:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الخميس، يوليو 11، 2024

رويريك والأرض الموعودة/1


كان نيكولاس رويريك شخصا متعدّد المواهب والاهتمامات. كان فنّانا وباحثا وعالم آثار ورحّالة ومغامرا وكاتبا وشاعرا ورسّاما وروحانيّا. وكانت صفاته الثلاث الأخيرة هي الغالبة، وهي التي أضفت على أعماله الفنّية بريقا غريبا خاصّا به وحده.
رُشّح رويريك مرّتين لجائزة نوبل للسلام وأنشأ مدرسة فلسفية للأخلاق الحيّة. لكن الأكثر إثارة للاهتمام من بين أعماله كان بحثه عن الألغاز الخفيّة في العالم، بما في ذلك مدينة شانغريلا الأسطورية. وقيل إنه لم يعثر على مدخل تلك المدينة فحسب، بل عاش أيضا ليروي القصّة من خلال سلسلة واسعة من لوحاته الخيالية.
ولد رويريك عام 1874 لأب ألماني وأمّ روسية من طبقة مرموقة في سانت بطرسبيرغ. كان منذ صغره محاطا بالكتب وأصدقاء والديه المثقّفين. وكان يقضي أيّامه في التجوال في الهواء الطلق، حيث نما شغفه بالتضاريس المتعرّجة للأرض، فضلاً عن مناظر العصور القديمة. وفي الجامعة درس المحاماة ثم الرسم. لكنه اكتشف أن لديه خططا أهم بكثير.
وبعد زواجه، ترك روسيا عشيّة ثورة أكتوبر وأخذ زوجته وولديه في جولات عبر أوروبّا والولايات المتحدة وبريطانيا. ثم جعل من الهند موطنه منذ أوائل العشرينيات وحتى وفاته في عام 1947.
لكن قبل أن يبدأ رحلته الطويلة والدائمة الى الهند، حلّ رويريك وعائلته - الذين أصبحوا بلا جنسية بعد الثورة البلشفية - في مكان لا علاقة له على الإطلاق بالفردوس الاشتراكي الذي تركوه خلفهم وكان من حسن حظّهم أنهم لم يختبروه قط. فقد وصلوا إلى الولايات المتحدة في عام 1920 بدعوة من معهد شيكاغو للفنون. وجاءوا إلى نيويورك لحضور أوّل معرض كبير لرويريك هناك.
وفي عام 1935، انتقل رويريك إلى الهند، وانغمس في الفولكلور الهندي وأبدع أشهر لوحاته. كان يعتبر الهند مهد الحضارة الإنسانية، وسعى جاهداً لإيجاد روابط بين الثقافة الروسية والهندية. ولم يبتعد قطّ عن حبّه للخطوط المتعرّجة والآفاق الممتدّة التي تُميّز أعماله.
وقد جعل رويريك الهند موطنه لبقيّة حياته، بعد أن حوَّل اهتماماته الروحية والفنيّة إلى فلسفات وأديان الشرق، فدمج بين الثيوصوفية والبوذية التبتية والأرثوذكسية المسيحية. كان ارتباطه بهذا البلد ارتباطاً دائماً، وكأنه قد استقرّ أخيراً بعد كلّ رحلاته بحثاً عن جمال الحياة؛ ذلك الحلم الذي استحوذ على خياله منذ أيّام طفولته في عزبة والديه خارج سانت بطرسبيرغ.
ولم يلبث الرجل أن شرع في رحلات واسعة وكثيرة إلى العوالم النائية في آسيا الوسطى وجبال الهيمالايا، حيث تعامَل مع هذه الرحلات الاستكشافية باعتبارها رحلات روحية عميقة، وسعى إلى معرفة حكمة الثقافات القديمة التي كانت تحترم هذه المنطقة بشدّة.
وخلال رحلتهم الأولى، استقرّ رويريك وعائلته بالقرب من دارجيلنغ، في منزل يتمتّع بإطلالات خلابة على قمّة جبل مقدّس في الهيمالايا، كان قد أعجب به عندما كان طفلاً وحلم بزيارته ورسمِه.
وبدأ فنّه يتبنّى موضوعات روحية وفلسفية. كانت لوحاته تشعّ بهالة من التصوّف والجوهر الأخروي. وقد درس الممارسات الروحية وعمّق استكشافاته الخاصّة، ما أضفى على إبداعاته تعبيرات منوّمة أصبحت سمة لازمة لأعماله.
ومن خلال فنّه، نجح رويريك في تجسيد عظمة المناظر الطبيعية التي رآها في جبال الهيمالايا التي تتمتّع بتاريخ طويل من الأهمية الروحية والدينية التي أسَرته كما أسرت الكثيرين غيره. ويتجلّى التأثير العميق لهذه الجبال على روحانيته وحساسياته الفنّية في بعض أعماله الأكثر شهرة.
ومن أشهر عباراته التي تشي بانجذابه لتلك الجبال قوله: صحيح أن الجبال في كلّ مكان هي جبال، والمياه في كلّ مكان هي مياه، والسماء في كلّ مكان هي سماء، والبشر في كلّ مكان هم بشر. ولكن مع ذلك، إذا جلستَ أمام جبال الألب وحاولت أن تتخيّل جبال الهيمالايا، فسوف تشعر أنه ينقصك شيء لا يمكن تفسيره."


