:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يونيو 17، 2024

خواطر في الأدب والفن

  • "روبنسون كروزو" و"دون كيشوت" كانتا من أوائل ما قرأت من الكتب المترجمة. ورغم أنني نسيت معظم أحداث الروايتين، إلا أنني ما زلت أتذكّر إلى اليوم العديد من رسوماتهما التوضيحية المدهشة والتي نُقلت هي أيضا من النسخ الأصلية.
    رسم الكتب شهد عصرا ذهبيا زمن الفيكتوريين. وقتها كان الفنّ عنصرا مهمّا من أيّ كتاب، لأنه يوضّح ويشرح أكثر ويضيف معنى للقصّة ويزيد من الجاذبية الجمالية للنص. لكن في ما بعد ظهر رأي يتبنّى فكرة "النقاء الأدبي"، ويقول إن مرافقة الصور أو الرسومات للأدب يُعدّ إفسادا له من الناحية الجمالية.
    وهناك من يرى ألا أهمية للرسومات، على أساس أن القارئ يجب أن يطلق العنان لمخيّلته أثناء القراءة وأن من واجب الكاتب أو المؤلّف أن لا يكتب فقط، بل أن يُظهر للقارئ ما الذي يعنيه دونما حاجة لصور أو رسوم. وهناك اليوم بعض الكتاب، وهم قليلون، ممّن يتمتّعون بأساليب لغوية بصرية، أي أن مقدرتهم على الوصف والتخيّل فائقة لدرجة تنتفي معها الحاجة للرسومات.

    ❉ ❉ ❉

  • رمزية الحيوانات ملمح مهم في الفنّ والأدب منذ أقدم الأزمنة. وفي العصور الوسطى والتي سبقتها كانت الحيوانات جزءا من اللغة البصرية السائدة. ولم يكن هذا مستغربا بسبب مركزية الدين ومحدودية العلم والمعرفة وقتها. لذا كانت رمزية الحيوان مهمّة في الثقافة ووُظفت كأداة لإعادة الخطّائين والمذنبين إلى جادّة الصواب.
    وكان الناس آنذاك، لجهلهم، يعتقدون أن بمقدور الحيوانات التعرّف على مدى تقوى أو فساد شخص ما. فإذا حطّ غراب على سطح منزل ريفي، مثلا، كان ذلك سببا كافيا لإضرام النار في المنزل بحجّة أن ساكنيه متلبّسون بالخطيئة.
    كما شاع اعتقاد بأن باستطاعة الكلاب النفاذ إلى روح الإنسان. وقد استُخدمت الكلاب لتحديد ما إذا كان شخص ما زنديقا أو مشعوذا. ولم تكن ساحات المحاكم في أوربّا تخلو من وجود كلاب فيها. فإذا نبح الكلب شخصا متّهما أو وجّه إليه نظرات شكّ، فإن ذلك الشخص يُدان على الفور بممارسة الشعوذة، ثم يؤخذ إلى ساحة القرية فيُحرق هناك وهو حيّ.
    فيما بعد تغيّرت تلك الصورة النمطية الخرافية والسلبية عن الكلاب، فأصبحت أفضل صديق للإنسان وصارت مضرب المثل في الوفاء. الفنّان ادوين لاندسير عاش في القرن التاسع عشر واشتهر برسوماته للكلاب. وكانت صوره تعكس شغف المجتمع الفيكتوري بهذه الحيوانات.
    في احدى أشهر لوحاته "فوق"، رسم كلبا يحتضن تابوت صاحبه لشدّة حزنه على موته. كانت لوحات لاندسير عن الكلاب ذات شعبية كبيرة، لدرجة أن سلالة جديدة من الكلاب سُمّيت باسمه "أي كلاب لاندسير".

