:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مارس 06، 2024

قصّة البايسون


حدث هذا في عام 1861. كان "الدبّ المنفرد" يقود "ريشة النسر" في أوّل عملية صيد للأخير على الإطلاق. وتوقّف الأوّل قليلا ليخبر الثاني بالقواعد: بمجرّد أن ترى قطيع البايسون "أو الجاموس"، يجب أن تنتظر حتى يشير لك شخص أكبر منك سنّا. وعندما يحين الوقت، لا تقتل إلا ما يستطيع حصانك حمله".
كان "الدبّ المنفرد" و"ريشة النسر" ينتميان الى عشيرة الكيوا التي كانت واحدة من عدّة قبائل من سكّان أمريكا الأصليين الذين عاشوا في السهول الكبرى.
بحلول منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، كانت العديد من قبائل السهول تستخدم الخيول لاصطياد البايسون المتوفّر بكثرة في تلك المنطقة. وكان الهنود يعيشون على لحم هذا الحيوان الذي يُعتبر أكبر الثدييات البرّية في أمريكا الشمالية. كانوا يحوّلون مخابئه الصيفية إلى مساكن وجلوده الى معاطف وأغطية تحميهم من برد الشتاء. كما استخدموا عظامه وقرونه كأدوات وأوتاره كخيوط.
لكن في العقود التالية، سيُذبح الملايين من البايسون وبالتالي سيُهدّد بقاء مجتمعات السهول وثقافتها بشكل متعمّد.
فبعد الحرب الأهلية الأمريكية، بدأ آلاف المستوطنين الأوربّيين باحتلال السهول، وحرصوا على استغلال مواردها الطبيعية. وخلال ستّينيات القرن التاسع عشر، تصدّت أمم السهول للجيش الأمريكي. وعبّر قائد يُدعى ويليام شيرمان عن استيائه من هزائم الجيش. وكانت تكتيكاته العسكرية القاسية قد ساعدت قبل ذلك في إنهاء الحرب الأهلية الأمريكية.
وفي عام 1869، عُيّن هذا العسكريّ قائداً عامّاً للجيش الأمريكي. والآن، أصبح تركيزه منصبّا على ما أسماه "المشكلة الهندية". كان مسؤولو الحكومة الأمريكية مصمّمين على إجبار السكّان الأصليين على الرحيل إلى مناطق محدّدة أطلقوا عليها اسم "المحميّات". وبهذه الطريقة يمكنهم السيطرة عليهم بينما يستفيد المستوطنون والشركات من أراضيهم.
وتعهّد شيرمان بالبقاء خارج مناطق الغرب "الى أن يُقتل الهنود جميعا أو يُنقلوا إلى بلد يمكن مراقبتهم فيه" كما قال.
وفي الوقت نفسه، طلب تزويده بجلود من النوع الذي يُستخدم في صناعة الأحزمة. ولتلبية الطلب، قام الصيّادون الأمريكيون المسلّحون بالبنادق بقتل قطعان البايسون في جميع أنحاء السهول.
