يُعتبر "كتاب السفر"، أو "سفرنامة"، للشاعر والرحّالة والفيلسوف الفارسي ناصر خسرو (1004 - 1072) وثيقة تاريخية قيّمة عن العالم الإسلامي خلال العصور الوسطى. وفيه يسرد الكاتب تفاصيل رحلاته خلال القرن الحادي عشر الميلادي والتي دامت سبع سنوات وضمّنها مشاهداته وتجاربه وانطباعاته.
والكتاب ليس مهمّا لمزاياه الأدبية فقط، بل أيضا لأهميّته التاريخية والثقافية. وما يميّزه عن كتب الرحلات الأخرى أن سرده يعكس نهجا فلسفيا وتأمّليا ويركّز على النموّ الشخصي للكاتب والدروس الأخلاقية التي استفادها من ترحاله.
يقول ناصر خسرو في بداية الكتاب: في يوم اقتران كوكب المشتري والقمر، وهو اليوم الذي يقال إن الله يستجيب فيه لكلّ دعاء، اعتزلتُ في زاوية وصلّيت ركعتين، سائلاً الله أن يمنحني ثروة. وذات ليلة، رأيت في المنام شخصا يقول لي: إلى متى تستمرّ في شرب المُدامة التي تدمّر عقل الإنسان؟ لو بقيت واعيا لكان ذلك أفضل لك".
فأجبته: لم يستطع الحكماء أن يأتوا بشيء آخر يخفّف من حزن هذا العالم". فأجابني: إن فقدان الحواسّ ليس راحة. ولا يمكن أن يسمّى حكيما من يقود الناس إلى الجنون، بل يجب على المرء أن يبحث عمّا يزيد العقل والبصيرة". فقلت: وأين أجد مثل هذا؟" قال: إبحث تجد". ثم أشار إلى جبل ولم يقل شيئا آخر.
ولما استيقظت تذكّرت كلام الرجل وقلت لنفسي: لقد استيقظتَ من نوم الليلة الماضية، فمتى ستستيقظ من نوم الأربعين عاما؟". وفكّرت في أنني إن لم أغيّر من نفسي فلن أجد السعادة أبدا. وفي اليوم التالي تطهّرت من الرأس إلى القدمين، وذهبت إلى المسجد، وصلّيت إلى الله طلبا للمساعدة في إنجاز ما كان عليّ القيام به والامتناع عمّا نهى عنه. ثم عزمت على أن أذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحج. وسدّدت ما عليّ من ديون وتركت سائر أمور الدنيا إلا ما كان منها ضروريّا".
بدأ ناصر خسرو رحلته من ساحل بحر قزوين في إيران إلى شرق الأناضول في تركيا ثم إلى سوريا وفلسطين ولبنان. وقد زار القدس وعكّا وحيفا وطبريّا، ومن هناك ذهب إلى مصر والقاهرة، مقرّ الخلافة الفاطمية. ومن مصر واصل طريقه إلى الحجاز عبر شبه الجزيرة العربية حيث أدّى الحج مرّتين وتوقّف في الطائف وجدّة، ليعود بعد نحو سبع سنوات من الترحال إلى موطنه في بلخ.
في هذا الكتاب استوقفني بشكل خاص حديث المؤلّف عن زيارته لمدينتي حلب وسرمين وعن لقائه بالشاعر أبي العلاء المعرّي. يقول: على بعد ستّة فراسخ من سرمين، تقع معرّة النعمان، وهي مدينة مكتظّة بالسكّان ولها سور حجري. وقد وجدت أسواقها مزدهرة، وبُني مسجد الجمعة فيها على تلّة بحيث يتعيّن على من يريد الصعود إليه أن يرقى ثلاث عشرة درجة. وتتكوّن زراعتها أساسا من القمح، كما يكثر التين والزيتون والفستق واللوز والعنب. وتأتي مياه المدينة من الأمطار والآبار.
والكتاب ليس مهمّا لمزاياه الأدبية فقط، بل أيضا لأهميّته التاريخية والثقافية. وما يميّزه عن كتب الرحلات الأخرى أن سرده يعكس نهجا فلسفيا وتأمّليا ويركّز على النموّ الشخصي للكاتب والدروس الأخلاقية التي استفادها من ترحاله.
يقول ناصر خسرو في بداية الكتاب: في يوم اقتران كوكب المشتري والقمر، وهو اليوم الذي يقال إن الله يستجيب فيه لكلّ دعاء، اعتزلتُ في زاوية وصلّيت ركعتين، سائلاً الله أن يمنحني ثروة. وذات ليلة، رأيت في المنام شخصا يقول لي: إلى متى تستمرّ في شرب المُدامة التي تدمّر عقل الإنسان؟ لو بقيت واعيا لكان ذلك أفضل لك".
