال الحرب بالتفصيل وبدقّة لا ترحم ودون أن يميّز بين الأصدقاء والأعداء.
كان ڤيريشاغين معروفا بتصويره الصارم لوحشية الحرب. وتُعتبر "تأليه الحرب Apotheosis of War" واحدة من أقوى أعماله وأكثرها تأثيرا. إنها بمثابة تذكير مؤلم بالأكلاف البشرية المدمّرة للصراع المسلّح وبعبثية تمجيد الحروب.
وقد رافق الرسّام جيش بلاده في حملاته في تركستان وسمرقند واليابان. وبعض لوحاته التي رسمها آنذاك تتضمّن صورا لجثث جنود قتلى في ميدان المعركة. وقد مُنع عرضها على الملأ بعد أن اتّهمته سلطات بلاده بتشويه صورة الجيش بسبب تصويره لفظائع الحرب وعبثيّتها.
كان تصويره للحرب مقنعا ودقيقا للغاية. كما كانت صوره تنطق ببشاعة الموت وبمعاناة الجرحى في ساحة المعركة وحجم مفرمة اللحم البشري التي تنحدر إليها أيّ حرب مهما كانت الأهداف "النبيلة" التي تساق كمبرّرات لها. وأوضحت لوحاته كيف أن الحروب وغزو الشعوب ليست عملا نبيلا ولا بطوليّا.
بعد عودته من تركستان، انتقل ڤيريشاغين إلى ميونيخ عام 1871، حيث رسم هناك "سلسلة تركستان"، التي تتضمّن 13 لوحة بما فيها لوحته الأشهر التي فوق، أي "تأليه الحرب".
وقد فضح الفنّان بلوحاته الشجاعة جرائم الحروب وأظهر الجانب الذي لا يراه الناس منها عادة، لدرجة أن أحد جنرالات بروسيا نصح الإمبراطور الروسي ألكسندر الثالث بأن يأمر بحرق جميع لوحات ڤيريشاغين الحربية "لأنها ذات تأثير ضارّ".
لم يكن ڤيريشاغين يرسم لوحات وطنية أو فخورة، بل كان يحاول اختراق أعماق قلب الإنسان المتعطّش للدماء والمعارك، وينقل حالة الجرحى والمحتضرين. ولم يكن ينظر إلى الحرب باعتبارها ظاهرة ملازمة للوجود الإنساني، بل بحسبانها مأساة كبرى لا يمكن لأيّ دوافع أن تبرّرها.
وكانت صوره، وخاصّة "تأليه الحرب"، بمثابة صدمة حقيقية لجمهور العاصمة الروسية المدلّل. كانوا يتوقّعون منه أن يرسم لهم الزخارف الشرقية أو عناصر الحياة في آسيا الوسطى التي لاحظها، أو أيّ شيء جديد يمكن أن يضاف إلى القصص الكلاسيكية المعتادة. لكن الدم والرعب والموت الذي رآه وصوّره على القماش أخاف الجمهور وأبعده. وكانت الكثير من هذه اللوحات تتضمّن دعوة لإعادة التفكير في الواقع.
النقد الفنّي السوفياتي لم يستطع تفسير سبب إثارة هذه الصورة الخوف والرهبة لدى الجمهور، مع أن السبب بسيط للغاية. فهذه الصورة المرسومة بواقعية شديدة تطرح على المتلقّين أسئلة عن الحياة والموت، الوجود والعدم، وعن معنى النصر. هل الإنسان مستعد لفعل الشرّ من أجل هدفه؟ هل أنت مستعد لترك جبل من الجماجم خلفك كنصب تذكاري لبسالتك العسكرية؟ وكم هو ثمن الانتصار في الحرب؟
عنوان اللوحة "تأليه الحرب" له مغزى خاّص، فكلمة "تأليه" تعني رفع شخص أو شيء ما إلى المكانة الإلهية. وباستخدام هذا العنوان، يشير ڤيريشاغين إلى أن تمجيد الحرب وتبجيلها وإضفاء طابع مقدّس، أو حتى رومانسي، عليها هو عمل مضلّل وخطير، لأنه يمجّد عمليات القتل والمذابح بلا رحمة ويرفع شيئا مدمِّرا بطبيعته إلى مرتبة التقديس.
والرسّام لا يرى أيّ معنى عملي لتأليه الحرب. ربّما توفر الحرب الرضا المعنوي لدائرة محدودة من الأشخاص المستعدّين لدفع أيّ ثمن لتحقيق رغباتهم ومطامعهم الخاصّة: ثروة ضخمة أو سلطة غير محدودة أو معتقدات دينية وما الى ذلك.


