لو عاد الرسّام الإنغليزي جون كونستابل (1776-1837) الى الحياة اليوم فسيشعر بالدهشة والسعادة إزاء كلّ هذا الضجيج المثار حول لوحاته. فقد أمضى عمره محبَطاً من جمهور لم يكن يبدي أيّ اهتمام بأعماله ومن نقّاد كانوا يُمعنون في الحطّ من شأنه. لذا لم يبع سوى عدد قليل من صوره في حياته.
كان كونستابل ينظر إلى نفسه باعتباره فنّانا يرسم ما يثير اهتمامه، وليس ما يريده الجمهور. وكان يشكو بمرارة من الثناء السهل الذي يحظى به فنّانون أقلّ منه موهبة. ومن المؤكّد أنه كان يتوقّع أن يحتلّ مكانة ما في تاريخ الفن، ولكن لم يكن يخطر بباله قط أن تصبح أعماله بعد موته مشهورةً على نطاق واسع إلى الحدّ الذي يجعل الناس يتهافتون على رؤية الأمكنة التي رسمها.
اشتهر كونستابل بمناظره الطبيعية المتلألئة ذات الألوان الغنيّة لريف سوفولك بالقرب من منزل طفولته. وبينما صوّر معظم معاصريه مناظر طبيعية مثالية مع سرديات تاريخية أو أسطورية، فضّل هو أن يرسم مشاهد أكثر تواضعا للأراضي المزروعة والعمل الزراعي. ويقال إنه استخدم الكثير من الألوان الخضراء لالتقاط تعقيد جمال الطبيعة، من خلال وضع طلاء سميك وبقع ذات ألوان متعدّدة. وقد أعطى الطبيعة في صوره إحساسا بالدراما والعمل البطولي والتأثير السردي.
ولوحاته للمناظر الطبيعية الإنغليزية مثيرة للمشاعر إلى الحدّ الذي يجعل العديد من زوّار إنغلترا يتمنّون أن يروا بعض صوره عن الطبيعة في مواقعها من خلال نوافذ السيّارة. ومن حسن الحظ، ما يزال بإمكان المرء أن يقف اليوم في بعض الأماكن التي مشى عليها كونستابل قبل حوالي مائتي عام، ليرى على الأقل شيئا ممّا كان يراه. ولوحته الايقونية "عربة القش" هي مثال على هذا. وتُعتبر اللوحة واحدة من أكثر الصور التي أعيد إنتاجها واستنساخها في العالم، حيث أصبح المشهد الذي تصوّره مألوفا من خلال ملايين المطبوعات.
عندما عرض كونستابل هذه اللوحة في الرويال أكاديمي عام 1821، قوبلت بالتجاهل التام. واحتاج الأمر إلى جامع فنون فرنسي ليرى قوّة الصورة، فاشتراها وعرضها كجزء من معرض صالون باريس في اللوفر عام 1824. وكان الرسّام ديلاكروا والكاتب ستندال من بين الذين أتوا لرؤية اللوحة التي اعتُبرت وقتها خروجا مثيرا عن التقاليد الأكاديمية. ومُنح كونستابل الميدالية الذهبية من قبل ملك فرنسا شارل العاشر تقديرا لعمله.
كان كونستابل يكره المحافَظة التي يتّسم بها الفنّ البريطاني والتبجيل الذي يحظى به الرسّامون الإيطاليون والفرنسيون. وكان ينفر من الضغوط التي يتعرّض لها هو وبعض زملائه لتقليدهم. كان راغبا في فعل شيء مختلف. فرسم المناظر الطبيعية بمثل تلك النضارة التي تجعلك تشعر برائحة هواء الريف وتشمّ رائحة روث الأنعام في الحقول وتهرع للإمساك بمظلّتك لاتّقاء المطر.
كان كونستابل يرفض فكرة أن يستخدم الفنّان خياله لتفسير الطبيعة، وسعى بدلا من ذلك إلى تصوير الطبيعة كما يراها هو. وكما رفض معاصره الشاعر ويليام وردزوورث ما أسماه "الأسلوب الشعري" لأسلافه، ابتعد كونستابل عن أسلوب رسّامي المناظر الطبيعية في القرن الثامن عشر. وكان يعتقد أنه "لا يوجد يومان متشابهان ولا حتى ساعتان، وليس هناك ورقتان متشابهتان لشجرة منذ أن خلق الله العالم".
