:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، يوليو 05، 2025

خواطر في الأدب والفن


  • الحسّ المعماري هو أحد الحواسّ العديدة التي أضاعها الرسّامون المعاصرون. الفنّانون القدماء انشغلوا كثيرا بالطريقة التي رافقت بها الإنشاءات المعمارية الشكل البشري وأولوا الاهتمام نفسه لأحداث الحياة وللدراما التاريخية، مطبّقين قوانين المنظور وغيره بإتقان.
    يعود إدراج الحسّ المعماري في المظاهر الفكرية البشرية إلى قرون خلت. فقد كان لدى الإغريق عشق كبير للعمارة وترتيب المواقع المخصّصة لاجتماعات الشعراء والفلاسفة والخطباء والمحاربين والسياسيين، أي أولئك الذين تفوق قدراتهم الفكرية قدرات عامّة الناس. وكانوا مولعين بالأروقة، حيث يمكن للمرء أن يتجوّل أثناء النقاشات الفكرية والفلسفية، محميّا من المطر وأشعّة الشمس القويّة، وفي الوقت نفسه يستمتع بمنظر الخطوط المتناغمة للجبال والتلال المنحدرة إلى البحر.
    في لوحات الإيطالي جيوتو، يصل المعنى المعماري إلى مناطق ميتافيزيقية عالية. فجميع الأبواب والأقواس والنوافذ المفتوحة، والتي تصاحب شخوصه، تسمح للمرء بالشعور بالغموض الكوني. ومربّع السماء المحدّد بخطوط النافذة هو دراما ثانية تضاف إلى دراما الأشخاص المصوَّرين. وفي الواقع، يتبادر إلى الذهن أكثر من سؤال محيّر عندما تصادف العين تلك الأسطح الزرقاء أو الخضراء المغلقة بخطوط هندسية من الحجر: ماذا يكمن هناك في الخلف؟ هل هذه السماء ممتدّة فوق بحر خالٍ أم مدينة مزدحمة، أم فوق مساحات طبيعية حرّة وعظيمة ومضطربة، من جبال مشجّرة ووديان مظلمة وسهول وأنهار؟
    ومناظير المباني ترتفع مليئةً بالغموض والتنبّؤات وتخفي الزوايا أسرارا، ولا يعود العمل الفنّي حلقة جافّة تقتصر على أفعال الشخصيّات الممثّلة، بل هو الدراما الكونية والحيوية بأكملها التي تغلّف البشرية وتجذبها إلى دوّاماتها، حيث يختلط الماضي بالمستقبل وتُقدّس ألغاز الوجود.
    من بين الرسّامين الفرنسيين، كان لدى نيكولا پوسان وكلود لورين أعمق حسّ معماري. وهذا الإحساس لدى بوسان راسخ لدرجة أن أبسط مناظره الطبيعية تجسّد روحه البنّاءة القويّة، إذ تتمدّد الأشجار والنباتات والتلال والآفاق وتتراكب وتدعم وتكمّل بعضها البعض وتندمج مع الهواء المحيط. وينطبق الأمر نفسه على أجزاء مختلفة من المبنى المرسوم، تتناغم وتتحدّ لتشكّل صرحا عظيما تحدّده وتكمله الشوارع والساحات المحيطة.
    وفي بعض لوحاته، مثل "اختطاف نساء سابين"، يبلغ بوسان أعلى درجات التوازن والقوّة المعمارية. في هذا التوليف العبقري، تشبه الأشكال التماثيل، وتبدو وكأنها متشبّثة بمكعّبات حجرية لتدعم الزوايا. وعندما لا يُبرِز پوسان التمثيل المعماريّ في لوحاته، كما هو الحال في مناظر متحف برادو الطبيعية في مدريد، فإن الأشجار هي التي تتّخذ شكل المباني والسقالات والإطار التشريحي، حيث تذكّر الجذوع والفروع، عند دراستها كأجساد بشرية، ببعض المنحوتات القديمة ذات الأطراف العضلية المثالية.
