:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، يوليو 17، 2024

فريدريش: العالم كروحٍ بدائية


في الكثير من صور الرسّام الألماني كاسبار دافيد فريدريش (1774-1840)، لا يزيد عدد الأشخاص عن اثنين في الغالب. وهما دائماً يعطيان ظهريهما للناظر، ويبدوان كما لو أنهما يخطوان خارج المكان الذي يقفان فيه، أو يبحثان عن شيء ناءٍ لا يمكن بلوغه، ويتبادلان حديثاً أشبه ما يكون بحديث الأرواح.
وبالإضافة إلى هذا، هناك الحضور الدائم للقمر وأشجار السنديان، والأفق المنخفض كطريقة لإبراز قرب السماء وسيطرتها.
كانت الموضوعات المفضّلة لدى فريدريش، والتي ضمّنها في صوره، الأشجار العارية في مناظر الطبيعة الشتائية، والأطلال المغطّاة بأشجار اللبلاب، والسماء فوق بحر البلطيق العاصف، والأشجار المتيبّسة أو الداكنة، والسماء الليلية، وضباب الصباح، والآثار القوطية أو الصخرية، والارتباط الدائم بين البشر والطبيعة.
لم يكن الرسّام يصوّر الطبيعة فحسب، وإنما أيضا الحالات المزاجية والعواطف والمشاعر التي تستحضرها. ومصداقا لهذا كان دائما يردّد: لا ينبغي للفنّان أن يرسم ما يراه أمامه فقط، بل ما يراه داخل نفسه أيضا".
الكاتب المسرحي الإيرلندي سامويل بيكيت قال ذات مرّة إن لوحة فريدريش "رجلان يتأمّلان ضوء القمر" (1819) كانت مصدر إلهامه لكتابة مسرحيته العبثية المشهورة "بانتظار غودو". في لوحة فريدريش هذه، ذات الطبيعة الليلية، يقف شخصان خلف شجرة ذات أغصان متيبّسة وهما يتأمّلان القمر ونجمة المساء. وفي مسرحية بيكيت، ينتهي كلّ فصل بمشهد لبطل العمل وهو يحدّق من بعيد في ضوء القمر.
كان فريدريش يحبّ تضمين أعماله موتيفاتٍ قروسطية. وقد استلهم هذا من صديقه الشاعر غوته الذي خصّص أوّل كتبه للحديث عن جماليات كاثدرائية ستراسبورغ.
والكثير من لوحاته مثل "راهب على شاطئ البحر" تتحدّث إلى أجيال متعاقبة. وهناك إحساس عالٍ بالدراما في هذه الصورة يجسّده الشخص الوحيد الذي يظهر فيها متأمّلا البحر ومرهِفا سمعه لحركة وصوت الماء التي يتردّد صداها في الأفق المفتوح والممتدّ أمامه.
كان فريدريش ينظر الى العالم كروح بدائية. وهو في لوحاته ينقل المتلقّي الى الوراء، أي الى الوقت الذي كانت فيه الأرض شابّة. ومناظره الطبيعية لا تهتمّ كثيرا بالمكان. والطبيعة يصوّرها دائما كظاهرة. والكون بالنسبة له عبارة عن وثيقة مليئة بالصور الآمنة والخطرة معاً.
لوحته "ضباب في وادي إلبا" (1798) لها حساسية الصور الصينية المرسومة على الحرير في إمساكها الصامت بالضباب المتدحرج فوق الجبال. وأغصان الأشجار العارية من أثر الثلج تشبه سرباً من الظباء المستنفرة.
من أشهر اعمال فريدريش الأخرى تصاويره لأطلال دير إيلدينا الألماني المبني عام 1199. كان هذا الدير قد دُمّر أثناء حرب الـ 30 عاما واستُخدمت حجارته لبناء جامعات ومدارس. وفي عام 1800، كانت هناك نيّة لإزالة أطلاله نهائيا، غير أن رسومات فريدريش للدير أنقذته عندما وجّهت انتباه الناس إلى وضعه فطالبوا بالمحافظة على بقاياه وتأمينها.