في "عربة القش"، نرى عربة زراعية تجرّها الخيول، وهو منظر رآه الفنّان كثيرا أثناء وجوده في ممتلكات والده في سوفولك. كانت الطاحونة مملوكة ذات يوم لوالده، وقد جعل المنطقة المحيطة بها موضوعا للعديد من أعماله. و"عربة القش" تُظهر امتدادا ضحلا للنهر، مع كوخ الى اليسار وحقل ذرة مفتوح على مسافة. وإلى اليسار، تظلّل النهر أشجار طويلة، بينما تظهر السماء على اليمين بشكل أوضح مع سحب ركامية.
والنقطة المحورية في اللوحة هي العربة المفتوحة التي تجرّها الخيول. وهي تبدو فارغة أثناء دفعها عبر النهر لجمع حمولتها التالية من الحصاد الذي يُجمع على الجانب الآخر الذي يظهر عن بعد. وفي الصورة أيضا، يظهر عاملان يجلبان الخيول لتشرب، وامرأة مشغولة خارج الكوخ. ويمكن رؤية رجل بين الشجيرات على الضفّة البعيدة، بينما يتجوّل كلب على الضفّة القريبة متحمّسا لرؤية العربة في النهر.
الزمن يتوقّف عندما تقف على هذا الشاطئ الصغير المرصوف بالحصى بجانب النهر وتنظر إلى ما رآه كونستابل عندما رسم هذه اللوحة. الكوخ لا يزال موجودا الى اليوم وكذلك الطاحونة. لكن الأشجار لم تعد هناك. أما ضفاف النهر فقد تضخّمت بحيث تحجب المنظر البعيد.
السحب الكثيفة في سماء الريف تُظهر حجم الإنسان الضئيل في مواجهة الطبيعة. وبالإمكان رؤية ضوء الشمس وهو يلمع على أوراق الشجر، ونكاد نسمع حفيف الأوراق في مهبّ الريح. وهناك العديد من الأيدي الصغيرة التي تعمل في الحقل والتي بالكاد تُرى.
بطريقة جديدة آنذاك، نقل كونستابل الى الرسم التأثيرات الجوّية لتغيّر الضوء في الهواء الطلق، وحركة السحب عبر السماء، وابتهاجه هو بهذه الظواهر النابعة من حبّ عميق للأرض، مثل صوت الماء المتسرّب من سدود الطواحين وأشجار الصفصاف والألواح الخشبية القديمة والأعمدة اللزجة والطوب. واستخدامه للضوء يشبه التصوير الفوتوغرافي تقريبا، ففي يوم غائم مثل هذا، يُسمح لأشعّة الشمس بتفتيح أجزاء من المنظر الطبيعي أكثر من غيرها.
كان كونستابل ينظر إلى نفسه باعتباره فنّانا يرسم ما يثير اهتمامه، وليس ما يريده الجمهور. وكان يشكو بمرارة من الثناء السهل الذي يحظى به فنّانون أقلّ منه موهبة. ومن المؤكّد أنه كان يتوقّع أن يحتلّ مكانة ما في تاريخ الفن، ولكن لم يكن يخطر بباله قط أن تصبح أعماله بعد موته مشهورةً على نطاق واسع إلى الحدّ الذي يجعل الناس يتهافتون على رؤية الأمكنة التي رسمها.
اشتهر كونستابل بمناظره الطبيعية المتلألئة ذات الألوان الغنيّة لريف سوفولك بالقرب من منزل طفولته. وبينما صوّر معظم معاصريه مناظر طبيعية مثالية مع سرديات تاريخية أو أسطورية، فضّل هو أن يرسم مشاهد أكثر تواضعا للأراضي المزروعة والعمل الزراعي. ويقال إنه استخدم الكثير من الألوان الخضراء لالتقاط تعقيد جمال الطبيعة، من خلال وضع طلاء سميك وبقع ذات ألوان متعدّدة. وقد أعطى الطبيعة في صوره إحساسا بالدراما والعمل البطولي والتأثير السردي.
