:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


‏إظهار الرسائل ذات التسميات كازانتزاكيس. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات كازانتزاكيس. إظهار كافة الرسائل

السبت، فبراير 15، 2014

أرسطو وتمثال هوميروس

كان "رمبراندت فان رين" فنّانا شاملا لدرجة انه يصعب وضعه ضمن مدرسة أو اتّجاه فنّي معيّن. لكن الحركة التي تعكس موضوعاته وابتكاراته هي الباروك التي انتشرت في أماكن كثيرة من أوربّا طوال القرن السابع عشر. وقد تضاعفت سمعته باعتباره واحدا من أفضل رسّامي البورتريه في كلّ العصور.
وعلى ما يبدو، كان رمبراندت مؤمنا إيمانا قويّا بالعبارة التي تقول "إعرف نفسك". وربّما لهذا السبب، لا يوجد فنّان آخر يمكن أن ينافس هذا الفنّان العظيم في عدد اللوحات التي رسمها لشخصه والتي تربو على التسعين.
رمبراندت كان أمينا جدّا في تصويره لنفسه. ولم يكن دافعه لذلك شيئا من النرجسية أو الإعجاب بالذات. بل قد يكون اختار البورتريه لارتباطه بالرسم التاريخيّ الذي كان يوليه اهتماما خاصّا طيلة حياته.
كان رسم البورتريهات يحظى بشعبية كبيرة في السوق التجارية في عصره. وكانت البورتريهات التي يرسمها مطلوبة كثيرا في هولندا.
وأيّا ما كان الدافع وراء رسمها، فإن صور رمبراندت لنفسه كانت تمسك بأكثر من مجرّد السمات الجسدية الظاهرية التي كانت تتغيّر باستمرار مع انتقاله من مرحلة عمرية لأخرى. ويمكن القول أن تلك الصور هي عبارة عن سيرة ذاتية وروحية للرسّام. كما كانت أيضا بمثابة رحلة استكشاف داخلية، بالنظر إلى انه، وطول حياته، لم يبتعد عن بلدته الأمّ "ليدن" أكثر من بضعة أميال.
حياة رمبراندت يلفّها الغموض لأنه لم يترك وراءه أيّة سجلات مكتوبة عن نفسه، باستثناء شهادات الميلاد والتعميد والزواج والموت. كما لم يترك وراءه أيّة مفكّرة أو مدوّنة شخصية. هناك فقط سبع رسائل تركها بعد وفاته وهي مكتوبة بخطّ يده ولها علاقة بالمعاملات اليومية الروتينية.
ولكن عندما قام بجرد ممتلكاته قبيل وقت قصير من وفاته، أعلن رمبراندت نفسه معسرا. غير انه لم يترك سوى عدد قليل من الأدلّة حول شخصيّته. لكن على مستوى المهنة، خلّف هذا الفنّان الكبير وراءه تركة رائعة هي عبارة عن أكثر من 2300 لوحة، من بينها لوحتاه الرائعتان والمشهورتان درس في التشريح والحرس الليلي ، بالإضافة إلى بعض لوحاته عن نفسه وكذلك لوحته الأخرى أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس.
اللوحة الأخيرة، أي أرسطو مع تمثال لهوميروس، هي موضوع هذا المقال. وقد كلّف رمبراندت برسمها الدون انطونيو روفو، النبيل الصقلّي وجامع القطع الفنّية. ولم يكن لدى الدون أيّة ملاحظات أو تعليمات محدّدة للرسّام، باستثناء أن يرسم فيلسوفا.
أما اجتماع العقول الذي كشفت عنه اللوحة بعد ذلك فقد كان فكرة الرسّام نفسه. والمشهد هو عبارة عن مزيج من التاريخ والأسطورة، كما انه يتضمّن بصمات رمبراندت المألوفة: البساطة، الهدوء، الشخصيّة والتعاطف.
وفي حين أن شخصيّتين حاضرتان في اللوحة بشكل واضح، إلا أن الشخصية الثالثة، أي الإسكندر الأكبر، يظهر بشكل غير مباشر، وبالتحديد على القلادة المزخرفة التي يرتديها أرسطو.
الفيلسوف، أي أرسطو، يُصوَّر هنا كشخصية متميّزة. وهو يرتدي ملابس مزركشة وجميلة تذكّرنا بعصر النهضة. وهناك مرتبة اجتماعية معيّنة تظهر بعض علاماتها في أعمال رمبراندت الأخرى مثل بعض صوره الشخصية. وهذه العلامات حاضرة هنا أيضا في الملابس الأنيقة لأرسطو وفي يديه المزيّنتين بالخواتم.
ورغم أن أرسطو لم يكن رجلا عسكريّا، إلا أنه يبدو هنا بكامل زينته. كما يمكن رؤية سلسلة وميدالية ذهبية يُفترض أن يكون الأمير المحارب، أي الاسكندر، قد انعم عليه بهما.
أرسطو، الواثق من مكانته الخاصّة، يبدو مستغرقا في التفكير. وهو يضع يدا على التمثال، بينما يلقي نظرة متأمّلة على الشاعر المشهور من الأزمنة القديمة، أي هوميروس، وهو شخص كان محطّ إعجاب كبير من أرسطو وكان الكسندر أيضا يبجّله.
هذا اللقاء المتخيّل بين ثلاث شخصيّات من العصور القديمة يُعتبر نوعا من لقاء العباقرة. وهو لا يُظهِر فقط ابتكارية الفنّان وتألّق تقنيته، ولكن أيضا أفكاره حول هذا الموضوع وافتتانه بفكرته.

