:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مارس 05، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • يقول الكاتب الأفغاني خالد حسيني مؤلّف رواية "عدّاء الطائرة الورقية": برغم كلّ الصعوبات التي نتصوّر أنه لا يمكن التغلّب عليها، إلا أننا جميعا، وعلى الرغم من كلّ شيء، ننتظر أن يحدث لنا شيء غير عاديّ".
    وهناك قول قديم مفاده أن الأشياء العظيمة تحدث لمن ينتظرون. والمعنى يتضمّن الحثّ على التحلّي بالصبر والمثابرة عندما لا تسير الأمور كما نريد، ومن ثمّ ترك كلّ شيء لمشيئة الله.
    ورغم أن هذه النصيحة مفيدة في بعض المواقف، إلا أنها سلاح ذو حدّين. فهي من ناحية تدعو إلى الصبر، ولكنها أيضاً تبني شعوراً بالرضا عن الذات. فهي تشجّعنا على المثابرة، ولكنها تحثّنا أيضاً على الانتظار بجعلنا نعتقد أن شيئا غير عادي قد يحدث لنا إذا انتظرنا بصبر كافٍ.
    لكن عندما يتعلّق الأمر بتحقيق ما نريده فإن لدينا خيارين: إمّا أن ننتظر حدوث شيء جيّد لنا أو أن نسعى لتحقيقه بأنفسنا. وإذا سعينا وراء ما نريده لأنفسنا، فإن فرصتنا في الحصول عليه تكون أكبر.
    المشكلة في الانتظار هي أننا نضع مصيرنا بأيدي الآخرين ونسمح لهم بتحديد ما يحدث لنا. لكن إذا سعينا لتحقيق ما نريده لأنفسنا، فإن فرصتنا في الحصول عليه تكون أكبر كثيراً.
    إننا كثيرا ما نعتمد على الحظ. فنحن نعتقد أن الشيء الوحيد الذي يفصلنا عن أولئك الذين نجحوا هو الحظ. ورغم أن الحظّ يلعب دورا في حياتنا، إلا أنه لا يمكننا الاعتماد عليه للحصول على ما نريد. وأفضل ما يمكننا فعله هو العمل الجادّ ومحاولة خلق واقع جيّد لأنفسنا.
  • ❉ ❉ ❉

  • هذه الصورة توفّر مثالا على لوحات ماتيس في مرحلة ما بعد الوحشية. فبعد عدّة رحلات الى خارج فرنسا، أصبح الرسّام مهتمّا بالفنّ الإسلامي في شمال إفريقيا وزار المغرب في عامي 1912 و1913. ومن وحي رحلتيه الى المغرب رسم عدّة لوحات منها "زورا على الشرفة" وتصوّر امرأة شابّة من طنجة تجلس متربّعة على سجّادة في ظلّ جدار محيط بشرفة، وإلى جوارها وعاء أسماك ذهبية.
    كما رسم أيضا اللوحة التي فوق واسمها "نافذة في طنجة"، وهي لوحة ذات ألوان جريئة ومنظور مسطّح. كانت اللوحتان ضمن مجموعة جامع التحف الروسي إيفان موروزوف بعد أن اشتراهما من ماتيس في باريس. وبعد الثورة الروسية، صودرت مجموعة موروزوف. وفي عام 1948، تبرّعت الدولة باللوحتين ضمن اعمال فنيّة أخرى الى متحفي بوشكين للفنون الجميلة في موسكو والإرميتاج في سانت بطرسبيرغ.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • كثيرا ما يقابل سائقو التاكسي العديد من الركّاب المثيرين للاهتمام، بعضهم متغطرسون وبعضهم غريبو الأطوار. وهم ـ أي السائقين - يروون قصصا، بعضها هادئ وخفيف ولكنه عميق، وبعضها الآخر معقّد للغاية لدرجة أنه يجعلك تتساءل في دهشة عمّا إذا كانت قيادة سيّارة أجرة هي التي تسمح لك بمقابلة مثل هؤلاء الأشخاص المثيرين للاهتمام.