ولوحاته للمناظر الطبيعية الإنغليزية مثيرة للمشاعر إلى الحدّ الذي يجعل العديد من زوّار إنغلترا يتمنّون أن يروا بعض صوره عن الطبيعة في مواقعها من خلال نوافذ السيّارة. ومن حسن الحظ، ما يزال بإمكان المرء أن يقف اليوم في بعض الأماكن التي مشى عليها كونستابل قبل حوالي مائتي عام، ليرى على الأقل شيئا ممّا كان يراه. ولوحته الايقونية "عربة القش" هي مثال على هذا. وتُعتبر اللوحة واحدة من أكثر الصور التي أعيد إنتاجها واستنساخها في العالم، حيث أصبح المشهد الذي تصوّره مألوفا من خلال ملايين المطبوعات.
عندما عرض كونستابل هذه اللوحة في الرويال أكاديمي عام 1821، قوبلت بالتجاهل التام. واحتاج الأمر إلى جامع فنون فرنسي ليرى قوّة الصورة، فاشتراها وعرضها كجزء من معرض صالون باريس في اللوفر عام 1824. وكان الرسّام ديلاكروا والكاتب ستندال من بين الذين أتوا لرؤية اللوحة التي اعتُبرت وقتها خروجا مثيرا عن التقاليد الأكاديمية. ومُنح كونستابل الميدالية الذهبية من قبل ملك فرنسا شارل العاشر تقديرا لعمله.
كان كونستابل يكره المحافَظة التي يتّسم بها الفنّ البريطاني والتبجيل الذي يحظى به الرسّامون الإيطاليون والفرنسيون. وكان ينفر من الضغوط التي يتعرّض لها هو وبعض زملائه لتقليدهم. كان راغبا في فعل شيء مختلف. فرسم المناظر الطبيعية بمثل تلك النضارة التي تجعلك تشعر برائحة هواء الريف وتشمّ رائحة روث الأنعام في الحقول وتهرع للإمساك بمظلّتك لاتّقاء المطر.
كان كونستابل يرفض فكرة أن يستخدم الفنّان خياله لتفسير الطبيعة، وسعى بدلا من ذلك إلى تصوير الطبيعة كما يراها هو. وكما رفض معاصره الشاعر ويليام وردزوورث ما أسماه "الأسلوب الشعري" لأسلافه، ابتعد كونستابل عن أسلوب رسّامي المناظر الطبيعية في القرن الثامن عشر. وكان يعتقد أنه "لا يوجد يومان متشابهان ولا حتى ساعتان، وليس هناك ورقتان متشابهتان لشجرة منذ أن خلق الله العالم".
في "عربة القش"، نرى عربة زراعية تجرّها الخيول، وهو منظر رآه الفنّان كثيرا أثناء وجوده في ممتلكات والده في سوفولك. كانت الطاحونة مملوكة ذات يوم لوالده، وقد جعل المنطقة المحيطة بها موضوعا للعديد من أعماله. و"عربة القش" تُظهر امتدادا ضحلا للنهر، مع كوخ الى اليسار وحقل ذرة مفتوح على مسافة. وإلى اليسار، تظلّل النهر أشجار طويلة، بينما تظهر السماء على اليمين بشكل أوضح مع سحب ركامية.
والنقطة المحورية في اللوحة هي العربة المفتوحة التي تجرّها الخيول. وهي تبدو فارغة أثناء دفعها عبر النهر لجمع حمولتها التالية من الحصاد الذي يُجمع على الجانب الآخر الذي يظهر عن بعد. وفي الصورة أيضا، يظهر عاملان يجلبان الخيول لتشرب، وامرأة مشغولة خارج الكوخ. ويمكن رؤية رجل بين الشجيرات على الضفّة البعيدة، بينما يتجوّل كلب على الضفّة القريبة متحمّسا لرؤية العربة في النهر.
الزمن يتوقّف عندما تقف على هذا الشاطئ الصغير المرصوف بالحصى بجانب النهر وتنظر إلى ما رآه كونستابل عندما رسم هذه اللوحة. الكوخ لا يزال موجودا الى اليوم وكذلك الطاحونة. لكن الأشجار لم تعد هناك. أما ضفاف النهر فقد تضخّمت بحيث تحجب المنظر البعيد.
السحب الكثيفة في سماء الريف تُظهر حجم الإنسان الضئيل في مواجهة الطبيعة. وبالإمكان رؤية ضوء الشمس وهو يلمع على أوراق الشجر، ونكاد نسمع حفيف الأوراق في مهبّ الريح. وهناك العديد من الأيدي الصغيرة التي تعمل في الحقل والتي بالكاد تُرى.
