:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، نوفمبر 19، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • يرى بعض المؤرّخين أن زُوّارا آخرين وصلوا الى الأميركتين قبل كولومبوس، ومن هؤلاء الڤايكنغ والأيرلنديون والإتروسكان والرومان والويلزيون والأفارقة واليابانيون والصينيون. ولكن في نهاية المطاف، لم يكتشف أحد من هؤلاء شيئا بمثل أهميّة الاكتشاف الذي حقّقه كولومبوس في عام 1492.
    ولا يرجع هذا إلى كون كولومبوس هو الأوّل أو إلى كونه شخصية محبوبة. فهو لم يكن كذلك. ولكن هذا البحّار الإيطالي فعل شيئاً غير مسبوق غيّر العالم إلى الأبد، وذلك عندما أضاف قارّة بأكملها إلى العالم المعروف آنذاك.
    يقول المؤرّخ فرانك جيكوبس: قبل كولومبوس، كانت الأميركتان عبارة عن نظام بيئي مكتفٍ ذاتيّا ومعزول عن بقيّة العالم بمحيطين هائلين. وبعد كولومبوس جاء الغزو والإبادة الجماعية، ولكن جاءت معهما أيضا الشعوب والأفكار والحيوانات والنباتات والأمراض الجديدة في كلا الاتجاهين.
    فقد تدفّقت أشياء جديدة إلى العالم الجديد من أوروبّا وأفريقيا وآسيا، والعكس صحيح. وهذا هو ما يُعرف بـ تبادل كولومبوس The Columbian Exchange، وهو المصطلح الذي صاغه لأوّل مرّة مؤرّخ أمريكي يُدعى ألفريد كروسبي في عام 1972، وقصد به التبادل على نطاق واسع للأشخاص والثقافات والأفكار والحيوانات والنباتات بين الأميركتين وبقيّة العالم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، نتيجة لاكتشاف كولومبوس للعالم الجديد.
    وكان كولومبوس نفسه هو الذي بدأ التبادل الكولومبي. ففي رحلته الأولى، عاد معه إلى أوروبّا بعدد من سكّان الكاريبي الأصليين وبعض الطيور والنباتات. وفي رحلته الثانية، جلب معه إلى الأميركتين القمح والفجل والبطّيخ والحمّص. وقد صنع هذا التبادل العالم كما نعرفه. وقبله، لم يكن هناك أناناس في هاواي ولا شوكولاتا في سويسرا ولا قهوة في كولومبيا.
    وقبل كولومبوس لم تكن أميركا معزولة بالكامل، وإلا لما قابل أيّ شعب عندما نزل الى أرضها. وكان أوّل سكّان أميركا من البشر قد عبروا من أوراسيا عبر مضيق بيرينغ قبل آلاف السنين. لكن تلك الرحلة كانت قاسية وباردة جدّا، لذا فإن "تبادل ما قبل كولومبوس" كان مقتصراً في الأساس على البشر.
    ولنتخيّل لو أن الغزاة الإسبان ماتوا بعد وقت قصير من وصولهم إلى أميركا بسبب بكتيريا أميركية غير معروفة. لربّما كان تدفّق الفتوحات قد انعكس، ولكانت مدن أوروبّا اليوم تزيّنها أهرامات الأزتيك بدلاً من الكاتدرائيات المسيحية. لكن ذلك لم يحدث. فالمرض الرئيسي الوحيد الذي انتقل في الاتجاه الآخر، أي من العالم الجديد الى أوربّا، كان مرض الزُهري.
    ولعلّ المساهمة الأكثر أهمية التي قدّمتها أميركا للنظام الغذائي العالمي كانت البطاطس. فقد دعمت القيمةُ الحرارية العالية لهذه الغلّة المتواضعة الأمن الغذائي للفلاحين، أولاً في أوروبّا ثم في أماكن أخرى، الأمر الذي ساعد في دعم الطفرة السكّانية.
    لكن كان لهذا النجاح جانب مظلم. فعندما فشل محصول البطاطس، أعقب ذلك مجاعة. وأودت آفة البطاطس في ايرلندا في أربعينات القرن التاسع عشر بحياة مليون شخص بسبب المجاعة. وهاجر مليون أيرلندي آخر، معظمهم إلى أمريكا، الأمر الذي أدّى إلى ظهور اتجاه استمرّ حتى بضعة عقود مضت.
    كان التبادل الكولومبي ولا شكّ التجربة الأولى للعالم في التعامل مع الظاهرة المسمّاة اليوم بالعولمة. وكانت بعض آثاره مفيدة، في حين كانت بعض آثاره الأخرى مدمّرة. وبهذا المعنى أصبح كولومبوس يمثّل الشخصية المثالية لهذه الظاهرة، فهو البطل والشرّير في الوقت نفسه.
    لكن الموازنة بين الخير والشرّ ليست دائما ذات جدوى. فقد أصبح العالم بعد التبادل الكولومبي أشبه بعجينة لا يمكن فصل أجزائها. ثم من الذي يرغب في العودة إلى زمن ما قبل ظهور الخيول في أميركا أو الفراولة في أوروبّا أو الكاساڤا في أفريقيا أو الأناناس في هاواي؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • لا تستطيع اللغة أن تنقل الحقيقة التي لا يمكن وصفها لغوياً. صحيح أن هناك صوراً يمكنك أن تتخيّلها: رجال يطيرون بأجنحة ريشية، وعملاق مبتسم، وامرأة يجرّها حصان. لكن الطريقة التي صوّر بها فرانسيسكو غويا هذه الأشياء تجعلها أكثر غرابة مما تبدو عليه. فكلّ خطّ وكلّ ظلّ له صفة غير مادّية تجعلك تشعر وكأنك تنظر إلى عالم منسوج من الكوابيس الليلية في هذه الصور التي صَنَعتها شخصية غويا الشبحية قبل أكثر من 200 عام.
    والحقيقة أن ليس هناك فنّان يمكن أن يدخل في معركة مع غويا ويخرج منها سالماً، حتى فرانسيس بيكون. ولو أقام متحف برادو الإسباني معرضاً للوحات بيكون في نفس الغرفة التي يعرض فيها لوحات غويا السوداء، لبدا بيكون نفسه مثيراً للشفقة.
    وربّما يلزمك أن تكون في إسبانيا تحت حكم نابليون في أوائل القرن التاسع عشر، لترى الجثث المقطّعة الأوصال المعلّقة على الأشجار والمحتجّين المسعورين، ولترى كيف يُنتِج نوم العقل وحوشاً، ولتكتشف كيف يمكن أن يصبح الفنّ مرعباً ومروّعا ومتطرّفا كما في أعمال غويا. لكي تكون مثل غويا عليك أن تذهب إلى حافّة الهاوية!
    جوناثان جونز
  • ❉ ❉ ❉