هوميروس نفسه أسطورة. الفترة التي عاش فيها كانت وما تزال محلّ نقاش بين المؤرّخين، بل إن وجوده في حدّ ذاته ظلّ محلّ شكّ من قبل الكثيرين. وقد قيل من باب الدعابة أنه لم يكتب الملحمة، ولكن كتبها شخص آخر يحمل نفس الاسم!
لكن ما يزال الناس ينظرون لهوميروس على انه شاعر الإلياذة والأوديسّا. وهناك اعتقاد بأنه عاش قبل حوالي ثلاثة آلاف عام. وقد سبق زمنيّا ظهور البورتريه الواقعيّ. لكن صورته اختُرعت في وقت لاحق واستُنسخت بشكل متكرّر. وهو دائما ما يظهر على هيئة رجل أعمى وملتحٍ.
ومن المرجّح أن رمبراندت اعتمد في "نمذجته" لهوميروس على تماثيل نصفية كانت في مجموعته الخاصّة يعود تاريخها إلى العصر الهلنستي.
ظلمة وسكون الغرفة والوجود الخافت للكتب في خلفية اللوحة تُبرز الوجه المضاء والشخصيّة الوقورة للفيلسوف. كما أن تصويره كرجل من عصر النهضة، سواءً كان ذلك ترخيصا فنّيّا أو مفارقة تاريخيّة مقصودة، لا يمكن إلا أن يكون فكرة ملائمة كثيرا.
كان أرسطو يعرف ويفهم في كلّ العلوم التي كانت سائدة في عصره والتي أسهم فيها، هو نفسه، بجهد أساسيّ. وكان يؤمن بأنه ما من علم لا يمكن بلوغه وأن كلّ العلوم مثيرة للاهتمام. كما كان يشعر بارتياح للفنون ويحتفي بها قدر احتفائه بالعلوم. وقد توقّف هذا الرجل الاستثنائيّ بتواضع أمام الشاعر المبجّل الذي تطرّق إلى أسرار الطبيعة الإنسانية.
عالم هوميروس هو مكان للصراع والمحن والتحدّيات التي يُفترض بالبشر أن يُظهِروا أمامها القوّة والشجاعة والمثابرة. وكان عالمه أيضا مليئا بالدهشة والاكتشاف: نداءات غريبة، سفن محطّمة، كوارث طبيعية، آكلو لوتس وعمالقة وحوريّات بحر. كما تضمّنت ملحمتاه قصصا عن أشجع الرجال وأجمل النساء وأكثر الزوجات إخلاصا.
وفي زمن أرسطو، كان هوميروس يرمز لخلود الفنّ. ورغم أنه تغنّى بالصراعات الأهلية القديمة، إلا أن كلماته تسمو على الموت بجمالها. ويمكننا أن نتخيّل انه كان شخصا فقيرا جدّا. كان يتجوّل في أرجاء اليونان مع قيثارته التي يعزف عليها في حفلات المساء مقابل مبلغ زهيد من المال. وكان هوميروس وفيّا لعبقريته، فلم يحقّق مالا من فنّه، وربّما لم يكن مهتمّا بشيء من ذلك.
في صورة رمبراندت هذه، من الصعب سبر أغوار العينين المؤرّقتين اللتين تحاولان استكشاف مجمل المعرفة الإنسانية. لكن لأرسطو كتابا اسمه الأخلاق يتحدّث فيه عن التأمّل ويصفه بأنه أعلى أشكال السعادة والمتعة الأكثر ديمومة في الحياة.
وعلى مرّ آلاف السنين، منذ هوميروس وألكسندر وأرسطو، فُُسّر التأمّل بطرق عديدة كدليل إلى الحياة، وكتب بعض الكتّاب نسخا حديثة من الأوديسّا. وبعد فترة طويلة من رسم رمبراندت لوحته هذه عن أرسطو وهوميروس، كتب نيكوس كازانتزاكيس نسخته الخاصّة من الأوديسّا.
في ملحمة كازانتزاكيس، يدعو المؤلّف البشر المعاصرين للعمل معا ضدّ الشدائد وحتى ضدّ حتمية الموت. ثم لا يلبث أن يستغرق في لغة هوميروسية يقود من خلالها القارئ في تأمّل أرسطي. "لا أعرف ما إذا كنت سأرسو أخيرا. الآن أنجز عمل النهار. أجمع أدواتي: البصر والشمّ واللمس والذوق والسمع والعقل. ومع هبوط الليل، أعود مثل خُلد إلى بيتي الأرض، ليس لأني تعبت أو لا استطيع العمل، ولكن لأن الشمس شارفت على المغيب".
إحدى أفضل الطرق في التفكير في تطوّر الثقافة بشكل عام، وفي تاريخ الحضارة الغربية بشكل خاصّ، هي المحادثة بين الأحياء والأموات. ومن الصعب أن نتخيّل تجسيدا أكثر شهرة واختصارا لهذه الفكرة من لوحة رمبراندت هذه غير العاديّة والمثيرة للإعجاب.
و"أرسطو مع تمثال نصفيّ لهوميروس" هي واحدة من عدد قليل من الصور التي كُلف بها الرسّام من قبل زبون أجنبيّ. وقد أرسلت اللوحة من أمستردام إلى قصر روفو في ميسينا في صيف عام 1654. وكان السعر المتّفق عليه 500 غيلدر هولنديّ. وبعد مرور 300 عام، أي في عام 1961، ابتاع متحف المتروبوليتان للفنون في نيويورك اللوحة مقابل مليونين ونصف المليون دولار. ويقدّر خبراء السوق أن اللوحة، لو عُرضت للبيع اليوم، فستكسر حاجز الـ 100 مليون دولار بسهولة.

