بعض الأعمال التشكيلية المعروفة وجدت طريقها إلى عدد من الأفلام السينمائية المشهورة. أحيانا تكون شهرة اللوحة أو قيمتها الإبداعية أو السعر الباهظ الذي بيعت به سببا يدفع بعض المخرجين إلى توظيفها في المشاهد الفخمة لأفلامهم.
وفي بعض الأحيان تضفي اللوحة جوّا من البذخ أو الرفاهية على قصّة الفيلم. وفي بعض الحالات تصبح اللوحة عنصرا رئيسيا في العمل السينمائي، إمّا للتأكيد على فكرة أو رسالة ما أو لتعميق الجانب التعبيري للفيلم.
ومن أبرز الرسّامين الذين وُظفت لوحاتهم في أفلام سينمائية مشهورة كلّ من ليوناردو دافنشي وبيتر بريغل وفان غوخ وغوستاف كليمت وغيرهم.
في الموضوع التالي تتحدّث مون سويونغ عن لوحة للرسّام الرمزي البلجيكي فيرناند كينوبف ظهرت مؤخّرا في فيلم زمن البراءة. كما تحاول الكاتبة فهم الدلالات الاجتماعية والسيكولوجية والفنّية والانثروبولوجية للوحة ضمن سياق قصّة الفيلم.
نيولاند آرتشر محام وسيم ووريث عائلة من الطبقة الثريّة في نيويورك أواخر القرن التاسع عشر. كان آرتشر يأمل بالزواج من شابّة جميلة من عائلة مكافئة لعائلته من حيث الوجاهة والثراء اسمها ماي ويلاند.
وهنا تدخل الكونتيسة إيلين اولنسكا، عمّة ماي، في الصورة. كانت إيلين تعيش في أوربّا بعد زواجها من كونت بولندي. لكنها لا تلبث أن تهجر زوجها الذي كان يسيء معاملتها وتعود إلى أمريكا. وعندما تصل إلى هناك تواجه استقبالا فاترا من الوسط الاجتماعي المحافظ الذي تنتمي إليه. لكنها ما تزال مصرّة على المضيّ قدما في خططها لتطليق زوجها. وهو تصرّف كان ممنوعا في ذلك الوقت. عائلة إيلين معارضة بقوّة للخطّة وتعتقد أنها ستجلب لهم العار. لذا تطلب من آرتشر أن يثنيها عن فكرة الطلاق. في النهاية، يوافق آرتشر على القيام بالمهمّة لكنه يشعر بافتنان وتعاطف مع إيلين وهو يراقب كفاحها ضدّ قيود المجتمع لوحدها.
هذه هي حبكة فيلم زمن البراءة الذي يستند إلى رواية بنفس الاسم فازت بجائزة البوليتزر للكاتبة إديث وارتون. وعندما أعلن مارتن سكورسيزي انه سيخرج الفيلم أصيب الكثيرون بالدهشة لأن المخرج كان معروفا بأفلامه الصعبة عن الشوارع الخلفية والعالم السفلي لـ نيويورك. ولم يسبق لـ سكورسيزي أن اخرج أفلاما ذات طبيعة رومانسية تحكي عن الأزمنة الأنيقة. وعندما سُئل عن قراره بإخراج الفيلم قال انه ينوي أن يصوّر الأشكال الخفيّة من العنف والتوحّش التي يمكن أن يجلبها المجتمع للفرد الذي يعيش فيه. وقد أنجز سكورسيزي ذلك الهدف بطريقة رائعة وذلك من خلال العناصر الصورية التي حشدها في الفيلم. فالمَشاهِد تلتقط المناظر الداخلية الفخمة للديكورات والملابس التي كانت شائعة في أواخر القرن التاسع عشر بتفصيل رائع ومذهل.
الفيلم يتضمّن أيضا مشاهد مبهجة للعين من خلال عدد من اللقطات الجميلة والمرتّب لها بعناية. كما انه يوظّف أشياء وعناصر معيّنة لتصوير مقاومة كلّ من إيلين ونيولاند ضدّ النظام الاجتماعي الصارم. والفيلم يحتشد بعدد لا بأس به من اللوحات الفنّية التي تزيّن قصور العائلات الغنيّة من بينها بعض أعمال جيمس تيسو ولورانس تاديما وغيرهما من رسّامي تلك الأيام. لكن أهم تلك العناصر هي لوحة في بيت إيلين تصوّر مخلوقا بوجه امرأة وجسد نمر وهو يتحسّس بمودّة وجه شابّ ذي صدر عاري.
اللوحة الأصلية هي للرسّام الرمزي البلجيكي فيرناند كينوبف وتحمل اسم المداعبة أو أبو الهول. ويُحتمل أن هذه اللوحة تصوّر الوحش سفينكس أو أبو الهول الذي تذكر الأساطير الإغريقية أن له جسد لبؤة ورأس رجل والذي هزمه البطل اوديب عندما تمكّن من حلّ لغزه.
من المؤكّد أن اوديب لم يكن على علاقة عاطفية مع سفينكس، لكنه تزوّج والدته عن غير قصد ومن ثمّ ولد مصطلح "عقدة اوديب" الذي أصبح مشهورا في التحليل النفسي.
