ليس هناك الكثير من السمات المشتركة بين الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس والشاعر فريد الدين العطّار. كان أوريليوس (121-180 م)، بالإضافة إلى كونه امبراطورا، رواقيّا صارماً. وقد قضى الكثير من وقته كامبراطور في تسيير حملات ضد "البرابرة" على الحدود الشمالية للإمبراطورية خلال فترة شهدت أيضا ثورة داخلية في سوريا وفيضاناً ومجاعة وطاعوناً في روما.
أما فريد الدين العطّار فكان صيدلانيّا وعطّارا في نيسابور في شمال شرق إيران. كما كان شاعرا صوفيّا يتمتّع بالنشاط والذكاء. وقد عاش بدءا من منتصف القرن الثاني عشر الميلادي إلى حوالي عام 1220.
والقاسم المشترك بين اوريليوس والعطّار هو أنهما شهدا، كلّ على حِدَة، مواجهات مؤسفة مع "برابرة الشمال" والتي يُعتقد أن العطّار قُتل في إحداها عندما نهب المغول نيسابور. كما يَجمع الرجلين انشغالهما بالتساؤلات القلقة بشأن معنى الحياة وكيف ينبغي أن تُعاش، وسجّلا اراءهما في كتابين رائعين ما يزالان يحظيان بالشعبية حتى اليوم.
وُلد ماركوس أوريليوس عام 121 م وتغيّر اسمه مرّات عدّة أثناء حياته. وفي نهاية المطاف أصبح اسمه الامبراطور القيصر ماركوس اوريليوس مكسيموس انطونيوس اوغستوس، إلى جانب العديد من الألقاب الأخرى. ولكنه يُعرف اليوم باسمه الذي صار مشهورا، أي ماركوس اوريليوس.
سجلات روما تشير الى انه تلقّى تعليما ممتازا يليق بعضو ذكيّ من العائلة الإمبراطورية. وقد اكتشف عمّه الإمبراطور هادريان موهبته بينما كان اوريليوس ما يزال مراهقًا. وبسبب وفاة والده، تبنّاه الإمبراطور انطونيوس بايوس الذي سبق ان تبنّاه هادريان نفسه.
في تلك الفترة أصبح التبنّي هو النمط المفضّل للخلافة في الإمبراطورية الرومانية، ما أدّى إلى حلول سلسلة من الأباطرة الأكفاء محلّ أنماط الخلافة الفوضوية في الأجيال التي تلت يوليوس قيصر. ومع وفاة أنطونيوس في عام 161، أصبح اوريليوس إمبراطورا بالشراكة مع لوسيوس فايروس الذي توفّي بعد ذلك فجأة في عام 169، تاركاً اوريليوس يحكم كامبراطور أوحد، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته أثناء حملته في فيينا عام 180م.
قضى اوريليوس السنوات الأخيرة من حياته في قيادة حملات عسكرية ضد القبائل الجرمانية الغازية على طول الحدود الشمالية لروما. وقد أهّله تعليمه الممتاز في العمل الإداري لأن يتعامل مع العديد من القضايا بكفاءة وضمير أكسباه الاحترام. وربّما يفسّر هذا الشكاوى المتكرّرة من قلّة النوم التي تكثر في تأمّلاته. وكان موت اوريليوس وخلافة ابنه التعِس كومودوس له بمثابة نهاية لما وصفه المؤرّخ الانغليزي إدوارد غيبون بأنها أكثر الفترات سعادةً وازدهارا في تاريخ العالم.
اختار اوريليوس، خلافا لنصيحة فرونتو معلّمِه المميّز في البلاغة اللاتينية، أن يتحوّل إلى دراسة الفلسفة ليصبح في الواقع آخر عضو مهم في الرواقية؛ إحدى المدارس الفكرية العديدة التي تنافست على إرث سقراط وأفلاطون خلال القرون التي تلت وفاتهما.
وعلى الرغم من ان الرواقيين قدّموا اسهامات كبيرة في المنطق والفيزياء وما وراء الطبيعة، إلا أننا نعرفهم بشكل أفضل من خلال الكتابات الأخلاقية الباقية للرواقيين الرومان مثل سينيكا وإبكتيتوس واوريليوس نفسه. وقد عاشت المفاهيم الرواقية الصارمة عن الواجب واللامبالاة باللذّة والألم ووجدت لها صدى في الأفكار المسيحية وفي الفضائل الجمهورية للآباء المؤسّسين لأمريكا.