Credits
rembrandt-paintings.com
popmatters.com

السبت، فبراير 14، 2009

من أحاديث زوربا

كانت السماء صافية تماما والنجوم تبدو كبيرة متدلية من السماء ككرات من نار، بينما بدا الليل مثل وحش اسود كبير يجثم على الشاطئ.
وازدحمت الكنيسة الدافئة بالقرويين. فوقف الرجال في المقدّمة أمام النساء، وعقد الجميع أيديهم فوق صدورهم. بينما اخذ الأب ستيفانوس، بقامته الطويلة وثوبه الموشّى بالذهب ووجهه الشاحب بعد صيام أربعين يوما، يروح ويغدو بخطى واسعة ويترنّم بأعلى صوته وبسرعة لكي يعود على عجل إلى بيته حيث تنتظره مائدة مثقلة بالحساء والشواء وسائر الأطعمة الشهيّة .
ولو لم تقل الكتب المقدّسة أن النور ولد في مثل هذه الليلة لما نشأت الأسطورة وملأت الدنيا، ولمرّ الحادث كأيّ ظاهرة طبيعية عادية دون أن يلهب الأخيلة.
لكن النور الذي ولد في صميم الشتاء أصبح طفلا والطفل أصبح إلها دانت له النفوس والأرواح عشرين قرنا.
كنت سعيدا وقلت لنفسي: هذه هي السعادة الحقيقية. أن يعيش الإنسان بلا مطامع ويعمل ويكدّ كأنّ له ألف مطمع. وأن يحبّ الناس ويعمل لخيرهم دون أن يكون في حاجة إليهم. وأن يأكل ويشرب ويشترك في أعياد الميلاد دون أن يتورّط في المتاعب أو يقع في الفخاخ. وأن يسير على الشاطئ والنجوم فوقه والبحر إلى يمينه والأرض إلى يساره. وأن يشعر بأن الحياة أنجزت معجزتها الكبرى فصارت قصّة من وحي الخيال.
ومرّت الأيام وحاولت أن اصطنع المرح رغم الحزن الذي كنت اشعر به في قرارة نفسي. فقد أزال أسبوع الأعياد الغابر عنّي كثيرا من الذكريات؛ ذكريات عن موسيقى بعيدة وأناس أحببتهم. وراعني صدق العبارة القديمة التي تقول إن قلب الإنسان حفرة مليئة بالدم، وأولئك الأحباب الذين ماتوا يلقون بأنفسهم على حافّة الحفرة وينهلون من الدم. وهكذا يعودون إلى الحياة، وكلما كان حبّك لهم عظيما زادت الكمية التي ينتهلونها من دمك.
وفي صباح أوّل يوم من العام الجديد فتحت عينيّ على زوربا وهو يدقّ رمّانة بباب الكوخ. وانشقت الرمّانة وتناثرت بذورها كحبّات الياقوت الصافي الأديم. وسقط بعضها على الفراش، فتناولت بضع حبّات وأكلتها وشعرت بانتعاش.
في صباح اليوم التالي رافقت زوربا إلى القرية ودار بيننا في الطريق حديث جرى عن العمل في المنجم. وفيما كنا نهبط منحدرا، ضرب زوربا بقدمه حجرا فتدحرج الحجر في المنحدر. ووقف زوربا مبهوتا وكأنه يرى هذا المنظر لأول مرّة في حياته. والتفت اليّ وقال: هل رأيت؟ إن الحياة تعود إلى الحجارة في المنحدرات. فلم اجبه، لكني شعرت بسرور وبهجة وقلت لنفسي: هكذا ينظر كبار الشعراء والمفكّرين إلى الأشياء كأنهم يرونها لأوّل مرّة. والواقع أنهم لا يرونها وإنما يخلقونها.
لقد كانت الدنيا في نظر زوربا كما كانت في نظر الإنسان الأول مجرّد مشهد كبير رائع. فالنجوم تتألق فوق رأسه وأمواج البحر تتكسّر تحت قدميه وهو يعيش مع الأرض والماء والحيوان والله دون أن يفسد عليه التفكير العقيم متعة الحياة.
إنني ما زلت أتذكّر أن الوقت كان ظهرا عندما كنا في احد متاحف برلين حيث كان صديقي يودّع لوحته العزيزة "المحارب" للرسّام رمبراندت. ونظر صديقي إلى تلك اللوحة متأمّلا المحارب الحاقد اليائس وقال: إذا ما تمكّنت من القيام في حياتي بعمل جدير بالرجال فسأكون مدينا به له.
كنا في صالة المتحف نقف قرب عامود وأمامنا تمثال من البرونز لفارسة عارية تمتطي حصانا برّيا متوحّشا. وحطّ عصفور على رأس التمثال والتفت صوبنا وهزّ ذيله وأطلق لحنا هازئا ثم طار في سبيله. وارتعدتُ وأنا انظر إلى صديقي وسألته: هل سمعت العصفور؟ خيّل إليّ انه قال لنا شيئا ثم طار في سبيله. وابتسم الصديق وأجابني بمثل من أمثالنا العامّة: انه عصفور. دعه يغني. دعه يتكلّم".
وأتذكّر كيف كانت هذه اللحظة عند طلوع الفجر على شاطئ كريت تعود إلى مخيّلتي مع ذلك المثل الحزين لتملأ عقلي بالمرارة.
ووضعت قليلا من التبغ في غليوني وأشعلته. إن كلّ شيء في هذا العالم له معان خفيّة. البَشَر، الحيوانات، الشجر، النجوم.. إنها تبدو كالرموز الهيروغليفية لمن بدأ في حلّ رموزها ليكتشف خفاياها. وبعد مرور السنين وبعد فوات الأوان تفهم معناها الحقيقي.
ورحت أتابع الدخان المتصاعد من الغليون. وكانت روحي تندمج بهذا الدخان وتتلاشى معه في حلقاته الزرقاء الدائرية. ومرّ وقت طويل كنت اشعر - دون العودة إلى المنطق وبيقين لا يوصف - بحقيقة هذا العالم وانبثاقه وزواله.
- نيكوس كازانتزاكيس، روائي يوناني

