:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أبريل 26، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • من الأماكن المهمّة في حياة فنسنت فان غوخ زاوية دوّار مزدحم يُسمّى ساحة لامارتين يقع على الجانب الآخر من البوّابات الرومانية المؤدّية إلى آرل في جنوب فرنسا. وخلف ذلك المكان يجري نهر الرون، الذي رسم فان غوخ انعكاساته المتلألئة في إحدى الليالي التاريخية المرصّعة بالنجوم.
    وإلى الأمام شريط من المحلات التجارية المؤدّية الى حقول أزهار عبّاد الشمس الواسعة التي رسمها فان غوخ مرارا. هذا هو المكان الذي كان يقوم فيه ذات يوم البيت الأصفر لفان غوخ؛ أي المنزل البروفنسالي المشمس الذي كان موضوع لوحة زيتية له من عام 1889، حيث كان يأخذ فترة "راحة قسرية" على حدّ تعبيره. كانت تلك "غرفة نوم" ذات جدران بنفسجية شاحبة رسمها بالألوان الزيتية ثلاث مرّات في ذلك العام.
    المنزل الصغير كان يضمّ عددا من الأساطير، فهو المكان الذي دفع فيه أحد أشهر الفنّانين في العالم أساليب الرسم إلى ذروتها بأعماله المشهورة مثل "شرفة مقهى في الليل" و"عبّاد الشمس" وغيرهما. وكان هذا هو المكان الذي تحوّلت فيه حياة فان غوخ الشخصية إلى قصّة درامية ومأساوية. وهنا خاض فان غوخ معركة عنيفة مع صديقه بول غوغان قام أثناءها بقطع أذنه بشفرة حلاقة قبل أن يؤخذ الى مستشفى الأمراض النفسية.
    والحقيقة أن هناك العديد من معالم الحياة الفنّية لفان غوخ، بدءا من "مونس" مدينة المناجم البلجيكية، حيث طُرد الرسّام البالغ من العمر آنذاك 27 عاما من وظيفته كمبشّر يعمل بين عمّال مناجم الفحم المحليين. وقد قيل إنه سعى الى " تقويض كرامة الكهنوت" باختياره العيش في نفس الظروف المزرية التي يعيشها عمّال المناجم. ثم بدأ الرسم هناك.
    وهناك أيضا مونمارتر في باريس وآرل وسان ريمي في بروفانس. وفي النهاية هناك ضاحية أوفير سور واز الباريسية، حيث أنهي فان غوخ حياته في عامه السابع والثلاثين.
    ومن المدهش أنه بالنظر إلى شهرة فان غوخ وشعبيّته، فإن عددا من المعالم التاريخية التي واكبت حياته لم يحافَظ عليها أو تمّ إهمالها. ومع ذلك، فقد جُدّدت بعض المواقع بشكل رائع، مثل غرفة الرسّام في مصحّ سان ريمي دو بروفانس وغرفته في فندق أوفير سور واز حيث توفّي، وذلك لإحداث تأثير كبير على الزوّار المهتمّين بتاريخ حياة فان غوخ ومن اجل المجتمعات المحليّة التي تستفيد اقتصاديّا من هذا النوع من السياحة الثقافية الناعمة.
    والحقيقة أن هناك قدرا كبيرا من الاهتمام بلوحات فان غوخ في جميع أنحاء العالم. وهناك جمهور كبير يتردّد على المتاحف لرؤية أعماله. لكن بشكل عام، هناك أموال أقلّ لترميم تراث الرسّام والمحافظة عليه، وخاصّة مواقع التراث المحليّ التي يمكن العثور عليها في فرنسا وبلجيكا وهولندا.
    غالبا، في الأماكن التي عاش فيها فان غوخ، يوجد عدد من اللافتات التي تحتوي على صور أو كلمات له مستقاة من رسائله. وفي أماكن أخرى غامضة، كما في سان ريمي دو بروفانس مثلا، هناك لوحة تُظهر "حقل القمح الأخضر مع السرو" على جدار من الجصّ الأبيض لأحد المنازل الخاصّة.