وكتاب اوريليوس المسمّى (التأمّلات) هو عبارة عن سلسلة من عدّة مئات من الملاحظات غير المترابطة، تتراوح من سطرين إلى صفحة أو نحو ذلك. ويبدو أن اوريليوس بدأ تدوين كتابه بعد فترة وجيزة من تولّيه الحكم وأضاف إليه من وقت لآخر. والكتاب مكتوب بلغة يونانية بديعة، لكن من الواضح أنه لم يكن مُعدّاً للنشر، على الرغم من أنه كُتب بعناية.
والتأمّلات ذات طابع شخصي بشكل مكثّف، وغالبا ما تعبّر عن عدم رضا الكاتب عن نفسه بسبب اخفاقاته في الارتقاء إلى المُثُل الرواقية. وعلى الرغم من أن اوريليوس لا يقول الكثير عن دوره كامبراطور، إلا أنه موجود ضمنيّا في كلّ صفحة. ولقد يكون من قبيل المفارقة التاريخية أن نتخيّل أن اوريليوس رأى أن دوره يتمثّل في تأجيل انتصار البربرية الحتميّ الى جيل آخر، وهذا ما فعله في الحقيقة. وهو بالتأكيد يذكر الفكرة الرواقية الكلاسيكية القائلة بأن اللذّة والألم والثروة الدنيوية والبؤس هي أمور يجب ان ينظر اليها الانسان بلامبالاة وأن تتجاهلها الروح العقلانية.
أما فريد الدين العطّار فكان صيدلانيّا وعطّارا في نيسابور في شمال شرق إيران. كما كان شاعرا صوفيّا يتمتّع بالنشاط والذكاء. وقد عاش بدءا من منتصف القرن الثاني عشر الميلادي إلى حوالي عام 1220.
والقاسم المشترك بين اوريليوس والعطّار هو أنهما شهدا، كلّ على حِدَة، مواجهات مؤسفة مع "برابرة الشمال" والتي يُعتقد أن العطّار قُتل في إحداها عندما نهب المغول نيسابور. كما يَجمع الرجلين انشغالهما بالتساؤلات القلقة بشأن معنى الحياة وكيف ينبغي أن تُعاش، وسجّلا اراءهما في كتابين رائعين ما يزالان يحظيان بالشعبية حتى اليوم.
وُلد ماركوس أوريليوس عام 121 م وتغيّر اسمه مرّات عدّة أثناء حياته. وفي نهاية المطاف أصبح اسمه الامبراطور القيصر ماركوس اوريليوس مكسيموس انطونيوس اوغستوس، إلى جانب العديد من الألقاب الأخرى. ولكنه يُعرف اليوم باسمه الذي صار مشهورا، أي ماركوس اوريليوس.
سجلات روما تشير الى انه تلقّى تعليما ممتازا يليق بعضو ذكيّ من العائلة الإمبراطورية. وقد اكتشف عمّه الإمبراطور هادريان موهبته بينما كان اوريليوس ما يزال مراهقًا. وبسبب وفاة والده، تبنّاه الإمبراطور انطونيوس بايوس الذي سبق ان تبنّاه هادريان نفسه.
في تلك الفترة أصبح التبنّي هو النمط المفضّل للخلافة في الإمبراطورية الرومانية، ما أدّى إلى حلول سلسلة من الأباطرة الأكفاء محلّ أنماط الخلافة الفوضوية في الأجيال التي تلت يوليوس قيصر. ومع وفاة أنطونيوس في عام 161، أصبح اوريليوس إمبراطورا بالشراكة مع لوسيوس فايروس الذي توفّي بعد ذلك فجأة في عام 169، تاركاً اوريليوس يحكم كامبراطور أوحد، وهو المنصب الذي شغله حتى وفاته أثناء حملته في فيينا عام 180م.