فأجبته: لم يستطع الحكماء أن يأتوا بشيء آخر يخفّف من حزن هذا العالم". فأجابني: إن فقدان الحواسّ ليس راحة. ولا يمكن أن يسمّى حكيما من يقود الناس إلى الجنون، بل يجب على المرء أن يبحث عمّا يزيد العقل والبصيرة". فقلت: وأين أجد مثل هذا؟" قال: إبحث تجد". ثم أشار إلى جبل ولم يقل شيئا آخر.
ولما استيقظت تذكّرت كلام الرجل وقلت لنفسي: لقد استيقظتَ من نوم الليلة الماضية، فمتى ستستيقظ من نوم الأربعين عاما؟". وفكّرت في أنني إن لم أغيّر من نفسي فلن أجد السعادة أبدا. وفي اليوم التالي تطهّرت من الرأس إلى القدمين، وذهبت إلى المسجد، وصلّيت إلى الله طلبا للمساعدة في إنجاز ما كان عليّ القيام به والامتناع عمّا نهى عنه. ثم عزمت على أن أذهب إلى مكّة لأداء فريضة الحج. وسدّدت ما عليّ من ديون وتركت سائر أمور الدنيا إلا ما كان منها ضروريّا".
بدأ ناصر خسرو رحلته من ساحل بحر قزوين في إيران إلى شرق الأناضول في تركيا ثم إلى سوريا وفلسطين ولبنان. وقد زار القدس وعكّا وحيفا وطبريّا، ومن هناك ذهب إلى مصر والقاهرة، مقرّ الخلافة الفاطمية. ومن مصر واصل طريقه إلى الحجاز عبر شبه الجزيرة العربية حيث أدّى الحج مرّتين وتوقّف في الطائف وجدّة، ليعود بعد نحو سبع سنوات من الترحال إلى موطنه في بلخ.
في هذا الكتاب استوقفني بشكل خاص حديث المؤلّف عن زيارته لمدينتي حلب وسرمين وعن لقائه بالشاعر أبي العلاء المعرّي. يقول: على بعد ستّة فراسخ من سرمين، تقع معرّة النعمان، وهي مدينة مكتظّة بالسكّان ولها سور حجري. وقد وجدت أسواقها مزدهرة، وبُني مسجد الجمعة فيها على تلّة بحيث يتعيّن على من يريد الصعود إليه أن يرقى ثلاث عشرة درجة. وتتكوّن زراعتها أساسا من القمح، كما يكثر التين والزيتون والفستق واللوز والعنب. وتأتي مياه المدينة من الأمطار والآبار.
وكان في هذه المدينة رجل اسمه أبو العلاء. ورغم أنه أعمى، إلا أنه كان عمدة للمدينة وعلى جانب من الثراء. كما أن عنده العديد من العبيد والخدم، لكنه اختار حياة الزهد. وكان يلبس الثياب الخشنة ويلازم البيت ويقسم نصفا من خبز الشعير إلى تسعة أجزاء ويكتفي بقطعة واحدة منه طوال النهار والليل، ولا يأكل شيئاً غير ذلك.
ويضيف: وسمعت أن باب داره يظلّ مفتوحاً دائماً، وأن وكلاءه يقومون بكلّ أعمال المدينة، إلا الإشراف العام الذي كان يتولّاه بنفسه. كان يصوم ويسهر الليل ولا يشارك في شئون الدنيا ولا يحرم أحدا من ثروته. وقد بلغ هذا الرجل من المكانة في الشعر والأدب ما جعل علماء الشام والمغرب والعراق يعترفون بأنه لا يوجد في هذا العصر من يضاهيه.
ثم يذكر الرحّالة أن المعرّي ألّف كتاباً اسمه "الفصول والغايات" تحدّث فيه بأمثال غامضة. ويضيف: ورغم فصاحته وعجيبه، إلا أن هذا الكتاب لا يفهمه إلا القليلون ممّن قرأوه معه. ويجتمع حول الرجل دائماً أكثر من مائتي شخص من كلّ مكان لقراءة الأدب والشعر. وسمعت أنه نظَم أكثر من مائة ألف بيت من الشعر. وقد سأله أحدهم ذات مرّة لماذا، وقد أعطاه الله كلّ هذه الثروة، يوزّعها على الناس ولا يأخذ منها شيئا لنفسه. فقال: لا أملك شيئا أكثر ممّا آكله".
ثم يتحدّث ناصر خسرو عن رحلته الى بلدة يقال لها زوزان وتقع الى الجنوب من هيرات، وعن لقائه فيها مع رجل يُدعى أبا منصور محمد بن دوست. فيقول: كان هذا الرجل يعرف شيئاً من الطبّ والفلك والمنطق. فقال لي: خارج الأفلاك والنجوم، ماذا يوجد؟" قلت: إن الأشياء التي داخل الأفلاك لها أسماء، ولكن ليس لها أيّ شيء خارجها." فسألني: فما تقول إذن؟ هل يوجد جوهر خارج الأفلاك أم لا؟"
فقلت: لا بدّ أن يكون الكون محدوداً بالضرورة. وحَدُّه هو الكرة الأخيرة". فقال: لذلك فإن الجوهر الذي يجب أن يعتقد العقل أنه موجود إنما هو محدود وينتهي عند هذا الحدّ. فإذا كان محدوداً، فإلى أي حدّ يكون موجوداً؟! وإذا كان لانهائياً، فكيف يمكن أن يزول من الوجود؟!" ثم قال في نهاية حديثه: لقد عانيت من حيرة شديدة بسبب كلّ هذا"، فأجبته: ومن لم يعانِ من هذه الحيرة؟!".