الثلاثاء، يناير 27، 2009

نهر الأسلاف


الصيحة لا تصدر عنك. لست أنت الذي يتكلم. أسلاف بأعداد لا تحصى هم الذين ينطقون عبر فمك. أنت لا تعبّر عن رغباتك الشخصية وإنما تعبّر من خلال قلبك عن رغبات أعداد لا تحصى.
إن موتاك لم يعودوا يقبعون في التراب، وإنما صاروا طيورا وأشجارا وهواء. انك تجلس بينهم وتستطعم بلحمهم وتستنشق أنفاسهم . لقد صاروا أفكارا وأحاسيس وها هم يحدّدون مشيئتك وسلوكك.
إن أجيال المستقبل لا تتحرّك في الزمن اللايقيني بعيدا عنك. إنهم يعيشون وينشطون وتتملّكهم الرغبات داخل قلبك وكليتيك.
واجبك الأوّل وأنت توسّع أناك في هذه اللحظة الموقتة التي تسير فيها على الأرض هو أن تفلح في أن تعيش المسيرة الخالدة. أن تحيا المرئي واللامرئي من ذاتك.
أنت لست فردا. انك وحدة من جيش كامل. لحظة واحدة تحت الشمس تضيء وجها من وجوهك. وما أن تضيئه حتى تتحوّل عنه لتضيء وجها آخر أكثر شبابا.
سلالتك هي الجسد الأكبر. فهي الماضي والحاضر والمستقبل. أنت تعبير لحظوي. أما عشيرتك فإنها الوجه. أنت الظل وعشيرتك اللحم.
أنت لست حرّا. جموع من الأيدي تقبض على يديك وتتحرّك. حين تغضب، يرغي ويزبد احد أسلافك عبر فمك. وحين تحبّ، يتلعثم احد سكّان الكهوف. وعندما تخلد إلى النوم، تنفتح القبور وينفتح رأسك بأشباح الموتى.
رأسك ترعة من الدماء تتجمّع على ضفافها قطعان وقطعان من ظلال الموتى ويشربونك لكي يحيوا.
يصيح الموتى بداخلك: لا تمت كي لا نموت.
"لم نتمكن من الابتهاج بالنساء اللاتي رغبناهن. فلتتمكّن أنت ولتضاجعهن. لم نتمكّن من تحويل أفكارنا إلى أعمال. حوّلها أنت. لم نستطع القبض على ملامح وجه آمالنا لنتحقق منها. فلتتحقق أنت منها ولتكمل عملنا".
لا يكفي أن تسمع في داخلك صخب الأجداد. لا يكفي أن تشعر بهم يتدافعون أمام عتبة عقلك. إنهم جميعا يتدافعون لكي يتشبّثوا بحرارة عقلك ولكي يبلغوا مرّة أخرى ضوء الأيام.
كلّ فعل لك يتردّد صداه في آلاف الأقدار. وحيثما تسير وتكتشف وتقيم مأواك، فإن نهر الأجداد سيجري وينفذ إليك.
"أنا لست فردا واحدا. أنا لست فردا واحدا". يجب أن تحرقك هذه الرؤيا في كل لحظة.
أنت لست جسدا ضعيفا ويائسا. فخلف قناعك الترابي المتحرّك يقبع وجه منذ آلاف السنين. إن عواطفك وأفكارك أكثر قدما من قلبك ومن عقلك.
وحده الذي يتخلص من جحيم ذاته هو الذي يشعر بالجوع حين يرى احد أبناء جنسه يتضوّر جوعا، ويقفز فرحا حين يرى امرأة ورجلا من عشيرته يتبادلان القبل.
كافح من اجل جسدك الأكبر كما تكافح من اجل جسدك الأصغر.
عليك أن تعيش هذه الهويّة بعمق، ليس كفكرة مجرّدة وإنما كلحم ودم.
- نيكوس كازانتزاكيس، روائي يوناني