    سائق التاكسي الأكثر شهرة في العالم، ربّما، هو شخصية خيالية يُدعى تراڤيس من فيلم "سائق التاكسي". وتراڤيس هو أحد المحاربين القدامى في حرب فيتنام، وهو يقود سيّارة أجرة لكسب لقمة عيشه وتهدئة روحه التي تعاني من اضطراب ما بعد الصدمة. وعلى الرغم من تنقّله عبر شوارع مدينة نيويورك الصاخبة والحيوية كلّ يوم، إلا أنه يجد المدينة مبهرجة أكثر من اللازم ولا يتأقلم معها. الأجواء الباردة والكئيبة التي يخلقها الفيلم، فضلاً عن مشاعر الغربة بين الإنسان والمجتمع، تترك أثرها عميقاً على المشاهد.
    في اليابان، التقى سائق سيّارة أجرة ذات يوم براكب في منتصف العمر. وبعد أن استقلّ الراكب السيّارة، أشار إلى سيّارة پورش التي أمامه وسأله: هل تعتقد أن هذه السيّارة جميلة؟". فردّ سائق التاكسي: لا لزوم لسماع رأيي، فسيّارات پورش جميلة بكلّ تأكيد!".
    ثم قال الراكب بسعادة: هذه سيّارتي!" فقال السائق بارتباك: إذا كانت سيّارتك فلماذا لا تقودها؟ ردّ الراكب: أنت غبيّ أم ماذا؟! لو كنت أقودها كيف سأتمكّن من تقدير جمالها؟!
    وكان هذا الراكب في الواقع ممثّلا مشهورا يُدعى تاكيشي. وكما اتضح، فقد اشترى تاكيشي، بكلّ شهرته وثروته، أحدث طراز من پورش، لكنه شعر بالحزن لعدم قدرته على رؤية نفسه يقود السيارة بفخر. وحينها فقط فكّر في أن يقود سيّارته أحد أصدقائه، بينما يستقلّ هو سيّارة أجرة، وبهذه الطريقة يمكنه رؤية سيّارته البورش الأنيقة.
  • ❉ ❉ ❉

  • أنت فريد من نوعك، وربّما تعتقد أن العالم لا يحتاجك، لكنه يحتاجك فعلا. فأنت نسيج وحدك من الناس، ولا تشبه أحدا سبقك ولا أحدا سيأتي بعدك.
    فلا أحد يستطيع التحدّث بصوتك ولا أحد له نفس رأيك ولا أحد له نفس ابتسامتك أو إشعاع نورك. ولا أحد يستطيع أن يأخذ مكانك، لأنه ملكك، وأنت وحدك الذي تملؤه.
    وإذا لم تكن هناك لتشعّ بنورك، فمن يدري كم من المسافرين سيضلّون طريقهم وهم يحاولون المرور من مكانك الفارغ في الظلام؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • البذرة والشجرة والزهرة والثمرة هي النظام الرباعي للكون. ومن حالة قلب الإنسان تنشأ ظروف حياته وتزدهر أفكاره وتتطوّر إلى أفعال. إن الحياة تتكشّف دائما من الداخل وتكشف عن نفسها للنور. والأفكار التي تولد في القلب تكشف عن نفسها أخيرا في الكلمات والأفعال والأشياء التي تُنجز.
    وكما تأتي الحياة من نبع خفي، فإن حياة الإنسان تنبع من أعماق قلبه. فكلّ ما هو عليه وما يفعله يتولّد هناك. وكلّ ما سيكون عليه وما سيفعله سينبع هناك. الحزن والفرح، المعاناة والمتعة، الأمل والخوف، الكراهية والحب، الجهل والتنوير، ليست في أيّ مكان سوى في القلب.
    الإنسان هو حارس قلبه، ومراقب عقله، والحارس الوحيد لقلعة حياته. وعاجلاً أم آجلاً، سيهزم كل الشرور والمعاناة، لأنه من المستحيل على الإنسان أن يفشل في تحقيق التحرّر والتنوير والسلام، وهو الذي يحرس بجهد لا يعرف الكلل بوّابة قلبه.