ويختم الرحّالة كتابه بهذه الكلمات المعبّرة: على الرغم من أن مشقّة وتعب العالم طويلان، فإن له نهاية ولا شك. إن الكواكب والنجوم تسافر ليلا ونهارا، وكلّ ما مضى يأتي بعده آخر. ونحن نسافر عبر ما يمكن تجاوزه حتى تأتي تلك الرحلة التي لا يمكن تجاوزها.
ويضيف: كانت المسافة التي قطعناها من بلخ إلى مصر ومنها إلى مكّة ثم عبر البصرة إلى فارس ثم بلخ مرّة أخرى، عدا رحلات زيارة الأضرحة وغيرها، أكثر من ألفي فرسخ. وقد سجّلت مشاهداتي كما رأيتها. وإذا كان بعض ما سمعتُه من حكايات الآخرين لا يتفّق مع الحقيقة، فأرجو من قرّائي أن يسامحوني ولا يعاتبوني. والحمد لله ربّ العالمين".
ويضيف: وسمعت أن باب داره يظلّ مفتوحاً دائماً، وأن وكلاءه يقومون بكلّ أعمال المدينة، إلا الإشراف العام الذي كان يتولّاه بنفسه. كان يصوم ويسهر الليل ولا يشارك في شئون الدنيا ولا يحرم أحدا من ثروته. وقد بلغ هذا الرجل من المكانة في الشعر والأدب ما جعل علماء الشام والمغرب والعراق يعترفون بأنه لا يوجد في هذا العصر من يضاهيه.
ثم يذكر الرحّالة أن المعرّي ألّف كتاباً اسمه "الفصول والغايات" تحدّث فيه بأمثال غامضة. ويضيف: ورغم فصاحته وعجيبه، إلا أن هذا الكتاب لا يفهمه إلا القليلون ممّن قرأوه معه. ويجتمع حول الرجل دائماً أكثر من مائتي شخص من كلّ مكان لقراءة الأدب والشعر. وسمعت أنه نظَم أكثر من مائة ألف بيت من الشعر. وقد سأله أحدهم ذات مرّة لماذا، وقد أعطاه الله كلّ هذه الثروة، يوزّعها على الناس ولا يأخذ منها شيئا لنفسه. فقال: لا أملك شيئا أكثر ممّا آكله".
ثم يتحدّث ناصر خسرو عن رحلته الى بلدة يقال لها زوزان وتقع الى الجنوب من هيرات، وعن لقائه فيها مع رجل يُدعى أبا منصور محمد بن دوست. فيقول: كان هذا الرجل يعرف شيئاً من الطبّ والفلك والمنطق. فقال لي: خارج الأفلاك والنجوم، ماذا يوجد؟" قلت: إن الأشياء التي داخل الأفلاك لها أسماء، ولكن ليس لها أيّ شيء خارجها." فسألني: فما تقول إذن؟ هل يوجد جوهر خارج الأفلاك أم لا؟"
فقلت: لا بدّ أن يكون الكون محدوداً بالضرورة. وحَدُّه هو الكرة الأخيرة". فقال: لذلك فإن الجوهر الذي يجب أن يعتقد العقل أنه موجود إنما هو محدود وينتهي عند هذا الحدّ. فإذا كان محدوداً، فإلى أي حدّ يكون موجوداً؟! وإذا كان لانهائياً، فكيف يمكن أن يزول من الوجود؟!" ثم قال في نهاية حديثه: لقد عانيت من حيرة شديدة بسبب كلّ هذا"، فأجبته: ومن لم يعانِ من هذه الحيرة؟!".
ويختم الرحّالة كتابه بهذه الكلمات المعبّرة: على الرغم من أن مشقّة وتعب العالم طويلان، فإن له نهاية ولا شك. إن الكواكب والنجوم تسافر ليلا ونهارا، وكلّ ما مضى يأتي بعده آخر. ونحن نسافر عبر ما يمكن تجاوزه حتى تأتي تلك الرحلة التي لا يمكن تجاوزها.
ويضيف: كانت المسافة التي قطعناها من بلخ إلى مصر ومنها إلى مكّة ثم عبر البصرة إلى فارس ثم بلخ مرّة أخرى، عدا رحلات زيارة الأضرحة وغيرها، أكثر من ألفي فرسخ. وقد سجّلت مشاهداتي كما رأيتها. وإذا كان بعض ما سمعتُه من حكايات الآخرين لا يتفّق مع الحقيقة، فأرجو من قرّائي أن يسامحوني ولا يعاتبوني. والحمد لله ربّ العالمين".
Credits
dokumen.pub
dokumen.pub