    ❉ ❉ ❉

  • يُحكى أن رجلا حكيما أراد أن يعلّم أبناءه درسا مهمّا في الحياة، فطلب منهم مراقبة شجرة برتقال، كلّ واحد في موسم مختلف: الابن الأكبر في الشتاء والثاني في الربيع والثالث في الصيف والأصغر في الخريف.
    وقد ذهبوا جميعا، ولمّا عادوا وصفوا ما رأوه. قال الأوّل: رأيت شجرة قبيحة ومنحنية وملتوية .وقال الثاني: لا، بل كانت مغطّاة ببراعم خضراء ونضِرة. ولم يوافق الابن الثالث على كلام الاثنين وقال إن الشجرة بدت جميلة كثيرا ومحمّلة بالأزهار الشذيّة. ولم يوافق الابن الأخير على كلام إخوته وقال إن الشجرة كانت ناضجة وملأى بالفاكهة وبالحياة.
    وعندما انتهوا من أوصافهم، أوضح لهم الأب أن كلام كلّ منهم صحيح لأنه لم يرَ سوى فصل واحد في حياة الشجرة. وأضاف: لا يمكنك الحكم على شجرة أو شخص من خلال فصل واحد فقط، وأن جوهر الحياة وما فيها من متعة وفرح وحزن وحبّ لا يمكن قياسها إلا عندما نعيش جميع الفصول. وإذا استسلم الإنسان لقسوة الشتاء، مثلا، فسيفقد وعد الربيع وجمال الصيف ومتعة الخريف.. وهكذا..
  • ❉ ❉ ❉

