وقد أدّى تشابك أشجار السنديان العملاقة هناك وتقارب أغصانها من بعضها البعض إلى إنشاء كتلة بلا مسار ولا يمكن اختراقها. وكانت الأيائل من ذوات القرون تتّكئ على جذوع الأشجار القويّة لتنام عليها. ومع شيء من البحث الدؤوب يمكن العثور على وحيد القرن. وكان الثور القديم المسمّى "الأوروكس" يتجوّل في أرجاء تلك الغابة. وكان هناك أيضا طائر جميل ذو ريش متوهّج كاللهب يرفرف بجناحيه بين أوراق الزمرّد التي لا تعدّ ولا تحصى.
إن من الصعب أن نتخيّل مشاعر الأوروبيين الأوائل الذين وطئت أقدامهم أرض القارّة الأميركية. في ذلك الوقت كانت الملايين من الجواميس والظباء الأميركية، وأعداد هائلة من الذئاب والدببة الرمادية العملاقة تعيش في المراعي. وكان من الطبيعي أن تثير الغابات ذات الأشجار العملاقة والكثيرة الرعب وكذلك الإعجاب والرهبة في قلوب الأوروبيين. كانت بمثابة براري حقيقية، "مكان بلا إله"، مكان كان لا بدّ من العمل على تدهوره وتخريبه لصالح الحضارة.
وقد جلب التبادل الحضاري معه تبادلا دينيا، وكان لا بدّ من استبدال الآلهة الوثنية التي تسكن البساتين والغابات المقدّسة بالإله المسيحي. وكان تدمير البساتين وقطع الأشجار القديمة وقتل آلاف الدببة والذئاب، أي الحيوانات المعبودة التي أصبحت رموزا للشرّ، جزءا من هذا الصراع. وكان هذا التدمير نتيجة حتمية، لدرجة أن أغلب المناطق البرّية الأوروبية لم تنج من الدمار حتى بداية الثورة الصناعية.
ومن المثير للاهتمام أن تجارب الأوروبيين الأوائل في العالم الجديد تشبه أوصاف الرومان القدماء الذين عبروا في بداية عام 1500 حدود الإمبراطورية الرومانية ووصلوا إلى منطقة هرسينيا. ومع ذلك، لم تكن لهذه الغابة حدود دقيقة، فقد كانت تقع في مكان ما بين أنهار الدانوب وإلبا والراين. وبحسب بليني الأكبر، فإن غابة السنديان في هرسينيا كانت "غير متأثّرة بالعصور ومتزامنة مع العالم ومتفوّقة على كلّ العجائب بمصيرها الخالد".
وحتى ما قبل 300 عام، كانت أشجار السنديان البدائية الكثيفة ما تزال تنمو في عموم وسط أوروبّا. وقد كتب الشاعر البولندي آدم ميكيفيتش (1798-1855) عن واحدة منها يقول:
هل سأجدك مرّة أخرى؟ هل تعيشين لفترة أطول؟ أنتِ التي زحفت بين جذوعك ذات يوم وأنا طفل؟ هل ستظلّ شجرة باوبليس العظيمة باقية؛ الشجرة التي يمكن بسهولة إعداد عشاء يكفي لعشرة أشخاص في رحمها الضخم، بعد قرون من الحفر المجوّف؟!"
خلال العصور الوسطى، لم تكن الغابة تعني فقط المنطقة المغطّاة بالأشجار كما هو الحال اليوم، بل كانت تعني أيضا الأرض التي تكثر فيها السهوب والمستنقعات والسهول والصحاري والمروج المالحة. في الأراضي المنخفضة، حيث كانت الظروف المناخية أكثر جفافا، نشأت السهوب. وفي الأماكن ذات التبخّر العالي والتربة ذات المياه الجوفية، نشأت المروج المالحة.
في المصطلحات الجغرافية، غابة هيرسينيا هي مجموعة السلاسل الجبلية والهضاب الممتدّة من ويستفاليا عبر وسط ألمانيا وعلى طول الحدود الشمالية للنمسا حتى جبال الكاربات. ويبلغ طول حدود الغابة الشمالية المفترضة مسيرة تسعة أيّام، بينما يبلغ طول حدودها الشرقية أكثر من مسيرة ستّين يوما.
ويرتبط اسم غابة هيرسينيا بحادثة تاريخية مشهورة وقعت في العام التاسع للميلاد. كانت معركة كبرى دارت رحاها بين تحالف الشعوب الجرمانية والإمبراطورية الرومانية بقيادة بوبليوس فاروس وحلفائه. ويقال ان إجمالي خسائر الرومان في تلك المعركة بلغت حوالي عشرين ألف قتيل.
كما أن الهزيمة التي لحقت بهم قضت على أيّ أمل في التوسّع الروماني عبر نهر الراين. وقد اختفت الفيالق الرومانية وقوّاتها المنهزمة في براري ومستنقعات هيرسينيا. ومع توالي القرون وعلى مدى ألفي عام، ظلّ المكان الذي شهد تلك المعركة، التي تعتبر احدى اهمّ المعارك في تاريخ العالم الغربي، ضائعا وغير معروف.