  • "شطح المدينة" اسم رواية صغيرة عن عالم الرؤى والكشوفات. تأخّرت في قراءتها بسبب الظروف، وسرّني انني استطعت أخيرا. المؤلّف، الأديب الراحل جمال الغيطاني، ينقل القارئ إلى مدينة غامضة عمرها آلاف السنين.
    والمناسبة اجتماع لعدد من الأساتذة والزوّار الذين قدموا من أماكن مختلفة من العالم لإحياء احتفال. المدينة ليس لها اسم، متطوّرة وتاريخها ضارب في القدم، لكن الأمن فيها ناقص. نظرات الناس زجاجية وملامحهم متحجّرة وابتساماتهم مصطنعة وعواطفهم باردة.
    ربّما تكون المدينة الغامضة رمزا لغموض العالم. والشخصيات، وكلّها بلا أسماء، هي كناية عن اغتراب وضياع الانسان في هذا العصر وكون البشر مجرّد أرقام، أي بلا فردانية او هويّة.
    أيضا تقول الرواية بوجود عوالم موازية لعالمنا، وساكنوها غالبا هم الفلاسفة والشعراء الموتى، وأن التاريخ ما يزال يتحكّم في الحاضر، وأن ما نراه واقعا قد لا يكون كذلك في كثير من الاحيان.
    هذا الكتاب خفيف والسرد فيه ممتع والكثير من القصص والمعلومات التاريخية المتضمّنة مثيرة للاهتمام. وبإمكانك تجاوز بعض الصفحات دون أن تفقد خيط الأحداث أو يتأثّر استمتاعك بالقراءة.

  • يُحكى في قديم الزمان أنه كان هناك أسد يعيش في غابة مطريّة. وبينما كان نائما في أحد الأيام مرّ فأر صغير بشكل غير متوقّع وتحرّك فوق أنف الأسد على عجل. وأيقظ هذا الأسد الذي وضع كفّه الضخم بغضب على الفأر الصغير ليقتله.
    توسّل الفأر المسكين إلى الأسد أن يعفو عنه تلك المرّة فقط وسوف يردّ له الجميل في يوم من الأيّام. اندهش الأسد لسماعه كلام الفأر وتساءل كيف يمكن لمخلوق صغير كهذا أن يساعده. لكنه كان في مزاج جيّد فترك الفأر يرحل.
    وبعد أيّام قليلة، نصب أحد الصيّادين فخّا للأسد بينما كان يطارد فريسة في الغابة. ووجد الأسد صعوبة شديدة في تحرير نفسه من شبكة الصيّاد، فأخذ يزأر بصوت عالٍ ومتوجّع.
    وبينما كان الفأر يمرّ من تلك الناحية، سمع زئير الأسد فاتجه اليه ووجده يكافح بشدّة لتحرير نفسه من الفخّ. وبسرعة قضم الشبكة بأسنانه الحادّة حتى تمزّقت. وشيئا فشيئا أحدث فجوة كبيرة فيها، وسرعان ما تمكّن الأسد من تحرير نفسه من الفخّ.
    شكر الأسد الفأر الصغير على صنيعه، فذكّره الفأر بأنه إنما يردّ معروف الأسد عندما أنقذ حياته من قبل. وبعد ذلك، أصبح الأسد والفأر صديقين حميمين وعاشا بسعادة في الغابة.
    والعبرة المستفادة من هذه القصّة هي أن الرحمة تجني مكافأتها في الوقت المناسب، بغضّ النظر عن حجم ونوع المساعدة التي نقدّمها للآخرين. وكما قال الشاعر القديم: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه".