  • من غريب ما قيل عن طقوس بعض أشهر الكتّاب في الكتابة أن ڤيكتور هوغو كان يكتب على مكتب أمام مرآة. وكان يبتلع بيضتين نيّئتين ويحبس نفسه في الشرفة الى أن ينتهي من الكتابة في جلسة الصباح. وبعدها يخرج إلى سطح البيت ويغتسل من حوض ماء يتركه هناك طوال الليل، ويسكب الماء المثلّج على نفسه ويفرك جسمه بليفة مصنوعة من شعر الخيل.
    وكان هوغو يستيقظ كلّ يوم عند الفجر على صوت إطلاق نار من حصن قريب من مقرّ اقامته في جزيرة بريطانية تقع قبالة ساحل نورماندي. وبعدها يتناول قهوة طازجة ويكتب حتى الساعة الحادية عشرة صباحا. وقد كتب في ذلك المكان بعضا من أهمّ رواياته.
    أما هاروكي موراكامي فيلتزم بجدول زمني منتظم، إذ يستيقظ في الرابعة صباحا ويعمل ستّ ساعات متواصلة. وفي فترة ما بعد الظهر يمارس الجري أو السباحة ويقرأ ويستمع إلى الموسيقى ثم ينام في التاسعة مساء.
    وموراكامي يعتقد أن القوّة البدنية ضرورية بقدر أهميّة الحساسية الفنّية. وقد انتقل للعيش في منطقة ريفية وتوقّف عن التدخين وأصبح يشرب كميّات أقلّ من الكحول ويتناول نظاما غذائيّا يتكوّن في الغالب من الخضراوات والأسماك. كما بدأ في ممارسة الجري يوميّا، وهي العادة التي ظلّ يمارسها لأكثر من ربع قرن.
    أما تشارلز ديكنز فكان ملتزما في طقسه للكتابة بثلاثة شروط، أوّلها الهدوء المطلق في مكتبه، ثم أن يكون مكتبه أمام النافذة وان يكون مرتّبا بعناية. والثالث التزامه بروتين زمني صارم، فقد كان يستيقظ في السابعة صباحاً ويتناول الإفطار في الثامنة ويصل إلى مكتبه في التاسعة.
    وكان يبقى هناك حتى الثانية ظهراً، ثم يأخذ استراحة قصيرة لتناول الغداء. كان ديكنز كاتبا غزير الإنتاج. كان يوميّا يكتب حوالي ألفي صفحة، وألّف ما مجموعه 15 رواية وعددا كبيرا من القصص والمقالات والرسائل والمسرحيات.