وحسب ما هو معروف، فإن جميع اللوحات التي يظهر فيها اوديب وسفينكس والتي رُسمت حتى منتصف القرن التاسع عشر كانت وفيّة للأسطورة الأصلية. وفي جميع تلك اللوحات تقف الشخصيّتان متباعدتين عن بعضهما ومتّخذتين موقفا قتاليا في اللحظة التي يطرح فيها سفينكس لغزه.
غوستاف مورو كان رسّاما فرنسيا ورائدا للفنّ الرمزي. وقد رسم لوحة مختلفة كثيرا وصادمة عن اوديب وسفينكس. في اللوحة يحتضن سفينكس جسد اوديب ويحدّق فيه كما لو أنه يغازله. غير أن اوديب يستلّ رمحه ويوجّه له نظرات صارمة كما لو انه يريد مقاومة فتنة الإغراء بكلّ ما في وسعه. في هذه اللوحة لم يعد سيفنكس مجرّد وحش، بل يظهر كأنثى ذات جمال فتّاك تثقل كاهل الرجال بسحرها وتقرّر مصائرهم. وهي فكرة اعتنقها على نطاق واسع رسّامو القرن التاسع عشر.
السؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف واتت هؤلاء الفنّانين فكرة تصوير سفينكس كامرأة فاتنة، خلافا لما تذكره الأسطورة الأصلية؟
ثمّة احتمال بأنهم تأثّروا بعلماء الانثروبولوجيا في وقتهم الذين كانوا يربطون بين سفينكس وصور النساء القويّات في العصور البدائية.
يتحدّث عالم الاجتماع السويسري يوهان باكوفن في كتابه "حقّ الأم" عن انتقال الجنس البشري من النظام الأمومي الذي كان سائدا في الأزمنة البدائية إلى النظام الأبوي، مشيرا إلى أن سفينكس القويّ كان واحدا من أهمّ رموز الأمومة. واللغز المشهور الذي يطرحه سفينكس على اوديب عن الشيء الذي يمشي على أربع أرجل في الصباح وعلى رجلين بعد الظهر وعلى ثلاث أرجل في المساء ليس مجرّد لغز، وإنما يتضمّن أيضا معنى رمزيا لدورة حياة الإنسان.
ويذكر بعض علماء الانثروبولوجيا في نهاية القرن التاسع عشر أن المرأة في العصور البدائية كانت هي التي تحتكر أسرار الطبيعة ودورة حياة البشر. كما يشيرون إلى انه عندما حلّ اوديب اللغز فإنه إنما كان في الواقع يعلن نهاية ذلك الاحتكار وتحوّل السلطة من النساء إلى الرجال. ولو قُدّر للفنانين النسويين في أيّامنا هذه أن يرسموا سفينكس اعتمادا على تلك النظرية فإنهم بالتأكيد سيصوّرونه بطريقة أكثر جمالا ونبلا.
وعلى ما يبدو، كان الرسّامون الرجال في القرن التاسع عشر مثل مورو يركّزون على تصوير القلق والمشاعر المختلطة من الكراهية والحسّية التي كانت تثيرها صور النساء في الرجال طبقا لتلك النظرية. وفي ذلك الوقت كانت هناك لوحات كثيرة تُظهر سفينكس كأنثى ذات جمال قاتل، من قبيل لوحة كينوبف. هذه اللوحة بالذات خاصّة جدّا. فليس فيها توتّر جنسي قويّ مثل صور سفينكس الأخرى التي رُسمت في ذلك الزمن. كما أن الشخصين فيها لا يواجهان بعضهما البعض وإنما يقفان جنبا إلى جنب، بينما يبدو وجهاهما متشابهين بشكل غريب.
يقول المؤرّخ مايكل غيبسون في كتابه "الرمزية" إن الرجل الظاهر في اللوحة قد يكون الرسّام نفسه وليس اوديب، بينما يُحتمل أن يكون سفينكس خياله أو الأنا الأخرى بداخله. ومن المثير للاهتمام أيضا أن وجه سفينكس في اللوحة صيغ على ملامح وجه شقيقة الرسّام التي تظهر أيضا في العديد من لوحاته.
في احد مشاهد فيلم زمن البراءة، يقف نيولاند وإيلين معا في غرفة، بينما تظهر خلفهما لوحة كينوبف. نيولاند يقف أمام الرجل في حين تقف إيلين أمام سفينكس. قد لا تكون إيلين نموذجا للأنثى ذات الجمال القاتل. لكنها يمكن أن تتماهى مع سفينكس لأن لها روحا قويّة كما أنها تقاوم القواعد الصارمة للمجتمع. ونيولاند يمكن أن يتماهى مع الرجل في اللوحة برغم ما يبدو على ملامحه من علامات الحزن والتردّد. غير انه يكتشف روحه المتمرّدة من خلال إيلين. إنه مفتون بها ومعجب بشجاعتها، غير انه بنفس الوقت متردّد في أن يقبلها بسبب القيود الاجتماعية الصارمة التي يعيش الاثنان في ظلّها.