إذا كان حلم الشعراء والفلاسفة أن يسيطروا على رجال السلطة، فلا شكّ أن الفيلسوف الرومانيّ سينيكا كان مهيّأ تماما لفعل ذلك.
كان هذا الرجل، المولود في اسبانيا قبل ألفي عام، من أكثر الشخصيات فتنةً وإثارةً للجدل في الأزمنة القديمة. كان خطيبا مفوّها ومؤلّفا و"واعظا أخلاقيّا" بلغة هذه الأيّام.
وأحد أشهر أقواله التي تُقتبس عنه دائما هو قوله: لم نُعطَ حياة قصيرة بل نحن من يجعلها كذلك، لدينا الكثير من الوقت لكنّنا نضيّعه".
وفي أعماله الفلسفية الأخلاقية، يؤكّد سينيكا على أن مفتاح الحياة الفاضلة هو التحرّر من العواطف، وأن الفضيلة ضرورية للسعادة وكافية لخلقها.
وهناك كلام آخر كثير له يحاول من خلاله أن يقودنا للتغلّب على مشاكل الحياة كالفقر والغضب والفشل وغير ذلك.
كان سينيكا احد منظّري الفلسفة الرواقية التي ترى أن الإنسان يجب أن يتحرّر من انفعالات الفرح أو الحزن وأن يُخضِع كلّ تصرّفاته وأفعاله لأحكام الضرورة.
المفارقة أن هذا الفيلسوف، صاحب الأفكار الإنسانوية والتعاليم الأخلاقية كما عبّر عنها في كتاباته، هو الذي علّم احد أكثر أباطرة روما استبداداً ودمويةً، أي نيرون، بل وعمل عنده مستشارا إلى أن لقي مصرعه أخيرا على يد معلّمه.
في العام 59 م، قرّر نيرون أن يقتل والدته أغريبينا. كان الاثنان في حالة خصام دائم. وقد استدعى أمّه لحضور احتفال أقامه في نابولي وعاملها خلاله بمحبّة عظيمة.
لكن قبل مغادرتها الحفل، أهدى إليها هديّة ثمينة هي عبارة عن قارب، كي يأخذها إلى الشاطئ. وكان ذلك القارب مصيدة للموت.
غير أن الأمور لم تسِر حسب ما كان مخطّطا. فقد حاول المتآمرون أن يقلبوا القارب في عرض البحر. لكن أغريبينا ومرافقتها تمكّنتا من السباحة إلى أن انتشلهما قارب صيد ونقلهما إلى الشاطئ بسلام.
وعندما علم نيرون عن نجاة والدته، أرسل بعض سفّاحيه للإجهاز عليها، وقام هؤلاء بقتلها طعنا بالسكاكين.
كان تعاطف نيرون الذي أظهره لوالدته في الحفل والقارب الهديّة حيلة منه لجعل موتها يبدو وكأنه حادث عرضيّ.
لكن الناس عرفوا في النهاية حقيقة ما حدث. لذا استدعى نيرون الرجل الذي كان يعتمد عليه دائما في تذليل الصعاب واختلاق الأعذار، أي سينيكا، كي يستشيره في الأمر.
كان سينيكا "صوت سيّده" بامتياز. وقد بعث برسالة إلى مجلس الشيوخ يشرح فيها ما حدث لأغريبينا، وقال إنها كانت امرأة متعطّشة للسلطة وتخطّط لانقلاب. وعندما اكتُشفت المؤامرة قامت بقتل نفسها".
أما بالنسبة لغرق القارب، فقد كانت تلك كما قال "علامة على أن الآلهة نفسها حاولت أن تتدخّل بالنيابة عن الإمبراطور".
ردود فعل نخبة روما على الخطاب كان مرحّبا ومبتهجا. أما الشيوخ فقد احتفلوا بنجاة نيرون بإطلاق الألعاب النارية وبتقديم النذور في الأضرحة. واقترحوا أن يكون يوم مولد أغريبينا يوما مشئوما في تاريخ الإمبراطورية.