    وفي لوحات كلود لورين للموانئ البحرية "مثل التي فوق"، تتجلّى روعة القصور الكلاسيكية التي تعلوها تماثيل في مواقف مدروسة: ملهمات ملفوفات بستائر محتشمة، محاربون متعبون متّكئون على أعمدة، ينظرون بأعينهم الحجرية نحو البحر البعيد، حيث السفن المحمّلة بالأسلحة والبضائع والفواكه الناضجة في طريقها للإبحار نحو ملاذات آمنة. وأبعد من ذلك توجد أبراج قاتمة وسجون وحصون وأماكن معاناة وكآبة.
    كان لورين يحبّ الموانئ البحرية، وقد صوّر هندستها المعمارية بطريقة غنائية مؤثّرة. وكان ترتيبه للعناصر عبقريّا في كثير من الأحيان: صفّ من الأعمدة أو جدار عالٍ أو رواق، تخفي وراءها عناصر من الحياة والطبيعة، توحي بها الصواري الطويلة والأشرعة المنتفخة أو المتدلّية في الخلفية. وعلى الجانب الآخر، يجد المرء آفاقا بعيدة وأراضي صحراوية أو مأهولة تثير في الناظر رعشة مبهجة من الدهشة والفضول، وهما أصدق دليلين على وجود عمل فنّي حقيقي.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • على الرغم من أن اسم هذه اللوحة لرينيه ماغريت هو "التلسكوب"، إلا أنه لا وجود لهذه الآلة في الصورة. وبدلا من ذلك، رسم الفنّان نافذتين زجاجيّتين تعكسان السماء الزرقاء، مع سحب بيضاء في الخارج. النافذة الى اليمين مفتوحة جزئيّا وتكشف عن الليل خارجها، مع أن الناظر يتوقّع استمرار السماء الزرقاء بدلا من البقعة المظلمة.
    يشير توماس جيرني الى أن لغز التلسكوب المفقود يحفّز المتلقّي على الدخول في جلسة عصف ذهني لمحاولة فهم الرسالة المفكّكة في الصورة. وإدراك عدم جدوى التلسكوب في الصورة يلقي صدى قويّا، فالعالم خارج النافذة مظلم، والتلسكوب يساعد الناس على التركيز على الأجسام البعيدة في الفضاء. ويبدو أن ماغريت يشكّك في الأساس المنطقي وراء الحاجة إلى هذه الآلة، لأن الأجسام في الفضاء لا تبدو ذات فائدة تُذكر. الانعكاس على النافذتين وهم، والحقيقة مظلمة للغاية.
    ثم يذكر الكاتب أن ماغريت يَسخر أيضا من فضول الإنسان الشديد تجاه الطبيعة ومن رغباته البدائية. فقد اخترع تلسكوباً لإشباع فضوله تجاه الفضاء الخارجي، ليكتشف أن كلّ ذلك عبث. وما تراه العين ليس إلا وهماً، أما الفضاء فيلس مهمّا لوجود الإنسان. وما يجب أن يدركه الناس هو أن العديد من الاختراعات الحديثة ليست ضرورية، لأنه لا يوجد شيء يتجاوز وجود الإنسان نفسه.
    لوحة "التلسكوب" هي واحدة من الصور العديدة التي تعكس موقف ماغريت الساخر من الاختراعات ومن أسلوب الحياة الحديثة. فالعديد من الرغبات التي يتوق الإنسان الى تحقيقها ليست لها أهمية تُذكر.
  • ❉ ❉ ❉