بطريقة جديدة آنذاك، نقل كونستابل الى الرسم التأثيرات الجوّية لتغيّر الضوء في الهواء الطلق، وحركة السحب عبر السماء، وابتهاجه هو بهذه الظواهر النابعة من حبّ عميق للأرض، مثل صوت الماء المتسرّب من سدود الطواحين وأشجار الصفصاف والألواح الخشبية القديمة والأعمدة اللزجة والطوب. واستخدامه للضوء يشبه التصوير الفوتوغرافي تقريبا، ففي يوم غائم مثل هذا، يُسمح لأشعّة الشمس بتفتيح أجزاء من المنظر الطبيعي أكثر من غيرها.
سماوات كونستابل تستحقّ الاحتفاء حقّاً. وما تفعله هو أنها تجعلنا ندرك قيمة الأرض التي تحتها. والرسّام لديه إحساس قويّ بسطح الأرض. وقد رفض المناظر الطبيعية التي رسمها لورين وبوسان، كما رفض الطريقة التي يرسمان بها المشهد بحيث يتراجع بشكل أنيق في تسلسل من درجات الألوان.
وعلى عكس المناظر الطبيعية المتماثلة والكلاسيكية التي رسمها لورين والتي تُعتبر على نطاق واسع ذروة الرسم الطبيعي حتى أيّام كونستابل، صوّر الأخير "عربة القش" كمشهد حقيقي وواقعي ورسم ما رآه وما كان يعرفه جيّدا، لأنه عاش بالقرب من هذا المكان عندما كان صبيّا.
في القرن السابع عشر، حظيت المناظر الطبيعية بلحظات مجد وجيزة بفضل معلّمي الرسم الهولندي. فقد خصّص رويسديل وڤروم وڤان ايڤردنغن وآخرون لوحات كبيرة لتصوير الأراضي المنخفضة. ولكن حسب التسلسل التفاضلي للموضوعات في ذلك العصر، كانت المناظر الطبيعية أدنى أنواع الرسم تقريبا. ولم يكن يُنظر إلى الطبيعة الصامتة إلا على أنها أقلّ أهمية. وقد تغيّر هذا في العقود الأولى من القرن التاسع عشر عندما بدأ كونستابل في تصوير مزرعة والده.
كان الجمال الكامل والمثالي، وهو شيء لا يمكن خلقه إلا في عالم أسطوري أو ديني، شائعا في زمن الفنّان. وقد رسم الطبيعة كما هي، وكان عمله بمثابة نسمة هواء نقيّ في عالم فنّي مليء بالمناظر الطبيعية المصطنعة والمبالغ فيها. وكونستابل شديد التجريب وعينه تتحسّس طريقها على طول الأرض. وإذا صادف بقعة من الضوء أو الظلّ فإنه يحاول وضعها حيث يراها. وبهذه الطريقة نصبح على دراية بالأرض التي تدور فوقها السحب. وعندما نتأمّل لوحاته، ندرك أننا جزء من عالم صغير تحت سماء كبيرة جدّا؛ عالم أصغر ممّا كنّا نظن، عالم كونستابل.
استغرق رسم "عربة القش" حوالي خمسة أشهر. وبعد مرور ما يقرب من 200 عام على رسمها، لا يزال بإمكانك الوقوف في نفس المكان الذي أقام فيه الفنّان حامل الرسم بجانب النهر في فلاتفورد. وإذا مشيت على المسارات المؤدّية إلى وادي ديدام أو نحو البحر، فستجد نفسك في إنغلترا الريفية الأسطورية، فالمسارات متروكة دون عناية، والأغنام تسترخي تحت الأشجار، والفراشات والطيور والثعابين والسحالي تتكاثر وتعيش بسلام.
هذه اللوحة رعوية بامتياز، وهي خالدة وجذّابة مثل أحد مشاهد تيزيانو الأركادية التي تصوّر الحوريات والرعاة. كما أنها جديرة بأكثر من مجرّد نظرة عابرة، لأن المنظر يستحقّ ذلك. وبالنسبة للمتلقّي المعاصر فإنها توفّر إطلالة على الحياة في الريف الإنغليزي في عصر مضى. هنا لا صخب ولا ضجيج، بحيث يمكن للناظر اليوم أن يعود بالزمن إلى الوراء وينسى نفسه للحظات.