  • Credits
    vangoghmuseum.nl/en

    الاثنين، أبريل 22، 2024

    رحلة في غابة العقل


    من أفضل الأفلام السينمائية التي تستحقّ المشاهدة فيلم راشومون "1950" للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا (1910-1998). كان كوروساوا أحد أكثر المخرجين تأثيرا في تاريخ السينما وقدّم مساهمات كبيرة في تطوير السينما اليابانية والعالمية. ويمكن رؤية تأثيره في أعمال مخرجين كبار مثل سكورسيزي ولوكاس وكوبولا وغيرهم.
    امتدّت مسيرة كوروساوا المهنية لأكثر من خمسة عقود، أخرج خلالها وشارك في كتابة العديد من الأفلام الناجحة والتي نالت استحسان النقّاد والجمهور ونال عليها العديد من الجوائز المرموقة في المهرجانات السينمائية الدولية. وكان معروفا بقدرته على مزج عناصر القصص اليابانية التقليدية مع التقنيات الغربية، ما أدّى إلى ظهور أسلوب سينمائيّ فريد وقويّ ارتبط باسمه.
    "راشومون" يُعتبر بإجماع النقّاد من روائع السينما اليابانية والعالمية. وكان له تأثير كبير على تقنيات السرد القصصي والبنية السردية في السينما. عنوان الفيلم "راشومون" يشير إلى بوّابة في كيوتو باليابان، حيث تجري محاكمة ويقدّم الشهود رواياتهم المختلفة عن جريمة قتل.
    ومن خلال البناء السرديّ المبتكر، يثير الفيلم أسئلة فلسفية وسيكولوجية عميقة حول طبيعة الحقيقة والذاكرة وعدم موثوقية الإدراك وتعقيدات السلوك البشري. كما يتحدّى فكرة الواقع الموضوعي ويؤكّد على الطبيعة الذاتية والفردية لسرد القصص.
    تدور أحداث الفيلم في اليابان الإقطاعية، وتبدأ بالعثور على محارب ساموراي ميّتاً في بستان للخيزران. ثم يروي الشهود الأربعة على الجريمة إفاداتهم عمّا رأوه واحدا بعد الآخر. وبينما يسرد كلّ منهم قصّته المتعارضة مع قصص الآخرين، يتضح أن كلّ شهادة تبدو معقولة مع أنها مختلفة.
    وكوروساوا يستخدم الفيلم لإعطاء وزن متساوٍ لشهادة كلّ شخص، ويحوّل كلّ شاهد إلى راوٍ غير موثوق، من دون أيّ تلميحات حول من منهم يعطي الرواية الأكثر دقّة، وبذا لا يستطيع الجمهور معرفة الشخص الموثوق بشهادته ويُترك المتفرّج متشكّكا في قناعاته حول من أنهى حياة الساموراي.
    والبعض قد يجد هذا محبطاً لأن الفيلم يقلب التوقّعات ويرفض تقديم إجابة قاطعة أو مؤكّدة عمّا حدث. كما تفترض حبكة الفيلم ضمناً أنه عندما نتذكّر حدثا ما فإن تفسيرنا له يتأثّر بتجاربنا السابقة وتحيّزاتنا الداخلية.
    لكن أهمّ الأسئلة التي يثيرها "راشومون" هي: ما الحقيقة أصلا؟ وهل هناك حالات لا توجد فيها "حقيقة موضوعية"؟ وماذا يمكن أن تخبرنا إيّاه الروايات المختلفة لنفس الحدث؟ وكيف يمكننا اتخاذ قرارات جماعية عندما نعمل معا؟ هذه الأسئلة ليس لها إجابات محدّدة. وربّما تكون الفكرة الدائمة التي يطرحها الفيلم هي أن ترك مساحة للغموض تُعدّ قيمة مهمّة في حدّ ذاتها.
    بالإضافة إلى تجربته السردية المبتكرة، يتميّز "راشومون" أيضا بجمالياته البصرية المبهرة، إذ يساهم استخدام كوروساوا للضوء الطبيعي وحركات الكاميرا الديناميكية في إضفاء طابع دراميّ مكثّف على الأحداث.