قضى اوريليوس السنوات الأخيرة من حياته في قيادة حملات عسكرية ضد القبائل الجرمانية الغازية على طول الحدود الشمالية لروما. وقد أهّله تعليمه الممتاز في العمل الإداري لأن يتعامل مع العديد من القضايا بكفاءة وضمير أكسباه الاحترام. وربّما يفسّر هذا الشكاوى المتكرّرة من قلّة النوم التي تكثر في تأمّلاته. وكان موت اوريليوس وخلافة ابنه التعِس كومودوس له بمثابة نهاية لما وصفه المؤرّخ الانغليزي إدوارد غيبون بأنها أكثر الفترات سعادةً وازدهارا في تاريخ العالم.
اختار اوريليوس، خلافا لنصيحة فرونتو معلّمِه المميّز في البلاغة اللاتينية، أن يتحوّل إلى دراسة الفلسفة ليصبح في الواقع آخر عضو مهم في الرواقية؛ إحدى المدارس الفكرية العديدة التي تنافست على إرث سقراط وأفلاطون خلال القرون التي تلت وفاتهما.
وعلى الرغم من ان الرواقيين قدّموا اسهامات كبيرة في المنطق والفيزياء وما وراء الطبيعة، إلا أننا نعرفهم بشكل أفضل من خلال الكتابات الأخلاقية الباقية للرواقيين الرومان مثل سينيكا وإبكتيتوس واوريليوس نفسه. وقد عاشت المفاهيم الرواقية الصارمة عن الواجب واللامبالاة باللذّة والألم ووجدت لها صدى في الأفكار المسيحية وفي الفضائل الجمهورية للآباء المؤسّسين لأمريكا.
وكتاب اوريليوس المسمّى (التأمّلات) هو عبارة عن سلسلة من عدّة مئات من الملاحظات غير المترابطة، تتراوح من سطرين إلى صفحة أو نحو ذلك. ويبدو أن اوريليوس بدأ تدوين كتابه بعد فترة وجيزة من تولّيه الحكم وأضاف إليه من وقت لآخر. والكتاب مكتوب بلغة يونانية بديعة، لكن من الواضح أنه لم يكن مُعدّاً للنشر، على الرغم من أنه كُتب بعناية.
والتأمّلات ذات طابع شخصي بشكل مكثّف، وغالبا ما تعبّر عن عدم رضا الكاتب عن نفسه بسبب اخفاقاته في الارتقاء إلى المُثُل الرواقية. وعلى الرغم من أن اوريليوس لا يقول الكثير عن دوره كامبراطور، إلا أنه موجود ضمنيّا في كلّ صفحة. ولقد يكون من قبيل المفارقة التاريخية أن نتخيّل أن اوريليوس رأى أن دوره يتمثّل في تأجيل انتصار البربرية الحتميّ الى جيل آخر، وهذا ما فعله في الحقيقة. وهو بالتأكيد يذكر الفكرة الرواقية الكلاسيكية القائلة بأن اللذّة والألم والثروة الدنيوية والبؤس هي أمور يجب ان ينظر اليها الانسان بلامبالاة وأن تتجاهلها الروح العقلانية.
غير ان الموضوع الأكثر شيوعا في كتاب التأمّلات هو كيف تكون انسانا صالحا. ويجيب الكاتب على هذا السؤال بقوله: بأن تستيقظ في الصباح وتقوم بعمل البشر". ويحرص اوريليوس على ترديد أقوال معلّميه الرواقيين من أن العالَم كلٌّ متناغم صنعه الله أو الطبيعة. ويبدو أن الطبيعة والله شيء واحد بالنسبة له. وأحيانا، الكلّ هو المجتمع، وفي كثير من الأحيان هو الكون. لذلك "يجب على المرء أن يحبّ أترابه من بني البشر"، وهو أمر كثيرا ما يوبّخ اوريليوس نفسه لفشله في القيام به.
كما يرى أن "عمل الإنسان" يجب ان يكون من أجل خير البشر الآخرين. وعلى الرغم من إصراره على كمال الكون، إلا أنه يفعل ذلك كطريقة لإخبار نفسه أن الشرور الظاهرة هي في النهاية مسألة يجب ان تعامَل باللامبالاة، لأن ما يبدو شرّيرا للإنسان قد يكون جيّدًا في سياق عمل الكون ككلّ. وبالتالي، فإن اللذّة والألم هما "من مسائل اللامبالاة العقلانية"، وربّما كان هذا من أكثر أفكار الرواقية شهرةً.