  • Credits
    franciscodegoya.net
    bigthink.com
    harukimurakami.com

    الأحد، نوفمبر 17، 2024

    الأصول الأولى للرسم


    لطالما انشغل البشر بالأصول الأولى للأشياء. وكانوا يعتمدون دائما على الأساطير لتفسير كثير من الأمور. ولم يكن الرسم استثناءً. فقد قدّمت ثقافات مختلفة من العالم قصصها الخاصّة عن نشأة الرسم. والشيء الوحيد المشترك بين تلك القصص هو أن الرسم بدأ عندما رسم شخص ما ظلّ شخص آخر.
    وطبقا لقصّة كتبها بليني الاكبر، المؤرّخ الروماني من القرن الأوّل الميلادي وضمّنها كتابه "التاريخ الطبيعي"، فإن أوّل لوحة في التاريخ على الإطلاق رسمتها ابنة خزّاف من بلدة كورينث باليونان، والتي اشتهرت منذ القدم بصناعة الخزف. كانت الفتاة، واسمها ديبوتاديس، مخطوبة لشابّ وكان على وشك السفر بعيدا عن بلدتهم. وقبل رحيله ليلا، أحبّت الفتاة أن تتذكّره فرسمت محيط رأسه على الحائط باتباع الظلّ الناتج عن ضوء مصباح. ثم طلبت من والدها أن يصنع لذلك الشكل قطعة خزفية. وقد ملأ والدها تلك الصورة الظلّية بالطين، ثم أحرق الطين في الفرن وأصبحت تلك أوّل منحوتة عرفها الانسان.
    وكانت تلك الصورة الشعرية مشهورة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وصُوّرت في العديد من الأعمال الفنّية، وأصبحت موضوعا شائعا بين الفنّانين الغربيين من سبعينات القرن الثامن عشر إلى عشرينات القرن التاسع عشر.
    ولو سلّمنا جدلا بصحّة تلك القصّة، فإن هذا يعني ان الرسم لم يولد كوسيلة اتصال، بل كأداة للتذكّر. فابنة الخزّاف لم تحتفظ بصورة لخطيبها، بل احتفظت بمحيط رأسه، وهو تفصيل يكفي لأن يتمكّن أيّ شخص يعرفه من تذكّره.
    الرسام الانغليزي جوزيف رايت (1734 - 1797) رسم شخصية خطيب الفتاة الكورينثية على غرار تمثال نائم رآه في روما. وكان قد قضى في إيطاليا حوالي عامين وسجّل في كرّاسه الخاص الآثار القديمة والمنحوتات التي رآها. واستند في رسمه للمفروشات والملابس وحتى في تسريحة شعر المرأة الظاهرة في لوحته إلى أدلّة أثرية. كما رَتّب الشخصيات بإيقاع محسوب بعناية.
    وبصفته معلّما في الإضاءة الاصطناعية، أخفى رايت مصباحا معلّقا خلف الستارة ليشير إلى مصدر الضوء الذي يلقي بظلّه على الشابّ. ولم ينسَ أن يضمّن المنظر صورة لكلب نائم كرمز للإخلاص. كان رايت أستاذا في الرسم القديم. لذلك، كانت البيئات المظلمة مناسبة تماما لأسلوبه. وكان الانغليز في أواخر القرن الثامن عشر يستمتعون بتجسيد فكرة المرأة المخلصة التي تنتظر حبيبها الغائب.
    وقد تداول الناس أسطورة ديبوتاديس على مرّ العصور. وأشار إليها ليوناردو دافنشي وجورجيو ڤاساري في كتاباتهم. ومنذ القرن السابع عشر، ازدادت شعبية القصّة بين الفنّانين الغربيين. ومن الغريب أنهم غيّروا في الرواية لتناسب الرسم فقط وتغافلوا عن نموذج الطين/النحت الذي ركّز عليه بليني الأكبر في كتابه.
    وقصّة فتاة كورينث تشبه قصّتي بيغماليون وغالاتيا، حيث تُحوّل إحداهما شخصا إلى عمل فنّي، بينما تُحوّل الأخرى العمل الفنّي إلى إنسان حيّ. وهنا يمكننا أن نرى كيف يعمل الرسم كبديل للحبيب. فهو ليس مجرّد صورة، بل إن جوهره يعيش فيه.