صُوَر رويريك تجاوزت المشاهد المادّية، ما عكسَ إيمانه بالترابط بين جميع أشكال الحياة وانسجام الخلق الإلهي. وقد قالت شاعرة أمريكية تصف فنّه بعد أن رأت بعض لوحاته في أمريكا: إذا كان الجمال قادراً على إنقاذ العالم كما اعتقدَ دوستويفسكي، فإن هذا الرجل أعاد إشعال نيران معابد العالم القديمة".
كان رويريك، من خلال فنّه، يستخدم الصواعق ويجمع السحب ويُطلقها، تارةً كرُسُل الصباح السريعين، وتارةً كأفواج المساء المتجهّمة، وأحيانا كأوعية مظلمة مليئة بالمطر، لأنه كان يعرف أسرار السماء. وكان يتبع دائما خطّ ضوئه الخاصّ. ولا يمكن لأيّ رجل أو امرأة أو طفل أن يقف أمام لوحاته ولا يستعيد أصوات البحر اللامتناهي من ورائه ويستمع بالأذن ويرى بالعين الداخلية ويستعيد موجة مدّ من الجمال.
في لوحة رويريك المشهورة "معركة في السماء" (1912)، يرسم سحبا ملوّنة بضوء أبيض ناصع مع الألوان الأرجواني والزهري والقرمزي، وهي ألوان غير محتملة لحرب عاصفة. وربّما أراد للوحة أن ترمز إلى رؤاه ونبوءاته عن الأحداث القادمة في أوروبّا. وفي رؤية رويريك البدائية للكون، غالبا ما تكون الجبال والسحب والسماء أبطالا في الملاحم الرمزية بينما يلعب البشر أدوارا ثانوية.
في الهند، اكتشف رويريك جبال الهيمالايا التي أصبح مفتونا بها بلا حدود. في مؤلّفه "راية الشرق" يكتب: هل كان نسراً ذاك الذي اندفع من بين الصخور؟ عبر الوادي، كان السيخ يطلقون النار من الأقواس. وفي أزيز السّهام الطائرة واهتزاز الأوتار وتوتّر الشفاه، وفي حدّة البصر، كان هناك صدى لشيء بعيد ولكنه غامض."
ثم يكتب عن عالَمين رآهما في الهيمالايا. الأوّل عالم الوديان العميقة والتلال التي ترتفع إلى خطّ السحاب الذي يذوب فيه دخان القرى والأديرة؛ عالم أرضيّ مليء بالتنوّعات حيث تقف شجرة صنوبر مهيبة بجانب شجيرات أخرى مزهرة وحيث كلّ شيء متشابك. ثمّ هناك العالَم الثاني؛ الأسوار الغريبة والمذهلة التي تعلو السحاب، حيث تتلألأ الثلوج فوق الشفق وتنتصب القمم الضبابية الباهرة التي لا يمكن عبورها.
إن أحدا من قبل لم يرسم تلك الجبال كما رسمها هذا الرجل. كانت صوره تزدحم بالمضامين الروحية والتأمّلية والشاعرية. ومن أشهرها لوحة "جبل الكنوز الخمسة". يقال إن هذا الجبل سُمّي بهذا الاسم لأنه يخبّئ تحت قمّته كمّيات كبيرة من الذهب والياقوت والفيروز والماس والزمرّد.
وهناك نبوءة تقول إنه سيأتي زمن يعاني فيه العالم من مجاعة رهيبة ومن نقص حادّ في الموارد. ثم سيظهر رجل من المجهول يفتح بوّابة الجبل الضخمة ويُخرج من جوفه تلك الكنوز المخبّأة ويمنحها للعالم.
وفي بعض كتاباته، يتحدّث رويريك عن الأجراس في معابد الهيمالايا التي تدقّ بقوّة، مذكّرة إيّاه بأسطورة جميلة عن إمبراطور صيني ولاما عظيم. فمن أجل اختبار معرفة اللاما وقدرته على التنبّؤ، صنع الإمبراطور له مقعدا من الكتب المقدّسة وغطّاه بالأقمشة، ثم دعاه للجلوس. ألقى اللاما بعض الصلوات ثم جلس. وسأله الإمبراطور: إذا كانت معرفتك عالمية إلى هذا الحدّ، فكيف يمكنك الجلوس على الكتب المقدّسة؟"
أجاب اللاما: لا توجد مجلّدات مقدّسة". وذُهل الإمبراطور عندما وجد بدلاً من كتبه المقدّسة أوراقا فارغة فقط. عندها قدّم الإمبراطور لللاما العديد من الهدايا والأجراس ذات الرنين السائل. لكن اللاما أمر بإلقائها في النهر قائلاً: لن أتمكّن من حملها. لكن إن كانت ضرورية لي، فإن الله سيُحضر هذه الهدايا إلى ديري". وفي الواقع، تقول الأسطورة، حملت المياه إليه الأجراس البلّورية الصافية كصفاء مياه النهر.
ثم يكتب رويريك عن كشمير "المكان الذي مرّت به جحافل المغول، حيث تتقاطع الطرق المؤدّية إلى بامير ولاسا وكوتان، وحيث يقع كهف أمارناث الغامض". وقد استقبلت كشمير رويريك في شهر مارس في مزاج ذكّره بأجواء طقوس الربيع لسترافينسكي، حيث تتوهّج سماء الربيع الزاهية بالنجوم والجبال الزرقاء وتلتمع منحدراتها بمواكب نارية تعلن أغانيها عن نهاية صقيع الشتاء ووصول الربيع.