كان ماركوس اوريليوس مهجوسا بالموت. فقد رأى الكثير منه خلال غزواته وأدرك أن موته قد لا يكون بعيدًا وردّد مرّات كثيرة أنه لا ينبغي الخوف منه. وقد نظر الى الحياة - مهما طالت – على أنها لحظة عابرة. وسواءً أكان الموت تحلّلا إلى ذرّات أو إلى شيء آخر، فهو في النهاية راحة من تجارب الحياة ووظيفة من وظائف الطبيعة لا يجب الخوف منها. ورأى أنه بالنسبة لأيّ انسان، مهما كان عظيماً أو مشهوراً، فإنه سيرحل عن الدنيا في وقت قصير، وبعد فترة وجيزة ستضيع كلّ ذكرياته وتُنسى إنجازاته.
ما الانطباع الذي يتركه كتاب التأمّلات في نفس القارئ؟ من الواضح أن الكتاب نتاج روح نبيلة وإنسان متعب أرهقته المسؤوليات والعمل اللامتناهي، لكنه مصمّم على الارتقاء إلى مستوى القانون والواجب الإنساني. إنه يقترح أخلاقيات للتعامل مع العالم ويقدّمها لأولئك الذين لديهم مسؤوليات تجاه هذا العالم. هناك ايضا جاذبية سعي اوريليوس الجادّ ليكون إنسانا صالحًا. وهذا ما يُبقي هذا الكتاب، المكتوب على أجزاء في أوقات متأخّرة من الليل وعلى حدود إمبراطورية موشكة على الانهيار، متجدّدا وجذّابا حتى بعد مرور ألفي عام على ظهوره.
بعد 1000 سنة وعلى بعد 5000 كيلومتر إلى الشرق، كتب الصيدلاني الفارسيّ فريد الدين العطّار قصيدته الملحمية (منطق الطير)، وهي من كلاسيكيات الأدب الصوفيّ الإسلامي. وبالنظر إلى أن اوريليوس والعطّار يشتركان في نفس الهمّ، أي كيف يجب أن يعيش البشر حياة جيّدة، فإن كتابيهما مختلفان في بعض الأمور.
فأوريليوس في "تأمّلاته" لا يترك أيّ أثر يشي بتمتّعه بحسّ الدعابة. وفي المقابل نجد أن "منطق الطير" كتاب طريف للغاية، على الرغم من كونه كتابا كلاسيكيّا روحيّا. وفي حين أن اوريليوس يوبّخ نفسه بشدة على إخفاقاته، فإن الشخصيات في الحكايات الصغيرة التي تملأ كتاب "منطق الطير" تنيرنا من خلال مآزقها المسلّية.
"منطق الطير" عبارة عن قصّة رمزية ساحرة يمكن سردها في بضع مئات من الأسطر. لكن الطائر يقاطع السرد باستمرار بحكايات تتراوح في الطول من بضعة أسطر إلى عشرين صفحة، متبوعة ببضعة سطور تشرح العبرة من القصّة. في القصّة الإطارية التي أخذ منها الكتاب عنوانه، تلاحظ الطيور أنها وحدها من بين ممالك العالم ليس لها ملك.
وعندما يجتمعون لمناقشة المشكلة، يأخذ الهدهد دوره في الكلام ويشرح لزملائه أن لديهم ملك بالفعل وهو طائر العنقاء الخالد، او السيمورغ، الذي يعيش على قمّة جبل قاف فوق حافّة العالم. وهم لا يحتاجون الا للذهاب إليه وتقديم ولائهم له. وفي هذه المرحلة، تبدأ الطيور التي يمثّل كلّ منها نوعا من البشر، في تقديم أعذارها عن الذهاب في الرحلة فيقنعهم الهدهد بخلاف ذلك.
وفي الوقت المحدّد، تنطلق الطيور، وأثناء رحلتهم تعترضهم مصاعب شتّى تؤدّي إلى هلاك بعضهم وعودة معظمهم. ومع ذلك، عندما يصل الثلاثون طائرا المتبقية إلى قصر السيمورغ أو العنقاء تُقدّم لهم وثيقة توضّح بالتفصيل جميع خطاياهم.
وتمرّ الطيور في رحلتها بسبعة وديان: البحث، والحبّ، والمعرفة، والانفصال، والوحدة، والاندهاش، والفقر والفناء. وهذه هي مراحل الحياة الصوفية، كما نجدها في كلّ الطرق الصوفية.