  • يقول اليابانيون: كلّ الشرور تأتي من الشمال الشرقي". وكان هنري ثورو يمشي عادةً باتجاه الجنوب الغربي ويقول: شرقا لا أذهب إلا بالقوّة، أما غربا فأذهب من تلقاء نفسي". وأبواب خِيام التتّار، كما لاحظ ماركو بولو، تواجه الجنوب. والرحلات الآيرلندية الأسطورية كانت باتجاه الغرب. وفي فكر العديد من الأعراق، السحر من الشمال. وفي الأساطير الإسكنديناڤية، يكون طريق الجحيم دائما نحو الأسفل والشمال.
    كانت لمدن يوكاتان القديمة بوّابات تشير إلى كلّ نقطة من الاتجاهات الأساسية. وكانت جميع اتجاهات العالم ذات دلالة لدى الأزتيك، فالشمال يرمز إلى الفراغ والشرق إلى العقم والغرب إلى الخصوبة والجنوب إلى الحظّ السعيد. وفي رموز هنود الناڤاهو، يرمز اللون الأبيض، لون الفجر، إلى الشرق، والأزرق، أي لون السماء، للجنوب، والأصفر، لون غروب الشمس، للغرب، والأسود، لون ستارة الليل، للشمال. أما هنود بويبلو فنسبوا الشمال إلى الهواء، والغرب إلى الماء، والجنوب إلى النار، والشرق إلى الأرض وبذور الحياة. وفي الكتابات الصينية القديمة، يوصف رجال الشمال بالشجعان، ورجال الجنوب بالحكماء، ورجال الشرق باللطفاء والودودين، ورجال الغرب بالمستقيمين والصادقين.
    وهكذا، وبموجب قانون بدائيّ للعقل، يكمن الوهم في كلّ ركن من أركان السماء. وهو أعمق ما يكون في مسار الشمس. من الشرق إلى الغرب يسير الرحّالة العظماء، هرقل ويوليسيس وغيرهما، وتزداد الأساطير الشمسية كثافةً على طول طريقهم عبر الأراضي الأسطورية. ويهيمن الشرق والغرب على أفكار البشر بمَشاهدهما الأبدية لشروق الشمس وغروبها. ومهما علّمتهم التجارة أو الجغرافيا أو التاريخ السياسي، فإن الشرق لا يزال منطقة ضوء الشمس الصباحي والغرب ظِلّ المساء. ومع أن خطواتهم تتّجه غربا، إلا أن أفكار البشر تنجرف شرقا. ومع أن الشرق يعاني من الجوع والفقر، وملايينه الخاضعة تبدو قليلة الأهميّة، إلا أنه لا يزال الشرق البهيّ و"المكان الذي يرقص فيه الفجر".
    وخلف ستائر الغرب تكمن عوالم الراحة. فإذا كان شروق الشمس ألهم الصلوات الأولى ودعا إلى أوّل لهب للقرابين، فإن غروب الشمس كان الوقت الآخر الذي يرتجف فيه جسد الإنسان بأكمله مرّة أخرى. ربّما، عندما ينام، قد لا تشرق شمسه مرّة أخرى، وبالتالي فإن المكان الذي تنسحب إليه الشمس الغاربة في أقصى الغرب يشرق أمام ذهنه كمكان يلجأ إليه هو نفسه بعد الموت.