    لكن بعض المؤرّخين يشيرون الى أن أوّل لوحة في التاريخ رسمها بشر بدائيون يُعتقد أنهم من سلالة إنسان النياندرتال في عصور ما قبل التاريخ. وتكشف الحفريات الأثرية التي أُجريت في أوروبّا وأفريقيا وآسيا أن بشرا بدائيين كانوا أوّل الرسّامين والنحّاتين وقد أظهروا من خلال تلك الفنون بعض أنشطة حياتهم اليومية.
    واللوحات الأولى التي اكتشفها علماء الآثار على جدران وأسقف بعض الكهوف هي عبارة عن رسوم تنبض بالحياة وتستخدم أكثر من ثلاثة ألوان وتتضمّن محاكاة للطبيعة بأقصى قدر من الواقعية. ففي كهوف ألتاميرا في إسبانيا، مثلا، توجد لوحة صخرية مثيرة للإعجاب رُسمت لحيوان البايسون أو الجاموس أثناء صيده وباستخدام تقنية الضوء والظلّ.
    وجزء كبير من رسومات الكهوف تصوّر حيوانات ونباتات وأشياءَ أخرى بدرجات متفاوتة من الواقعية. وهناك أيضا تمثيلات رسومية وتجريدية ومشاهد معقّدة. والعديد من علماء الآثار يعتقدون أن تلك الرسوم قد تكون مرتبطة بطقوس الصيد والخصوبة ودرء الخطر وبمحاولات الانسان القديم إيجاد لغة رمزية للأفكار أو المشاعر أو الحياة اليومية.
    ومهما كان الدافع وراء تلك الرسومات، سواءً الرغبة في صنع الفنّ أو في تسجيل الحياة اليومية في ذلك الوقت، فإن الفنّ الصخري المحفوظ منذ آلاف السنين حوّل تلك الكهوف إلى أوّل متاحف للإنسانية.
    وهناك مؤرّخون يعتقدون أن أصل الرسم كما نعرفه اليوم يعود إلى العصر الحجري الحديث، أي الى الألفية العاشرة قبل الميلاد، عندما بدأ الرسم على الصخور يشهد تراجعا بسبب تطوّر الزراعة والمجتمع. وقد ظهر في اليونان القديمة وأتقنه الرومان فيما بعد. ففي حوالي عام 3000 قبل الميلاد، بدأت القرى الصغيرة في الظهور في البرّ الرئيسي لليونان وبدأ هناك تقليد الرسم على التحف الخزفية مثل المزهريات والأواني.
    ومنذ الألفية الثانية قبل الميلاد، نشأ في مدينة كريت مجتمع ملكيّ متحضّر. وفي القصور والمباني الكبيرة، ظهرت أولى علامات اللوحات الجدارية بأسلوب تصويري مختلَط وبتصاميم هندسية، مع أشخاص يمارسون أنشطة مختلفة كالعبادة والألعاب واحتفالات القصور وما الى ذلك.
    وكانت الموادّ المستخدمة في ذلك الوقت عبارة عن مستخلَص من البيض وطلاء يعتمد على الشمع وأصباغ معدنية ونباتية في وسط مائي. اما الألوان المفضّلة فكانت الأبيض والأسود والأصفر والأحمر. وكان الأخضر والبنفسجي أقلّ درجات اللون ثباتا ومن ثمَّ أقلّها استخداما. أما الأزرق فكان باهظ الثمن للغاية ويُستخلص من طحن حجر شبه كريم هو اللازورد.
    منذ عشرينات القرن التاسع عشر، قلّ الحديث كثيرا عن قصّة الخزّاف اليوناني وابنته وخطيبها، ولكنها لم تختفِ تماما. وما تزال القصّة تتردّد حتى اليوم، خاصّة عندما يأتي الحديث عن الفنّانات الإناث اللاتي عانين من التجاهل ولم يلاحظهن أحد أو مُحيت أسماؤهنّ من التاريخ، بسبب السلطة الأبوية والمجتمع الذكوري.