  • Credits
    art-matisse.com
    suite101.com

    الاثنين، مارس 03، 2025

    زيارة إلى ماكوندو


    من الناحية الثقافية والجغرافية، تبدو مدينة قرطاجنّة الكولومبية أشبه بهافانا أو سان خوان أكثر من كونها مدينة أمريكية أنديزية. في عهد الإمبراطورية، كانت المدينة نقطة انطلاق رئيسية للكنوز الذهبية التي كانت تُشحن إلى إسبانيا. واليوم، يحدّ البحر الكاريبي الطريق الرئيسي، وتقع المنطقة السياحية على شريط ضيّق طويل يكتسي باللون الأزرق.
    وفي الليل، يرى المرء أناسا من جميع الأعمار، يعزفون موسيقى السالسا أو يتابعون إيقاع الفرق اللاتينية التي تضفي حيوية على المقاهي. وكما هي الحال في معظم أنحاء منطقة الكاريبي الأخرى، فإن حرف السين الأخير في أيّ كلمة يكاد يختفي من اللغة المنطوقة.
    بدأ غابرييل غارسيا ماركيز حياته المهنية في قرطاجنّة. في عام 1948، درس القانون ثم تولّى وظيفته الأولى كمراسل لجريدة "إل يونيفرسال"، وهي صحيفة يومية محلية تتخذ مقرّا لها في مبنى أبيض اللون ومتهالك إلى حدّ ما في وسط المدينة القديم والساحر. وعلى الرغم من أن ماركيز عاش هنا لمدّة عامين فقط، إلا أن قرطاجنّة ظلّت معه دائما واستخدمها بعد عقود كنموذج للمدينة في رواية "خريف البطريرك."
    وفي كثير من الأحيان، يقف البطريرك "في الرواية" على شرفته المطلّة على البحر، حيث يستطيع أن يستنشق "رائحة المحار الفاسد"، ويتطلّع الى قلعة الميناء و"البيت المرتفع الذي يشبه سفينة ركّاب عابرة للمحيطات"، وهو وصف دقيق لدير "لا بوبا" في قرطاجنّة الذي سُمّي بهذا الاسم لأنه يشبه مؤخّرة سفينة كبيرة. وكما هو الحال في رواية غارسيا ماركيز هذه، فإن الحياة في شوارع هذه المدينة الساحلية عادية ومكثّفة في الوقت نفسه.
    في قرطاجنّة رأيت صيدلية ومبنى سكنيّا يحملان اسم "ماكوندو"، على اسم القرية المذكورة في رواية "مائة عام من العزلة". وفي بارانكويلا لاحظت متجرا يحمل نفس الاسم. وغارسيا ماركيز له حضور في مختلف أنحاء كولومبيا. وكثيرا ما تذكره الصحافة والناس العاديون باسمه المحبّب "غابو".
    خلال النصف الأوّل من الرحلة التي استغرقت ساعتين، كان البحر الكاريبي على يسارنا، ثم مررنا بمستوطنات ساحلية صغيرة من النوع الذي صوّره ماركيز في قصص مثل "بحر الزمن الضائع". وسرعان ما مررنا على المستنقعات والجبال التي عبرها أفراد عائلة "بوينديا" في بحثهم عن أرض الميعاد. وعلى صدع طويل، كان المحيط على يسارنا، ومستنقع واسع على يميننا. وتذكّرت تعجّب خوسيه بوينديا في الرواية: "يا إلهي! ماكوندو محاطة بالماء من جميع الجهات!".
    وعندما توقّفنا في بلدة سييناغا، أشار لي البائع ذو البشرة البرونزية إلى النصب التذكاري المهيب لعمّال شركة "يونايتد فروت" الذين قُتِلوا: هناك، في الساحة الرئيسية، يوجد تمثال بنّي ضخم يبلغ ارتفاعه خمسين قدما على الأقل لرجل أسود ضخم يلوّح بمنجل في يده اليمنى".
    تُعرف شعوب منطقة البحر الكاريبي في كولومبيا باسم "الساحليين". وغارسيا ماركيز ينتمي إلى هذه الفئة، وقد نجح بشكل رائع في منح هؤلاء القاطنين في منطقة الكاريبي صورة أدبية ومكانة في الثقافة العالمية، تماماً كما فعل فوكنر مع الجنوب الأمريكي العميق. والأجانب يميلون إلى التفكير في كولومبيا باعتبارها منطقة أنديزية وهندية، ولكن هذه الصورة غير مكتملة. فالساحليون يرون أنفسهم مختلفين عرقياً وثقافياً ومزاجياً عن شعب بوغوتا، الذي يطلقون عليه اسم "الكاتشاكوس" أو "سكّان المرتفعات".