  • Credits
    magritte.com
    claudelorrain.org
    en.artbooksonline.eu

    الخميس، يوليو 03، 2025

    قراءات


  • على الرغم من تفكيري العلمي والتحليلي، إلا أنني أميل أحيانا إلى الروحانيات والمعجزات. مثلا، تعجبني مناظر المسطّحات المائية الشاسعة، وأشعر بجسدي يشتعل رهبةً عندما أواجه سلاسل الجبال، وأجثو على ركبتي لأصلّي في مواجهة بركان نشط. العلم لا يستطيع وصف أعاجيب الدنيا، لأنه يفتقر إلى اللغة اللازمة ويتحدّث بالمنطق والعقل، لا بلغة الروح. والعلم لا يستطيع إثبات سبب شعورنا بالامتنان عند رؤية مسطّح مائي لا ضفاف له. والعلم يعمل على تفسير الأرض وعملياتها ودوراتها وتغيّراتها ويروي قصّة واحدة عن كلّ شيء. لكن تفسير كيفية حدوث شيء ما يختلف عن شرح علّة وجوده. العلم يشرح الأرض، لكنه لم يخلقها، وهذا هو الغموض الذي تنبثق منه الروحانية والدين.
    في المأتم، أفكّر في الجثمان المتواري في النعش. كم يبدو هادئا وهو مغلّف بخشب البلّوط. نبذل جهدا كبيرا لنجعل الموتى يبدون مسالمين. أعتقد أنهم كذلك من نواحٍ عديدة. نحن - المضطربين – من نُترك لمواجهة فنائنا. ورغم ذلك أخشى الموت، لكنّي أستمتع ببعض متع الحياة الدينية. لديّ مثلا نوع من الإيمان؛ إيمان بأن الأرض لن تنهار تحت قدمي، وبأن الكون سيستمرّ من دوني، وأجد العزاء في معرفة أين ستكون حياتي الأخرى.
    عندما نرحل، سيبقى على الأرض الكثير، كالكائنات الحيّة، والكائنات التي نعتبرها عصيّة على الموت كالصخور والماء والتربة والموادّ العضوية المتحلّلة. كانت الخنافس موجودة منذ أكثر من 300 مليون عام، ونجت من أكثر من انقراض جماعي. وستكون هنا في عامها المليوني الـ 300 حتى لو لم نكن نحن موجودين.
    عندما انقرضت الديناصورات، اختفى ما يقرب من 75 في المائة من الحياة على الأرض. ونحن نهتم بهذا الانقراض لأننا نهتمّ بالديناصورات. وأيّ طريقة للموت أفضل من الفناء بفعل جسم فضائي مندفع! إننا نحزن على الديناصورات، بحجمها المذهل ومشيتها المحبّبة، لكنّنا نفضّل موتها أيضا. فانقراضها هو ما مهّد الطريق لنا ولدببتنا وثعالبنا وخيولنا وقططنا الحبيبة للظهور. نعلم عن ذلك الانقراض ونفترض أنه كان الأعظم، ولكنه كان انقراضا جماعيا معتدلا نسبيّا من حيث الأنواع المفقودة.
    النباتات الأرضية قابلة للتكيّف ومتنوّعة بشكل ملحوظ وستظلّ هنا. ولن تذوب الصخور التي نجت من مليارات السنين تحت حرارة الاحتباس الحراري العالمي. قد تموت العديد من الأشياء التي نحبّها، لكن الأرض نفسها لن تموت. صحيح أننا نجعل الأرض غير صالحة للسكن لأنفسنا وللمخلوقات التي تعيش مثلنا، لكننا لا نجعل الأرض غير صالحة للسكن لنفسها.
