:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، يوليو 12، 2024

رويريك والأرض الموعودة/2


في قرى لاداك، تُصادِفُ نيكولاس رويريك وعائلته ومرافقيه روائح البخور والنعناع البرّي والمريمية والتفّاح والمشمش. وعندما يصعدون إلى قمّة الجبل، يفاجئه وضوح الألوان وضخامة المنظر. "على الجبل دوّت أصوات الطبول والدفوف وشقّ موكب طويل طريقه نحونا على طول منحنيات الطريق، حاملاً الفوانيس الملوّنة والمشاعل، وتوهّج القمر الصاعد وسط النيران الحمراء. كان ذلك وقت حصاد الشعير الذهبي. كانت صفوف من الناس يحملون على ظهورهم حِزما من القمح وهم يغنّون بحرارة وحماس".
ثم يتحدّث عن شريناغار، مدينة الشمس، التي تعجّ بالسياح: على الطريق توجد العديد من السيّارات. وفي غرفة الطعام في الفندق نرى وجوها لأميركيين. وفي محلّ المجوهرات، توجد لوحتان معلّقتان جنباً إلى جنب، إحداهما لإطلالة على دلهي والأخرى لإطلالة على الكرملين في موسكو".
ويضيف: بين البلّورات التي نتطلّع إليها لنرى المصير وبين الياقوت في كشمير والفيروز التبتي، توجد أحجار اليشم الصينية الخضراء اللامعة. وكحديقة، تنتشر حدود القفاطين المطرّزة بألوان متعدّدة. وكشالات ثمينة، تنتشر في غرف المتحف تصاميم إيرانية وآسيوية دقيقة." هكذا كانت شريناغار قبل قرن من الزمان.
ثم يذكر رويريك جيلجيت وتشيترال. الطرق المؤدّية إلى هاتين المدينتين أكثر صعوبة من الطريق إلى لاداك والصخور البنفسجية والأرجوانية والقمم الثلجية الزرقاء. ويتحدّث عن أمسية استمتع فيها بوجبة كشميرية غنيّة من لحم الضأن والتوابل، واستمع حتى منتصف الليل الى الغناء الكشميري والأغاني الفارسية والعربية إلى جانب الأغاني الكشميرية والأوردية. ثم وكالعديد من المسافرين الذين سبقوه، اتّجه رويريك إلى شينجيانغ في الصين وعبَر جبال كاراكوروم القاحلة.
كان الكاتب مفتونا بالتقاليد الروسية في العصور الوسطى. وقبل سفره الى الهند، ترحّل كثيرا حول الإمبراطورية، مرمّما الآثار وجامعاً التراث الشعبي. وقبل مغامرته لاكتشاف شانغريلا، لجأ إلى الأساطير الروسية، متأمّلا العثور على مدينة كيتيش الأسطورية.
ويُقال إن كيتيش تقع على بحيرة، وقد بناها أمير روسي في نهاية القرن الثاني عشر، وتشغل مساحة بين الأحلام والواقع. ومثل شانغريلا، كان من المفترض أن تكون كيتيش مكانا للجمال والرقيّ الفنّي. ومثل شانغريلا أيضا، كانت مخفيّة عن أعين المتطفّلين. وقد ابتلعتها مياه البحيرة التي كانت تحميها ذات يوم من غزو التّتار. وقد اعتقدَ رويريك فيما بعد أن كيتيش وشانغريلا يمكن أن يكونا اسمين لنفس المكان، وأن مدخله مخفيّ في مكان ما في جبال الهيمالايا.
كان عمل رويريك الأكثر شهرة والمخصّص لكيتيش هو لوحة رائعة باللونين الأحمر والبرتقالي. في المقدّمة، تظهر المدينة المفقودة نفسها مع انعكاس قبابها البصلية وشرفاتها المزخرفة في البحيرة البرتقالية. ومن خلال اللعب بالمنظور، ابتكر رويريك حلما لشانغريلا روسية لا يكشف عن نفسه إلا للأشخاص الأقوى ملاحظة.
