وملخّص القصّة أن أستاذا لعلم النفس كان يتحدّث الى قاعة مليئة بالطلاب، عندما رفع كوب ماء. وتوقّع الجميع أن يطرح عليهم السؤال المشهور عن "نصف الكوب الفارغ ونصف الكوب الممتلئ". وبدلا من ذلك، سأل الأستاذ الطلاب: ما مدى ثقل كوب الماء هذا الذي أحمله؟"
وتراوحت إجابات الطلاب ما بين بضعة غرامات إلى بضعة أرطال. ثم قال الأستاذ: من وجهة نظري، فإن وزن هذا الكأس لا يهمّ. بل المهم هو المدّة التي أحتفظ به خلالها. فإذا حملته لمدّة دقيقة أو اثنتين، فهو خفيف إلى حدّ ما. أما إذا حملته لساعة، فإن وزنه قد يتسبّب في إيلام ذراعي. أما إذا حملته ليوم متواصل أو أكثر، فمن المحتمل أن تتشنّج ذراعي وأشعر بالخدر والشلل التام، ما قد يجبرني على إسقاط الكأس على الأرض. وفي كلّ حالة، لا يتغيّر وزن الكأس، ولكن كلّما حملته لفترة أطول شعرت بثقله أكثر".
وبينما كان الطلاب يهزّون رؤوسهم موافقين، تابع أستاذهم كلامه قائلا: إن ضغوطك ومخاوفك في الحياة تشبه إلى حدّ كبير كوب الماء هذا. فعندما تفكّر في تلك الهموم فترة معقولة لا يحدث شيء. فكّر فيها فترة أطول قليلا وستبدأ في الشعور بالألم قليلا. فكّر فيها طوال اليوم، وستشعر بالشلل التام ولن تتمكّن من فعل أيّ شيء آخر حتى تُسقطها وتتجاوزها".
هذه الحكاية المعبّرة تتضمّن درسا بالغ الأهميّة: ليس الحِمل هو ما ينهكك أو يثقل كاهلك، وإنّما الطريقة التي تحمله بها. وهذا صحيح تماما. فبغضّ النظر عمّا يحدث خلال اليوم، ضع كلّ أعباءك جانبا ولا تحملها معك طوال الليل أو الى اليوم التالي. وإذا كنت لا تزال تشعر بثقل ضغوط الأمس، فهذه علامة قويّة على أن الوقت قد حان "لتضع الكأس جانبا". فالقلق لا يجرّد الغد من أحزانه، بل يحرمنا من بهجة اليوم.
وربّما تذكّرنا هذه القصّة أيضا بضرورة أخذ قسط من الراحة من متاعب الحياة. هناك أشخاص كثيرون، بعضهم ما يزالون في مستهلّ العمر، يضيّعون أفضلَ سنواتِ حياتهم في العمل المتواصل، رغبة منهم في أن يحقّقوا ثروة ومكانة. وفي حين أنه لا يوجد خطأ في العمل الجادّ والطموح، إلا أنه لا ينبغي التضحية بجودة الحياة وبالصحّة وراحة البال من أجل الحصول على حافز مادّي أو معنوي قد لا يستحقّ الجهد المبذول لبلوغه.
❉ ❉ ❉
الورقة الملتفّة بأناقة في أسفل يمين اللوحة مكتوب عليها "الحياة متاع الغرور وكلّ شيء باطل"، وهو ما يحوّل الصورة إلى لوحة طبيعة ساكنة عن غرور الحياة. الجمجمة والشمعة المنطفئة والزجاجة المقلوبة وفقاعات الصابون العائمة في جوّ الغرفة والساعة ذات العدسة المكبّرة على شكل غطاء، كلّها عناصر تشير إلى مرور الحياة وزوال الوجود. وفي النهاية، تصبح الأشياء الثمينة الظاهرة في اللوحة، كاللؤلؤ والعملات المعدنية، عديمة القيمة.
وخلف كأس النبيذ الطويل في منتصف الصورة تقريبا، يمكن رؤية رسم غامض لوجه ينبثق من الظلام كظلّ. ربّما يشير الوجه إلى أصل الرسم الذي نشأ، بحسب المؤرّخ بليني الأكبر، من خلال رسم ظلّ عاشق مغادر على جدار.
وكما هو واضح، هذه اللوحة مليئة بالوجوه وبالرموز التي تعكس انشغال الفنّانين الهولنديين بالزمن والموت منذ أكثر من ٤٠٠ عام. وكما يقال: الفنّ خالد والحياة قصيرة، والزمن ينتهي لكن الفنّ يبقى.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
وبحسب بعض الكتّاب، هناك نبرة كآبة تتسم بها نظرة اوريليوس الى العالم بتركيزه على مدى تفاهة وغرور وانعدام قيمة الانشغالات الدنيوية في نهاية المطاف. وهو يكرّر مرارا أن لا شيء يدوم في هذه الحياة "وهذا صحيح"، وأن لا شيء يفعله البشر يعني شيئا في النهاية "وهذا صحيح في معظمه أيضا"، لكنه يضيف تفسيرا متشائما نوعا ما لطبيعة الوجود الزائلة "والتي لا يمكن إنكارها أيضا".