    Credits
    tate.org.uk

    الجمعة، نوفمبر 15، 2024

    مفارقة الفراشة


    نحن مثل الفراشات التي ترفرف ليوم واحد وتعتقد أنها ستستمر إلى الأبد.
    كارل سيغان

    ❉ ❉ ❉

    كان "تشوانغ تسي" فيلسوفا معروفا في الصين القديمة. وقد ذهب ذات ليلة لينام وحلُم أنه فراشة تطير من زهرة إلى زهرة. كان متأكّدا تماما أنه فراشة، لدرجة أنه شعر في الحلم بالحرّية وبالنسيم العليل أثناء طيرانه. ولكن عندما استيقظ، تبيّن له أنه ما يزال هو نفسه وأنه كان فقط يحلم. وبعد ذلك طرح "تشوانغ تسي" السؤال التالي على نفسه: هل كنت أنا "تشوانغ تسي" أحلم بأنني فراشة، أم أنني الآن فراشة أحلم بأنني "تشوانغ تسي"؟!
    في الحلم، رأى "تشوانغ تسي" العالم من جديد من خلال عيني فراشة، متحرّرا من القيود البشرية. وبدا الحلم وكأنه حقيقة، ما دفعه إلى ذلك التساؤل الإشكالي عند استيقاظه. هذا الحدث الغريب، أي التحوّل بين انسان وفراشة كان تحدّيا لإدراكه للواقع وإحساسه بذاته، لأنه يطمس الخطوط الفاصلة بين الواقع والوهم ويدفع إلى التأمّل بعمق في الوعي والهويّة.
    فكرة الفراشة كروح هي فكرة عميقة وقديمة. ويبدو أنها تتكرّر بلا نهاية عبر الحضارات. هذه الحشرات الطائرة الرقيقة والحرّة هي أقرب ما يقدّمه العالم الطبيعي لمفهومنا عن الروح البشرية الطليقة وغير المقيّدة. والإغريق القدماء هم الذين صاغوا استخدام الفراشة في الثقافة، من خلال ربطها صراحةً بالروح البشرية. بل إن الكلمة اليونانية للفراشة، أي Psyche ، هي نفسها التي تعني الروح أو النفس.
    ونفهم أن الفراشات التي ترفرف في الأحلام ترمز في العديد من الثقافات وعلى مرّ العصور إلى التحوّل الشخصي العميق. فكّر في التحوّل من اليرقة إلى الجمال المجنّح. هذه الحشرات تمثّل في الأحلام احتضان تغييرات الحياة التي تسمح لذواتنا الحقيقية بالظهور. ورحلتنا عبر الحياة تشبه هذا إلى حدّ كبير. فمع مرورنا بكلّ مرحلة، يصبح الشخص الذي يخرج مختلفا تماما عن الشخص الذي سبقه. وعندما تظهر الفراشات في العقل اللاواعي، يجب النظر إليها كمرشد يشجّعك على نشر أجنحتك.
    وفراشة الفيلسوف "تشوانغ تسي" ترمز إلى الطبيعة السائلة والوهمية للحياة. وكما تخضع الفراشة للتحوّل، فإن رحلتها تصوّر الحدود الضبابية بين حالات الوجود وتدعونا إلى التأمّل في الحجاب الشفّاف الذي يفصل الأحلام عن الواقع. إن من المخيف أحيانا أن نخرج من "شرنقتنا" وننتقل من المعروف إلى المجهول. ولكن عندما نفعل ذلك، يحدث التحوّل وينفتح أمامنا عالم جديد تماما وتستمرّ عملية النموّ.
    وقصّة "تشوانغ تسي" تتجاوز كونها مجرّد سرد لقصّة، فهي تثير تساؤلات عميقة حول الوعي الذاتي وطبيعة الواقع وتدفعنا للتساؤل عن صلابة تصوّراتنا ويقين معرفتنا. كما أنها تستدعي العقل في مغامرة، وترشدنا عبر متاهة الإدراك لكشف الحقائق المنسوجة في أحلامنا وحياتنا اليقِظة.