    المعروف أن أثر هذا الفيلم قد امتدّ إلى ما هو أبعد من السينما، فاستُخدمت أداته السردية، أي تقديم وجهات نظر متعدّدة ومتباينة عن حدث ما، في الأدب والمسرح. ثم ما لبث أن ظهر مصطلح "تأثير راشومون"، الذي يصف ظاهرة التفسيرات المتناقضة لنفس الحدث وعدم موثوقية شهود العيان وقصور فهمنا للحقيقة والعدالة والذاكرة الإنسانية.
    بشكل عام، يمكن اعتبار فيلم راشومون رحلة في غابة العقل لتناوله موضوعات فلسفية عميقة واستكشافه لتعقيدات الطبيعة البشرية. كما يُعتبر عملا أساسيّا في تاريخ السينما، ليس لأنه يقدّم قصّة جذّابة ومثيرة للتفكير فحسب، وإنّما أيضا بسبب تركيبته البصرية المذهلة وسرده القويّ.
    وُلد أكيرا كوروساوا لعائلة من محاربي الساموراي، وكان لديه تقدير عميق للفنّ والثقافة اليابانية منذ شبابه. كما كان ميّالا للأدب والمسرح والفنون البصرية التي شكّلت خلفيّته الفنّية. وعُرف فيما بعد ببراعته في تصوير قصص من الحقبة الإقطاعية من تاريخ اليابان. لكنّه أيضا تعمّق في الموضوعات المعاصرة والحديثة واستكشف القضايا الاجتماعية والطبيعة البشرية وتأثير التحديث السريع على المجتمع الياباني.
    نهج كوروساوا في التعامل مع القضايا الاجتماعية وتأثير التحديث اتّسم بملاحظاته الدقيقة للسلوك البشري وقدرته على نسج روايات معقّدة. ومن خلال التفكير في المشهد الاجتماعي والثقافي المتغيّر في اليابان، التقط المعضلات والتوتّرات التي يواجهها الأفراد والمجتمع ككلّ خلال فترات التحوّل والتحديث.
    وكانت إحدى نقاط قوّة هذا المُخرج هي قدرته على خلق شخصيات غنيّة يمكن التماهي معها وتمثّل كفاح المواطنين العاديين. وكثيرا ما شَكّكت أفلامه في القيم التقليدية والأعراف المجتمعية لليابان. مثلا في فيلم "الساموراي السبعة"، تدور القصّة المحورية حول مجموعة من محاربي الساموراي الذين عُيّنوا لحماية قرية من خطر قطّاع الطرق. ويثير الفيلم تساؤلات حول أهمية ميثاق الشرف التقليدي الخاصّ بهؤلاء المحاربين.
    كما صوّر كوروساوا آثار الحرب العالمية الثانية والتحدّيات التي واجهها الشعب الياباني في فترة ما بعد الحرب. كانت اليابان وقتها مجتمعا منقسما على نفسه وفي حال من الفوضى وشيوع الفقر والجريمة وفقدان القيم التقليدية، بعد أن تركت آثار الحرب البلاد مدمّرة اجتماعيا واقتصاديا. وفي فيلم "عالي ومنخفض" يستكشف كوروساوا التناقض الصارخ بين الأثرياء والفقراء من خلال قضية اختطاف، ليعكس الفوارق الاجتماعية والاقتصادية في ذلك الوقت.
    وفي فيلم "إيكيرو"، يكتشف البطل، وهو شخص بيروقراطي، أنه مصاب بمرض عضال، ويتنقّل في النظام البيروقراطي، بينما يحاول العثور على هدف لحياته في سنوات عمره المتبقية. ويصوّر الفيلم الفوارق بين الطبقات الاجتماعية وتأثيرات عدم المساواة، بالإضافة الى التحدّيات التي يواجهها الأفراد المهمّشون في مجتمع ما بعد الحرب.
    وفي فيلم "عرش الدم" المقتبس من مسرحية "ماكبث"، ينقل كوروساوا مأساة شكسبير إلى اليابان الإقطاعية، مستكشفا التأثير المُفسد للسلطة والطموح في بيئة الساموراي التقليدية والصراعات بين القيم التقليدية والحديثة.
    ممّا يجدر ذكره أن فيلم "راشومون" تلقّى إشادة من النقّاد في اليابان وفي العالم، وفاز بجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي عام 1951. كما مهّد نجاح الفيلم الطريق لأعمال كوروساوا والسينما اليابانية ككلّ للحصول على التقدير العالمي.