عندما كان سينيكا في الثلاثينات من عمره، أي قبل أن يصبح نيرون إمبراطورا، كتب عن الامتلاك والوظائف الرفيعة في الدولة. وكان من بين أصدقائه الأغنياء والمتنفّذين جوليا شقيقة الإمبراطور كاليغولا.
لكن في سنة إحدى وأربعين للميلاد، اغتيل كاليغولا واستُبدل بعمّه كلاوديوس. وقد اتهم الإمبراطور الجديد جوليا بارتكاب جريمة الزنا مع سينيكا. هل حدث هذا فعلا؟ لا توجد أدلّة قاطعة تؤكّد أو تنفي هذه الفرضية.
لكن على أيّ حال حُكم على جوليا بالنفي إلى جزيرة قبالة ساحل نابولي حيث ماتت بعد بضع سنوات. أما سينيكا فقد نُفي إلى جزيرة كورسيكا التي كانت في ذلك الوقت مشهورة بجمال طبيعتها وذكاء أهلها.
وخلال سنوات المنفى كتب رسالتين، إحداهما بعنوان "عزاء إلى هيلينا" يخاطب فيها أمّه التي حزنت كثيرا لنفيه ويخبرها أن المنفى ليس بالشيء الكثير بل هو فقط تغيير في العنوان.
وكلا الرسالتين تتضمّنان نصيحة بعدم الاكتراث بما يبدو للعقل وكأنه حظوظ سيّئة. لكن بعض المؤرّخين قرءوا الرسالتين على أنهما محاولة متوسّلة من سينيكا للعودة إلى روما.
وقد قضى في منفاه عشر سنوات تقريبا. وكان يمكن أن يقضي أكثر لولا بعض المشاكل التي حدثت داخل العائلة الإمبراطورية.
ففي عام ثمانية وأربعين للميلاد، قُتلت زوجة كلاوديوس الثالثة، واتخذ من أغريبينا أخت كاليغولا وجوليا زوجة جديدة. وقد أقنعت أغريبينا كلاوديوس بأن يعيد سينيكا من منفاه إلى روما.
كان هذا الرجل، المولود في اسبانيا قبل ألفي عام، من أكثر الشخصيات فتنةً وإثارةً للجدل في الأزمنة القديمة. كان خطيبا مفوّها ومؤلّفا و"واعظا أخلاقيّا" بلغة هذه الأيّام.
وأحد أشهر أقواله التي تُقتبس عنه دائما هو قوله: لم نُعطَ حياة قصيرة بل نحن من يجعلها كذلك، لدينا الكثير من الوقت لكنّنا نضيّعه".
وفي أعماله الفلسفية الأخلاقية، يؤكّد سينيكا على أن مفتاح الحياة الفاضلة هو التحرّر من العواطف، وأن الفضيلة ضرورية للسعادة وكافية لخلقها.
وهناك كلام آخر كثير له يحاول من خلاله أن يقودنا للتغلّب على مشاكل الحياة كالفقر والغضب والفشل وغير ذلك.
كان سينيكا احد منظّري الفلسفة الرواقية التي ترى أن الإنسان يجب أن يتحرّر من انفعالات الفرح أو الحزن وأن يُخضِع كلّ تصرّفاته وأفعاله لأحكام الضرورة.
المفارقة أن هذا الفيلسوف، صاحب الأفكار الإنسانوية والتعاليم الأخلاقية كما عبّر عنها في كتاباته، هو الذي علّم احد أكثر أباطرة روما استبداداً ودمويةً، أي نيرون، بل وعمل عنده مستشارا إلى أن لقي مصرعه أخيرا على يد معلّمه.
في العام 59 م، قرّر نيرون أن يقتل والدته أغريبينا. كان الاثنان في حالة خصام دائم. وقد استدعى أمّه لحضور احتفال أقامه في نابولي وعاملها خلاله بمحبّة عظيمة.