كما يرى أن "عمل الإنسان" يجب ان يكون من أجل خير البشر الآخرين. وعلى الرغم من إصراره على كمال الكون، إلا أنه يفعل ذلك كطريقة لإخبار نفسه أن الشرور الظاهرة هي في النهاية مسألة يجب ان تعامَل باللامبالاة، لأن ما يبدو شرّيرا للإنسان قد يكون جيّدًا في سياق عمل الكون ككلّ. وبالتالي، فإن اللذّة والألم هما "من مسائل اللامبالاة العقلانية"، وربّما كان هذا من أكثر أفكار الرواقية شهرةً.
كان ماركوس اوريليوس مهجوسا بالموت. فقد رأى الكثير منه خلال غزواته وأدرك أن موته قد لا يكون بعيدًا وردّد مرّات كثيرة أنه لا ينبغي الخوف منه. وقد نظر الى الحياة - مهما طالت – على أنها لحظة عابرة. وسواءً أكان الموت تحلّلا إلى ذرّات أو إلى شيء آخر، فهو في النهاية راحة من تجارب الحياة ووظيفة من وظائف الطبيعة لا يجب الخوف منها. ورأى أنه بالنسبة لأيّ انسان، مهما كان عظيماً أو مشهوراً، فإنه سيرحل عن الدنيا في وقت قصير، وبعد فترة وجيزة ستضيع كلّ ذكرياته وتُنسى إنجازاته.
ما الانطباع الذي يتركه كتاب التأمّلات في نفس القارئ؟ من الواضح أن الكتاب نتاج روح نبيلة وإنسان متعب أرهقته المسؤوليات والعمل اللامتناهي، لكنه مصمّم على الارتقاء إلى مستوى القانون والواجب الإنساني. إنه يقترح أخلاقيات للتعامل مع العالم ويقدّمها لأولئك الذين لديهم مسؤوليات تجاه هذا العالم. هناك ايضا جاذبية سعي اوريليوس الجادّ ليكون إنسانا صالحًا. وهذا ما يُبقي هذا الكتاب، المكتوب على أجزاء في أوقات متأخّرة من الليل وعلى حدود إمبراطورية موشكة على الانهيار، متجدّدا وجذّابا حتى بعد مرور ألفي عام على ظهوره.
بعد 1000 سنة وعلى بعد 5000 كيلومتر إلى الشرق، كتب الصيدلاني الفارسيّ فريد الدين العطّار قصيدته الملحمية (منطق الطير)، وهي من كلاسيكيات الأدب الصوفيّ الإسلامي. وبالنظر إلى أن اوريليوس والعطّار يشتركان في نفس الهمّ، أي كيف يجب أن يعيش البشر حياة جيّدة، فإن كتابيهما مختلفان في بعض الأمور.
فأوريليوس في "تأمّلاته" لا يترك أيّ أثر يشي بتمتّعه بحسّ الدعابة. وفي المقابل نجد أن "منطق الطير" كتاب طريف للغاية، على الرغم من كونه كتابا كلاسيكيّا روحيّا. وفي حين أن اوريليوس يوبّخ نفسه بشدة على إخفاقاته، فإن الشخصيات في الحكايات الصغيرة التي تملأ كتاب "منطق الطير" تنيرنا من خلال مآزقها المسلّية.
"منطق الطير" عبارة عن قصّة رمزية ساحرة يمكن سردها في بضع مئات من الأسطر. لكن الطائر يقاطع السرد باستمرار بحكايات تتراوح في الطول من بضعة أسطر إلى عشرين صفحة، متبوعة ببضعة سطور تشرح العبرة من القصّة. في القصّة الإطارية التي أخذ منها الكتاب عنوانه، تلاحظ الطيور أنها وحدها من بين ممالك العالم ليس لها ملك.
وعندما يجتمعون لمناقشة المشكلة، يأخذ الهدهد دوره في الكلام ويشرح لزملائه أن لديهم ملك بالفعل وهو طائر العنقاء الخالد، او السيمورغ، الذي يعيش على قمّة جبل قاف فوق حافّة العالم. وهم لا يحتاجون الا للذهاب إليه وتقديم ولائهم له. وفي هذه المرحلة، تبدأ الطيور التي يمثّل كلّ منها نوعا من البشر، في تقديم أعذارها عن الذهاب في الرحلة فيقنعهم الهدهد بخلاف ذلك.