    قال ماركيز ذات مرّة: أشعر براحة أكبر في منطقة الكاريبي اللاتينية، في كولومبيا الساحلية وليس في المرتفعات. المرتفعات ظلّت جزءاً من ثقافة استعمارية إسبانية، مهيبة ورمادية وباردة للغاية، ولطالما شعرت أنها بلد آخر. هذان عالمان متعارضان، المرتفعات حيث يعيش الناس في صمت وانطواء، ومنطقة الكاريبي حيث الوفرة الحسّية والضوء والحرارة والأحاديث السريعة. في هذه المنطقة، يُنظَر إلى الحقيقة باعتبارها وهماً آخر، مجرّد نسخة أخرى من وجهات نظر متعدّدة ومحتملة، ويغيّر الناس واقعهم بتغيير تصوّرهم لها".


    وقال ماركيز واصفا "الوضع النفسي الكاريبي": الناس هنا يشعرون بوجود ظواهر أو كائنات أخرى، حتى لو لم تكن موجودة. ولابدّ أن تكون هذه الكائنات متأثّرة بالأديان القديمة وبالهنود والسود. إن هذا العالم مليء بالأرواح التي تجدها في كلّ مكان، في بورتوريكو وفي كوبا وفي البرازيل وفي سانتو دومينغو وفي فيرا كروز".
    وصلنا إلى أراكاتاكا، مسقط رأس ماركيز، والتي يبلغ عدد سكانها 17 ألف نسمة. تبدو البلدة أصغر كثيرا، ولكن بعد نزهة قصيرة نكتشف أنها ممتدّة. لا توجد طرق معبّدة، والهواء الكثيف مليء بالغبار، ومن بين تلك الطرق الترابية شارع الأتراك. والعديد من المساكن عبارة عن أكواخ خشبية تصطفّ جنبا إلى جنب مع منازل خرسانية. ويسود هدوء استوائي غريب، ومعظم السيّارات متوقّفة في صمت، والنسائم الساحلية لا تجلب الراحة.
    ومع حرارة الظهيرة، يستخدم العديد من سكّان البلدة المظلات أو يتردّدون على المقاهي. ودار السينما المفتوحة التي صوّرها غابو في فيلم "ساعة الشرّ" تحوّلت الآن إلى شركة تأمين. الخنازير الصغيرة تمرح والصبية الصغار يلعبون كرة القدم على طول المسارات المؤدّية إلى محطّة السكّة الحديدية المهجورة.
    ولا يزال مكتب التلغراف الذي عمل فيه والد غابو يعمل في ساحة البلدة، كما توجد هناك الكنيسة المصفرّة، حيث دارت بعض المشاهد الأكثر إثارة في حياة ماركيز. وبينهما الطريق المؤدّي إلى المقبرة، الذي سارت عليه الأمّ الشجاعة في قصّة ماركيز "قيلولة الثلاثاء".
    أثناء زيارتي لمبنى البلدية، قال لي العمدة الحالي الذي عرف غابو شخصيا أنه كان طويلاً عريض المنكبين، يرتدي نظارة شمسية ويركب دراجات نارية. كما ذكر لي بعض الأمثلة على الشهرة العالمية المفاجئة التي اكتسبتها أراكاتاكا. فقد زارت فرق التلفزيون الفرنسية المدينة مرّتين لتصوير لقطات. كما كانت تأتي من حين لآخر حافلات سياحية مليئة بالأوروبيين أو الأميركيين، يخرجون ويلتقطون الصور ثم يغادرون، لأنهم نادراً ما يعرفون الإسبانية".