الأربعاء، مايو 02، 2007

مذكّرات كازانتزاكيس

لهذا الكتاب قدرة مدهشة على أن يأسر عقل القارئ ويستولي على مشاعره منذ الصفحة الأولى. والحقيقة أنني لا أجد الكلمات المناسبة لوصف هذا الكتاب وإيفائه حقه أو الحديث عن الأثر الكبير الذي يتركه في النفس والعقل معا.
"تقرير إلى غريكو" لنيكوس كازانتزاكيس ليس مجرّد سيرة ذاتية لأحد أعظم كتّاب وأدباء وفلاسفة اليونان في العصر الحديث، وإنما يمكن اعتباره بحق دليلا روحيا وبحثا معمّقا في معنى الحياة وأسرار الوجود. كما انه بمعنى آخر بحث عن الله وعن الخلود ومحاولة لسبر أغوار الطبيعة الثنائية للإنسان وصراع النفس والجسد.
في هذا الكتاب الرائع صور فلسفية ووجدانية مدهشة ولغة جمالية راقية وقدرة فائقة على النفاذ إلى جوهر الأشياء من خلال مزج الواقع بالرمز والتاريخ بالأسطورة والدين بالطقوس، بأسلوب هو خليط من الشعر والموسيقى والتصوّف.
لقد تأسفت كثيرا على أنني لم انتبه لهذا الكتاب من قبل، لكن مما يخفّف ذلك الشعور حقيقة أنني اقتنيته أخيرا وقرأته بشغف ومتعة ليس لهما حدود، والفضل في ذلك يعود للصديق الشاعر سلمان الجربوع الذي دلّني على الكتاب وحفّزني على قراءته فوجدته مثلما وصفه وأكثر، فله خالص الشكر والتحية.
وفي ما يلي بعض مقاطع مختارة من الكتاب..

صرخة!
إنها رحلة إنسان يحمل قلبه في فمه وهو يصعد جبل مصيره الوعر والقاسي، فروحي كلها صرخة، و أعمالي تعقيب على هذه الصرخة..

توحّد!
منذ طفولتي وأنا أحبّ أن أستلقي على ظهري في دارنا لمراقبة الغيوم، و كلما مرّ عصفور أو غراب أو سنونوة أو حمامة، أتوحّد معه حتى أني أحسّ حرارة صدره في راحتي المفتوحة.
- مارغي، أظن أن ابنك سيصبح حالماً أو ذا رؤيا. قالت جارتنا مدام بنيلوب لأمّي، إنه ينظر إلى الغيوم دائما. وأجابتها أمّي: إطمئني يا بنيلوب. ستأتيه الحياة وتجعله يخفض نظره".

صورة أمّي!
كان والدي يحتقر العيون الزرقاء أكثر من أي شيء آخر في العالم. وقد اعتاد أن يقول: "للشيطان عيناوان زرقاوان وشعر احمر"!
أيّ سلام كنا نحسّ به وأبي ليس في البيت! وكم كان الوقت يمرّ بسرعة وسعادة في الحديقة الصغيرة في باحة دارنا المسوّرة. العريشة على الجدار، والاكاسيا الفوّاحة الطويلة في الزاوية، وأصص الحبق والقطيفة والياسمين العربي حول الأطراف. كانت أمي تجلس أمام النافذة ترفو الجوارب أو تنظف الخضراوات أو تمشط شعر أختي الصغيرة أو تساعدها على أن تخطو خطواتها الأولى. وفيما كنت أصغي إلى العابرين خارج الباب المغلق وأستنشق عبير الياسمين والتربة الرطبة، كانت عظام رأسي تطقطق وتنفتح لتحتوي العالم الذي يدخل جسدي.
كانت الساعات التي اقضيها مع أمي مليئة بالغموض. لقد تعوّدنا أن نجلس متواجهين، هي على الكرسي قرب النافذة وأنا على مقعدي. وكنت أحسّ بصدري ممتلئا حتى الكفاية وسط هذا الصمت، وكان الهواء بيننا قد تحوّل إلى حليب.. وأنا كنت ارضع.
امتزجت أمي في ذاكرتي بالاكاسيا والكناري بشكل خالد ولا يقبل الانفصام. وأنا لا استطيع أن أشمّ رائحة الاكاسيا أو اسمع صوت الكناري دون أن أحسّ أمي تنهض من قبرها في أعماقي وتتّحد بالأريج والزقزقة.

مثلُ ليلَكَة!
.. وكان هناك صديق آخر مثل ليلكة لم تُمسّ، كان شاحباً متشائماً له عينان زرقاوان واسعتان ويدان بأصابع طويلة. كان يكتب الشعر. ولم أستطع أن أحفظ إلا القليل من شعره، ولكنني ما أن أردّد هذه الأبيات وحدي حتى تمتلئ عيناي بالدموع. ذلك أن هذا الشاب قد وجد ذات ليلة خارج دير كنسارياني مشنوقاً على غصن شجرة زيتون..