كان حبّ كونستابل للطبيعة سخيّا ورؤيويا. وقد رأى الشاعر الفنّان ويليام بليك في كونستابل روحا رفيقة. وعندما دُعي الأوّل إلى إلقاء نظرة على دفاتر الرسم الخاصّة بالثاني، أشّر بيده إلى دراسة لشارع من أشجار التنّوب وقال: هذا ليس رسما، هذا إلهام". وردّ كونستابل: لم أكن أعرف ذلك من قبل. رأيت الأشجار فرسمتها".
بعض مؤرّخي الفنّ يذكرون أن كونستابل كان يستجيب في رسوماته للتحوّلات التي كان الناس يلاحظونها على الريف. فمع نموّ المدن وازدياد مشاكلها، بدأت النخبة الحضرية التي أصبحت غنيّة بفضل الاقتصاد الصناعي، تنظر إلى الريف، ليس باعتباره مكانا بائسا وفقيرا يدفع الآلاف من الناس للفرار منه بحثا عن مستقبل غير مؤكّد في المدينة، بل باعتباره رؤية مثالية.
لذا تحوّلت المناظر الطبيعية الريفية إلى جنّة مفقودة؛ مكان للطفولة، حيث الهواء العليل والماء الوفير، والمساحات المفتوحة، والعمل الشاقّ والصادق في المزارع، ما يخلق مساحة أخلاقية مفتوحة تتناقض بشكل حادّ مع الشرور الملموسة للحياة الحضرية الحديثة. ومن ثم فإن فنّ كونستابل يعبّر عن الأهمية المتزايدة للحياة الريفية، على الأقل من منظور النخب الثريّة التي كانت هذه اللوحات مخصّصة لها.
وبقاء بقعة الماء التي رسمها جون كونستابل في "عربة القش" عام 1821 على قيد الحياة الى اليوم يُعدّ معجزة صغيرة، فقد نجت من الاندثار بالفعل لأنه أقام لها نصباً تذكاريّاً من خلال لوحته. وباعتباره من محبّي التاريخ الطبيعي والآثار القديمة فقد حوّل لوحاته كلّها إلى أنظمة بيئية، حيث تصبح كلّ ورقة على كلّ شجرة جزءا من الكلّ. وما حقّقه كان عملا من أعمال المحافظة على البيئة. فقد أنقذ المناظر الطبيعية التي رسمها من النسيان بعد أن خلّدها في صوره. ويمكن القول إن "عربة القش" ولوحات كونستابل الأخرى هي احتفال بزمن أجمل وبمكان ثمين وأخلاقي يفتقده سكّان المدن اليوم.
وعلى عكس المناظر الطبيعية المتماثلة والكلاسيكية التي رسمها لورين والتي تُعتبر على نطاق واسع ذروة الرسم الطبيعي حتى أيّام كونستابل، صوّر الأخير "عربة القش" كمشهد حقيقي وواقعي ورسم ما رآه وما كان يعرفه جيّدا، لأنه عاش بالقرب من هذا المكان عندما كان صبيّا.
في القرن السابع عشر، حظيت المناظر الطبيعية بلحظات مجد وجيزة بفضل معلّمي الرسم الهولندي. فقد خصّص رويسديل وڤروم وڤان ايڤردنغن وآخرون لوحات كبيرة لتصوير الأراضي المنخفضة. ولكن حسب التسلسل التفاضلي للموضوعات في ذلك العصر، كانت المناظر الطبيعية أدنى أنواع الرسم تقريبا. ولم يكن يُنظر إلى الطبيعة الصامتة إلا على أنها أقلّ أهمية. وقد تغيّر هذا في العقود الأولى من القرن التاسع عشر عندما بدأ كونستابل في تصوير مزرعة والده.
كان الجمال الكامل والمثالي، وهو شيء لا يمكن خلقه إلا في عالم أسطوري أو ديني، شائعا في زمن الفنّان. وقد رسم الطبيعة كما هي، وكان عمله بمثابة نسمة هواء نقيّ في عالم فنّي مليء بالمناظر الطبيعية المصطنعة والمبالغ فيها. وكونستابل شديد التجريب وعينه تتحسّس طريقها على طول الأرض. وإذا صادف بقعة من الضوء أو الظلّ فإنه يحاول وضعها حيث يراها. وبهذه الطريقة نصبح على دراية بالأرض التي تدور فوقها السحب. وعندما نتأمّل لوحاته، ندرك أننا جزء من عالم صغير تحت سماء كبيرة جدّا؛ عالم أصغر ممّا كنّا نظن، عالم كونستابل.