    ذهبت في نزهة مع العمدة وسألته عمّا إذا كانت أراكاتاكا قد اعترفت بابنها الأصلي فقال: توجد في المدرسة الثانوية غرفة أدبية تحمل اسمه، ولكن هناك بعض الاستياء منه. فمنذ أن أصبح مشهوراً عاد مرّة واحدة فقط، وكانت لحضور مهرجان موسيقي. كنت أعتقد أن الحكومة ستعترف بنا، على الأقل من خلال رصف بضعة طرق".
    وقدّم لي العمدة أحد كبار السن، وهو شخص متذمّر عمل ذات يوم كحارس في شركة "يونايتد فروت". وتذكّر قائلاً: كانت تلك أوقاتاً طيّبة، كان لدينا الكثير من المال في ذلك الوقت. كما عمل العديد من إخوتي في الشركة. هل تتذكّرون تلك المقاطع من الرواية التي تصوّر أشخاصاً يرقصون وهم يحملون أوراق البيزو المحترقة في أيديهم؟ حسناً، هكذا كان الحال".
    ولمّا سألت الرجل عن شعوره تجاه المضربين بدا عليه نفاد الصبر، ثم قال: لقد تسبّب هؤلاء الناس في إحداث الفوضى في كلّ شيء. واسمحوا لي أن أخبركم بأن كلّ ما قيل عن مذابح العمّال غير حقيقي. لم يحدث ذلك قط. وأكثر ما سمعته على الإطلاق هو مقتل رجلين بالرصاص. انظروا، إذا كان هناك حقاً كلّ هؤلاء القتلى "الذين تحدّث عنهم ماركيز"، فأين ألقوا بجثثهم؟".
    كان ماركيز قد سُئل ذات مرّة عن مشاهد الاضراب والقتل المذكورة في "مائة عام من العزلة" وما إذا كان قد بالغ في تقدير أعداد القتلى فقال: هذا التسلسل يرتبط بشكل وثيق بوقائع إضراب شركة "يونايتد فروت" في عام 1928، والتي تعود إلى طفولتي، حيث وُلدت في ذلك العام. والمبالغة الوحيدة هي في عدد القتلى. لذا بدلاً من مئات القتلى، رفعت العدد إلى آلاف. ولكن من الغريب أن صحافيا كولومبياً أشار في أحد الأيّام إلى "الآلاف الذين ماتوا في إضراب عام 1928". وكما يقول بطريركنا: لا يهمّ إذا كان شيء ما غير صحيح، لأنه في النهاية سيكون صحيحاً"!

    Credits
    gale.com

    الخميس، فبراير 27، 2025

    خواطر في الأدب والفن


  • "المعمار" هو اسم اللوحة التي فوق، والتي رسمها بول كلي في عام 1923 كجزء من سلسلة لوحات "المربّعات السحرية" التي تتناول الأنماط والأشكال البسيطة والتضاريس. وتتكوّن اللوحة من نمط منتظم لمربّعات ذات ألوان مختلفة ومتمايزة.
    ويُنظر إلى هذا العمل على نطاق واسع باعتباره انعكاسا لطبيعة الإيقاع والتكرار والتشابه كما يراها الفنّان. في ذلك الوقت، كان الموسيقيّ النمساوي أرنولد شوينبيرغ قد وضع نظاما ثوريا جديدا في الموسيقى يتألّف من 12 نغمة. والكثير من النقّاد يعتبرون "المعمار" انعكاسا لفكرة شوينبيرغ الكميّة والمنطقية للموسيقى باعتبارها كيانا هندسيّا ورياضيّا وليست فقط مشاعر وتأمّلات. وقد نُظر الى عمل الرجلين في ذلك الوقت على أنه مبتكر للغاية ومختلف تماما.
    ويقال إنه لم يستكشف فنّان آخر مجال الأشكال الهندسية الأوّلية بمثل ما فعل كلي. فقد استخدم الهندسة، ليس فقط من أجل خلق حقائق تصويرية نقيّة، ولكن أيضا لشرح الحياة العضوية. وفي عام 1930، كتب ناقد يُدعى رينيه كريفيل قائلا: إن أبسط الموادّ والكلمات أو الألوان تعمل كوسيط بين العالم الخارجي والمتلقّي. والشعر هو اكتشاف العلاقات غير المتوقّعة بين عنصر وآخر. والرسّام الذي يجد الشعر في أكثر أشكال الهندسة جفافاً يستطيع أن يعرف كيف يصعد الى السطح بعد أن يغوص".