وأدرك شيرمان ومسؤولون عسكريّون آخرون أنهم يستطيعون تحقيق هدفهم دون أن يخسروا شيئا، من خلال السماح لهذا النوع من النشاط بالعمل دون رادع. وكانت فكرتهم أنه إذا استنزف الصيّادون البايسون، فإن السكّان الأصليين في السهول الذين يعتمدون عليه في غذائهم سيواجهون المجاعة الى أن يخضعوا ويستسلموا.
وقال عقيد أمريكي لملازم بريطاني زائر: اقتل كلّ جاموس يمكنك قتله، فكلّ جاموس ميّت هو هنديّ مهاجر". ورفض الجيش الأمريكي تطبيق المعاهدات التي تحظر دخول الصيّادين الى أراضي القبائل الهندية، بل إنه في بعض الأحيان وفّر للصيّادين الحماية والذخيرة.
كان العديد من صائدي الجلود يقتلون 50 بايسون يوميّا. وخلال شهرين من عام 1876، قتل صيّاد واحد ستّة آلاف رأس، وأدّى إطلاقه النار باستمرار من بندقيّته إلى إصابته بالصمم في إحدى أذنيه. وكانت بعض الحيوانات التي تُطلق عليها النار تتحامل على نفسها وتهرب بتثاقل الى أن تموت بعيدا.
وفي العادة كان الصيّادون يأخذون جلود البايسون وألسنتها فقط ويتركون اللحم ليتعفّن.
وبعض الجزّارين من عديمي الخبرة كانوا يُتلفون الجلود أثناء سلخها. وكانت جثث البايسون المتبقيّة تُمزّق إربا من قبل حيوانات أخرى. ولهذا السبب بدأ الصيّادون في مزج لحم البايسون بالسمّ حتى يتمكّنوا أيضا من قتل الذئاب التي تأتي لتتغذّى على لحمها ومن ثم يأخذون جلودها هي أيضا.
واحتجّ السكّان الأصليون على تلك الممارسات، وحاولت الجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان والحيوان التدخّل بعد أن لاحظت انخفاض أعداد البايسون. وفي عام 1874 صادق الكونغرس على تشريع يجعل صيد البايسون غير قانوني في الأراضي الفيدرالية. لكن الرئيس الأمريكي وقتها استخدم حقّ النقض لتعطيله.
وفي النهاية، نجحت الإستراتيجية الدنيئة، إذ واجهت العديد من قبائل السهول المجاعة وأُجبرت على اللجوء إلى المحميّات.
وبحلول عام 1900، كان يوجد أقلّ من ألف رأس فقط من البايسون، مقارنة بعشرات الملايين منه في السهول الكبرى قبل ذلك بمائة عام. واستشعارا للخطر أنشأ بعض المواطنين الأمريكيين الأثرياء محميّات خاصّة للبايسون، ما ساعد في إنقاذه. وكانت تلك المحميّات بمثابة مناطق جذب سياحي.
واعتبارا من عام 2021، ارتفع عدد البايسون إلى حوالي نصف مليون رأس. وتعيش الغالبية العظمى منها في مزارع خاصّة. وفي السنوات الأخيرة، أعادت قبائل السهول إدخال حوالي عشرين ألفا منها إلى أراضيها. وكان الهدف شفاء هذه الحيوانات المسكينة واستعادة العلاقة القديمة بينها وبين الانسان التي تدمّرت بعد الهجوم عليها بشكل صارخ أثناء تلك المذبحة المروّعة.


