وقد رأى بعض النقّاد في أعماله المبكّرة حنينا شرّيرا لهتلر أو محاكاة ساخرة لهذا الحنين. وعندما أصبح كيفر مشهورا عالميّا بعد بضع سنوات، أي في الثمانينات، كان ذلك بسبب لوحاته كبيرة الحجم التي تصوّر مناظر الطبيعة التي دمّرتها الحرب.
كيفر ينتمي إلى جيل من الفنّانين الألمان من فترة ما بعد الحرب، والذين كان التاريخ الحديث بالنسبة لهم بمثابة كابوس يحاولون الهروب منه. وقد أشار أحد النقّاد ذات مرّة الى أن عمل كيفر يطرح باستمرار السؤال التالي: كيف تصبح فنّانا ألمانيّا بعد هتلر "الفنّان الألمانيّ المطلق والنهائي"؟!
ومن خلال النفط والرماد والخشب والصلب والرصاص والخرسانة، وكذلك النسيج والبذور والموادّ النباتية والورق ممّا يستخدمه في أعماله، كان كيفر يتصارع، بطريقة أو بأخرى، مع هذا السؤال منذ ذلك الحين.
انسيلم كيفر ليس مجرّد فنّان، بل له اهتماماته الفكرية والفلسفية، وقد ألّف عددا من الكتب في الأدب والفكر والفنّ. وفيما يلي بعض أفكاره المتضمّنة في بعض كتبه ومقابلاته.
*عندما تركت ألمانيا، أمضيت ثلاث سنوات في السفر. كنت مستاءً جدّا وأردت تغييرا جذريّا. ولم أعد إلى ألمانيا منذ ذلك الوقت.
*لست متشائما. أنا ساخر. وأرى أن العالم سيّئ. بعد الحرب العالمية الثانية، اعتقد الناس أنه بسبب موت هتلر، بدأت فترة جديدة. لكن لم يكن الأمر كذلك. فقد استمرّت الفظائع والمشاعر القومية المتطرّفة. البشر يعانون من سوء الإدراك.
*قصّتي لا تبدأ في عام 1945. بل تعود إلى أزمنة سحيقة. كما تعلم، يوجد داخل جسمك خلايا تكوّنت في زمن الديناصورات. هذا ما يقوله أخصائيّو الدماغ. لذا، إن كنت تشعر بالغيرة، فمن المؤكّد أن هذا شعور بدائي.
*أقرأ في وقت مبكّر جدّا من الصباح. ولديّ مكتبة كبيرة للغاية، أمشي فيها في الصباح. آخذ كتابا، ودائما ما يكون هو الكتاب المناسب.
*لوحاتي مليئة بالمراجع الأدبية، وكنت دائما متردّدا بشأن ما إذا كنت أريد أن أصبح رسّاما أو كاتبا. في لوحاتي لا أشرح القصائد ولكن أحاول أن أنقل الحالة الذهنية التي تنتجها. وأعتبر باكمان أعظم شاعر في القرن العشرين.
*أردت أن أكون فنّانا منذ أن كنت صبيّا صغيرا. لا أعرف إن كان ذلك نذير شؤم، لكن والدي، وهو مدرّس فنون، أطلق عليّ اسم أنسيلم على اسم رسّام ألماني كلاسيكي. لقد جئت من خلفية برجوازية صغيرة جعلتني أشعر بأنني محدود. لا أعتقد أبدا أن الفنّانين عباقرة؛ إنهم لا يُخلقون من لا شيء.
*المرء لا يحتاج إلى موهبة ليكون فنّانا، بل إلى شغف وفكرة. أريد أن أكون قادرا على جعل الناس يفكّرون وأن يفتحوا عقولهم. أنا لا أعتبر نفسي أفلاطونيّا ولكنّي أعتقد أن الروح موجودة في المادّة ومهمّة الفنّان هي استخراجها.
*أشعر أحيانا وكأن عمري 2000 عام. ويمكن أن تعود بك الذاكرة إلى أبعد من ذلك بكثير. إنها موجودة في الحمض النووي لخلايانا، ولدينا ذكريات الديناصورات.
*النجوم أجزاء من الذاكرة، وكثيرا ما تجد طريقها إلى لوحاتي. الضوء الذي تنبعث منه النجوم لم يعد يحترق ولكنّنا ما زلنا نراه. إنه رمز للشرط الأساسيّ للوجود. قرأت مؤخّرا كتابا يتضمّن عبارة "يجب أن يكون لكلّ إنسان نجمه الخاص". إنها فكرة جميلة وقد اخذت بنصيحته. نجمي هو نوع من التأمّل الذي يحرّرني من القلق والتوتّر.
*قوانين العلم محدّدة للغاية ومحدودة بالمكان والزمان. ولن يجد العلم أبدا الحقيقة النقيّة لأنها غير موجودة. الحقيقة تهاجر وتتغيّر. وكلّما اكتشفت المزيد من القوانين، اكتشفت المزيد من المجهول. لا يمكنك فهم العالم من خلال العلم.