    وهناك من رأى في سلسلة "المربّعات السحرية" انعكاسا للنهج الفلسفي الرومانسي الذي كان كلي يتبنّاه تجاه الحياة. فقد كان يعتقد أن الكون الذي نراه ما هو الا مظهر وانعكاس لشيء آخر. ويمكن أن تكون المربّعات في اللوحات رمزا للكون ككل، فهي كتل بِناء تبدو ذات قيمة وأهمية جوهرية.
    ناقد آخر يُدعى وِل غرومان قارن سلسلة المربّعات السحرية بالبحث الموسيقي المعاصر، وخاصّة نظام النغمات الاثنتي عشرة الذي ابتكره شونبيرغ، فقال: وجدت بين أوراق كلي ورقة صغيرة عليها مخطّط لإحدى لوحاته. كانت الأرقام مكتوبة في المربّعات، وسلسلة من الأرقام تسير أوّلاً في اتجاه واحد ثم في الاتجاه الآخر متقاطعةً مع بعضها البعض. وعندما تُجمع الأرقام على طول الخطوط الأفقية والرأسية، يصبح المجموع متساويا، كما هو الحال في المربّع السحري الشهير".
    في بحثه النفسي عن الأشكال الهندسية الأكثر بدائية والبنية الداخلية للمادّة ومصفوفاتها وأشكالها الإيقاعية، يجد كلي مبدأ فعّالاً للتنظيم يقوم على نفس الأساس الذي ينهض عليه الكائن الخلاق والكون المخلوق. إنه يعمل بجد على اكتشاف إيقاع "الطبيعة العظيمة" ثم يضعه كحركات غريزية أو مراكز حضرية.
    وكان كلي قد قال مرّة ان الفنّ البصري لا يبدأ بمزاج أو فكرة شعرية، بل ببناء شكل أو أشكال متعدّدة أو بتناغم عدد قليل من الألوان أو الظلال، أو بحساب للعلاقات المكانية. وكانت لوحاته المربّعة قد بدأت بمربّعات من الألوان المتناثرة في أشعّة الشمس. ثم أصبح بعضها مصحوبة بمثلثّات توحي بالأسقف وبأنصاف دوائر تلمّح إلى قباب المنازل أو المساجد التي رآها أثناء زيارته للمغرب.
    وقد أصبحت لوحاته هذه أكثر تعقيداً، حيث تكرّرت كأشكال هندسية صغيرة على القماش بما يشبه الهيروغليفية، مع تلاعب بدرجات الألوان. وبينما كان يبحث عمّا أسماه "الإيقاع البصري"، أصبحت رسوماته الخطّية أكثر تجريبية، أحياناً على خلفية بيضاء، وأحياناً أخرى على قماش ملوّن. وأصبحت الخطوط المعقّدة والمتكرّرة، مثل النوتات الموسيقية، تقترن بعناوين مثل "عمارة الغابات" و"منظر لمحمية جبلية" و"معبد منحوت في الصخر" أو "أسماك في سيل".
    في أوائل عام 1921، انضمّ كلي إلى مدرسة باوهاوس، وهي المدرسة الحكومية الجديدة للفنون والتصميم في فايمر بألمانيا والتي سرعان ما ضمّت كاندنسكي إلى هيئة تدريسها. وغطّت دورات كلي جميع الفنون والحرف اليدوية، من الرسم والتلوين إلى تجليد الكتب والزجاج الملوّن وتصميم المنسوجات. وكانت تلك فترة خصوبة غير عادية في حياته حيث تمكّن من اختبار نظرياته من خلال فنّه وتدريسه.
    ومع تنامي شهرة بول كلي على المستوى العالمي، بدأ صعود النازيّة بانتخاب هتلر مستشارا لألمانيا في مارس 1933، فعُطّلت مدرسة باوهاوس وطُرد كلي من عمله في أبريل 1933. ثم عُرض 17 من أعماله في معرض "الفنّ المنحطّ" النازيّ في ميونيخ. وفي ديسمبر من ذلك العام، فرّ هو وعائلته من ألمانيا إلى مسقط رأسه في بيرن بسويسرا. وكانت السنوات التي تلت ذلك صعبة. ففي عام 1935، أصيب الرسّام بمرض جلدي مميت يُسمّى تصلّب الجلد.