الرقص على حافّة الهاوية!
كان أعيان القرية قد اجتمعوا مع زوجاتهم في غرفة كبيرة في بيت الطفل المعمّد. المطر والبرق يتسرّبان من النوافذ وعبر شقوق الباب. وكان الهواء مشبعا بروائح البرتقال والتراب. وكانت الهدايا والخمر والراكي والميتريد تدخل وتخرج. وبدأ الظلام يحلّ فأشعلت الأضواء وتزايد مرح الرجال وتخلصت النساء من نظراتهن المنخفضة التي تعوّدن عليها. كان الله لا يزال يزأر خارج المنزل. وتعالى الرعد وتحوّلت أزقة القرية الضيقة إلى أنهار.
استمر الطوفان طوال اليوم. هبط علينا الليل وصار العالم في الخارج مظلما وامتزجت السماء بالأرض. وتحوّلنا إلى وحل. كان الشباب والكبار يتهيئون للرقص وجلس عازف الربابة على مقعد وسط الغرفة وأمسك بقوسه وكأنه سيف. ثم همهم بمقطع من تحت شاربيه وبدأ يعزف. راحت الأقدام توقع والأجساد تصفق بأجنحتها. وراح الرجال والنساء يتبادلون النظرات ويقفزون على أقدامهم. وكان أوّل من تقدّم امرأة شاحبة ممشوقة في الأربعين من عمرها. شفتاها برتقاليتان لأنها فركتهما بأوراق الجوز. وكان شعرها الأسود مزيّتا بزيت الغار ومصقولا ولامعا.
"برافو يا سورميلينا"! هتف عجوز قويّ ذو لحية صغيرة. وأزاح منديله الأسود وهو يقفز أمامها. وقدّم احد طرفيه للمرأة وأبقى الآخر في يده. ثم سلم الاثنان نفسيهما للرقص ورأساهما شامخان وجسداهما منتصبان وممشوقان كشمعتين.
كانت المرأة تلبس في قدميها قبقابا خشبيا. وراحت تضربه على الأرض بقوّة فيهتزّ البيت كله معها.
وانحلّ خمارها الأبيض فكشف عن القطع الذهبية التي تزيّن عنقها. وتوسّع منخراها وراحا يستنشقان الهواء. وكانت أنفاس الذكور من حولها عبقة. لوت ركبتيها وراحت تدور فأوشكت على السقوط على الرجل الذي أمامها. ولكنها بغتة وبهزّة من ردفيها تلاشت من أمامه. وراح هاوي الرقص العجوز يصهل كالحصان. امسك بها من وسطها وشدّها بقوّة لكنها أفلتت منه. كانا يلعبان ويطارد كل منهما الآخر. غاب الرعد والمطر. وغرق العالم. ولم يبق فوق الهوّة إلا هذه المرأة، سورميلينا، التي كانت ترقص. ولما لم يعد عازف الربابة قادرا على البقاء فوق مقعده قفز على قدميه. وتوحّش القوس. ولم يعد تحت السيطرة. بل راح يتابع قدمي سورميلينا وهو يتنهّد ويجأر ككائن بشري. وتوحّش وجه العجوز ورمق المرأة وهو محمرّ. وارتعشت شفتاه وشعرتُ انه على وشك أن ينقضّ عليها ويمزّقها إربا. ولا شك أن عازف الربابة قد تملكه الشعور ذاته فتوقف قوسه بشكل مفاجئ. وتوقّف الرقص. وقف الراقصان دون حراك والعرق يتصبّب منهما. وركض الرجال إلى الراقص العجوز وانتحوا به جانبا. وراحوا يدلكونه بالراكي. وأحاطت النسوة بسورميلينا ليمنعن الرجال من رؤيتها. وشققت طريقي بينهن. لم أكن رجلا بعد. ولذا لم يمنعنني. فتحن ِصدارها ورششن ماء الورد البرتقالي على رقبتها وتحت إبطيها وصدغيها. وكانت المرأة تغمض عينيها وهي تبتسم.

وجه الحياة الحقيقي!
للمرّة الأولى، رأى عقلي الطفولي وجه الحياة الحقيقي وراء القناع الجميل للبحر وللحقول الخضراء والدوالي المثقلة بالعناقيد وخبز القمح وابتسامة الأم. وجه الحياة الحقيقي: الجمجمة!

انيكا!
أذكر امرأة، اسمها انيكا، جارة لنا متزوّجة حديثا. وهي أمّ منذ زمن قريب. ممتلئة وجميلة ذات شعر طويل أشقر وعينين واسعتين.
في ذلك المساء كنت العب في الدار. ولا بد أنني كنت في حوالي الثالثة من العمر. كانت الحديقة الصغيرة تفوح بروائح صيف. وانحنت عليّ المرأة ووضعتني في حضنها. وأغمضت عينيّ لأسقط على صدرها البارز وأتشمّم جسدها: الأريج الحارّ الكثيف والرائحة اللاذعة للحليب والعرق. كان البخار يتصاعد من الجسد حديث الزواج. وكنت استنشق العبير بنشوة متهيّجة، وأنا اتدلّى عن صدرها النافر. وأحسست بالدوار وغبت عن وعيي. ووضعتني الجارة المذعورة أرضا، وهي محمرّة رعبا. وتركتني بين اصيصين من الحبق. ولم تحملني بعد ذلك اليوم في حضنها أبدا. بل صارت تكتفي بالنظر إليّ بمودّة فائقة من خلال عينيها الواسعتين وهي تبتسم.
وفي إحدى ليالي الصيف كنت، مرّة أخرى، جالسا في دارنا على كرسيّي الصغير. وأتذكّر أنني رفعت عيني وأبصرت النجوم لأول مرّة. صرخت وأنا اقفز على قدمي خائفا: "شرر، شرر". وبدت لي السماء حريقا هائلا. وبدا لي أن النار قد وصلت إلى جسدي الصغير..