استغرق رسم "عربة القش" حوالي خمسة أشهر. وبعد مرور ما يقرب من 200 عام على رسمها، لا يزال بإمكانك الوقوف في نفس المكان الذي أقام فيه الفنّان حامل الرسم بجانب النهر في فلاتفورد. وإذا مشيت على المسارات المؤدّية إلى وادي ديدام أو نحو البحر، فستجد نفسك في إنغلترا الريفية الأسطورية، فالمسارات متروكة دون عناية، والأغنام تسترخي تحت الأشجار، والفراشات والطيور والثعابين والسحالي تتكاثر وتعيش بسلام.
هذه اللوحة رعوية بامتياز، وهي خالدة وجذّابة مثل أحد مشاهد تيزيانو الأركادية التي تصوّر الحوريات والرعاة. كما أنها جديرة بأكثر من مجرّد نظرة عابرة، لأن المنظر يستحقّ ذلك. وبالنسبة للمتلقّي المعاصر فإنها توفّر إطلالة على الحياة في الريف الإنغليزي في عصر مضى. هنا لا صخب ولا ضجيج، بحيث يمكن للناظر اليوم أن يعود بالزمن إلى الوراء وينسى نفسه للحظات.
كان حبّ كونستابل للطبيعة سخيّا ورؤيويا. وقد رأى الشاعر الفنّان ويليام بليك في كونستابل روحا رفيقة. وعندما دُعي الأوّل إلى إلقاء نظرة على دفاتر الرسم الخاصّة بالثاني، أشّر بيده إلى دراسة لشارع من أشجار التنّوب وقال: هذا ليس رسما، هذا إلهام". وردّ كونستابل: لم أكن أعرف ذلك من قبل. رأيت الأشجار فرسمتها".
بعض مؤرّخي الفنّ يذكرون أن كونستابل كان يستجيب في رسوماته للتحوّلات التي كان الناس يلاحظونها على الريف. فمع نموّ المدن وازدياد مشاكلها، بدأت النخبة الحضرية التي أصبحت غنيّة بفضل الاقتصاد الصناعي، تنظر إلى الريف، ليس باعتباره مكانا بائسا وفقيرا يدفع الآلاف من الناس للفرار منه بحثا عن مستقبل غير مؤكّد في المدينة، بل باعتباره رؤية مثالية.
لذا تحوّلت المناظر الطبيعية الريفية إلى جنّة مفقودة؛ مكان للطفولة، حيث الهواء العليل والماء الوفير، والمساحات المفتوحة، والعمل الشاقّ والصادق في المزارع، ما يخلق مساحة أخلاقية مفتوحة تتناقض بشكل حادّ مع الشرور الملموسة للحياة الحضرية الحديثة. ومن ثم فإن فنّ كونستابل يعبّر عن الأهمية المتزايدة للحياة الريفية، على الأقل من منظور النخب الثريّة التي كانت هذه اللوحات مخصّصة لها.
وبقاء بقعة الماء التي رسمها جون كونستابل في "عربة القش" عام 1821 على قيد الحياة الى اليوم يُعدّ معجزة صغيرة، فقد نجت من الاندثار بالفعل لأنه أقام لها نصباً تذكاريّاً من خلال لوحته. وباعتباره من محبّي التاريخ الطبيعي والآثار القديمة فقد حوّل لوحاته كلّها إلى أنظمة بيئية، حيث تصبح كلّ ورقة على كلّ شجرة جزءا من الكلّ. وما حقّقه كان عملا من أعمال المحافظة على البيئة. فقد أنقذ المناظر الطبيعية التي رسمها من النسيان بعد أن خلّدها في صوره. ويمكن القول إن "عربة القش" ولوحات كونستابل الأخرى هي احتفال بزمن أجمل وبمكان ثمين وأخلاقي يفتقده سكّان المدن اليوم.
Credits
john-constable.org
nationalgallery.org.uk
john-constable.org
nationalgallery.org.uk