لكن رحّالة بريطانيّا يدعى توني كلون استطاع بفضل عزيمته ومثابرته الغوص في أعماق الماضي، وتوصّل مؤخّرا الى أن تلك المعركة دارت شمال أوسنابروك بألمانيا، كما اكتشف أعدادا كبيرة من العملات الرومانية والأسلحة والبقايا البشرية وآلاف القطع الأثرية. وهناك اليوم متحف حديث يضمّ هذه الكنوز التاريخية التي لا تُقدّر بثمن أُقيم في نفس الموقع الذي فُقدت فيه الفيالق الرومانية.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
◦ سواءً كنت تحلّق فوق نيوفاوندلاند أو فوق بحر الأضواء الممتدّ من بوسطن إلى فيلادلفيا بعد حلول الليل، أو فوق الصحاري العربية التي تتلألأ كصَدف اللؤلؤ، أو فوق الرور أو مدينة فرانكفورت، فكأنّما لا يوجد بشر، فقط الأشياء التي صنعوها والتي يختبئون فيها. إذا نظرنا إلى أنفسنا من علوّ شاهق، فمن المخيف أن ندرك ضآلة معرفتنا بجنسنا البشري. هكذا فكّرت ونحن نعبر الساحل ونطير فوق البحر الأخضر الهلامي.
لا يوجد ترياق لأفيون الزمن. تُظهِر شمس الشتاء كم ينطفئ ضوء الرماد وكم يغمرنا الليل سريعا. الزمن نفسه يشيخ. الأهرامات والأقواس والمسلّات أعمدة ثلجية ذائبة. حتى أولئك الذين وجدوا مكانا بين الأبراج السماوية لم تُخلّد أسماؤهم، فالنمرود ضاع في كوكبة الجبّار وأوزوريس في كوكبة الكلب. في الواقع، لا تدوم العائلات القديمة أكثر من ثلاث شجرات سنديان. وينفريد سيبالد
◦ لقد عرفت أن الخير كالشرّ، يصبح روتينا، وأن المؤقّت يميل إلى الاستمرار، وأن ما هو خارجي يتغلغل إلى الداخل، وأن القناع، مع مرور الوقت، يصبح هو الوجه نفسه. مارغريت يورسينار
◦ من المؤلم أن تشعر بالوحدة، لأننا كبشر لسنا مصمَّمين لذلك. نحن، كما أشار أرسطو منذ زمن بعيد، حيوانات اجتماعية. لكن ربّما تكون مهمّتنا أن نكون وحيدين في عصر وحيد وأن نتعلّم أن نكون بومة بين الأنقاض. البوم مخلوق من الليل والظلام ومرتبط بالحكمة. والأنقاض تحيط بنا بالفعل وتنتشر بسرعة كالفايروس. نعم، نعيش في زمن مظلم، وقد آن الأوان لنتعلّم كيف نرى في الظلام.
كلّما فررنا من الأنقاض المترامية الأطراف إلى المرتفعات المشمسة في العالم الافتراضي، أصبح لزاما علينا أن نتعلّم بسرعة كيف نعيش في صحراء العالم الحقيقي. أن تكون بومة بين الخرائب هي الخطوة الأولى والحتمية للعثور على طريقك مرّة أخرى من خلال الضياع. جاك ليهي
◦ لا يوجد ماض ولا مستقبل في فنّي. وإذا لم يستطع العمل الفنّي أن يعيش دائما في الحاضر، فلا يجب اعتباره فنّا على الإطلاق. إن فنّ الإغريق والمصريين والرسّامين العظماء الذين عاشوا في عصور أخرى ليس فنّا من الماضي، بل ربّما يكون أكثر حيوية وحداثة اليوم من أيّ وقت مضى. بابلو بيكاسو
◦ وسط ضجيج الأدب العالمي الشبيه بضجيج بابل، كيف سيكون حالنا، نحن عشّاق الرواية والأدب، لولا المترجمين؟ يستطيع المترجم الجيّد أن يقدّم أدبا جديدا يغيّر فهم القارئ للظروف التاريخية والثقافية والاجتماعية التي تحكم العالم. بل إنه يُلقي ضوءا جديدا على الحوار الداخلي والمعضلات الأخلاقية لشخصيات الأدب العالمي المحبوبة والخالدة. ولو لم يكرّس المترجم سنوات تكوينه الأولى لإتقان عدّة لغات، لكانت كلاسيكيات الأدب الأوروبّي كتباً مغلقة.