وفي الوقت المحدّد، تنطلق الطيور، وأثناء رحلتهم تعترضهم مصاعب شتّى تؤدّي إلى هلاك بعضهم وعودة معظمهم. ومع ذلك، عندما يصل الثلاثون طائرا المتبقية إلى قصر السيمورغ أو العنقاء تُقدّم لهم وثيقة توضّح بالتفصيل جميع خطاياهم.
وتمرّ الطيور في رحلتها بسبعة وديان: البحث، والحبّ، والمعرفة، والانفصال، والوحدة، والاندهاش، والفقر والفناء. وهذه هي مراحل الحياة الصوفية، كما نجدها في كلّ الطرق الصوفية.
والكتاب حافل بقصص العشّاق، ومن هؤلاء يوسف الذي دفع جماله زوجة الفرعون إلى الشغف الطائش به. وهو، أي يوسف، يظهر أكثر من أيّ شخصية أخرى في الكتاب. لكنّ أعظم وأطول قصّة في كتاب "منطق الطير" هي حكاية الشيخ صنعان عالم الدين المسنّ الذي ادّى خمسين حجّة وكان المعلّم المعترَف به لـ 400 طالب.
كان صنعان على قدر من الصلاح والتقوى. وقد حلم ذات ليلة بأنه ارتحل الى بلاد الروم حيث أحبّ فيها امرأة مسيحية. ولأن رؤيا الصالحين حقّ، فقد رحل هو ونفر من اتباعه الى تلك البلاد، صارفاً النظر عن وظيفته الأساسية بتحويل الناس إلى الإيمان الحقيقي. وعندما يصل الشيخ الى بلاد الروم، يقابل المرأة التي رآها في الحلم فيقع في حبّها وينزل على شرطها للزواج منه، فيوافق على أن يعتنق ديانتها وأن يرعى خنازيرها وأن يسجد لصنم.
والعطّار يسرد هذه القصّة لأنها محيّرة وتتضمّن مفارقات. فالإنسان، مهما بلغ ورعه واستقامته، قد يستسلم لإغراءات الدنيا. كما انه يقول أن بداخل كلّ انسان "شيخ صنعانصغير" أو بقعة مظلمة بحاجة الى أن يغمرها النور. وهذه الفكرة تتكرّر كثيرا في الأدب والشعر العرفاني.
إن (منطق الطير) ليس دليلا للحياة الصوفية، بل إعلان عنها. وهناك تعاليم صوفية مكتوبة بعناية لتوجيه الأساتذة والتلاميذ على الطريق، لكن هذا الكتاب ليس واحداً منها. ومثل روائع الفنّ والأدب الأخرى، يعمل (منطق الطير) على عدّة مستويات، ففيه تسلية وفيه متعة جمالية. ولكن الأهمّ من ذلك أنه بمثابة لوم وتذكير بما هو مهمّ حقّا. وربّما وأنت تقرأ هذا الكتاب، قد تضحك على حماقة شخصية في إحدى الحكايات، فقط لتدرك أنك إنّما تنظر إلى نفسك.
"منطق الطير" و "التأمّلات" كتابان بينهما الكثير من المشتركات. فقد كتبهما رجلان يعتقدان أنه لا يوجد همّ أكثر إلحاحا من معرفة الطريقة الصحيحة التي يتعيّن على البشر أن يعيشوا بها حياتهم. وهذان هما الكتابان اللذان قد يعود المرء إليهما مرارا وتكرارا خلال حياته لاكتساب دروس جديدة وللتأمّل في مضمونهما في كلّ مرّة. وكلا الرجلين يوليان أهمية كبيرة للموت وللطبيعة الزائلة لكلّ الأشياء البشرية.
وعلى الرغم من أن العطّار - الذي ربّما يكون قد ألّف كتابه وهو في سنّ الأربعين - كان واضحا تماما بشأن طبيعة الحياة في الآخرة، إلا أنه كان ينظر إلى الأمر على نحو أكثر بساطة من اوريليوس. وبالنسبة للأخير كان للموت حضور يلوح في الأفق، ولم يكن يعرف نهايته على وجه اليقين. لكن المرء يشعر أنه كان يجهّز نفسه للموت مثل أيّ جنديّ يستعدّ لمعركة.