    وفي عام 1940، وهو عام وفاة كلي، رسم شخصا مركّبا من عيدان ثقاب على خلفية حمراء وداخل إطار أسود. ثم كتب خطاب وداعه للعالم وهو عبارة عن بضع كلمات نُقشت على شاهد قبره يقول فيها: لم أعد مقيّدا الآن، لأنني أعيش أيضا مع الموتى، كما هو حال الجنين، أقرب إلى قلب الخلق من المعتاد".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • يرى تيم برينكوف أن "الهوبيت" مثال واضح على ما يسمّيه جوزيف كامبل "الأسطورة الواحدة" أو "رحلة البطل". وهذا المفهوم، الذي تستند إليه دراسته التي استمرّت طيلة حياته للأساطير والحكايات من مختلف أنحاء العالم، هو مخطّط سردي مشترك بين العديد من القصص المعروفة. أي أن كلّ الأساطير تقريبا يمكن اختصارها في رحلة البطل.
    ويمكن تقسيم الرحلة التي صاغها كامبل في كتابه "البطل ذو الألف وجه" الصادر عام 1949، إلى مراحل: يتلقّى البطل دعوة للمغامرة، يلتقي مرشدا ملهِما، يترك وطنه ويواجه العقبات والأعداء والحلفاء، يفشل في تحقيق الهدف، يحاول مرّة أخرى وينجح، وأخيرا يعود إلى أرض الوطن بالمكافأة.
    في رواية الهوبيت لـ توكين (1937)، تنقلب حياة بيلبو باغينز الهادئة الخالية من الأحداث رأسا على عقب بسبب وصول الساحر غندالف المفاجئ، الذي يسأله ما إذا كان يرغب في الذهاب في مغامرة. ولأنه غير راغب في استبدال محيطه المريح بالمجهول العظيم، يرفض بيلبو عرض غندالف.
    ولا يقرّر الهوبيت المتكبّر مرافقتهم ومساعدتهم في استعادة وطنهم المهجور إلا بعد أن يشكّك الأقزام في فائدته. ورغم عدم تأكّده في البداية من قدراته، يثبت بيلبو أنه أهمّ أفراد المجموعة، حيث ينقذهم من الخطر مرارا. وبعد المساعدة في هزيمة التنّين سموغ، يعود بيلبو إلى شاير وهو أكثر حكمةً وسعادةً وثقة.
    لم يغيّر كامبل الطريقة التي ينظر بها الناس إلى القصص القديمة فحسب، بل غيّر أيضا كيفية سرد القصص الجديدة. لكن انتشار اسمه في كلّ مكان كان سبباً في حجب الانتقادات المهمّة التي وُجّهت إلى رحلة البطل. فقد نُشر كتاب "البطل ذو الألف وجه" قبل أكثر من 75 عاماً، في وقت كانت فيه المواقف والظروف الثقافية مختلفة.
    فهل الأسطورة الأحادية حقّاً متجانسة وعالمية كما ادّعى كامبل؟ تشير قائمة من رواة القصص القدامى والمعاصرين الذين انحرفوا عن رحلة البطل إلى أن الأمر ليس كذلك.
    لا شكّ أن جزءاً من جاذبية الأسطورة الواحدة ينبع من التأثيرات المتنوّعة التي تأثّر بها كامبل. فأثناء دراسته في باريس وميونيخ، رأى بعض لوحات بابلو بيكاسو وهنري ماتيس، الفنّانين اللذين نظرا إلى ما هو أبعد من موضوعاتهما لفهم كيفية إدراك الناس للعالم. كما أهتمّ بالمحلّلين النفسيين سيغموند فرويد وكارل يونغ، اللذين كتبا عن العمليات العقلية التي تقع غالبا خارج نطاق فهمنا وسيطرتنا كأفراد.