هناك آراء مختلفة بشأن المصدر الذي استلهم منه الفنّان موضوع لوحته. قيل مثلا أن ڤيريشاغين استلهم تأثير الحملات المدمّرة التي قام بها القائد المغولي تيمورلنك (ق 14)، وكانت نجاحاته العسكرية مصحوبة بأهرامات من جماجم العدوّ في أراضي الشعوب المهزومة. لكن آثار الرصاص الواضحة على الجماجم في اللوحة تشير إلى أن تيمورلنك قد لا تكون له علاقة بفكرتها.
كما أن الرسّام كتب نقشا على إطار اللوحة يقول: مهداة الى جميع الفاتحين العظماء في الماضي والحاضر والمستقبل". وكانت تلك دعوة إلى كلّ المهووسين بالحروب للتفكير في عواقب الحرب والأهوال والدمار الذي تسبّبه والثمن الباهظ للانتصارات العسكرية.
من جهة أخرى، قيل إن الفنّان استوحى فكرة اللوحة من أسطورة نساء دمشق وبغداد اللاتي قيل إنهن أتين إلى تيمورلنك ليشتكين له رجالهنّ الغارقين في الفجور. وقد أمر القائد جنوده بقطع رؤوس الخُطاة ووضعها في كومة واحدة. وكانت المحصّلة سبعة أهرامات من الرؤوس المقطوعة نُصبت في ميدان.
المثير للدهشة أن هذا "الإرث" الدامي لتيمورلنك استمرّ في آسيا الوسطى لعدّة قرون. واليوم يعتبر الكثيرون هذا الرجل قدّيسا، وله ضريح يقصده الناس للدعاء له والتماس البركة منه.
وهناك رواية أخرى عن فكرة اللوحة، إذ يقال إن ڤيريشاغين سمع عن قصّة إعدام حاكم كشغر لرحّالة أوروبّي يُدعى أدولف شلاغنتويت عام 1857. وقد أمر الحاكم بوضع رأس الرحّالة فوق هرم من جماجم الأشخاص الآخرين الذين سبق أن أُعدموا.
كان شلاغنتويت رحالّة وجغرافيّا مشهورا، وكانت أعماله ذات قيمة في جميع أنحاء العالم. وفي عامه الأخير، قرّر التوغّل في تركستان الشرقية وتسلّق قمم الجبال هناك ووضع بعض الرسومات والخرائط. ثم قرّر أن ينتقل شرقا، وانتهى به الأمر في كشغر الواقعة اليوم ضمن حدود الصين، حيث قُبض عليه من قبل الحاكم المحلّي المشهور بقسوته. ولم يكن من الممكن أبدا معرفة سبب سوء التفاهم بين الرحّالة والحاكم.
وعلى ما يبدو، لم يكن حاكم كشغر المستبد يرحم أعداءه ولم يكن يدخّر حتى أصدقاءه من الانتقام. وبعد وصوله إلى الحكم، بدأ في استعادة النظام باستخدام أساليب وحشية وأصبحت عمليات الإعدام المتكرّرة أمرا عاديّا. كما لم يكن الحاكم يحبّ الغرباء واعتبرَ كلّ مسافر جاسوسا. لذا أعدم الرحّالة الغربي ووضع رأسه على قمّة هرم من الجماجم البشرية.
لكن هناك شبه اجماع بين مؤرّخي الفن بأن الرسّام تأثّر إلى حدّ كبير برحلته الخطيرة إلى تركستان، حيث خدم في عهد الحاكم الروسي هناك، وكان عليه أن يواجه العواقب المدمّرة للحرب وأن يشارك في المعارك بنفسه.
في تركستان كان ڤيريشاغين يرى الموت وجبال الجثث يوميا. وكان رفضه للحرب يتزايد كلّ يوم. وهكذا وُلدت "سلسلة تركستان" التي صوّر فيها مشاهد المعارك والحياة اليومية لسكّان آسيا الوسطى. وكانت ذروة الرحلة وإعادة التفكير في الوضع هي لوحته "تأليه الحرب".
كانت أسفار الرسّام الواسعة في مناطق آسيا الوسطى التي دمّرتها الحملات العسكرية للإمبراطورية الروسية، ولقاءاته مع السكّان المحليين الذين كانوا في كثير من الأحيان ضحايا هذه الصراعات، قد عزّزت فهمه للخسائر البشرية للحرب وتصميمه على كشف حقائقها.