بحسب أسطورة تبتية، تحيط الجبال بمملكة شانغريلا التي تشبه زهرة لوتس عملاقة، وتنتشر فيها البحيرات والمروج والبساتين، كما توجد بها قصور ذهبية ذات أسقف من الكريستال. وقد حقّق الملوك الذين يحكمون شانغريلا الثروة، لكنهم يسعون جاهدين لمساعدة الآخرين على الوصول إلى التنوير والخلاص.
الرهبان الأوائل حدّدوا تلك الأرض في مكان ما في جبال منغوليا أو التبت أو الهيمالايا، ورووا أساطير عن الأرض الموعودة التي غامر عشرات المسافرين لبلوغها ولكنهم لم يعودوا أبدا. وخلال إقامتهم في رحلتهم الأولى، تحوّل رويريك وعائلته إلى شخصيات أسطورية، حيث يُفترض أنهم وصلوا الى "المدينة المتألّقة" وعادوا ليخبروا عنها.
كانت شانغريلا التي رسمها رويريك تشبه جزيرة كيتيش، حلما ورؤية لجمال ساحر لم يمسسه بشر ولم يكن بوسع سوى قِلّة مختارة من الناس بلوغه. ورغم أنها بعيدة، إلا أنها تغري المسافر، وتبدو عند فحصها عن كثب وكأنها قلاع تنهض في السماء. وتضاء هذه الرؤية السماوية بوميض من ضوء القمر يظهر في سحابة كانعكاس.
لكن كان من المستحيل معرفة مكان شانغريلا التي رسمها رويريك، لأنه اعتقدَ أنه وجدها وهو يتجوّل بين الجبال. واستنادا إلى أساطير كيتيش و شانغريلا، رسم خرائط لطرقه وسجّل تجاربه في العديد من الكتابات.
كتب رويريك أن "الطريق إلى شانغريلا هو طريق الوعي في قلب آسيا. ولن تقودك خريطة ماديّة بسيطة إلى مكانها، لكن العقل المنفتح يمكن أن ينجز المهمّة". وكانت لوحاته عبارة عن خرائط من شأنها أن توفّر للمشاهد لمحة سريعة عن شانغريلا، فهي مكان الحكمة الهادئة المصقولة بألوان زاهية وأشكال ملتوية.


على عكس الرسّامين الآخرين في عصره، نجا رويريك من فخّ الاستشراق. ولم يصوّر الشرق أبدا باعتباره "مكانا آخر". كان يرى الشرق والغرب وجهين لعملة واحدة. وكان افتتانه بأبطال روسيا يعادل اهتمامه بالأبطال والمعلّمين الهنود. وقد رفض التمييز بين الاثنين وسعى بدلاً من ذلك إلى إيجاد صلات.
وبخلاف معاصريه من الفنّانين الآخرين الذين ينتمون إلى خلفية فنّية خالصة، كان لدى رويريك نهج أكثر علميةً وروحانية تجاه الفنّ الذي كان ينتجه. كان استخدامه للألوان الجريئة مع درجات اللون الأزرق، جنبا إلى جنب مع الخطوط المتناقضة للألوان، يجعل لوحاته الجبلية مميّزة، حيث استخدم المزيد من النغمات الأرضية والجماليات الريفية. ومن خلال لوحاته يمكن للمرء أن يشعر بجوهر الروحانية التي تتضمّن عناصر الوعي الإبداعي.
في العديد من لوحات رويريك، سترى قوارب أسطورية وكنائس ذات قباب ورعاة وحجّاجا يصعدون التلال وسهولا مزهرة وجبالا قرمزية أو صفراء أو نيلية زاهية تغلّفها سحب وردية خفيفة. هذه هي صورة الشرق كما رآها.
وفي بعض الأحيان لا تخلو قمم الجبال في لوحاته من شخصيات صغيرة غير مركزية من ذوي القلنسوة أو الفرسان المتربّعين عادةً في المخيال الشرقي. وفي بعض اللوحات الأخرى، وسط الجبال، تتداخل الأديرة في أكوام غير متماثلة من المكعّبات، حيث تشرق الشمس غير المرئية أو تغرب وكأنها داخل اللوحة أو خلفها.