    وبعد أن تعرّف كامبل على الفلسفة والأساطير الهندوسية، لاحظ بسرعة أوجه التشابه السردية والموضوعية بين التقاليد الأوروبية والآسيوية. وكان الأمر اللافت للنظر بنفس القدر هو الصلة الدائمة التي اكتسبتها هذه الحكايات القديمة بالنسبة لرواة القصص المعاصرين مثل جيمس جويس، الذي تُعتبر روايته المشهورة "يوليسيس" إعادة تصوّر حديثة لرواية هوميروس التي نالت استحسانا مماثلاً.
    هذه التأثيرات المتنوّعة وذات الصلة أقنعت الباحث الشابّ كامبل وبطريقة ما أن "جميع الأساطير والملاحم مرتبطة في النفس البشرية، وأنها مظاهر ثقافية للحاجة إلى تفسير الحقائق الاجتماعية والكونية والروحية".
    شعبية الأسطورة الأحادية في الغرب يمكن تفسيرها أيضاً من خلال تأكيدها على الفردية، أو فكرة أن الناس قادرون على تحويل أنفسهم وإعادة تشكيل العالم على صورتهم نتيجة للتطوّر الشخصي.
    وكان كامبل - والكلام لبرينكوف - يعتقد أن عناصر الأسطورة الأحادية تتحدّث مباشرة إلى اللاوعي الجماعي، أي إلى الصور والقيم التطوّرية المدفونة في أعماق النفس البشرية، وبالتالي فهي مشتركة بين البشر كلّهم، بغضّ النظر عن الفترة التاريخية التي يولدون فيها أو الثقافة التي ينتمون إليها. ولهذا السبب، أشار كامبل إلى الأحلام باعتبارها "أساطير شخصية" والأساطير باعتبارها "أحلاماً شخصية". وكان يعتقد أن الأسطورة الأحادية تجسيد تجريدي للنموّ، فالبطل الذي يقتل التنّين هو استعارة لمواجهة انعدام الأمن والعيوب التي نعاني منها والتغلّب عليها.
    وفي حين يمكن تلخيص سرديات مثل قصّة موسى في سفر الخروج والمعركة بين موردوك وتيامات في أساطير الرافدين على أنها رحلات أبطال، فإن العديد من الحكايات القديمة الأخرى، مثل أوديب والحكايات الشعبية، بل ومعظم أساطير الخلق لا يمكن اعتبارها كذلك.
    لم تكن ثقافات العالم القديم تمتلك آلهة ووحوشاً فريدة فحسب، بل كانت تمتلك أيضاً تقاليد سردية متميّزة. فأشكال السرد الهندية مثلا تختلف كليّا عن الأشكال الغربية. ولو شاهدتَ فيلماً من إنتاج بوليوود، فستلاحظ أنه في لحظة ما قد يتحوّل الفيلم إلى قصّة رومانسية، ثم يتحوّل إلى فيلم إثارة، ثم إلى فيلم موسيقي، ثم يتحوّل إلى فيلم فنون قتالية، وهو ما قد يربك الجمهور الغربي، ولكنه طبيعي تماماً بالنسبة للجمهور الهندي.
    وتزعم بعض الباحثات النسويات أن العديد من الشخصيات البطولية في الأساطير والأدب ليست مثيرة للإعجاب كما كانت في السابق، وأن الاهتمام الذي يُبديه باحثون مثل كامبل لهذه الشخصيات يعادل تمجيد العنف والعدوان والهياكل الاجتماعية الأبوية. وهذا انتقاد قاسٍ، رغم أن له ما يبرّره. فكتاب "البطل ذو الألف وجه" يركّز على الأبطال الذكور الذين يسعى العديد منهم إلى إنقاذ أميرة.
    وبصرف النظر عمّا تعتقده بشأن كامبل وعمله، لا يمكن إنكار أن رواة القصص المعاصرين يبتعدون تدريجيّا عن الأسطورة الأحادية. فبدلاً من قبول رحلة البطل بشكل أعمى، يفضّل العديد من صنّاع الأفلام الآن تفكيكها وإنشاء قصص عن شخصيات تبدو وكأنها أبطال، لكنها تتحوّل إلى أشرار أو تنانين وما الى ذلك.

  • Credits
    paulklee.net
    bigthink.com