منديل "نيريد"!
لم أر أمي تضحك أبدا. كانت تبتسم ببساطة وتنظر إلى أيّ شخص بعينين عميقتين ممتلئتين بالصبر واللطف. تروح وتجئ في البيت كشبح لطيف تؤدي لنا حاجاتنا دون ضجة أو جهد وكأنما يداها تمتلكان قوة سحرية خيرة وتمارسان تحكّما خيّرا بحاجاتنا اليومية. وبينما كنت أجلس بصمت أرقبها كان يخطر لي أنها ربما كانت "نيريد" المذكورة في قصص الجنيات. وكان خيالي يعمل حسب عقلية الطفولة: لقد رآها أبي ترقص على ضوء القمر ذات ليلة بينما كان يعبر النهر. فهجم وأمسك بمنديلها. وهذا ما كان حين جلبها إلى البيت وتزوّجها. وأمّي الآن تروح وتجيء في البيت طوال النهار تبحث عن منديلها لتضعه على شعرها وتتحوّل من جديد إلى نيريد وترحل. وتعوّدت أن أراقبها وهي تروح وتجيء وتفتح الخزن والصناديق وتكشف عن الجرار وتنحني لتنظر تحت الأسرّة. وكنت أرتعد لفكرة أنها قد تجد صدفة منديلها السحري وتختفي. وقد لازمني هذا الخوف سنوات عديدة وكان يجرح روحي الوليدة بعمق. وظلّ معي حتى هذا اليوم. وما يزال أشد غموضا. إنني أراقب الناس أو الأفكار التي أحبّها بألم لأنني أعرف أنهم يبحثون عن مناديلهم لكي يرحلوا.

روح الإنسان!
إن الروح البشرية زخم وكبرياء، صرخة وسط الصمت الجبان الذي لا يحتمل، رمح يقف منتصباً لا ينحني، ويمنع السماء من أن تسقط على رؤوسنا..

سحر غامض!
كان لكل شخص، بالنسبة لي، أريجه الخاص. وذلك منذ كان عمري سنتين أو ثلاثا. وقبل أن ارفع عينيّ لرؤيته، كنت اعرفه بالرائحة التي تصدر عنه. كانت لامّي رائحة خاصة، ولأبي رائحة غيرها. وكان لكل عم أو خال رائحته الخاصة. وكذلك لكل امرأة في الجوار. وحينما كان يأخذني بين ذراعيه، أو ذراعيها، كنت دائما وبسبب الرائحة إما أن أحبّه أو أبدأ برفضه. ولقد تلاشت هذه القدرة مع الزمن، واختلطت الروائح المختلفة. وغرق الجميع في نتن العرق والتبغ والبنزين.
وكان لبعض الفاكهة، بشكل خاص، نوع من السحر الغامض بالنسبة لي، كالكرز والتين خاصة. ليس التين نفسه كفاكهة بهذه البساطة، بل الأوراق ونكهتها. لقد تعوّدت أن أغمض عينيّ وأتنشقها حتى يشحب لوني من الحبور الجسدي المفعم.
لا، ليس الحبور بل الإثارة والخوف والرعشة، وكأنّني كنت ادخل غابة خطرة معتمة.

التوحّد مع الله!
ذات ليلة، بينما كنت اعبر الحيّ التركي سمعت امرأة تغنّي موّالا شرقيا بصوت مليء بعاطفة حزينة متشنّجة. كان الصوت عميقا وأجشّ وكئيبا ينطلق من حنايا المرأة ويملأ الليل باليأس والسوداوية الحزينة. وحين أحسست انه من المستحيل عليّ أن أتابع السير وقفت أنصت ورأسي مائل إلى الجدار. لم استطع أن ألتقط أنفاسي. ولما لم تعد روحي المختنقة قادرة على التلاؤم مع قفصها الطيني تدلّت من قمّة رأسي وراحت تتردّد في أن تطير أم لا.
لا. لم يكن الصدر الأنثوي للمرأة التي تغنّي مترعا بالحب أو الغبطة. بل كان مترعا بصرخة. بأمر موجّه إلينا لكي نحطم قضبان سجوننا المؤلفة من الأخلاق والخجل والأمل. وان نسلم أنفسنا وان نهدر أنفسنا أو نتوحّد مع العاشق الرهيب المغوي الذي يكمن منتظرا في الظلام، والذي نسمّيه الله.