Credits
nature.org

الأربعاء، فبراير 28، 2024

أدب السهوب


في اتّساع السهوب، حيث تهمس الرياح بالألحان القديمة، تتجوّل روح البدو في آسيا الوسطى بحرّية.
*عبد الله قهور، أديب أوزبكي

تُعتبر الطبيعة من المواضيع المتكرّرة في أدب وشعر آسيا الوسطى، وهي فكرة تعكس العلاقة العميقة بين طبيعة المنطقة ومشاعر شعوبها.
وآسيا الوسطى بلاد متنوّعة التضاريس. فهي موطن لسلاسل الجبال المهيبة مثل تيان شان والبامير وألاي. وغالبا ما يصوّر الأدب هناك الجبال كمصدر للإلهام الروحي وتذكير بعدم ثبات الحياة. ويثير الجمال الوعر للجبال شعوراً بالحنين والصفاء والشوق.
وتتمتّع آسيا الوسطى بتاريخ بدويّ غني، وكثيرا ما تصوّر الأعمال الأدبية نمط الحياة البدويّ بحبّ وحنين. ويثير اتساع الطبيعة والاعتماد على إيقاعاتها إحساسا بالبساطة والحريّة والشوق إلى عصر مضى.
وكتّاب آسيا الوسطى يستكشفون في أعمالهم الفصول المتغيّرة وطبيعة الحياة العابرة. ويحتفلون بجمال أزهار الربيع ودفء الصيف وكآبة الخريف وقسوة الشتاء. وتعمل هذه الدورات الموسمية بمثابة استعارات لمرور الوقت وعدم ثبات الوجود الإنساني.
كما يتعمّق أدب تلك البلاد في التأمّل الروحي المستوحى من التصوّف الإسلامي والمعتقدات التقليدية. ويستكشف الشعراء والكتّاب الرحلة الداخلية ويسعون إلى التنوير الروحي ويجدون العزاء في جمال الطبيعة وفي قوّتها المتسامية.
لكن أكثر ما يميّز أدب آسيا الوسطى عموما هو الحضور القويّ لفكرة السهوب بمراعيها الواسعة وآفاقها التي لا نهاية لها، فتُصوّر على أنها رمز للحريّة والجمال. والكتّاب يعبّرون عن ارتباطهم العميق بالسهوب وإحساس الرهبة الذي تلهمه، مستحضرين ضخامتها واتساعها وجمال أراضيها العشبية الشاسعة وأهميّتها من الناحية الثقافية.
وغالبا ما تُصوّر السهوب على أنها رمز للحريّة والفضاء المفتوح. كما تثير إحساسا بالتحرّر والهروب من قيود الحياة المستقرّة. ويصوّر الكتّاب السهوب كمكان يمكن للمرء أن يتجوّل فيه بحريّة وينغمس في بساطة الطبيعة دون أن تثقل كاهله الأعراف المجتمعية أو نحوها من القيود.
وكثيرا ما يؤكّد أدب آسيا الوسطى على الارتباط العميق بين البدو والعالم الطبيعي في السهوب. ويصف الكتّاب التعايش المتناغم بين البشر والحيوانات والبيئة، وتصبح السهوب مصدرا للإلهام بالإضافة الى أنها توفّر العزاء وتنمّي رابطا روحيّة عميقة.
وترتبط السهوب ارتباطا وثيقا بأسلوب الحياة البدويّ لقبائل آسيا الوسطى وتقاليدهم. ويجسّد الأدب حياة البدو كعلاقة تكافلية مع السهوب، حيث يتحرّك الناس مع قطعانهم متتبّعين إيقاع الطبيعة. كما يستكشف التحدّيات والأفراح والأحزان ومرونة الوجود البدويّ.
وغالبا ما يستخدم كتاب آسيا الوسطى صورا حيّة لالتقاط عظمة السهوب وجمالها المذهل، فيصفون الآفاق الشاسعة والمراعي التي لا نهاية لها والبحيرات المتلألئة والسموات المثيرة. والسهوب تستدعي إحساسا بالجلال وتملأ شخصيّات الروايات والقرّاء بالدهشة والتبجيل.
كما أن السهوب تذكّر بالطبيعة الموقّتة للحياة وعدم ثبات الوجود البشري، كما تعكسه مناظرها الطبيعية المتغيّرة باستمرار والتحوّلات الموسمية ودورات الولادة والموت. وغالبا ما يستخدم الكتّاب السهوب كخلفية للتأمّل في قصر الحياة ومرور الوقت وأهميّة احتضان اللحظة الحالية.
وتلعب منطقة السهوب دوراً محورياً في تشكيل الهويّة الثقافية لمجتمعات آسيا الوسطى. ويعكس الأدب التقاليد والعادات والقيم العميقة الجذور المرتبطة بالسهوب. ويستكشف أهميّة الحفاظ على التراث الثقافي والتحديّات التي تواجهها المجتمعات البدوية في عالم سريع التغيرّ.
لقد ألهمت السهوب عددا لا يُحصى من الشعراء والكتّاب والفنّانين عبر التاريخ، لأن اتساعها وصفاءها يحفّزان الإبداع والتأمّل. وكثيرا ما يحتفل الأدب في آسيا الوسطى بالسهوب باعتبارها منبعا للإلهام، حيث تتدفّق الأفكار وتجد الروح الإنسانية فيها العزاء والتجديد.
ومن خلال تناول موضوع السهوب، يمسك أدب آسيا الوسطى بجوهر التراث البدوي في المنطقة وارتباطه الوثيق بالطبيعة والتأثير العميق للسهوب على حياة ومخيّلة شعوبها.
وهناك الكثير من الاعمال في أدب آسيا الوسطى التي تستكشف موضوع السهوب وتقدّم نظرة معمّقة لتراث تلك المنطقة وجمال أراضيها العشبية. ومن أشهر تلك الاعمال:


