ويضيف: كانت الفضيلة والرذيلة نسيج وعينا الأوّل، وستكون نسيج وعينا الأخير، بغضّ النظر عن أيّ تغييرات قد نفرضها على النهر والجبل، على الاقتصاد والأخلاق. لا توجد قصّة أخرى. الإنسان، بعد أن ينفض غبار حياته، لن يكون لديه سوى الأسئلة الصعبة والواضحة: هل كانت خيرا أم شرّا؟ هل أحسنتُ أم أسأت؟
ثم يتحدّث الكاتب عن الانطباع الذي يتركه موت إنسان في أذهان الناس ويقول إنه في عصرنا، إذا كان الشخص الميّت قد امتلك ثروة ونفوذا وسلطة وكلّ ما يثير الحسد، وبعد أن يقيِّم الأحياء ممتلكاته ومكانته وأعماله وآثاره، فإن السؤال الذي يثار هو: هل كانت حياته طيّبة أم شرّيرة؟ هل سيحزن الناس لفقده أم يفرحون؟
ثم يذكر شتاينبك قصّة وفاة ثلاثة أشخاص كان أحدهم من أغنى الناس، وقد شقّ طريقه نحو الثراء بصعوبة بالغة، وقضى سنوات طويلة يحاول استعادة ما فقده من حبّ. وأثناء ذلك قدّم للعالم خدمات جليلة قد تكون تعويضا عن مساوئ صعوده. لكن لمّا أُعلن خبر وفاته، تلقّاه الجميع تقريبا بسرور. وقال العديد منهم: الحمد لله على وفاة هذا النذل!".
أما الشخص الثاني فكان رجلا ذكيّا كالشيطان ويفتقر إلى إدراك الكرامة الإنسانية وعلى إلمام تام بكلّ جانب من جوانب ضعف الإنسان وشرّه، فاستخدم معرفته الخاصّة لتشويه الناس وشراء ذممهم بالرشوة والتهديد والإغواء وألبس دوافعه رداء الفضيلة، حتى وجد نفسه في منصب عظيم. وعندما مات هذا الرجل، دوّت بين الناس صيحات الشكر لله على ذلك وفرحوا كثيرا بموته.
أما الشخص الثالث فقد يكون ارتكب أخطاء كثيرة، لكنه كرَّس حياته لبناء رجال شجعان وكرام وصالحين في زمن كانوا فيه فقراء وخائفين، مع بروز قوى شرّيرة في العالم تستغلّ تلك المخاوف. وكان هذا الرجل مكروها من قِبل القلّة. وعندما مات، انفجر الناس بالبكاء في الشوارع وعلت أصواتهم: ماذا عسانا فاعلون الآن وكيف نستمرّ بدونه؟".
ويعلّق شتاينبك على ذلك بالقول: في أوقات عدم اليقين، يلجأ البشر، بسبب ضعفهم، إلى حبّ الخير ومحبّة الآخرين. ويبدو أنه إذا اضطررنا للاختيار بين شيئين، فعلينا أن نتذكّر موتنا ونحاول أن نعيشه بحيث لا يجلب متعة لأحد."
❉ ❉ ❉
غالبا الشخص الأناني لم يعش طفولته ولم يكن له والدان يساعدانه على تلبية احتياجاته وكان كلّ شخص في المنزل منشغلا بنفسه، لذا اضطرّ الشخص لأن يناضل ويتعب من أجل ما يريده. وللحصول على ما يحتاجه، تعلّمَ أن ينتزعه قبل أن يأخذه شخص آخر وفهمَ أن الآخرين لن يساعدوه وأنهم منافسون محتملون له.
أما الشخص اللاأناني المنكر لذاته والمجامل للآخرين فربّما يكون قد عانى من نقص في تقدير الذات في طفولته. والآباء كثيراً ما يقولون لأطفالهم: توقّفوا عن الأنانية وفكّروا في الآخرين". لكن هذه النصيحة او الرسالة قد تؤدّي إما إلى اعتقاد الطفل بأن احتياجات الآخرين أكثر أهميّة من احتياجاته، وإما الى رفضه عدم الاهتمام بنفسه لأنه تعلّم أن الأنانية خصلة سيّئة ومستهجنة.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
وذهب مبعوثو الملك في رحلة طويلة على طريق الحرير إلى الصين، ووصلوا أخيرا إلى بوّابات قصر الإمبراطور، حيث سُمح لهم بالدخول وحظوا بمقابلة الامبراطور شخصيّا واستمع منهم الى المهمّة التي جاؤوا من أجلها. كان الامبراطور صامتا طوال حديثهم. ولم يرغب في أن يكلّم سفراء تلك المملكة الضئيلة، بل أشار إلى وزرائه بأن يُدخلوا الضيوف إلى قاعة فخمة أخرى مجهّزة بالطاولات، حيث قُدّم لهم المشروب الغامض. وجلس الضيوف على طاولات منخفضة، وبدأوا يتذوقّون الشاي بأنفسهم، ثم قالوا لبعضهم البعض: هذا شراب رائع حقّا، منشّط ومريح في آن!