    Credits
    akirakurosawa.info

    الجمعة، أبريل 19، 2024

    ماليفتش والتفوّقية


    في 19 ديسمبر 1915، افتُتح معرض للأعمال الفنّية الراديكالية في سانت بطرسبرغ في روسيا. وقد تجاوزت العديد من القطع المعروضة حدود الشكل والأسلوب. لكن إحداها كانت مثيرة للجدل بشكل خاص.
    كانت اللوحة معلّقة في زاوية الصالة، في مساحة كانت تُخصّص عادةً للأيقونات الدينية. وكان اسمها "المربّع الأسود" لكازيمير ماليفيتش. أحد الحضور سخر من بساطة اللوحة مدّعيا أنه "حتى الطفل يمكن أن يرسم مثلها!"
    وذهب آخر إلى أبعد من ذلك، فكتب يقول ان "المربّع الأسود" من شأنه أن "يقودنا جميعا إلى هلاكنا!". بساطة اللوحة الظاهرية تثير الحنق والارتباك. لكن نظرة فاحصة تكشف أن عمل ماليفيتش ليس فقط أكثر تعقيدا ممّا يبدو للوهلة الأولى، بل قد لا يكون حتى لوحة لمربّع أسود على الإطلاق.
    وعلى الرغم من اسمها، ستجد أن الشكل المركزي للوحة ليس أسود ولا مربّعا تماما. وأضلاعه ليست متوازية أو متساوية في الطول، كما أن الشكل لا يتموضعُ تماما على القماش.
    وبدلاً من ذلك، وضع ماليفيتش النموذج بعيدا عن التوازن قليلا، ما يعطيه مظهرا حركيّا. كما أن اللون الأبيض المحيط به يمنحه نوعية حيّة ومهتزّة. وقد كشف التحليل الفنّي أن ماليفيتش كان قد استخدم القماش قبل ذلك للوحتين أخريين.
    ولو نظرت الى اللوحة اليوم، ستلاحظ وجود تشقّقات كثيفة في الطلاء نتيجة للتقادم وعوامل الجفاف. وهذه التشقّقات تكشف عن أجزاء من اللون الأصفر المغبر والأحمر النابض بالحياة والزمرّدي الباهت. وكلّها تشير إلى المراحل المتعدّدة التي قطعها ماليفيتش قبل أن يصل إلى الشكل النهائي للوحة.
    وتتجلّى عمليّته الإبداعية في ضربات الفرشاة القويّة والمعروضة بفخر وهي تتحرّك في العديد من الاتجاهات. كما لوحظ أن خيوطا من الشَعر، بالإضافة الى بصمات ماليفيتش نفسه، متأصّلة في الطلاء، ما يُضفي ملمسا مجازيّا وحرفيّا إلى العمل.
    من نواحٍ عديدة، يمكن القول إن تاريخ ماليفيتش بأكمله جزء لا يتجزّأ من "المربّع الأسود". والمعروف أنه ولد في أوكرانيا لأبوين يتحدّثان البولندية، وعاش هناك حتى وفّر أخيرا ما يكفي من المال لتغطية تكاليف الرحلة إلى موسكو. وعند وصوله إليها في عام 1904، انهمك في تجريب جميع الأساليب الفنّية الطليعية في المدينة.
    وقد رسم بأسلوب الانطباعيين واستوعب ما بعد الانطباعية ومرّ بمرحلة المستقبلية ثم تأثّر بالتكعيبيين. وبحلول عام 1913، كان على وشك تحقيق اختراق. وكان يدرك أنه حتى أكثر الفنّانين تطوّراً كانوا لا يزالون يرسمون أشياء من الحياة اليومية فقط.