  • رواية اليوم بأكثر من مائة عام The Day Lasts More Than a Hundred Years للكاتب القرغيزي جنغيز آيتماتوف. وتتناول هذه الرواية قصّة شيخ كازاخي وتجاربه في السهوب، مع عناصر من الواقعية السحرية. ويعكس الكاتب في روايته الهويّة الثقافية لآسيا الوسطى والعلاقة التكافلية بين السهوب وشعوبها.
  • رواية السهوب الصامتة The Silent Steppe للكاتب الكازاخي محمد شيخمتوف. وتصّور هذه الرواية حياة عائلة كازاخية في السهوب خلال الحقبة السوفيتية. وتقدّم صورة حيّة لأسلوب الحياة البدوي والتحدّيات التي تواجهها الشخصيات وحبّها العميق للسهوب.
  • رواية الأيّام الخوالي Days Gone By للكاتب الاوزبكي عبد الله قادري. وتتعمّق هذه الرواية في تاريخ وثقافة آسيا الوسطى، بما في ذلك السهوب. وبينما تركّز الرواية أساسا على الحياة المستقرّة في مدينة بخارى، فإنها تتطرّق أيضا إلى التقاليد البدوية وتأثير السهوب على هويّة المنطقة.
  • رواية مائة عام في السهوب A Hundred Years on the Steppe للكاتب الكازاخي بايانجالي عليمجانوف. وتقدّم هذه الرواية رؤية بانورامية لآسيا الوسطى، بما في ذلك السهوب. كما تصوّر التراث البدوي للمنطقة والترابط بين سكّانها ومناظرها الطبيعية ودور السهوب في تشكيل حياة الناس وهويّتهم الثقافية.
  • رواية أرض الآباء The Land of the Fathers للكاتب القرغيزي تولوموش أوكييف. وتستكشف التقاليد البدوية لشعب قيرغيزستان، بما في ذلك ارتباطهم بالسهوب، من خلال قصّة شابّ ينطلق في رحلة عبر سهوب قيرغيزستان متأمّلا جذوره وثقافته والأهميّة الروحيّة للأرض.
  • رواية البحيرة الميّتة The Dead Lake للكاتب الكازاخي ثابت ماداليف. وتستكشف الرواية مناظر السهوب وتأثيرها على حياة الشخصيات من خلال تتبّع قصّة شاب يعمل في بحيرة مالحة ومقفرة في السهوب. وتسلّط الرواية الضوء على العزلة والمصاعب والجمال الصارخ للبيئة.
  • مجموعة قصص لحن السهوب The Steppe's Melody للكاتب الطاجيكي سوينشو قابيل. وهي عبارة عن قصص قصيرة تتناول حياة الشعب الطاجيكي الذي يعيش في السهوب. وتعكس القصص جمال السهوب وتحديّاتها وثرائها الثقافي بالإضافة الى مواضيع مثل الهويّة والتقاليد والارتباط الإنسانيّ بالطبيعة.
  • رواية السفينة البيضاء The White Ship للكاتب الآذاري جنكيز عبد اللاييف. وتأخذ هذه الرواية القرّاء في رحلة عبر سهوب آسيا الوسطى وتستكشف التقاليد البدوية والصراع بين أساليب الحياة القديمة والجديدة. كما تتناول مواضيع أخرى كالحفاظ على الثقافة ونموّ الفرد والرابطة بين البشر والطبيعة.
  • رواية الدليل الأزرق The Blue Guide للكاتب الكازاخي توركول أيتماتوف. وتدور أحداث هذه الرواية في السهوب الكازاخستانية، وتحكي قصّة شابّ ينطلق في رحلة للبحث عن جذوره واكتشاف هويّته الثقافية. والكاتب يستكشف العلاقة بين بطل الرواية والسهوب مركّزا على القوّة التحويلية للطبيعة وأهميّة الحفاظ على التراث الثقافي.
  • رواية جميلة Jamila للكاتب القرغيزي جنغيز آيتماتوف. وتدور أحداث هذه الرواية خلال الحرب العالمية الثانية وتحكي قصّة امرأة كازاخية شابّة تُدعى جميلة وعلاقتها الغرامية مع جنديّ جريح. والسهوب تُستخدم كخلفية لهذه العلاقة، مع تركيز على مرونة وشجاعة الشخصيات وسط حقائق الحرب القاسية.
  • رواية البدو The Nomads للكاتب الآذاري قربان سعيد. وتتبع الرواية حياة عائلة قيرغيزية تعيش في السهوب، وتلتقط جمال وتحدّيات وجودهم البسيط. كما تصوّر العلاقة العميقة بين الشخصيات ومحيطها الطبيعي وتقدّم لمحة عن تقاليد وعادات المنطقة.