غريغوري هايز، مترجم كتاب "التأمّلات" لأوريليوس يتوصّل إلى النتيجة نفسها بقوله: حتى من يحبّون الكتاب لا ينكرون وجود شيء ناقص في رؤية الكاتب للحياة البشرية. وهناك من يعبّرون عن احترام ومودّة عميقين لشخص ماركوس، لكنهم يشيرون الى أن العيب الجوهري في فلسفته يكمن في فشلها في مراعاة الفرح، وهذا نقد منصف. فهو لا يقدّم لنا وسيلة لتحقيق السعادة، بل لمقاومة الألم فحسب. وفلسفته الرواقية في "التأمّلات" هي في جوهرها فلسفة دفاعية. ومن اللافت في كتابه تكرار الصور العسكرية، بدءا من إشارته إلى الروح على أنها "متمركزة" إلى صورته الشهيرة للعقل "كحصن منيع".
وعدم قدرة اوريليوس على إيجاد هذا التوازن بين ضبط النفس وأهميّة الاستمتاع بالحياة كان له كما سنرى عواقب وخيمة على ابنه كومودوس، وعلى الإمبراطورية نفسها. وهذا هو ثاني انتقاد رئيسي يوجَّه له.
وهناك أيضاً من يعيب على الكتاب تكرار المواضيع نفسها، وغلبة الطابع الشخصي مقابل غياب العمق الفلسفي، وإفراط الكاتب في التفاؤل والتبسيط في مواجهة المشاعر الإنسانية التي تتّسم بالتشابك والتعقيد، وصعوبة فهم السياق التاريخي والثقافي للإمبراطورية الرومانية، الأمر الذي قد يجعل بعض أفكار الكتاب تبدو قديمة أو أقلّ قابليةً للتطبيق.
❉ ❉ ❉
○ اجتمع هنا أشخاص من جميع الأمم: الليغوريون واللوزيتانيون والبلياريون والزنوج واللاجئون الرومان. وإلى جانب اللهجة الدورية الثقيلة، كانت الأصوات الكلتية تهتزّ كعربات، وتضاربت نهايات الكلمات الأيونية مع الحروف الساكنة في لغة الصحراء التي بدت حادّة كعواء بنات آوى. كان اليونانيّ معروفا بجذعه النحيل، والكانتابري بساقيه العضليتين. لوّح الكاريّون بريش خوذاتهم بفخر، ورسمت على أجساد رماة الكبادوك زهور كبيرة، وتناول بعض الليديين طعامهم بملابس نسائية مع نعال وأقراط، وتزيّن آخرون باللون القرمزي وبدوا كتماثيل من مرجان.
ومن كلّ ما حدث، يمكنك أن ترى بوضوح المخاطر التي يجب على أولئك الذين يستخدمون المرتزقة الاستعداد لها، وكذلك الفرق الكبير بين عصابة من البرابرة الفوضويين والأشخاص الذين نشأوا في مجتمع متعلّم ومتحضّر وملتزم بالقانون. ونظرا لأنهم لم يكونوا جميعا من نفس الجنسية ولا يتحدّثون نفس اللغة، فقد امتلأ المعسكر بالفوضى والشغب. في الواقع، عندما يثار غضب هؤلاء الرجال مرّة واحدة ضدّ أيّ شخص، أو عندما ينتشر الافتراء بينهم، فإنهم لا يكتفون بالحقد البشري المحض، بل ينتهي بهم الأمر إلى أن يصبحوا مثل الوحوش البرّية أو المجانين. في إس نيبول
○ إقرأوا لأنفسكم، اقرأوا من أجل إلهامكم، من أجل الاضطراب الجميل في رؤوسكم. واقرأوا أيضا ضدّ أنفسكم، اقرأوا من أجل التساؤل والاقرار بالعجز، من أجل اليأس وطلب المعرفة، اقرأوا الملاحظات الساخرة والجافّة للكتّاب العدميين مثل سيوران أو حتى كارل شميت. اقرأوا أعداءكم، اقرأوا حتى لأولئك الذين لا تستطيعون فهم ظلامهم أو حقدهم أو جنونهم، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستجلب لكم النموّ وتجعلكم تتجاوزون أنفسكم وتصبحون ما تتمنّون أن تكونوا عليه. مجهول
○ قبل أن يصل إخواننا الأوربّيون البيض ليجعلونا بشرا متحضّرين، لم يكن لدينا أيّ نوع من السجون. ولهذا السبب، لم يكن لدينا مجرمون. وبدون سجون، لا يمكن أن يكون هناك مجرمون. ولم تكن لدينا أقفال ولا مفاتيح، وبالتالي لم يكن بيننا لصوص. وعندما يكون شخص منّا فقيرا لدرجة أنه لا يستطيع تحمّل تكلفة حصان أو خيمة أو بطانية، كان يتلقّى كلّ تلك الأشياء كهديّة. كنّا غير متحضرّين لدرجة أننا لم نُعطِ أهميّة كبيرة للملكية الخاصّة. ولم نكن نعرف أيّ نوع من المال، وبالتالي فإن قيمة الإنسان لم تكن تتحدّد بثروته.
لم يكن لدينا قوانين مكتوبة ولا محامون ولا سياسيون، وبالتالي لم نكن قادرين على الغشّ والاحتيال أو خداع بعضنا البعض. لقد كنّا في حالة سيّئة حقّا قبل وصول البيض، ولا أعرف كيف أشرح كيف تمكنّا من تدبير أمورنا بدون هذه الأشياء الأساسية التي يقولون لنا أنها ضرورية للغاية للمجتمع المتحضّر. الزعيم لام دير
○ الموسيقى التي تسمعها عادةً في المنزل أو في السيّارة أو حتى أثناء نزهاتك لم تكن تبدو دائما نقيّة كما يرغب في ذلك عازفو البيانو. كانت في بعض الأحيان مختلطة بأصوات مليئة بالخوف والألم واليأس، كانت أكثر من مجرّد موسيقى. مجهول