    ❉ ❉ ❉

  • كانت الحروب الصليبية عبارة عن سلسلة من الحروب "المقدّسة" التي شنّتها الكنيسة الكاثوليكية خلال العصور الوسطى. ومعظم المؤرّخين يُحصون تسع حملات وقعت ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر.
    وكان الهدف من تلك الحروب هو جعل القدس جزءا من العالم المسيحي. لكن الحملة الصليبية الرابعة لم تصل إلى القدس، لأن الصليبيين قرّروا بدلاً من ذلك أن يشنّوا حربا على الإمبراطورية البيزنطية والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية. ونجحت الحملة الصليبية الرابعة في احتلال القسطنطينية ونهبها.
    في هذه اللوحة، يرسم اوجين ديلاكروا مشهدا من الحملة الصليبية الرابعة، وهو دخول الصليبيين بقيادة ملك بلجيكا إلى القسطنطينية. كانت تلك الخطوة، كما سبقت الإشارة، انحرافا عن خطّتهم الأساسية بالذهاب إلى بيت المقدس "لتحريره" من المسلمين. لكنهم على ما يبدو وجدوا في القسطنطينية هدفا أسهل.
    وديلاكروا يرسم المنظر من نقطة مرتفعة تكشف عن خلفية بانورامية يظهر فيها جانب من البوسفور والبحر وسماء غائمة. والرسّام متعاطف كالعادة مع الطرف الضعيف والمعتدى عليه ومع ضحايا الحروب. في المقدّمة نرى رجلا مسنّا يحاول حماية امرأة وطفل ويرفع يده متوسّلا الرحمة من الجند المتقدّمين.
    وجوه المهاجمين تقع في الظلّ، ربّما للإشارة إلى ذنبهم وخزيهم. ومع ذلك فكميّة العنف في اللوحة اقلّ منه في صور الرسّام الأخرى. الجنود أنفسهم يبدون منهكين أكثر من كونهم متعطّشين للدماء. والمنظر في عمومه يصحّ وصفه بأنه تأمّل في ويلات وكوارث الحرب.

    ❉ ❉ ❉


  • قبل أبي العلاء المعرّي بحوالي مائتي عام، كان يعيش في البصرة عالم متصوّف يُدعى الحارث ابن أسد المحاسبي. وقد ألّف رسالة وعظية اسماها "التوهّم"، أي التخيّل أو التصوّر، وفيها يأخذ القارئ إلى رحلة متخيّلة إلى الجنّة والنار. ويصف بالتفصيل ما يحدث للإنسان منذ لحظة موته ووضعه في القبر إلى أن يُبعث ليذهب إلى مستقرّه الأخير إن كان جنّة أو نارا.
    وتتضمّن الرسالة وصفا للبعث لا يخلو من طرافة، فعندما يُبعث الموتى من قبورهم، تهبط الوحوش والسباع من الجبال وتخرج الجنّ والشياطين من مخابئها في البرّ والبحر وتُطمس الشمس والقمر وتتساقط النجوم من السماء فتغرق الأرض في ظلام حالك ويسود الهرج والمرج بين المخلوقات.
    كما تتضمّن الرسالة أوصافا للملائكة وللحياة في الجنّة، حيث حور العين وأنهار الفضّة والحدائق المرصوفة بالياقوت والذهب والزمرّد. كتاب المحاسبي يسبق من حيث موضوعه رسالة الغفران للمعرّي بحوالي قرنين والكوميديا الإلهية لدانتي بأكثر من أربعمائة عام.
    وعلى ذكر الكوميديا الإلهية، هناك من يقارنها برسالة الغفران للمعرّي. وبعيدا عن مسألة من تأثّر بمن، ثمّة فارق مهم بين كتابي دانتي والمعرّي. فالكوميديا الإلهية نصّ شعري ديني وعظي، بينما رسالة الغفران نصّ أدبي لغوي فلسفي. ودانتي ألّف كتابه لتخويف الناس في زمانه من النار وجلبهم إلى الكنيسة. لكن وصفه المرعب للجحيم دفع بالكثيرين إلى هجر الدين، بل والنفور منه.
    وفي المقابل، فإن رسالة الغفران نصّ دنيوي في جوهره وليس فيه مواعظ أو دروس أخلاقية ولا يتضمّن مشاهد رعب وهَول كالتي في كتاب دانتي. والمعرّي كان أكثر تواضعا وعقلانية من دانتي المتعصّب مسيحيّاً، فلم يجرؤ على محاكمة الناس والتفنّن في تعذيب من يعتبرهم خطّائين والحكم عليهم بالجنّة أو النار، كما فعل الشاعر الإيطالي.