أما الرهبان واللامات والشامانات والمتجوّلون والمادونات فيظهرون بشكل غير متجانس وسط هذه الجبال العملاقة أو في الكهوف في صورة حالمة بينما رؤوسهم مائلة، وهو وضع الحياة الداخلية المكثفة واليقظة الروحية. أما الجبال فهي البطل الوحيد مع توأمها، أي السحب المهيبة الثلجية والقادرة على كلّ شيء.
وفي اللوحات سترى أيضا كنائس وصلبانا روسية مألوفة ومناظر طبيعة روسية مميّزة وسهولا خضراء وأنهارا وتلالا وأكواخا رثّة من القصص الخيالية وبحيرات متدحرجة يسكنها عادة رهبان روس يرتدون ثيابا سوداء وشخصيات شعبية وثنية.
بالنسبة لرويريك، أصبحت جبال الهمالايا وسيلة لاستكشاف اللون النقي، والتوليف بين الإدراك البصري والوعي الروحي. كان ينظر إلى هذه الجبال باعتبارها فضاءً مركّبا مُشبعا بالقداسة والروحانية والأسرار التي لا تُحصى. ووجد في النهاية طريقته الخاصّة في التجريد، وذلك بتحرير المناظر الجبلية من التفاصيل وتجسيدها كوسيلة للتأمّل.
العديد من مناظر رويريك للطبيعة تجسّد عمق الفضاء الجبلي اللامحدود الذي خلقته قوى الحياة الأكبر. في أحدها يظهر رجل على حصان أبيض وهو يغادر منزله المطلّ على الجبال القريبة. وعلى الرغم من أن شكل الرجل صغير ويستحيل قراءة وجهه، إلا أن لغة جسده واضحة، كأنه يودّع منزله الأصلي الواقع على الطرف الآخر من اللوحة، حيث تقف امرأتان تحملان جرّتي ماء.
وعند تركيز النظر قليلا، ستلاحظ أن شخصيّتي المرأتين شفّافتان لدرجة أنه يمكن رؤية جدران البئر من خلال شكلهما. وكما غادر رويريك وطنه وبدأ رحلة روحية، فإن هذا المهاتما أو المعلّم المغادر بيته مستعدّ للسفر بعيدا عن الوطن. وهو يُميل رأسه إلى الوراء لينظر إلى الماضي بحنين ويتذكّر منزل طفولته الحبيب مع الشخصيّتين الشبحيتين لأمّه وأخته اللتين تركهما وراءه في روسيا.
وطوال 30 عاما من حياته، وحتى وفاته، سعى رويريك لتحقيق رؤية مثالية، فأصبح رحّالة لا يستقرّ أبدا ولا يصل أبدا لأنه من غير الممكن الوصول إلى أرض خيالية.
انغمس رويريك في الحياة الثقافية الهندية وأصبح صديقا لإنديرا غاندي وجواهر لال نهرو والشاعر طاغور واستمرّ في رسم جباله وأساطيره المحبوبة. وعلى مدى 20 عاما، رسم لجبال الهيمالايا وما جاورها مجموعة مذهلة من 7000 لوحة. كما ألّف كتابين إثنوغرافيين عن الجبال والهند. وأصبح وادي كوللو، الواقع وسط قمم جبلية مهيبة مغطّاة بالثلوج، منزله ومكان عمله حتى رحيله.
وبعد وفاته عام 1947، ووفقا لرغبته، تمّ حرق جثّته ونُثر رمادها في نفس المكان، ثم مُنح لقب قدّيس هندي أو "ماهاريشي".
وسط المناظر العديدة التي رسمها رويريك لمناطق الهيمالايا، تطلّ علينا أحيانا ملامحه نفسه على هيئة حكيم شرقي عجوز بلحية بيضاء صغيرة وحضور ساحر ومهيب.

Credits
roerich.org