من الملاحم الآيسلندية في العصور المظلمة، إلى رواية "دون كيشوت" لثيربانتس التي تُعدّ أباً لجميع الروايات الأوروبّية، إلى التحليل النفسي للذاكرة الذي قدّمه مارسيل بروست في روايته، إلى هجاء ميخائيل بولغاكوف السوريالي للشمولية الستالينية في "المعلّم ومارغريتا"، لا بدّ من الإشادة بالمترجم على تفانيه لساعات طويلة كي يعيد صياغة الكلمة المكتوبة من لغة لأخرى. يزداد المرء تعلّقا بمهارات المترجم مع مرور الوقت، ويضع ثقته في الأسماء المعروفة من المترجمين لدقّتهم الفائقة وبصيرتهم الملهِمة وجهدهم الشاقّ في كثير من الأحيان، لفتح آفاق جديدة من الأدب العالمي أمام القارئ الباحث. كيفين اندرو
◦ الحياة نفسها ليست سوى ظلّ للموت. والأرواح الراحلة ليست سوى ظلال الأحياء. الشمس نفسها ليست سوى صورة للظلام، والنور ليس سوى ظلّ الله. توم براون
◦ كانت جبال الأطلس أشهر جبال القصص الكلاسيكية. وأروع وصف لها هو ما كتبه المؤرّخ بليني الأكبر. كانت قمّم الجبال تمتدّ إلى ما وراء السحاب وتقترب من مدار القمر. كانت وعرة وشديدة الانحدار على جانب المحيط الذي أُطلق عليها اسمه، بينما تنحدر بخفّة على الجانب المؤدّي إلى أفريقيا. وقد غطّت بساتين كثيفة جوانبها، حيث الجداول الرقراقة والثمار الوافرة. لكن في النهار لم يكن البشر يُرَون هناك قط. كان كلّ شيء صامتا كسكون الصحراء المخيف. والذين اقتربوا، تسلّل إليهم رعب ديني. في الليل، كانت نيران لا تُحصى توقد على جوانب الجبال. وبحسب بليني، كان ذاك جزءا من مشهد رقص السحرة وطاقم الساتير. وكان الصدى يتردّد مع نغمات الناي والبوق وضربات الطبول والصنج".
وهناك أسطورة أخرى عن جبل يُصدر ضجيجا وتنبعث منه أنوار ليلية، بحسب السجلّات العربية والمسيحية. ويقول كاتب عربي من القرن الثاني عشر إن الجنّ يسكنون المدن الواقعة على سفوح الجبل والتي هجرها الناس. ويتحدّث ابن خرداذبة عن احتفالات ليلية في المحيط الجنوبي. وفي القرن السادس عشر، كتب أرغنسولا عن جبل في جزر الملوك قيل إنه كانت تُسمع منه ولعصور طويلة "صرخات وصفّارات وزئير"، مستنتجاً أن المكان مسكون بالشياطين. ويروي السندباد عن جزيرة تُدعى كاسيل، يتردّد فيها صدى طبول الجنّ المتمرّدة ليلا. وكانت جزيرة بروسبيرو مليئة بالضوضاء، لكنها كانت "أصواتا وأنغاما عذبة تُبهج ولا تؤذي".
ربّما تكون قصّة الأطلس وغيرها من الجبال الأسطورية قد نشأت من عادات القبائل الذين يسكنون تجاويف الجبال. ففي حرّ النهار، كانوا يعودون إلى مساكنهم، ثم يخرجون ليلا ليرقصوا حول نيران القرية وعلى أنغام الطبول. كيرك سبولدينغ
◦ السلام ليس غياب الحرب، بل هو فضيلة وحالة ذهنية وميل إلى الإحسان والثقة والعدالة. سبينوزا
◦ في غضون أشهر قليلة، نسي فيليب ما كان عليه سابقا. نسي الشدّ الدائم في رقبته والصداع والليالي التي لم يكن ينام فيها إلا على غفلة. نسي صور الهلاك التي كانت تلوح في الأفق في أيّ لحظة طوال فترة طفولته ومراهقته. الصور التي لم يخبر بها أحدا قط، ولا يعرف عنها أحد شيئا: حيوانات ميّتة على جانب الطريق، أطراف مبتورة، جثّة تطفو في النهر، ماء يجرف منازل، طفل يختنق بحلوى، صراصير تخرج من حوافّ الجدران، خزائن كتب تتساقط وتسحق الأطفال الصغار، حوادث تصادُم، وأمراض تجعل اللسان أسود.
نسي أن هذه الصور كانت موجودة دائما. ثم نسي الخوف منها. هذه المرحلة من الحياة خفيفة للغاية، تكاد تكون باهتة. ولأوّل مرّة في حياته التي انصرم منها ثلاثون عاما، يقترب من المستقبل بثقة وطمأنينة، ويبدأ تدريجيا في التعوّد عليه. لا ينبغي أن يكون شيء من هذا غريبا. فالمخاوف قد تكبر وقد تتقلّص وقد تختفي بغموض كما جاءت. لكن حول فيليب وخارج قفص سعادته المضاء، تذهب المدينة في اتجاه آخر. قيل لاحقا إن باريس كانت في قبضة الخوف في تلك السنوات. ساشا برونوفاسر
Credits
rewildingeurope.com
rewildingeurope.com