    ترى كم مرّة توقّفنا وسألنا أنفسنا ما إذا كان ما نختبره حقيقيّا أم مجرّد إسقاط لأفكارنا؟ حلم الفراشة لـ "تشوانغ تسي" يشجّعنا على التأمّل في أعماق تجاربنا الذاتية وفي الكيفية التي تُشكّل بها حواسّنا وأفكارنا واقعنا، كما يذكّرنا بأن ما يبدو صلباً وحقيقياً قد يكون عابراً مثل حلم.
    في الفلسفات الشرقية أصبح يُشار إلى هذا النوع من الحجج باسم "مفارقة تشوانغ تسي"، التي تشير إلى تحوّل عميق يطمس الحدود بين الواقع والوهم ويحثّنا على التأمّل فيما إذا كانت الحياة نفسها مجرّد رؤية عابرة.
    بعد "تشوانغ تسي" بمئات السنين، ظهرت وجهة نظر في الفلسفة تُعرف باسم الشكّ المعرفي Epistemic Self-Doubt، ومؤدّاها أننا كبشر لا نستطيع معرفة أيّ شيء على وجه اليقين. وقد نوقشت هذه الفرضية كثيرا وفي أزمنة مختلفة من قبل العديد من الأصوات المتشكّكة. وطرح رينيه ديكارت في كتابه "التأمّلات" فكرة مماثلة قال فيها: إذا كنت أعتقد أن أحلامي حقيقية وأنني أعيشها، فكيف يمكنني أن أعرف أن ما أعيشه الآن حقيقي بالفعل وليس مجرّد حلم؟!"
    وقد أراد "تشوانغ تسي" و"ديكارت" من كلامهما أن يوضّحا أن اليقظة والحلم ثنائية زائفة وأنه يصعب التمييز بينهما، فلا يمكن للمرء معرفة ما إذا كان يحلم الآن أم أنه مستيقظ.
    كان الفيلسوف الصينيّ ينظر إلى الموت باعتباره عملية تحوّل طبيعية يجب قبولها، حيث يتخلّى الشخص عن شكل من أشكال الوجود ليأخذ شكلا آخر. كما كان يرى أن الموت قد يكون في الواقع أفضل من الحياة. يقول: كيف أعرف أن حبّ الحياة ليس وهما، وكيف أعرف أنني في كرهي للموت لست مثل الرجل الذي ترك منزله في شبابه ثم نسي طريق العودة؟".
    ثم يقول: إن من يحلم بشرب الخمر قد يبكي عندما يأتي الصباح. ومن يحلم بالبكاء قد يذهب للصيد صباحا. وبينما هو يحلم فإنه لا يعرف أنه حلم، بل قد يحاول في حلمه تفسير الحلم! ولن يعرف إلا بعد أن يستيقظ أنه كان حلما. ويوما ما ستكون هناك صحوة عظيمة عندما نعرف أن كلّ هذا حلم. ومع ذلك فإن الأغبياء يعتقدون أنهم مستيقظون ويفترضون بحماس أنهم يفهمون الأشياء. عندما أقول إنك تحلم، فأنا أحلم أيضا. ستوصف كلماتي بالاحتيال الخادع. لكن بعد عشرة آلاف جيل، قد يظهر حكيم يعرف معناها".
    لقد استيقظ "تشوانغ تسي" من عالم الأحلام، حيث تحوّلَ إلى فراشة رقيقة تحلّق بحريّة عبر سماء الليل. ثم قال لنا إن عالم الأحلام والواقع مترابطان وكلّ منهما يعكس الآخر إلى ما لا نهاية. فهل نحن مثله مجرّد حالمين في سراب كونيّ عظيم؟!

    Credits
    philosophynow.org