    أجلس الآن على صخور عمرها مليار عام. نطاق الزمن الجيولوجي يمحو أيّ شعور بأهميّة الذات. أشعر بالتواضع أمام الصخور بقدر ما أشعر بأنني ارتفع بها. هنا أجد السلام والراحة وسط الخطر وأتعلّم أن أرى ما سيبقى، لا فقط ما سيضيع. هنا تريني الأرض كيف تنتصر، لأني أعلم أن هذا المكان لم يكن دائما هكذا. كانت هذه المياه جليدا، وهذا الحصى تآكلَ بمرور الوقت، وبعض الحيوانات التي كانت تتجوّل هنا لم يعد لها وجود.
    كلّ شيء من حولي موجود في لحظته الخاصّة، لوقته الخاص. وكلّ شيء سيتغيّر لا محالة. وبعض الأشياء ستتغيّر بأسرع ممّا نرغب. لكن الآن، أستمتع بهذا المشهد وأجد فيه العزاء. أترك نفسي متمسّكة بوعد أن بعض الأشياء ستنجو وأن هذه الأرض، مهما أبعدناها عن مدارها، ستعود دائما إلى توازنها واستقرارها. جوليا رودلف
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في المشي لن تقابل نفسك، تهرب من فكرة الهويّة ذاتها، من إغراء أن تكون شخصا وأن يكون لك اسم وتاريخ. حرّية المشي تكمن في عدم كونك أحدا، فالجسد السائر لا تاريخ له، إنه مجرّد دوّامة في مجرى حياة سحيقة. وأنت تمشي، لا تسمع إلا صوت طقطقة الحجارة تحت قدميك. صمت غامض، معدني ومحطّم. صمت لا يلين، حاسم كموت شفّاف.
    تتقدّم وعيناك منخفضتان، تُطمئن نفسك أحيانا بهمهمة صامتة. سماء زرقاء صافية ومنفصلة تماما، ألواح من الحجر الجيري مفعمة بالحضور: صمت مكتمل لا يمكن لأحد تجاوزه، جمود نابض بالحياة ومتوتّر كقوس. للرحلات الطويلة في الخريف، عليك أن تبدأ مبكّرا جدّا في صمت الصباح الباكر. في الخارج، كلّ شيء بنفسجي، الضوء الخافت يتسلّل عبر أوراق حمراء وذهبية. إنه صمت منتظَر. تمشي بهدوء بين أشجار داكنة ضخمة لا تزال مغطّاة بآثار ليل أزرق. تكاد تخشى الاستيقاظ. كلّ شيء يهمس بهدوء.
    المرء لا يكون وحيدا تماما عندما يمشي، كما كتب هنري ثورو. "أجد في المنزل الرفيق الحميم، خاصّة في الصباح حين لا يناديني أحد". إن الانغماس في الطبيعة مشتّت للانتباه دائما. كلّ شيء يخاطبك، يحييك ويلفت انتباهك: الأشجار، الأزهار وألوان الطرق. تنهدّ الريح، أزيز الحشرات، خرير الجداول، وقع أقدامك على الأرض، همسة خافتة تستجيب لوجودك.
    المطر أيضا. مطر خفيف وناعم يرافقك باستمرار، همسة تُنصت إليها بنغماتها وثوراتها وتوقّفاتها: صوت قطرات المطر المميّز وهو يتناثر على الحجر، ونسيج طويل منغّم للأوراق المطرية وهي تتساقط بثبات. من المستحيل أن تكون وحيدا وأنت تمشي مع كلّ هذه الأشياء التي تحيط بك وتُمنح لك من خلال إدراكك العميق للتأمّل.
    في تاريخ المشي، يُعتبر "ووردزوورث" المبتكر الحقيقي للرحلة الاستكشافية الطويلة. كان أوّل من اعتبر المشي فعلاً شِعريا وتواصُلاً مع الطبيعة واكتمالا للجسد وتأمّلا في المناظر الطبيعية. حدث هذا في نهاية القرن الثامن عشر، عندما كان المشي حكرا على الفقراء والمشرّدين وقطّاع الطرق والباعة المتجوّلين. كريستوفر مورلي وصف "ووردزوورث" بأنه كان "من أوائل من استخدموا سيقانهم في خدمة الفلسفة". فريدريك غروس
  • ❉ ❉ ❉