  • Credits
    voicesoncentralasia.org

    السبت، فبراير 24، 2024

    محطّات


  • يُحكى ان شخصا أهدى نسرين صغيرين إلى أحد الملوك القدماء. كانت سلالة النسرين نادرة، ولم يسبق للملك أن رأى من قبل نسورا بمثل روعتهما. وكان الملك سعيدا جدّا بالهديّة، وقرّر تعيين أحد ذوي الخبرة لرعاية النسرين وتدريبهما. وبعد مرور بعض الوقت، رأى الملك أنهما كبرا وأصبحا أكثر جمالا. وقال للرجل الموكل برعايتهما انه يريد رؤيتهما وهما يطيران.
    حاول المدرّب ان يؤشّر للنسرين بأن يطيرا في السماء تنفيذا لأمر الملك. وبدأ كلاهما يرفرفان بجناحيهما بمجرّد أن رأيا الإشارة. ولكن بينما كان أحدهما يرقى بثقة نحو السماء، طار الآخر لبضع ثوان ثم عاد إلى فرع الشجرة الذي كان يجلس عليه قبل أن يطير.
    بعد أن رأى الملك هذا شعر بأن هناك شيئا غريبا، وأصبح لديه فضول لمعرفة سبب السلوك المتناقض للنسرين. وسأل المدرّب عن السرّ في أنه بينما يطير نسر واحد بشكل جيّد فإن الآخر يبدو متردّدا في طيرانه. فأجاب: كانت هناك مشكلة منذ البداية مع النسر المتردّد، اذ يبدو غير راغب في ترك ذلك الغصن.
    بالنسبة للملك فإن كلا النسرين كانا رائعين. وكان يريد بشدّة أن يرى النسر الآخر يحلّق هو الآخر عاليا في السماء.
    وفي اليوم التالي أعلن الملك في جميع أنحاء البلاد أن الشخص الذي يتمكّن من جعل النسر الآخر يطير عاليا سيكافأ بجائزة كبيرة. وبعد الإعلان أتت اعداد كبيرة من أهل العلم والخبرة وحاولوا توظيف معارفهم لجعل النسر يطير. لكن لم ينجح أحد في تلك المهمّة. وحتى بعد مرور بضعة أسابيع لم يكن هناك تحسّن في وضع النسر. كان يطير لمسافة قصيرة وبعد ذلك يعود إلى فرع الشجرة.
    فقد الملك الأمل في تغيير سلوك النسر وكاد أن ييأس. ثم في أحد الأيام حدث شيء غريب. فقد رأى الملك ان كلا النسرين أصبحا يحلّقان معا عاليا في السماء. ولم يصدّق عينيه، فاتصل على الفور بمدرّبهما ليسأله عن الأمر. فأبلغ الملك بان النسر تخلّى عن تردّده وأصبح يطير بسهولة مع رفيقه.
    وأضاف: لقد نجح شخص واحد في جعل النسر الثاني يطير". فطلب منه الملك إحضار ذلك الشخص الذي حقّق هذا الإنجاز العظيم. وفي اليوم التالي حضر الرجل أمام الملك الذي كان ينتظره بفارغ الصبر ومعه الجائزة الموعودة.
    وخلال الحديث عرف الملك ان الرجل مزارع بسيط. ثم أهداه صندوقا من الذهب مكافأة له على ما فعل. وقال له: انا سعيد كثيرا بما حقّقته، فقط أخبرني ماذا فعلت بالتحديد وكيف فعلت ما عجز عنه كبار العلماء والخبراء؟
    فقال الفلاح: يا مولاي أنا مجرّد مزارع بسيط وليس لديّ معرفة ولا خبرة العلماء. أنا فقط قطعت فرع الشجرة الذي اعتاد النسر الجلوس عليه! وبما أنه لم يعد هناك فرع، لم يكن لدى النسر خيار آخر سوى أن يطير. وقد فعلت هذا بشكل جيّد للغاية".
    النسران في هذه الحكاية تمثّلنا نحن البشر. فكلّ واحد منّا لديه إمكانيات لا يعرفها، مثل ذلك الطائر المهيب. لكن في بعض الأحيان نكون مثل النسر المتعلّق دوما بفرع شجرة مريح.
    المزارع البسيط الذي جعل النسر يطير عاليا يمثّل قوّة التغيير والخروج من منطقة الراحة. وهو لم يكن يملك علما ولا معرفة او خبرة ولا أدوات. وكلّ ما فعله هو قطع ذلك الغصن أو الفرع.
    في حياتنا يمكن أن يرمز الغصن الى مناطق الراحة لدينا، أي تلك الأماكن المألوفة والآمنة التي نميل إلى البقاء فيها وعدم تركها لأننا اعتدناها. لكن النموّ الحقيقي يشبه تحليق النسر في الأعالي، وهو ما يحدث عندما نجرؤ على المغامرة الى ابعد ممّا هو مريح.
    لذا فإن الدرس هنا واضح. فإذا كنت ترغب في الوصول إلى ذرى جديدة، فقد تحتاج إلى قطع بعض الفروع في حياتك. قد تكون هذه الفروع عاداتك القديمة أو شكّك في امكانياتك أو حتى الخوف. والأمر كلّه يتعلّق باتخاذ تلك الخطوة الجريئة مثلما فعل الفلاح، أي إزالة كلّ ما يعيق تحرّكك للأمام.
    فقط تذكّر عندما تترك الفروع التي تقيّدك، فإن السماء ستنفتح امامك بإمكانيات لا نهاية لها وستحقّق أشياء عظيمة مثل ذلك النسر الذي حلّق بشكل رائع في السماء. وهو تذكير بأنه في بعض الأحيان فإن أبسط الاعمال يمكن أن تؤدّي إلى تحوّلات كبيرة ولا تخطر على البال.