لكن قبل مغادرتها الحفل، أهدى إليها هديّة ثمينة هي عبارة عن قارب، كي يأخذها إلى الشاطئ. وكان ذلك القارب مصيدة للموت.
غير أن الأمور لم تسِر حسب ما كان مخطّطا. فقد حاول المتآمرون أن يقلبوا القارب في عرض البحر. لكن أغريبينا ومرافقتها تمكّنتا من السباحة إلى أن انتشلهما قارب صيد ونقلهما إلى الشاطئ بسلام.
وعندما علم نيرون عن نجاة والدته، أرسل بعض سفّاحيه للإجهاز عليها، وقام هؤلاء بقتلها طعنا بالسكاكين.
كان تعاطف نيرون الذي أظهره لوالدته في الحفل والقارب الهديّة حيلة منه لجعل موتها يبدو وكأنه حادث عرضيّ.
لكن الناس عرفوا في النهاية حقيقة ما حدث. لذا استدعى نيرون الرجل الذي كان يعتمد عليه دائما في تذليل الصعاب واختلاق الأعذار، أي سينيكا، كي يستشيره في الأمر.
كان سينيكا "صوت سيّده" بامتياز. وقد بعث برسالة إلى مجلس الشيوخ يشرح فيها ما حدث لأغريبينا، وقال إنها كانت امرأة متعطّشة للسلطة وتخطّط لانقلاب. وعندما اكتُشفت المؤامرة قامت بقتل نفسها".
أما بالنسبة لغرق القارب، فقد كانت تلك كما قال "علامة على أن الآلهة نفسها حاولت أن تتدخّل بالنيابة عن الإمبراطور".
ردود فعل نخبة روما على الخطاب كان مرحّبا ومبتهجا. أما الشيوخ فقد احتفلوا بنجاة نيرون بإطلاق الألعاب النارية وبتقديم النذور في الأضرحة. واقترحوا أن يكون يوم مولد أغريبينا يوما مشئوما في تاريخ الإمبراطورية.
عندما كان سينيكا في الثلاثينات من عمره، أي قبل أن يصبح نيرون إمبراطورا، كتب عن الامتلاك والوظائف الرفيعة في الدولة. وكان من بين أصدقائه الأغنياء والمتنفّذين جوليا شقيقة الإمبراطور كاليغولا.
لكن في سنة إحدى وأربعين للميلاد، اغتيل كاليغولا واستُبدل بعمّه كلاوديوس. وقد اتهم الإمبراطور الجديد جوليا بارتكاب جريمة الزنا مع سينيكا. هل حدث هذا فعلا؟ لا توجد أدلّة قاطعة تؤكّد أو تنفي هذه الفرضية.
لكن على أيّ حال حُكم على جوليا بالنفي إلى جزيرة قبالة ساحل نابولي حيث ماتت بعد بضع سنوات. أما سينيكا فقد نُفي إلى جزيرة كورسيكا التي كانت في ذلك الوقت مشهورة بجمال طبيعتها وذكاء أهلها.
وخلال سنوات المنفى كتب رسالتين، إحداهما بعنوان "عزاء إلى هيلينا" يخاطب فيها أمّه التي حزنت كثيرا لنفيه ويخبرها أن المنفى ليس بالشيء الكثير بل هو فقط تغيير في العنوان.
وكلا الرسالتين تتضمّنان نصيحة بعدم الاكتراث بما يبدو للعقل وكأنه حظوظ سيّئة. لكن بعض المؤرّخين قرءوا الرسالتين على أنهما محاولة متوسّلة من سينيكا للعودة إلى روما.
وقد قضى في منفاه عشر سنوات تقريبا. وكان يمكن أن يقضي أكثر لولا بعض المشاكل التي حدثت داخل العائلة الإمبراطورية.