والعديد من لوحات ڤيريشاغين الأخرى تتبع نفس المنحى، إذ تتحدّى الاتجاه السائد لتمجيد الصراعات المسلّحة. كان الفنّان يهدف إلى تحطيم أسطورة الحرب باعتبارها عملا بطوليا ونبيلا، ويكشف واقعها الوحشيّ الحقيقي. كما أن لوحاته تروّج لرسالة السلام والإنسانية بتسليطها الضوء على الخسائر البشرية الهائلة والمعاناة التي تلحق بأولئك الذين لا يشاركون في القتال.
وبالإضافة الى هذا، فإن صوره تنتقد بشكل مباشر السياسات الكولونيالية والطموحات العسكرية لمختلف القوى، بما في ذلك الإمبراطورية الروسية، التي شعر أنها مسؤولة عن الكثير من سفك الدماء والمعاناة.
ويمكن القول أيضا إن فنّ ڤيريشاغين كان صوتا قويّا ومؤثّرا في تحدّيه للروايات السائدة المحيطة بالحرب وسعيه إلى تعزيز رؤية عالمية أكثر تعاطفا وميلا نحو السلام والتعايش.
وكان لتجاربه الشخصية والمآسي التي شهدها بنفسه تأثير عميق على وجهة نظره حول الحرب وعواقبها، ما دفعه لأن يصبح منتقدا صريحا لتمجيدها، وهو ما انعكس بوضوح في لوحاته القويّة.
كان ڤيريشاغين متأثّرا بالأفكار السلمية والإنسانية لتولستوي الذي انتقد تمجيد الحرب والمجمّع الصناعي العسكري. وشكّلت هذه الآراء الفلسفية مهمّة ڤيريشاغين الفنيّة لتحدّي الروايات السائدة عن الصراعات المسلحة.
ولم يكن ڤيريشاغين نفسه محصّنًا ضدّ مآسي الحرب. فقد قُتل شقيقه، وهو ضابط عسكري، أثناء الحرب الروسية التركية، ما زاد من عزمه على كشف التكلفة البشرية للحرب من خلال فنّه.
وبالاعتماد على تجاربه وملاحظاته المباشرة، فضلا عن معتقداته الفلسفية والإنسانية، أنجز ڤيريشاغين مجموعة من الأعمال الفنّية التي تتناقض بشكل صارخ مع التصوير الرومانسي للحرب الذي كان سائدا في فنّ القرن التاسع عشر والذي كان يصوّر بطولة وبسالة الجنود. وكانت لوحاته تلك بمثابة صوت قويّ ومؤثّر ضدّ تمجيد الصراع المسلح وعواقبه المدمّرة.
ومن أشهر اعماله الأخرى عن أهوال ووحشية وعبثية الحرب لوحته بعنوان "الجندي المنسي"، وفيها تظهر جثّة جنديّ روسي تُرك وحيدا في ساحة المعركة. وفي لوحة أخرى بعنوان "طريق أسرى الحرب" يرسم صفّا طويلًا من أسرى الحرب، بما في ذلك النساء والأطفال، وهم يسيرون عبر منطقة مثلجة ووعرة.
وهناك لوحتان أخريان له تصوّران حدثا واحدا هو الهجوم على حصن خِيوا في أوزبكستان. وتُظهر اللوحة الأولى رتلا من القوّات الروسية وهي تبدأ هجومها. وفي اللوحة الثانية نرى عواقب ذلك الهجوم: جنود موتى ممدّدون على الأرض، وعلى مسافة نرى جنودا ناجين وهم متعبون ويسيرون على غير هدى وغير مكترثين بما حدث لزملائهم. لا يوجد هنا أيّ إحساس بالقوّة، بل نظرة إلى الحرب على أنها شرسة وغير مبالية.
بين عام 1882 وعام 1903، سافر ڤيريشاغين كثيرا، واختار في تلك المرّة أن يزور دولا مثل الهند وفلسطين وسوريا. ثم سرعان ما اشتعلت حرب أخرى، هذه المرّة بين روسيا واليابان.
ومن المؤسف أن تلك الحرب شهدت نهاية الفنّان الذي كثيرا ما رسم ويلات الحروب في لوحاته. وتوفّي ڤيريشاغين في ابريل 1904 متأثّرا بجروحه إثر انفجار البارجة الروسية بتروبافلوفسك ثم غرقِها في بحر الصين.

Credits
musings-on-art.org
tretyakovgallery.ru