  • كان دوستويفسكي معروفا في المقام الأوّل برواياته وأعماله الفلسفية، وليس بنقاشاته للأعمال الفنيّة. ومع ذلك فقد ذكر بعض اللوحات في كتاباته. وتوفّر أوصافه لتلك اللوحات نظرة معمّقة عن أسلوبه الأدبيّ وطبيعة المواضيع التي تناولها.
    ومن المهم أن نلاحظ أن مناقشات دوستويفسكي للوحات غالبا ما تكون جزءا لا يتجزّأ من سياقات سردية أوسع، وهو يذكرها كعناصر رمزية أو موضوعية وليست دراسات نقدية في الفن. ومع ذلك، فإن هذه الاشارات تثبت اهتمامه باستخدام الفنّ البصري لاستكشاف موضوعات نفسية وأخلاقية معقّدة في أعماله الأدبية ولتعميق مواضيع الإيمان والأخلاق والظرف الإنساني.
    طبعا كان دوستويفسكي مسيحيّا متديّنا كما هو معروف، لذا من الطبيعيّ ان تكون اللوحات التي ذكرها في كتاباته ذات طبيعة دينية. ولو عاش حتى مطلع القرن العشرين ورأى اعمال الفنّ الحديث لربّما أدرج بعضها في أعماله.
    وفيما يلي بعض الأمثلة للّوحات التي وظّفها دوستويفسكي في رواياته:
    *مقتل مارات لجاك لوي ديفيد: في رواية "الأبله"، يزور بطل الرواية الأمير ميشكين معرضا فنيّا ويرى فيه هذه اللوحة الشهيرة. ودوستويفسكي يستخدم اللوحة لتوضيح عاطفة ميشكين العميقة وتعاطفه مع معاناة الإنسان.
    *قيامة ليعازر لرمبرانت: في رواية "الأبله" يصف دوستويفسكي لوحة تصوّر الشخصية الدينية "ليعازر أو لازاروس" وهو يقوم من بين الأموات. في الرواية تناقَش اللوحة خلال اجتماع في منزل إيبانتشين وتثير جدلاً فلسفيا ولاهوتيا بين الشخصيات.
    *العائلة المقدّسة لرافائيل: في "الأبله" يشير دوستويفسكي إلى هذه اللوحة خلال محادثة بين شخصية ناستاسيا فيليبوفنا والأمير ميشكين. وتصبح اللوحة نقطة محورية لنقاشهما حول الجمال والفنّ وطبيعة الخير والشرّ.
    *الحكم الأخير لهانز ميملينغ: يذكر دوستويفسكي هذه اللوحة في روايته "الإخوة كارامازوف". ويتحدّث عن اللوحة كاستعارة للمعضلات الأخلاقية والوجودية التي تواجهها شخصيات الرواية ولتعكس مواضيع مثل الذنب والفداء والحكم الإلهي.
    *الناسك لميخائيل نيستيروف: على الرغم من أن هذه اللوحة لم تُذكر بالاسم، إلا أن دوستويفسكي يشير في روايته "الإخوة كارامازوف" إلى لوحة تحمل نفس سماتها. وتصوّر اللوحة شخصية حكيمة ونبيلة تمثّل ناسكا أو مرشدا روحيّا يتحوّل الى رمز للبصيرة الأخلاقية وموجّه للشخصيات.
    *حلم القدّيس يوحنّا لهانز ميملينغ: في " الإخوة كارامازوف"، يشير فيودور كارامازوف إلى هذه اللوحة وهو في حالة سكر ويناقش معتقداته المشوّهة وفهمه المنحرف للدين.