.. ولم اعرف أبداً!
ذات يوم أخذني احد أعمامي بين ذراعيه. وكان من الواضح أننا سنذهب لزيارة جار قرب مقبرة القدّيس ماتيو الواقعة داخل أسوار المدينة.
كان باب الكنيسة مفتوحا والكاهن قد وضع بخورا في المبخرة وارتدى بطرشيله. اجتاز العتبة واتجه نحو القبور.
وسألت عمّي وأنا استنشق بعمق أريج البخور والتراب: لم يلوّح بالمبخرة؟"
- إهدأ. ستعرف بعد قليل. اتبعني.
وحين درنا وراء الكنيسة سمعنا حديثا. كانت هناك خمس أو ستّ نسوة متّشحات بالسواد وهن واقفات حول قبر. رفع رجلان بلاطة الضريح ثم نزل احدهما في القبر وبدأ يحفر. اقتربنا ووقفنا إلى جانب الحفرة.
سألت: ماذا يفعلون؟
- ينبشون العظام.
- أية عظام؟
- سترى بعد قليل.
كان الكاهن واقفا على رأس الضريح وهو يلوّح بالمبخرة ويتمتم بالصلوات هامسا. انحنيت على التربة المحفورة مجدّدا. عفن ونتن. وضغطت منخري. ورغم أنني قرفت حتى القيء فإني لم ابتعد. انتظرت. عظام؟ أية عظام؟ رحت اسأل نفسي وأنتظر.
وبغتة استقام الرجل الذي كان يحفر منحنيا. وظهر على جذعه خارج الحفرة. كان يمسك بين يديه جمجمة. مسح عنها الأقذار وهو يمدّ إصبعه ليدفع الوحل من حفرتي العينين. ثم وضعها على حافة القبر وانحنى من جديد وتابع حفره.
سألت عمي وأنا ارتعش: ما هذا؟
- ألا ترى؟ إنها رأس إنسان ميّت. جمجمة.
- جمجمة من؟
- ألا تتذكّرها؟ جمجمة جارتنا انيكا.
- انيكا؟
وانفجرت في البكاء. وبدأت أولول: انيكا! انيكا!". وألقيت بنفسي على الأرض وجمعت ما استطعت أن أجده من الحجارة وبدأت اقذف بها حفّار القبور.
وفيما أنا ابكي واندب رحت اصرخ! كم كانت جميلة وكم كانت رائحتها جميلة! فقد اعتادت أن تأتي إلى بيتنا وتضعني على ركبتيها وتسرّح خصلات شعري بالمشط الذي تنتزعه من شعرها. واعتادت أن تدغدغني تحت ذراعي وأنا أقهقه وأزقزق كالعصفور.
أخذني عمّي بين ذراعيه وأبعدني قليلا ثم راح يكلمّني غاضبا: لماذا تبكي؟ ماذا كنت تتوقّع؟ لقد ماتت، ونحن جميعا سنموت".
لكنني كنت أفكّر بشعرها الأشقر وعينيها الواسعتين وشفتيها الحمراوين اللتين اعتادتا أن تقبّلاني. والآن..
وزعقت: "وشعرها، وشفتاها وعيناها؟"
- ذهبت. ذهبت. أكلتها الأرض.
- لماذا؟ لماذا؟ أنا لا أريد أن يموت الناس.
هزّ عمّي كتفيه وقال: حينما تكبر ستعرف لماذا".
ولم اعرف أبدا. لقد كبرت وصرت عجوزا. ولم أعرف أبدا.

آه.. هكذا أناديه!
.. وسأل الأب: أي اسم تطلقه على الله يا أبتي؟
فأجاب الدرويش: ليس لله اسم. إنه أكبر من أن تحتويه الأسماء. الاسم سجن، و الله حرّ.
و أصرّ الأب: و لكن إذا شئت أن تناديه، حين تكون هناك حاجة، فأيّ اسم تستخدم؟
أطرق الدرويش مفكّراً، ثم افترت شفتاه: آه! هكذا أناديه. ليس الله. بل آه.
و أربك هذا الكلام الأب، فتمتم: إنه على حق"..

حيرة!
عدت إلى اليونان مجروحا. كنت مضطرما بثورة ذهنية واضطراب روحي. وكل شيء في داخلي متضارب ومتردّد. قلت لنفسي: إن لم أبدأ باكتشاف الهدف الأسمى للحياة على الأرض فكيف سأتمكن من وضع هدف لحياتي القصيرة الفانية.
ولقد وجدت مصدرا آخر للعصيان. ذلك أن روح الشباب البسيطة لا تستطيع أن تتسامح مع منظر الجمال وهو يتناقص إلى لا شيء، بينما يقف الإله جانبا، ولا يرفع يده ليجعل الجمال خالدا. لو كنت إلها، هكذا يفكّر الشاب، لوزّعت الخلود بلا حساب، ودون أن اسمح ولو مرّة واحدة لجسد جميل أو لروح شجاعة أن تموت. أي نوع من الآلهة ذلك الذي يقذف بالجميل والقبيح، بالشجاع والجبان في الحمأة ذاتها ويدوسها بقدميه دون تمييز، ويحّولها كلها إلى وحل؟!

حديث!
"قلت لشجرة اللوز:
حدّثيني عن الله يا أخت،
فأزهرت شجرة اللوز"!