كان كلا الكاتبين مقتنعين تماما بأن أشياء هذا العالم - مهما بدت جذّابة ومهما كانت العناية الإلهية بترتيب الطبيعة - هي ملهيات يجب تجاهلها قدر الإمكان. ويمكن للقارئ أن يجد دون صعوبة أودية العطّار السبعة في صراع اوريليوس الخاصّ مع روحه.
لكن هناك أيضا اختلافات بين الرجلين. فأوريليوس، على الرغم من أنه يسعى جاهداً من أجل اللامبالاة الرواقية تجاه ملذّات وآلام العالم، يقدّم لنا أخلاقا للعيش في هذا العالم. وهو لا يدّعي معرفة ما هو أبعد من هذه الحياة، بل يقول فقط، بطريقة أو بأخرى، أنه لا يجب الخوف من الموت أو ممّا وراء هذه الحياة. وعلاوة على ذلك، فإنه على الرغم من أنه كثيرا ما يشدّد على أهمية تبجيل الآلهة أو الله، إلا أنه لا يتحدّث كثيرا عن الروحانيات.
ومن الواضح أيضا أن اوريليوس لا يشارك العطّار في إيمانه بمركزيّة الحبّ. وبغضّ النظر عن مدى تقديس اوريليوس للآلهة، فإنه لا يدّعي أنه يحبّها. إنه يتحدّث عن واجب محبّة إخوانه من البشر، لكنه يعترف صراحة أنه لا يستمتع بذلك الحبّ. ويبدو أن الأشخاص الوحيدين الذين يعجب بهم حقّا هم الحرفيون الذين يحترم تفانيهم في عملهم، بعكس أفراد الحاشية المحيطين به. وهو يعبّر عن حبّه للإنسانية باهتمامه الضميريّ بواجباته كامبراطور.
وهناك أمر واحد من الواضح أن العطّار كان على حقّ بشأنه و اوريليوس على خطأ. ففي حين عاد اوريليوس مرارا إلى موضوع قابلية كلّ الأشياء البشرية للفناء وحقيقة أن الرجال العظماء وأعمالهم ستُنسى قريبًا بعد موتهم، يتباهى العطّار بأن كتابه سيعيش "حتى يوم القيامة".
وكتاب اوريليوس، سواءً كان ينوي أن يقرأه آخرون أم لا، عاش لما يقرب من 2000 عام، وما زال يتحدّث بوضوح كما كان دائما مع الناس الجادّين. وما يزال لكلا الكتابين جِدّتهما وجاذبيّتهما كما كانا دائما. لذا يصعب تخيّل أن يُنسى أيّ منهما قريباً.
كان صنعان على قدر من الصلاح والتقوى. وقد حلم ذات ليلة بأنه ارتحل الى بلاد الروم حيث أحبّ فيها امرأة مسيحية. ولأن رؤيا الصالحين حقّ، فقد رحل هو ونفر من اتباعه الى تلك البلاد، صارفاً النظر عن وظيفته الأساسية بتحويل الناس إلى الإيمان الحقيقي. وعندما يصل الشيخ الى بلاد الروم، يقابل المرأة التي رآها في الحلم فيقع في حبّها وينزل على شرطها للزواج منه، فيوافق على أن يعتنق ديانتها وأن يرعى خنازيرها وأن يسجد لصنم.
والعطّار يسرد هذه القصّة لأنها محيّرة وتتضمّن مفارقات. فالإنسان، مهما بلغ ورعه واستقامته، قد يستسلم لإغراءات الدنيا. كما انه يقول أن بداخل كلّ انسان "شيخ صنعانصغير" أو بقعة مظلمة بحاجة الى أن يغمرها النور. وهذه الفكرة تتكرّر كثيرا في الأدب والشعر العرفاني.