    *شفاء المشلول لجان بابتيست غروز: يشير دوستويفسكي إلى هذه اللوحة في مشهد يتحدّث فيه إيفان كارامازوف مع شقيقه أليوشا، واصفا اللوحة بأنها صورة للرحمة الإنسانية واللطف ويقارنها بالواقع القاسي للعالم.
    *النزول من على الصليب لروهير فان دير وايدن: يشير دوستويفسكي بإيجاز إلى هذه اللوحة في روايته "الجريمة والعقاب". حيث يتأمّل بطل الرواية راسكولنيكوف اللوحة أثناء زيارته لحانة. وتصويرها لمعاناة المسيح وتضحيته يتردّد صداه مع ذنبه وبحثه عن الفداء.
    *مادونا سيستينا لرافائيل: يرد ذكر هذه اللوحة الشهيرة في رواية "المراهق". بطل الرواية أركادي دولغوروكي يزور معرضا فنيّا ويرى اللوحة هناك. المشهد يعكس التأثير العاطفي للعمل الفنّي على أركادي ويجسّد مثاليّته الشبابية وشوقه للجمال.
    *مادونا ديل ساكو لأندريا ديل سارتو: في رواية "الإخوة كارامازوف"، يتحدّث إيفان كارامازوف عن هذه اللوحة خلال محادثة مع شقيقه أليوشا، فيصفها بأنها تصوير لمعاناة ويأس الإنسانية وللثيوديسيا "أو العدالة الإلهية".
    *العشاء الأخير لليوناردو دافنشي: على الرغم من عدم ذكر اللوحة بالاسم، إلا أن هناك إشارات إليها في "الإخوة كارامازوف". والرواية تتضمّن مناقشات وتأمّلات حول واقعة العشاء الأخير باعتبارها تمثيلاً رمزيّا للخيانة والشعور بالذنب والفداء.
    تلك مجرّد أمثلة عن اللوحات التي أشار اليها دوستويفسكي في رواياته واستخدمها لاستكشاف بعض الموضوعات الفلسفية والأخلاقية والروحية ولإضفاء عمق ورمزية إلى أعماله الأدبية.
    وغالبا ما كان الكاتب يستخدم اللوحات الفنّية كرموز أو تمثيلات مجازية لمفاهيم مجردّة. ومن خلال الإشارة إلى أعمال فنّية محدّدة، فإنه يضفي عليها معنى أعمق ويدعو القرّاء إلى تفسير رمزيّتها لاستكشاف تعقيدات الإيمان والأخلاق والتجربة الإنسانية.
    واللوحات تعمل أيضا كمحفّز للنقاشات الأخلاقية والفلسفية بين شخصيات الكاتب. إذ تنخرط الشخصيات في مناقشات وأحاديث حول معنى الأعمال الفنّية وآثارها، وتُستخدم كنقطة انطلاق لاستكشاف أسئلة عميقة حول طبيعة الخير والشرّ ووجود الله.
    وأوصاف دوستويفسكي للصور الفنيّة تثير استجابات عاطفية ونفسية قويّة لدى شخصيّاته وقرّائه على حدٍّ سواء. ويؤدّي تأمّل الأعمال الفنّية إلى تحفيز التأمّل الذاتي ولحظات التجلّي لدى الشخصيّات، ما يسمح لهم بمواجهة صراعاتهم الداخلية وشكوكهم ورغباتهم.

  • Credits
    dostoevsky.org