    ❉ ❉ ❉

  • قبيل وفاته، كتب فان غوخ رسالة إلى أخيه ثيو يقول فيها واصفا طبيبه الخاصّ د. بول غاشيه: لقد وجدت في هذا الطبيب الطيّب أخا وصديقا حميما. لكن لا يجب أن نعتمد عليه، فهو أوّلا مريض أكثر منّي، وعندما يقود الأعمى أعمى مثله فسيقعان معا في الحفرة".
    وبعد مقتل فان غوخ في يوليو 1890، أُلقي باللوم على طبيبه د. غاشيه لفشله في استخراج الرصاصة من جسده وبالتالي في إنقاذ حياته. لكن المحقّقين الذين رأوا الرسّام في ساعاته الأخيرة نقلوا عنه قوله: إن جسدي هو ملكي وأنا حرّ في أن افعل به ما أشاء. لا تتّهموا أحدا بقتلي فأنا الذي قرّرت إنهاء حياتي بنفسي".
    وقبل سنوات، اشترى لوحة د. غاشيه لفان غوخ الملياردير الياباني ريو ساييتو الذي عُرف بغرابة أطواره. وقد دفع في اللوحة مبلغا فلكيا قدره 82 مليون دولار. وقال هذا المليونير وقتها: لقد اشتريت صورة عظيمة، وكنت على استعداد لأدفع حتى 100 مليون دولار لاقتنائها. وأوصيت بأن تُحرق معي عندما أموت لترافقني في القبر."
    كان فان غوخ قد رسم نسختين من بورتريه غاشيه، احداهما هي اليوم من مقتنيات متحف دورسيه الفرنسي، بينما لا يُعرف حتى الآن مصير النسخة التي ابتاعها الملياردير الياباني.

    ❉ ❉ ❉

  • يشير مصطلح "جريمة قتل الغربان Murder of Crows" إلى تجمّع كبير من الغربان. ومفردة "القتل" هنا لا تعني أيّ سلوك عنيف أو خبيث من جانب هذه الطيور، بل هو ببساطة مصطلح يُستخدم اليوم لوصف سرب من الغربان فحسب.
    وربّما أدّى ارتباط الغراب بالموت نتيجةً لميله إلى البحث عن الطعام في ساحات المعارك إلى ظهور هذا المصطلح الشرّير في البداية. ومن المعروف أن الغربان طيور ذكيّة للغاية واجتماعية ومعروفة بريشها الأسود المميّز وأصوات نعيقها العالي. وعندما تتجمّع بأعداد كبيرة، فغالبا ما يشار إلى ذلك على أنه جريمة قتل، وهو وصف مجازيّ فقط كما سبقت الاشارة.
    وأصول مصطلح "قتل الغربان" غير واضحة، لكن يُعتقد أنه نشأ في فولكلور وآداب العصور الوسطى. وفي قصص ذلك العصر، ارتبطت الغربان بالموت والظلام، وغالبا ما كان يُنظر إلى مجموعة من الغربان على أنها نذير شؤم أو سوء حظّ.
    والغربان أحادية الزواج وتتزاوج مدى الحياة. وهناك جانب آخر مميّز لمجتمعاتها، وهو أنها تُظهر قدرتها على التعرّف على موتاها وإقامة "جنازات" لهم، وهو أمر لم يلاحَظ إلا في عدد قليل من الأنواع الأخرى، مثل الفيلة والدلافين وغيرها.
    وقد لوحظ أن الغربان تتجمّع حول جثث موتاها وتخلق مشهدا مقلقا لمن يراه من البشر. والغربان طيور قابلة للتكيّف بدرجة كبيرة، كما أنها واسعة الحيلة وتلعب دورا مهمّا في التوازن البيئي.
  • Credits
    eugene-delacroix.com
    vangoghmuseum.nl