*لا أستطيع أن أتخيّل الثقافة الألمانية بدون اليهودية. كلّ ما هو مثير للاهتمام في الشعر والفلسفة الألمانية هو مزيج من الشعر الألماني واليهودي. لقد ارتكب الألمان جريمة كبرى. فبقتلهم اليهود وبتر أجسادهم، أخذوا نصف ثقافة الأمّة وقتلوها.
*أبدأ الرسم عندما أصاب بصدمة، عندما يغمرني شيء يحرّكني، شيء أعظم منّي. يمكن أن تكون تجربة حقيقية مع شخص ما أو منظر طبيعي أو مقطوعة موسيقية أو قصيدة.
*تعلّمت الكثير عن الفنّ من خلال قراءة "مذكّرات لصّ" لجان جينيه. لقد غمرتني كتاباته كثيرا. كان يقلب كلّ شيء رأسا على عقب، وهذا كان رائعا بالنسبة لي. كان يأخذ أنبل شيء يمكن أن تفعله ويلقيه في عمق المستنقع، في حين أن أفظع شيء، قتل شخص ما مثلا، يعتبره قطعة فنّية.
*السماء والأرض ليستا موجودتين. الأرض مدوّرة. الكون ليس فيه صعود وهبوط. إنه يتحرّك باستمرار. ولم يعد بإمكاننا إصلاح النجوم لخلق مكان مثالي. هذه هي معضلتنا.
*في كثير من الأحيان تبدو الأرض في لوحاتي محروثة أو محروقة أو كليهما. ويرى الكثير من الناس أن مناظري الطبيعية تشير إلى ساحات القتال. وهذا صحيح؛ ولكن بالنسبة لي هناك استعارة أكبر. إن الحراثة والحرق هي عملية تجديد، بحيث يمكن للأرض أن تُولد أو تُخلق من جديد. إن تشكّل الكون الذي تصوّرناه علميّا بدأ بحرارة لا تُصدّق. الضوء الذي نراه في السماء هو نتيجة احتراق بعيد. أجسادنا أيضا مولّدات للحرارة. وكلّ ذلك مترابط.
*كلّ الأبراج السماوية هي أوهام أو أشباح. إنها غير موجودة. الضوء الذي نراه اليوم انبعث منذ ملايين أو مليارات السنين، وبالطبع كان مصدره يتغيّر ويتحرّك ويموت باستمرار. هذه الأضواء التي نراها، هذه السماء لا علاقة لها بواقعنا الحالي. نحن خائفون، لذلك نريد أن نفهم العالم. إن الأساطير تشرح العالم بشكل أفضل من العلم، لأنها مفتوحة على جميع أنواع الخيال.
*لا أعتقد أن اللوحة تنتهي أبدا. إنها في حالة تغيّر مستمر، في حالة حركة. كتاب "التحفة المجهولة" لأونوريه دي بلزاك من أهم الكتب. إنه يُظهر أن اللوحة لا تكتمل أبدا.
*لا أستطيع رؤية المناظر الطبيعية بدون حرب، لأن المناظر الطبيعية بالنسبة لي غالبا ما تكون مشبعة بآثار الحروب والمعارك.
*لوحاتي ليست صورة واحدة أبدا، بل تحتوي على طبقات من الصور. بعض مناطق اللوحة تكشف عن هذه العملية، تماما مثل استخراج الحفر العلمي لطبقات جيولوجية متعدّدة تشكّلت على مرّ قرون.
اليوم شاهدت الأخبار. وانكسر قلبي مرّة أخرى. أصبح كلّ شيء وكلّ شخص مضطربا. ويبدو كما لو أننا جميعا شخصيات مختلّة في سيرك. كلّ شيء يبدو عبثيا ومجنونا. نحن مؤلّفو أنفسنا، ونتشارك في تأليف رواية عملاقة لدوستويفسكي من بطولة مجانين. لكن الحياة هي هكذا. لا فائدة من القتال مع الواقع.
عندما نقاتل، نعاني. لذلك من الأفضل أن تبقى ساكنا وتُمسك بقلبك المكسور. ربّما هذا هو ما يعنيه أن نكون على قيد الحياة: أن ننكسر ونتأثّر حتى البكاء أمام كلّ معاناتنا. وهو أمر مثير للاشمئزاز. ومع ذلك، فإننا نصنع العالم. إذن ماذا نفعل؟ نلجأ إلى ما هو أكثر استقرارا. نحتمي بالشيء الأكثر ثباتا.
اجلس بثبات واستلقِ على مستوى منخفض. استسلم للاضطراب. ما أصبح صلبا ينكسر في عاصفة برّية. لذا، حاول أن تظلّ ناعما. وحاول أن تبقى قابلاً للتغيير. تنفّس وصلّ من أجل كلّ مظلوم في هذا العالم. صلّ معهم. وصلّ مثلهم.
تعرّف على المجنون الذي بداخلك. وواجه العواصف الداخلية الهائجة. كلّ ما هو في الخارج يعكس ما في الداخل. إمسك قلبك وتنفّس عميقا واشعر بالامتنان لوجودك هنا. التزم بإحلال السلام حيثما كنت. إسمح للعواصف بالثوران دون أن تقع فيها. ثم انتقل إلى السكون.
Credits
theartstory.org
theartstory.org