إن (منطق الطير) ليس دليلا للحياة الصوفية، بل إعلان عنها. وهناك تعاليم صوفية مكتوبة بعناية لتوجيه الأساتذة والتلاميذ على الطريق، لكن هذا الكتاب ليس واحداً منها. ومثل روائع الفنّ والأدب الأخرى، يعمل (منطق الطير) على عدّة مستويات، ففيه تسلية وفيه متعة جمالية. ولكن الأهمّ من ذلك أنه بمثابة لوم وتذكير بما هو مهمّ حقّا. وربّما وأنت تقرأ هذا الكتاب، قد تضحك على حماقة شخصية في إحدى الحكايات، فقط لتدرك أنك إنّما تنظر إلى نفسك.
"منطق الطير" و "التأمّلات" كتابان بينهما الكثير من المشتركات. فقد كتبهما رجلان يعتقدان أنه لا يوجد همّ أكثر إلحاحا من معرفة الطريقة الصحيحة التي يتعيّن على البشر أن يعيشوا بها حياتهم. وهذان هما الكتابان اللذان قد يعود المرء إليهما مرارا وتكرارا خلال حياته لاكتساب دروس جديدة وللتأمّل في مضمونهما في كلّ مرّة. وكلا الرجلين يوليان أهمية كبيرة للموت وللطبيعة الزائلة لكلّ الأشياء البشرية.
وعلى الرغم من أن العطّار - الذي ربّما يكون قد ألّف كتابه وهو في سنّ الأربعين - كان واضحا تماما بشأن طبيعة الحياة في الآخرة، إلا أنه كان ينظر إلى الأمر على نحو أكثر بساطة من اوريليوس. وبالنسبة للأخير كان للموت حضور يلوح في الأفق، ولم يكن يعرف نهايته على وجه اليقين. لكن المرء يشعر أنه كان يجهّز نفسه للموت مثل أيّ جنديّ يستعدّ لمعركة.
كان كلا الكاتبين مقتنعين تماما بأن أشياء هذا العالم - مهما بدت جذّابة ومهما كانت العناية الإلهية بترتيب الطبيعة - هي ملهيات يجب تجاهلها قدر الإمكان. ويمكن للقارئ أن يجد دون صعوبة أودية العطّار السبعة في صراع اوريليوس الخاصّ مع روحه.
لكن هناك أيضا اختلافات بين الرجلين. فأوريليوس، على الرغم من أنه يسعى جاهداً من أجل اللامبالاة الرواقية تجاه ملذّات وآلام العالم، يقدّم لنا أخلاقا للعيش في هذا العالم. وهو لا يدّعي معرفة ما هو أبعد من هذه الحياة، بل يقول فقط، بطريقة أو بأخرى، أنه لا يجب الخوف من الموت أو ممّا وراء هذه الحياة. وعلاوة على ذلك، فإنه على الرغم من أنه كثيرا ما يشدّد على أهمية تبجيل الآلهة أو الله، إلا أنه لا يتحدّث كثيرا عن الروحانيات.
ومن الواضح أيضا أن اوريليوس لا يشارك العطّار في إيمانه بمركزيّة الحبّ. وبغضّ النظر عن مدى تقديس اوريليوس للآلهة، فإنه لا يدّعي أنه يحبّها. إنه يتحدّث عن واجب محبّة إخوانه من البشر، لكنه يعترف صراحة أنه لا يستمتع بذلك الحبّ. ويبدو أن الأشخاص الوحيدين الذين يعجب بهم حقّا هم الحرفيون الذين يحترم تفانيهم في عملهم، بعكس أفراد الحاشية المحيطين به. وهو يعبّر عن حبّه للإنسانية باهتمامه الضميريّ بواجباته كامبراطور.
وهناك أمر واحد من الواضح أن العطّار كان على حقّ بشأنه و اوريليوس على خطأ. ففي حين عاد اوريليوس مرارا إلى موضوع قابلية كلّ الأشياء البشرية للفناء وحقيقة أن الرجال العظماء وأعمالهم ستُنسى قريبًا بعد موتهم، يتباهى العطّار بأن كتابه سيعيش "حتى يوم القيامة".
وكتاب اوريليوس، سواءً كان ينوي أن يقرأه آخرون أم لا، عاش لما يقرب من 2000 عام، وما زال يتحدّث بوضوح كما كان دائما مع الناس الجادّين. وما يزال لكلا الكتابين جِدّتهما وجاذبيّتهما كما كانا دائما. لذا يصعب تخيّل أن يُنسى أيّ منهما قريباً.
Credits
renovatio.zaytuna.edu
renovatio.zaytuna.edu