    كان ماليفيتش منجذبا بشكل لا يقاوَم إلى ما أسماه "الصحراء حيث لا شيء حقيقيّ سوى الشعور". وهكذا أصبح الشعور جوهر عمله. وكانت النتيجة "المربّع الأسود" وأسلوبا جديدا أسماه "التفوّقية أو السوبريماتيزم Suprematism"، حيث يصبح الشعور بالوحدة هو الأسمى.
    وسيتحقّق هذا من خلال ما أسماه باللاموضوعية Non-objectivity، وهي خروج متطرّف للغاية عن عالم الأشياء لدرجةِ تَجاوُز التجريد.
    بالنسبة للفنّان التفوّقي، الوسيلة المناسبة هي تلك التي توفّر التعبير الكامل عن الشعور النقيّ وتتجاهل الموضوع المقبول بحكم العادة. فالموضوع في حدّ ذاته لا معنى له بالنسبة للفنّان، وأفكار العقل الواعي لا قيمة لها. كما أن الظواهر المرئيّة للعالم الموضوعي لا يعوّل عليها في حدّ ذاتها؛ الشيء المهم هو الشعور.
    كان ماليفيتش يؤمن بأن التبسيط والتشويه اللذين ميّزا الفنّ التجريدي كانا في النهاية بلا معنى، نظرا لأنهما ما يزالان يركّزان على تصوير أشياء العالم الحقيقي. وبالنسبة له، فقط ما هو غير تمثيليّ أو تجسيديّ تماما هو الجديد حقّا.
    وكان يرى أن الفنّ ليست وظيفته خدمة الدولة والدين أو توضيح تاريخ الأخلاق. كما لا يجب أن يكون له أيّ علاقة بالموضوع في حدّ ذاته. وبرأيه يمكن أن يوجد الفنّ في حدّ ذاته، بدون "أشياء".
    ومن آرائه الأخرى أن كلّ شكل حقيقي هو عالَم مستقل. وأيّ سطح بلاستيكي يعدّ أكثر حيوية من الوجه الذي تحدّق منه عينان وابتسامة. والمربّع ليس شكلاً من أشكال اللاوعي، إنه طفل ملوكي حيّ، وهو الخطوة الأولى للإبداع الخالص في الفنّ.
    وبينما أثار هذا النهج المتطرّف قلق النقّاد، سار ماليفيتش فيه قدما ولم يتراجع. فأمضى العقد التالي في شرح أعماله التفوّقية في مقالات، وعلّم أفكاره لجيل جديد من الفنّانين.
    لكن بعد صعود ستالين إلى السلطة في عشرينيات القرن العشرين، اعتُبرت الأساليب الطليعية، مثل التفوّقية، غير منتجة او مفيدة للدولة الشيوعية. وفي نهاية المطاف، أصبح من الخطر إنتاج أيّ فنّ خارج "الواقعية الاشتراكية"، وهي أسلوب فنّي قسريّ يحتفل بالقادة السوفييت و"العمّال الأبطال".
    في عام 1930، ألقت السلطات السوفيتية القبض على ماليفيتش لنشره "أفكارا تخريبية!" وتحت الضغط الشديد، عاد إلى رسم الاشخاص، فرسم الفلاحين وهم يقفون كالروبوتات في الأماكن الكالحة والمُتربة. لكن حتى هذه اللوحات كانت ما تزال تحتفظ ببصيص من أفكاره السابقة.
    وتدريجيّا، فقد الشخوص في لوحاته أذرعهم ووجوههم، ثم تحلّلوا نهائيّا مع اكتمال سيطرة الميكنة على الريف. وخلال هذا الوقت، رسم ماليفيتش أيضا صورة لنفسه، وبدا أنه قد تخلّى عن التفوّقية تماما. لكن يده المفتوحة في الصورة أخذت شكلاً رباعيا، وفي الزاوية كان هناك مربّع أسود صغير!
    كان هذا رمزا لرجل عانى من الحروب والثورات، لكنّه لم يتوقّف أبدا عن محاولات خلق فنّ جديد؛ ملجأٍ للشعور النقيّ الذي يكمن وراء ثقل الأشياء ومعاناة عالمٍ منقسمٍ على نفسه.


    Credits
    kazimir-malevich.org