  • أخبرتُ معلّمي أن القدماء انتظروا طويلا ليختاروا للون الأزرق هذا الاسم. في العالم كلّه، كان الأسود والأبيض والأحمر دائما في المقدّمة. ولم يكن الأزرق "لون اللازورد" مصطلحا مجرّدا، بل إشارة إلى صخرة معروقة بالذهب جُلبت عبر طرق التجارة من أفغانستان. والأحجار التي استخدمناها في المعمل كانت هديّة من ابنة رجل أغلق منجم اللازورد الخاصّ به في ذلك البلد لئلا يسمح للمتشدّدين بالاستيلاء على كنزه.
    وبينما أستقلُّ القطار عائدة إلى المنزل، يهبط اللون الأزرق عبر السماء، وهو ما يزال ذهبيّا في الأفق الغربي، بينما يزحف رماد اللازورد شرقا. يُبهجني دائما تماسك الشجيرات المتشبّثة بمنحدرات الصبغة النقيّة. يلمع نبات من جانب الطريق بلون أصفر فاقع، بينما تتدلّى ثماره في عناقيد داكنة كالنبيذ.
    وأينما نظرت، أرى اللون الأزرق: مقاعد القطار، ملابس وفساتين نسائية، جدران شقق جديدة، حاوية قمامة، أعمدة سقالات، حافلات زرقاء. في قلبي، ينام اللون الأزرق كوعد بسماء ليلية رائعة فوق العالم؛ سماء لم تمزّقها غارات القصف ولم تخدشها الطائرات بلا طيّار. أطحن الصبغة الرطبة الغائمة في الهاون، فأغسلها من التراب. نادرا ما أجدُ نقاءً إلا في الأصباغ. وأضع هذا اللون الأزرق الغامض على أرض حمراء وذهب صدَفي، إذ ليس مُقدّرا له أن يبقى وحيدا.
    الأصباغ كالبشر، خُلقت من الأرض لتتآلف وتعبّر عن المعنى وتتضافر، فتتألّق. ونحن كبشر مكمّلون لبعضنا البعض، متماثلون ومتناغمون. نحن جزء من الصورة الأكبر. كارول موريس
  • ❉ ❉ ❉

  • هناك في العالم ما يمكن تسميته بـ "الأقليّات الوسيطة Middleman minorities". وتشمل هذه الأقليات مكوّنات مثل اليهود في الغرب، والصينيين في ماليزيا وإندونيسيا ودول جنوب شرق آسيا الأخرى، واللبنانيين والهنود في أفريقيا. وتشترك جميع هذه الأقليّات في سمات معيّنة، فهم عادةً أكثر ثراءً من السكّان الأصليين، كما أنهم عشائريون ومنعزلون، ويحافظون على ثقافة منفصلة عن السكّان الأصليين. كما أنهم يحافظون على العلاقة مع بلدانهم الأصلية ويبنون شبكات تجارية ومالية دولية مع أبناء عرقهم. ومن السمات الأخرى أيضا أنهم غالبا ما يشاركون في إقراض الأموال ويحتكرون قطاعات كاملة من الاقتصاد.
    وقد كانت الأقليات الوسيطة دائما محلّ استياء من جانب السكّان الأصليين، الذين يحسدونهم على ثروتهم ونجاحهم وقوّتهم، ويكرهون وجودهم العشائري المنفصل. وغالبا فإن التحيّز والحسد هما من العوامل التي تجعل السكّان الأصليين يكرهون الأقليات الوسيطة. فمثلا، يتحمّل الصينيون في ماليزيا مسئولية تطوير قطاعات مختلفة من الاقتصاد الماليزي، ولولا وجودهم لكانت هذه القطاعات أقلّ تطورا بكثير، وربّما معدومة. وفي اغلب الحالات، هذه الأقليّات هي التي تصنع الثروة التي تتمتّع بها ولا تستغلّ السكّان الأصليين ولا تسرق ثرواتهم. توماس سويل