شعر مبعوثو ملك إنجا بالرضا التام لنجاح مهمّتهم وبدأوا رحلة العودة الطويلة إلى أرض الوطن. لكنهم فضّلوا أوّلا أن يستقطعوا بعضا من وقتهم لاستكشاف الصين. فتوقّفوا في أماكن مختلفة لمشاهدة المعالم السياحية وتذوّق المأكولات المحلية. لكنهم سرعان ما اكتشفوا أثناء ذلك شيئا أزعجهم: كان جميع الناس الذين قابلوهم يشربون الشاي، الغنيّ والفقير، الملك والمواطن العادي!
وعندما عادوا الى أرض الوطن سألهم ملكهم عمّا إذا كانوا قد نجحوا في مهمّتهم، فأجابوا بتردّد: نعم ولكن.. فسألهم: لكن ماذا؟! قالوا: لقد وصلنا إلى قصر إمبراطور الصين وقُدّم لنا ذلك الشيء المسمّى الشاي. لكنّنا نظنّ بأنهم ربّما سخِروا منّا وقرّروا عدم تقديم الشاي الحقيقي لنا. فقد اكتشفنا لاحقاً أن هذا المشروب نفسه كان يقدَّم في جميع أنحاء الصين، للفلّاحين والملوك على السواء!"
في بلد آخر على طريق الحرير، كان يعيش فيلسوف عظيم؛ أعظم فيلسوف في تلك النواحي، وكان اهتمامه وتخصّصه الوحيد الشاي. كان يفكّر فيه باستمرار ويجمع المعلومات عنه من المسافرين ويدوّن كلّ ما يسمعه في دفتر ملاحظاته. قال بعض من التقاهم إنه ورق شجر وقال آخرون إنه سائل. وقال البعض إنه مشروب أخضر اللون وقال آخرون إنه ذهبي. قال البعض إنه حلو، بينما قال آخرون إنه مرّ. ومع مرور الوقت، جمع هذا الفيلسوف أكبر ذخيرة من المعلومات في العالم عن الشاي وكتب أطروحة موثّقة عنه، وأصبح هو نفسه أشهر مرجع في الشاي على الاطلاق. لكنه لم يتذوّقه قط!
وفي بلد ثالث، تمكّنوا من الحصول على كيس شاي واحد! وفي يوم معلوم من أيّام السنة، كانوا يربطون ذلك الكيس الصغير من أوراق الشاي المجفّفة بأربعة خيوط إلى عامودين يحملهما أربعة رجال لهم وجوه متجهّمة. كانوا يحملون الكيس بوقار طقوسي على اكتافهم ويطوفون به شوارع العاصمة. وفي ذلك اليوم، اعتاد جميع سكّان المدينة أن يغادروا أعمالهم ويخرجوا من منازلهم ليشهدوا ذلك الموكب الجليل. وعندما يمرّ كيس الشاي المقدّس من أمامهم، يركعون ويخرّون له ساجدين في خوف ورهبة.
واستمرّ ذلك التقليد المقدّس لسنوات طوال، إلى أن حلّ بالعاصمة زائر غريب في نفس يوم الموكب المهيب، ووقف الرجل يراقب سكّان المدينة وهم يسجدون أمام كيس الشاي. فضحك بصوت عالٍ وقال: لا يا أغبياء! يجب أن تصبّوا الماء المغليّ عليه!" وانطلقت صيحة عظيمة من وسط الحشود. والتفت الكهنة ذوو الوجوه العابسة المنهمكون بحمل كيس الشاي إلى الرجل الغريب بغضب. ثم بنظرة وإشارة سريعة، أمروا الشرطة بالقبض على الرجل "عدوّ الدين الذي اقترح إتلاف الشاي المقدّس"! وألقى الجنود فورا القبض على الرجل وأُعدم بأبشع طريقة.
لكن لحسن الحظ، قبل تلك الحادثة المؤسفة، كان الرجل قد أفشى سرّ الشاي لبعض أصدقائه في المدينة وترك لهم بعض أوراق النبات التي أحضرها معه في رحلته. لكن بعد أن رأوا ما حدث لصديقهم، حرصوا الآن على ألا يرتكبوا نفس غلطته بالحديث عن نقع الشاي بالماء المغلي أو شربه. وعندما كانوا يجتمعون سرّا لفعل ذلك، كانوا إذا سألهم أحد عن نوع الشاي الذي يشربونه يجيبون ببساطة أنه نوع من الدواء.
وبهذه الطريقة، ازدادوا حكمة إلى أن قال أحكمهم يوما: من ذاق عرف، ومن لم يذق لم يعرف. كفّوا عن الحديث عن "الشراب السماوي"، واكتفُوا بتقديمه في ولائمكم. من يعجبه سيطلب المزيد ومن لا يعجبه فهو لا يصلح لشرب الشاي. أغلقوا باب الجدل وافتحوا مقهى التجربة."
وهكذا أصبحت هذه الدائرة من شاربي الشاي السرّيين أوّل تجّار للشاي في العالم. ولأنهم كانوا متجوّلين ويبيعون الأقمشة والمجوهرات أيضا، فقد كانوا يحملون الشاي معهم أينما سافروا على طول طريق الحرير. وحيثما توقّفوا، كانوا يُخرجون قليلا منه ويحضّرونه ويعرضونه على كلّ من يأتي إليهم. وكانت تلك بداية محلات "الشاي خانة" أو بيوت الشاي التي انتشرت في جميع أنحاء آسيا الوسطى وروّجت للاستخدام الحقيقيّ للشاي على نطاق واسع.
Credits
steinbeck.stanford.edu
inayatisufism.org
steinbeck.stanford.edu
inayatisufism.org