ففي عام ثمانية وأربعين للميلاد، قُتلت زوجة كلاوديوس الثالثة، واتخذ من أغريبينا أخت كاليغولا وجوليا زوجة جديدة. وقد أقنعت أغريبينا كلاوديوس بأن يعيد سينيكا من منفاه إلى روما.
الزوجة المدبّرة والماكرة هي ملمح ثابت في تاريخ روما. كانت النساء آسوأ من الرجال وأكثر قسوةً وجنوناً وشبقاً في كثير من الأحيان. والعديد من القصص التي أتت إلينا من تلك الفترة من الصعب تصديقها لغرابتها.
كانت أغريبينا نمطا كلاسيكيّا من النساء، فقد زُوّجت من دوميتيوس، وهو شخص سيّئ السمعة، عندما كانت في سنّ الثالثة عشرة. دوميتيوس الذي كان يكبرها بثلاثين عاما أصبح والد نيرون. وبعد موته وجدت أغريبينا زوجا جديدا في شخص احد الوجهاء الأثرياء. ويشاع أنها قتلت الأخير بالسمّ كي تستولي على عقاراته وتجارته.
عندما تزوّجت أغريبينا كلاوديوس كان عمرها ثلاثة وثلاثين عاما. وقد استدعت سينيكا كي يقوم بتعليم ابنها الصغير، أي نيرون. وربّما كانت تريد من ذلك استنساخ تجربة أرسطو مع تلميذه الاسكندر المقدونيّ. لكنها وظّفت مواهبه الأخرى لاستخدامها عند اللزوم.
وقد رتّبت أغريبينا لزواج نيرون من إحدى بنات كلاوديوس. ويقال انه بعد عام من ذلك الزواج، قامت بقتل كلاوديوس نفسه بفطر مسموم. وبعد ساعات من موته، ألقى نيرون خطابا إلى الأمّة أعلن فيه عن تنصيب نفسه إمبراطورا ووعد الجنود الموالين له بمكافآت كبيرة. وكان سينيكا هو الذي صاغ ذلك الخطاب.
جريمة قتل كلاوديوس أثارت جولة جديدة من الصراع داخل القصر، فكلّ من رأى فيه النظام الجديد تهديدا له تمّ سحقه بقوّة.
وفي تلك الأثناء، ألّف سينيكا كتابا عنوانه "عن الرحمة" قرأه بعض المؤرّخين على انه مديح للحاكم الشابّ العنيف والخطير، أي نيرون، لدرجة التغطية على حقيقة سلوكه.
والأسوأ من ذلك، أن سينيكا، الذي طالما امتدح الفقر في كتاباته وحثّ الناس على أن لا يكونوا عبيدا للثروة، صار مع مرور الوقت شخصا غنيّا جدّا بفضل جرائم نيرون.
وفي نهاية ذلك العقد، أصبح يملك عقارات كثيرة، ليس في روما فحسب وإنما في اسبانيا ومصر أيضا. وقد مكّنته ثروته الهائلة من التمتّع بأسلوب حياة باذخ بمعايير هذه الأيّام.
وعندما كتب كتابه "عن الحياة السعيدة"، اتهمه احد الساسة وقتها علنا بأنه "منافق" وأنه قام بتجفيف أموال الأقاليم وتحويلها إلى جيبه. وبعد ذلك وجد ذلك السياسيّ المنتقِد نفسه منفيّا.
هناك تناقضات كثيرة في حياة سينيكا. رسالته التي تفسّر مقتل أغريبينا كانت طريقة من الطرق التي اتّبعها للدفاع عن نظام فاسد. ويتساءل البعض كيف نفسّر تمسّك الفيلسوف بتلميذه المتوحّش.
احد المؤرّخين الانجليز وصف سينيكا بأنه منافق ليس له مثيل في تاريخ العالم القديم. لكن هناك من دافع عنه بالقول انه اغتنى كي يمنع حدوث الأسوأ لروما، لذا بقي على ولائه لنيرون وبذلك ضحّى باسمه وسمعته.