  • Credits
    tsowell2.com

    الثلاثاء، يوليو 01، 2025

    كونستابل: ألف لون أخضر


    لو عاد الرسّام الإنغليزي جون كونستابل (1776-1837) الى الحياة اليوم فسيشعر بالدهشة والسعادة إزاء كلّ هذا الضجيج المثار حول لوحاته. فقد أمضى عمره محبَطاً من جمهور لم يكن يبدي أيّ اهتمام بأعماله ومن نقّاد كانوا يُمعنون في الحطّ من شأنه. لذا لم يبع سوى عدد قليل من صوره في حياته.
    كان كونستابل ينظر إلى نفسه باعتباره فنّانا يرسم ما يثير اهتمامه، وليس ما يريده الجمهور. وكان يشكو بمرارة من الثناء السهل الذي يحظى به فنّانون أقلّ منه موهبة. ومن المؤكّد أنه كان يتوقّع أن يحتلّ مكانة ما في تاريخ الفن، ولكن لم يكن يخطر بباله قط أن تصبح أعماله بعد موته مشهورةً على نطاق واسع إلى الحدّ الذي يجعل الناس يتهافتون على رؤية الأمكنة التي رسمها.
    اشتهر كونستابل بمناظره الطبيعية المتلألئة ذات الألوان الغنيّة لريف سوفولك بالقرب من منزل طفولته. وبينما صوّر معظم معاصريه مناظر طبيعية مثالية مع سرديات تاريخية أو أسطورية، فضّل هو أن يرسم مشاهد أكثر تواضعا للأراضي المزروعة والعمل الزراعي. ويقال إنه استخدم الكثير من الألوان الخضراء لالتقاط تعقيد جمال الطبيعة، من خلال وضع طلاء سميك وبقع ذات ألوان متعدّدة. وقد أعطى الطبيعة في صوره إحساسا بالدراما والعمل البطولي والتأثير السردي.
    ولوحاته للمناظر الطبيعية الإنغليزية مثيرة للمشاعر إلى الحدّ الذي يجعل العديد من زوّار إنغلترا يتمنّون أن يروا بعض صوره عن الطبيعة في مواقعها من خلال نوافذ السيّارة. ومن حسن الحظ، ما يزال بإمكان المرء أن يقف اليوم في بعض الأماكن التي مشى عليها كونستابل قبل حوالي مائتي عام، ليرى على الأقل شيئا ممّا كان يراه. ولوحته الايقونية "عربة القش" هي مثال على هذا. وتُعتبر اللوحة واحدة من أكثر الصور التي أعيد إنتاجها واستنساخها في العالم، حيث أصبح المشهد الذي تصوّره مألوفا من خلال ملايين المطبوعات.
    عندما عرض كونستابل هذه اللوحة في الرويال أكاديمي عام 1821، قوبلت بالتجاهل التام. واحتاج الأمر إلى جامع فنون فرنسي ليرى قوّة الصورة، فاشتراها وعرضها كجزء من معرض صالون باريس في اللوفر عام 1824. وكان الرسّام ديلاكروا والكاتب ستندال من بين الذين أتوا لرؤية اللوحة التي اعتُبرت وقتها خروجا مثيرا عن التقاليد الأكاديمية. ومُنح كونستابل الميدالية الذهبية من قبل ملك فرنسا شارل العاشر تقديرا لعمله.
    كان كونستابل يكره المحافَظة التي يتّسم بها الفنّ البريطاني والتبجيل الذي يحظى به الرسّامون الإيطاليون والفرنسيون. وكان ينفر من الضغوط التي يتعرّض لها هو وبعض زملائه لتقليدهم. كان راغبا في فعل شيء مختلف. فرسم المناظر الطبيعية بمثل تلك النضارة التي تجعلك تشعر برائحة هواء الريف وتشمّ رائحة روث الأنعام في الحقول وتهرع للإمساك بمظلّتك لاتّقاء المطر.
    كان كونستابل يرفض فكرة أن يستخدم الفنّان خياله لتفسير الطبيعة، وسعى بدلا من ذلك إلى تصوير الطبيعة كما يراها هو. وكما رفض معاصره الشاعر ويليام وردزوورث ما أسماه "الأسلوب الشعري" لأسلافه، ابتعد كونستابل عن أسلوب رسّامي المناظر الطبيعية في القرن الثامن عشر. وكان يعتقد أنه "لا يوجد يومان متشابهان ولا حتى ساعتان، وليس هناك ورقتان متشابهتان لشجرة منذ أن خلق الله العالم".
    في "عربة القش"، نرى عربة زراعية تجرّها الخيول، وهو منظر رآه الفنّان كثيرا أثناء وجوده في ممتلكات والده في سوفولك. كانت الطاحونة مملوكة ذات يوم لوالده، وقد جعل المنطقة المحيطة بها موضوعا للعديد من أعماله. و"عربة القش" تُظهر امتدادا ضحلا للنهر، مع كوخ الى اليسار وحقل ذرة مفتوح على مسافة. وإلى اليسار، تظلّل النهر أشجار طويلة، بينما تظهر السماء على اليمين بشكل أوضح مع سحب ركامية.
    والنقطة المحورية في اللوحة هي العربة المفتوحة التي تجرّها الخيول. وهي تبدو فارغة أثناء دفعها عبر النهر لجمع حمولتها التالية من الحصاد الذي يُجمع على الجانب الآخر الذي يظهر عن بعد. وفي الصورة أيضا، يظهر عاملان يجلبان الخيول لتشرب، وامرأة مشغولة خارج الكوخ. ويمكن رؤية رجل بين الشجيرات على الضفّة البعيدة، بينما يتجوّل كلب على الضفّة القريبة متحمّسا لرؤية العربة في النهر.
    الزمن يتوقّف عندما تقف على هذا الشاطئ الصغير المرصوف بالحصى بجانب النهر وتنظر إلى ما رآه كونستابل عندما رسم هذه اللوحة. الكوخ لا يزال موجودا الى اليوم وكذلك الطاحونة. لكن الأشجار لم تعد هناك. أما ضفاف النهر فقد تضخّمت بحيث تحجب المنظر البعيد.
    السحب الكثيفة في سماء الريف تُظهر حجم الإنسان الضئيل في مواجهة الطبيعة. وبالإمكان رؤية ضوء الشمس وهو يلمع على أوراق الشجر، ونكاد نسمع حفيف الأوراق في مهبّ الريح. وهناك العديد من الأيدي الصغيرة التي تعمل في الحقل والتي بالكاد تُرى.
    بطريقة جديدة آنذاك، نقل كونستابل الى الرسم التأثيرات الجوّية لتغيّر الضوء في الهواء الطلق، وحركة السحب عبر السماء، وابتهاجه هو بهذه الظواهر النابعة من حبّ عميق للأرض، مثل صوت الماء المتسرّب من سدود الطواحين وأشجار الصفصاف والألواح الخشبية القديمة والأعمدة اللزجة والطوب. واستخدامه للضوء يشبه التصوير الفوتوغرافي تقريبا، ففي يوم غائم مثل هذا، يُسمح لأشعّة الشمس بتفتيح أجزاء من المنظر الطبيعي أكثر من غيرها.