المعروف أن صور الآثار والأماكن القديمة ترتبط في الوعي الجمعي بمشاعر متباينة كالحزن والحنين والغموض، وأحيانا الخوف. وكثيرا ما تذكّر رؤية الآثار بالمآسي القديمة للإنسانية وبالأفعال البطولية، وما إلى ذلك. وقيمة الآثار البصرية والجمالية تكمن في نقصها، أي عدم تمامها، وفي تفاعلها مع الطبيعة من حولها.
وفي العصر الرومانسي، أي زمن فريدريش، كانت الأماكن الأثرية ملتقى للأدباء والشعراء والفنّانين. وغالبا ما كانت تُستخدم كخلفية أو كصورة مجازية للأشياء الآيلة للذبول والتلاشي. غير أنها في الوقت نفسه يمكن أن تكون أماكن للتجدّد والتعلّم والإلهام. لكن في عصر النهضة، أي قبل ذلك بقرنين، كانت الأماكن القديمة تُقدّر لجمالها الفطري وباعتبارها رمزا لفناء العالم وشهادة على عجز الإنسان عن حماية ما أوجده.
في إحدى لوحات فريدريش من عام 1824، يرسم الفنّان سماءً لامعة ومليئة بالرؤى تحتلّ كامل الصورة تقريبا وتغطّي الارض الصغيرة الى أسفل. أحد النقّاد قال يصفها: هذه سماء نوفاليس الفيلسوف، فهي خالية من النجوم لكنها أكثر سطوعا من النهار، بينما تبدو الارض تحتها بلا نشاط او حياة".
وفي لوحة أخرى مليئة بالرموز وتعكس نظرته التأمّلية للطبيعة، يرسم فريدريش ثلاثة أشخاص، امرأتان ورجل، يرتدون ملابس من القرون الوسطى ويراقبون في ضوء القمر سفينة عائدة من رحلة في ساعة متأخّرة من الليل. قيل أحيانا إن السفينة في اللوحة ترمز لمرور الزمن ونهاية رحلة الإنسان.
كان فريدريش يرفض دراسة أو تصنيف الظواهر الطبيعية ويتجاهل ما يقوله العلم الحديث عنها، على أساس أن ذلك من شأنه أن يؤثّر سلبا على القيمة الشاعرية لصوره ويقلّل من دوره كشارح للطبيعة.
ورغم أن أعماله مشبعة بإحساس واضح بالحزن والكآبة، إلا أن هذا الشعور تأمّلي في الأساس، أي أن القبور والجنائز والأطلال الدارسة وغيرها تشير إلى حياة أكثر سلاما بعد الموت. وهذا العزاء بالخلود أو الحياة الأبدية حاضر حتى في أكثر أعمال الرسّام كآبةً وحزناً.
لوحة فريدريش الأشهر "متجوّل فوق بحر من الضباب" من عام 1817 (فوق)، تصوّر شخصا غامضا يقف فوق صخرة وعرة مراقباً المنظر الطبيعي الذي أمامه ومُعطياً ظهره للناظر. وقد أصبحت هذه اللوحة مألوفة لدرجة أنه أصبح من الصعب أن ندرك مدى ابتكاريّتها وثوريّتها عندما أُنجزت، حيث كانت تخالف كلّ الأنماط التقليدية في الرسم التجسيدي.
عندما حلّ عام 1820، كان كاسبار فريدريش يعيش حياة عزلة وانفراد وفقر نسبي. وقد أطلق عليه أصدقاؤه من الفنّانين والكتّاب لقب "الفنّان الأكثر عزلة بين المنعزلين".
وبعد موته بمائة عام، استخدم هتلر والحزب النازي أعماله للترويج لأيديولوجيتهم المتطرّفة، في محاولة لربطه بشعاراتهم القومية. وكانت النتيجة أن شعبية فريدريش سجّلت تراجعا واضحا خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
في هذا العام، 2024، تحتفل ألمانيا بذكرى مرور 250 على مولد فريدريش. وما يزال الفنّانون في العصر الحاضر يجدون في أعماله إلهاماً على مستويات متعدّدة. واستكشافاته للإنسان وعلاقته بالطبيعة تشكّل نقطة انطلاق للكثير من الفنّانين الذين يراقبون علاقة البشر المضطربة حالياً بالعالم الطبيعي في عصر التغيّر المناخي.

Credits
caspardavidfriedrich.org