ورغم جرائم نيرون الكثيرة، إلا أن السنوات الخمس الأولى من حكمه اتسمت بالاستقرار النسبيّ. في تلك الفترة كان نفوذ سينيكا عليه كبيرا جدّا. لكن عندما همّش نيرون معلّمه، حلّت تسع سنوات رهيبة بلغت ذروتها عندما غرقت روما في الفوضى.
كان سينيكا كاتبا مسرحيا أيضا. وبعض مسرحياته يعبّر فيها عن كربه الأخلاقيّ لتعاونه مع نيرون.
نهايته هو نفسه كانت مأساوية، بعدما قيل عن ضلوعه عام خمسة وستين للميلاد في مؤامرة لاغتيال نيرون واستبداله برجل نبيل جميل الملامح يقال له غاليوس.
ووفقا لبعض المصادر، كانت هناك داخل هذه المؤامرة مؤامرة فرعية لقتل غاليوس ثم تنصيب سينيكا نفسه امبرطورا. غير أن المتآمرين لم ينفّذوا الخطّة كما يجب واستطاع نيرون أن يقبض عليهم ويصفّيهم واحدا بعد الآخر.
لكن سينيكا أصرّ على براءته، وربّما كان يقول الحقيقة. لكن نيرون أمره بأن ينحر نفسه. في البداية قطع رسغ يده، وعندما لم يمت حاول قطع وريد في باطن ركبته ونزف حتى مات.
لم يكن سينيكا قادرا على انتزاع نفسه من نظام دفعه للتنكّر لشعاراته الأخلاقية. واختار أن يبقى في وظيفته في السلطة ثم أن يخاطر بحياته قبل أن يهرب بارتكابه الانتحار.
اليوم لم يعد سينيكا مفضّلا عند الكثيرين. الكتّاب الرومانسيون اعتبروه فيلسوفا سيّئا وكاتبا مسرحيّا أسوأ. وحتى أسلوبه في الكتابة كان موضع سخرية من الكثيرين. مؤرّخ بريطاني قال عنه مرّة إن قراءة سينيكا تشبه أن يتغدّى الإنسان على حساء بلا طعم.
ومع ذلك ما تزال تُكتب عنه وعن حياته الكثير من الكتب حتى اليوم.
كانت أغريبينا نمطا كلاسيكيّا من النساء، فقد زُوّجت من دوميتيوس، وهو شخص سيّئ السمعة، عندما كانت في سنّ الثالثة عشرة. دوميتيوس الذي كان يكبرها بثلاثين عاما أصبح والد نيرون. وبعد موته وجدت أغريبينا زوجا جديدا في شخص احد الوجهاء الأثرياء. ويشاع أنها قتلت الأخير بالسمّ كي تستولي على عقاراته وتجارته.
عندما تزوّجت أغريبينا كلاوديوس كان عمرها ثلاثة وثلاثين عاما. وقد استدعت سينيكا كي يقوم بتعليم ابنها الصغير، أي نيرون. وربّما كانت تريد من ذلك استنساخ تجربة أرسطو مع تلميذه الاسكندر المقدونيّ. لكنها وظّفت مواهبه الأخرى لاستخدامها عند اللزوم.
وقد رتّبت أغريبينا لزواج نيرون من إحدى بنات كلاوديوس. ويقال انه بعد عام من ذلك الزواج، قامت بقتل كلاوديوس نفسه بفطر مسموم. وبعد ساعات من موته، ألقى نيرون خطابا إلى الأمّة أعلن فيه عن تنصيب نفسه إمبراطورا ووعد الجنود الموالين له بمكافآت كبيرة. وكان سينيكا هو الذي صاغ ذلك الخطاب.
جريمة قتل كلاوديوس أثارت جولة جديدة من الصراع داخل القصر، فكلّ من رأى فيه النظام الجديد تهديدا له تمّ سحقه بقوّة.