    سماوات كونستابل تستحقّ الاحتفاء حقّاً. وما تفعله هو أنها تجعلنا ندرك قيمة الأرض التي تحتها. والرسّام لديه إحساس قويّ بسطح الأرض. وقد رفض المناظر الطبيعية التي رسمها لورين وبوسان، كما رفض الطريقة التي يرسمان بها المشهد بحيث يتراجع بشكل أنيق في تسلسل من درجات الألوان.
    وعلى عكس المناظر الطبيعية المتماثلة والكلاسيكية التي رسمها لورين والتي تُعتبر على نطاق واسع ذروة الرسم الطبيعي حتى أيّام كونستابل، صوّر الأخير "عربة القش" كمشهد حقيقي وواقعي ورسم ما رآه وما كان يعرفه جيّدا، لأنه عاش بالقرب من هذا المكان عندما كان صبيّا.
    في القرن السابع عشر، حظيت المناظر الطبيعية بلحظات مجد وجيزة بفضل معلّمي الرسم الهولندي. فقد خصّص رويسديل وڤروم وڤان ايڤردنغن وآخرون لوحات كبيرة لتصوير الأراضي المنخفضة. ولكن حسب التسلسل التفاضلي للموضوعات في ذلك العصر، كانت المناظر الطبيعية أدنى أنواع الرسم تقريبا. ولم يكن يُنظر إلى الطبيعة الصامتة إلا على أنها أقلّ أهمية. وقد تغيّر هذا في العقود الأولى من القرن التاسع عشر عندما بدأ كونستابل في تصوير مزرعة والده.
    كان الجمال الكامل والمثالي، وهو شيء لا يمكن خلقه إلا في عالم أسطوري أو ديني، شائعا في زمن الفنّان. وقد رسم الطبيعة كما هي، وكان عمله بمثابة نسمة هواء نقيّ في عالم فنّي مليء بالمناظر الطبيعية المصطنعة والمبالغ فيها. وكونستابل شديد التجريب وعينه تتحسّس طريقها على طول الأرض. وإذا صادف بقعة من الضوء أو الظلّ فإنه يحاول وضعها حيث يراها. وبهذه الطريقة نصبح على دراية بالأرض التي تدور فوقها السحب. وعندما نتأمّل لوحاته، ندرك أننا جزء من عالم صغير تحت سماء كبيرة جدّا؛ عالم أصغر ممّا كنّا نظن، عالم كونستابل.
    استغرق رسم "عربة القش" حوالي خمسة أشهر. وبعد مرور ما يقرب من 200 عام على رسمها، لا يزال بإمكانك الوقوف في نفس المكان الذي أقام فيه الفنّان حامل الرسم بجانب النهر في فلاتفورد. وإذا مشيت على المسارات المؤدّية إلى وادي ديدام أو نحو البحر، فستجد نفسك في إنغلترا الريفية الأسطورية، فالمسارات متروكة دون عناية، والأغنام تسترخي تحت الأشجار، والفراشات والطيور والثعابين والسحالي تتكاثر وتعيش بسلام.
    هذه اللوحة رعوية بامتياز، وهي خالدة وجذّابة مثل أحد مشاهد تيزيانو الأركادية التي تصوّر الحوريات والرعاة. كما أنها جديرة بأكثر من مجرّد نظرة عابرة، لأن المنظر يستحقّ ذلك. وبالنسبة للمتلقّي المعاصر فإنها توفّر إطلالة على الحياة في الريف الإنغليزي في عصر مضى. هنا لا صخب ولا ضجيج، بحيث يمكن للناظر اليوم أن يعود بالزمن إلى الوراء وينسى نفسه للحظات.
    كان حبّ كونستابل للطبيعة سخيّا ورؤيويا. وقد رأى الشاعر الفنّان ويليام بليك في كونستابل روحا رفيقة. وعندما دُعي الأوّل إلى إلقاء نظرة على دفاتر الرسم الخاصّة بالثاني، أشّر بيده إلى دراسة لشارع من أشجار التنّوب وقال: هذا ليس رسما، هذا إلهام". وردّ كونستابل: لم أكن أعرف ذلك من قبل. رأيت الأشجار فرسمتها".
    بعض مؤرّخي الفنّ يذكرون أن كونستابل كان يستجيب في رسوماته للتحوّلات التي كان الناس يلاحظونها على الريف. فمع نموّ المدن وازدياد مشاكلها، بدأت النخبة الحضرية التي أصبحت غنيّة بفضل الاقتصاد الصناعي، تنظر إلى الريف، ليس باعتباره مكانا بائسا وفقيرا يدفع الآلاف من الناس للفرار منه بحثا عن مستقبل غير مؤكّد في المدينة، بل باعتباره رؤية مثالية.
    لذا تحوّلت المناظر الطبيعية الريفية إلى جنّة مفقودة؛ مكان للطفولة، حيث الهواء العليل والماء الوفير، والمساحات المفتوحة، والعمل الشاقّ والصادق في المزارع، ما يخلق مساحة أخلاقية مفتوحة تتناقض بشكل حادّ مع الشرور الملموسة للحياة الحضرية الحديثة. ومن ثم فإن فنّ كونستابل يعبّر عن الأهمية المتزايدة للحياة الريفية، على الأقل من منظور النخب الثريّة التي كانت هذه اللوحات مخصّصة لها.
    وبقاء بقعة الماء التي رسمها جون كونستابل في "عربة القش" عام 1821 على قيد الحياة الى اليوم يُعدّ معجزة صغيرة، فقد نجت من الاندثار بالفعل لأنه أقام لها نصباً تذكاريّاً من خلال لوحته. وباعتباره من محبّي التاريخ الطبيعي والآثار القديمة فقد حوّل لوحاته كلّها إلى أنظمة بيئية، حيث تصبح كلّ ورقة على كلّ شجرة جزءا من الكلّ. وما حقّقه كان عملا من أعمال المحافظة على البيئة. فقد أنقذ المناظر الطبيعية التي رسمها من النسيان بعد أن خلّدها في صوره. ويمكن القول إن "عربة القش" ولوحات كونستابل الأخرى هي احتفال بزمن أجمل وبمكان ثمين وأخلاقي يفتقده سكّان المدن اليوم.

    Credits
    john-constable.org
    nationalgallery.org.uk