وفي تلك الأثناء، ألّف سينيكا كتابا عنوانه "عن الرحمة" قرأه بعض المؤرّخين على انه مديح للحاكم الشابّ العنيف والخطير، أي نيرون، لدرجة التغطية على حقيقة سلوكه.
والأسوأ من ذلك، أن سينيكا، الذي طالما امتدح الفقر في كتاباته وحثّ الناس على أن لا يكونوا عبيدا للثروة، صار مع مرور الوقت شخصا غنيّا جدّا بفضل جرائم نيرون.
وفي نهاية ذلك العقد، أصبح يملك عقارات كثيرة، ليس في روما فحسب وإنما في اسبانيا ومصر أيضا. وقد مكّنته ثروته الهائلة من التمتّع بأسلوب حياة باذخ بمعايير هذه الأيّام.
وعندما كتب كتابه "عن الحياة السعيدة"، اتهمه احد الساسة وقتها علنا بأنه "منافق" وأنه قام بتجفيف أموال الأقاليم وتحويلها إلى جيبه. وبعد ذلك وجد ذلك السياسيّ المنتقِد نفسه منفيّا.
هناك تناقضات كثيرة في حياة سينيكا. رسالته التي تفسّر مقتل أغريبينا كانت طريقة من الطرق التي اتّبعها للدفاع عن نظام فاسد. ويتساءل البعض كيف نفسّر تمسّك الفيلسوف بتلميذه المتوحّش.
احد المؤرّخين الانجليز وصف سينيكا بأنه منافق ليس له مثيل في تاريخ العالم القديم. لكن هناك من دافع عنه بالقول انه اغتنى كي يمنع حدوث الأسوأ لروما، لذا بقي على ولائه لنيرون وبذلك ضحّى باسمه وسمعته.
ورغم جرائم نيرون الكثيرة، إلا أن السنوات الخمس الأولى من حكمه اتسمت بالاستقرار النسبيّ. في تلك الفترة كان نفوذ سينيكا عليه كبيرا جدّا. لكن عندما همّش نيرون معلّمه، حلّت تسع سنوات رهيبة بلغت ذروتها عندما غرقت روما في الفوضى.
كان سينيكا كاتبا مسرحيا أيضا. وبعض مسرحياته يعبّر فيها عن كربه الأخلاقيّ لتعاونه مع نيرون.
نهايته هو نفسه كانت مأساوية، بعدما قيل عن ضلوعه عام خمسة وستين للميلاد في مؤامرة لاغتيال نيرون واستبداله برجل نبيل جميل الملامح يقال له غاليوس.
ووفقا لبعض المصادر، كانت هناك داخل هذه المؤامرة مؤامرة فرعية لقتل غاليوس ثم تنصيب سينيكا نفسه امبرطورا. غير أن المتآمرين لم ينفّذوا الخطّة كما يجب واستطاع نيرون أن يقبض عليهم ويصفّيهم واحدا بعد الآخر.
لكن سينيكا أصرّ على براءته، وربّما كان يقول الحقيقة. لكن نيرون أمره بأن ينحر نفسه. في البداية قطع رسغ يده، وعندما لم يمت حاول قطع وريد في باطن ركبته ونزف حتى مات.
لم يكن سينيكا قادرا على انتزاع نفسه من نظام دفعه للتنكّر لشعاراته الأخلاقية. واختار أن يبقى في وظيفته في السلطة ثم أن يخاطر بحياته قبل أن يهرب بارتكابه الانتحار.
اليوم لم يعد سينيكا مفضّلا عند الكثيرين. الكتّاب الرومانسيون اعتبروه فيلسوفا سيّئا وكاتبا مسرحيّا أسوأ. وحتى أسلوبه في الكتابة كان موضع سخرية من الكثيرين. مؤرّخ بريطاني قال عنه مرّة إن قراءة سينيكا تشبه أن يتغدّى الإنسان على حساء بلا طعم.
ومع ذلك ما تزال تُكتب عنه وعن حياته الكثير من الكتب حتى اليوم.
Credits
newyorker.com
newyorker.com