الأحد، مارس 17، 2024

كولومبوس في الأرض الغريبة


في 11 أكتوبر 1492، كان كولومبوس وبحّارته مع سفنهم الثلاث يقتربون من جزر البهاما عندما رأوا عن بعد أرضا غريبة. ويقال إن اوّل من رآها كان بحّارا يُدعى رودريغو دي تريانا.
وقيل أيضا أن كولومبوس رأى في تلك الليلة شيئا يشبه ضوء شمعة تضيء وتخبو. ويبدو أن ذلك كان مؤشّرا على وجود أرض قريبة. وكان على كولومبوس أن يتأكّد من ذلك، فطلب من رجاله أن يتهيّئوا للمفاجأة عارضاً مكافأة لأوّل بحّار يكتشف الأرض. وأمر السفن بالتوقّف والانتظار ريثما يظهر ضوء النهار.
وفي اليوم التالي تأكّدوا أنهم هبطوا في مكان ما من جزر البهاما. وبعد أن وصلوا رأوا أشجارا شديدة الخضرة وفواكه مختلفة الأشكال والأنواع.
أما كولومبوس فقد جثا على ركبتيه شكراً لله على أن وصلوا الى تلك الأرض بأمان. ثم غرس فيها علَماً إسبانيّا، بينما كان افراد من شعب التاينو، أي السكّان الأصليين لمنطقة الكاريبي الذين عاشوا هناك لأكثر من ألف عام، يراقبون ما يحدث من وراء الأشجار الكثيفة.
وفي اليوم التالي تجمّع السكّان الأصليون على الشاطئ وقدّموا للإسبان الطعام والشراب والقطن وسلعا أخرى كهدايا، بينما قدّم لهم الإسبان هدايا من القبّعات الحمراء والخرز الملوّن.
وحتى ذلك الوقت لم يسبق لشعب التاينو أن رأوا رجالا ذوي بشرة بيضاء، فظنّوا أنهم آلهة! وأمضى كولومبوس الشهرين التاليين باحثا هو ورجاله عن الذهب. وقد كتب كولومبوس الى ملك اسبانيا يقول واصفاً الطريقة التي عاملهم بها شعب التاينو:
لقد تاجروا معنا وأعطونا كلّ ما لديهم بحسن نيّة. كانوا مهتمّين كثيرا بإرضائنا. إنهم لطفاء للغاية ولا يعرفون الشرّ. كما أنهم لا يقتلون أو يسرقون. وربّما يعتقد صاحب الجلالة أنه لا يمكن أن يوجد شعب أفضل منهم في العالم كلّه. وهم يحبّون جيرانهم كما يحبّون أنفسهم."
وقد أطلق كولومبوس على التاينو إسم "الهنود"، وهي إشارة توسّعت لتشمل جميع الشعوب الأصلية في نصف الكرة الغربي.
في ديسمبر من عام 1492، وبينما كان كولومبوس ورجاله يبحرون شرقي كوبا، اقتربت سفنهم من ثاني أكبر جزيرة في البحر الكاريبي، وقد أسموها "لاسبانيولا" تيمّنا بإسبانيا.
وعندما كان كولومبوس على وشك العودة إلى إسبانيا بعد انتهاء رحلته الاولى، جنحت سفينته "سانتا ماريّا" عن مسارها ثم غرقت. وطلب زعيم التاينو من شعبه مساعدة الإسبان واسترداد كلّ شيء قابل للإنقاذ.
ثم نشأت مشكلة عندما تبيّن ان السفينتين الأخريين لن تتّسعا لجميع البحّارة الاسبان الذين رافقوا كولومبوس. لذا بُني حصن باستخدام الخشب الذي استُنقذ من السفينة الجانحة. وترك كولومبوس 39 من رجاله في ذلك الحصن الذي اسماه "نافيداد" وطلب منهم أن يبقوا هناك الى أن يعود وباقي البحّارة من اسبانيا.
وقد أخذ كولومبوس معه إلى اسبانيا بعض السكّان الأصليين وأطعمة ونباتات وطيوراً كي يراها الملك والملكة. ومن اجل أن يبدأ رحلته الثانية، أُعطي أسطولا من سبع عشرة سفينة وبعض الجند. وعند وصولهم إلى حصن "نافيداد"، وجدوا الحصن محترقا وجميع الرجال الـ 39 الذين تركوهم هناك مقتولين.
ويبدو أن البحّارة الذين تُركوا في الحصن أساؤوا التصرّف فاغتصبوا بعض نساء التاينو وسرقوا كلّ ما وقعت عليه عيونهم من متعلّقاتهم وأشيائهم. وكان أحد زعماء القبيلة قد تدارس الموقف مع زعماء آخرين، ثم اتفقوا على أن الآلهة ما كانت لترضى أبدا عن الطريقة التي تصرّف بها الإسبان. وقرّروا أن على الإسبان أن يدفعوا ثمن فعلتهم، فقضوا عليهم جميعا لقطع شرّهم وعلى اعتبار أنهم صاروا يمثّلون تهديدا لشعبهم.


وعندما رأى كولومبوس ما حدث لرجاله، تعهّد بالبحث عن زعيم القبيلة والانتقام منه جزاء ما فعل. ثم اقام أماكن أكثر تحصينا. وفي يناير عام 1493، أسّس مدينة أسماها "ليزابيلا" تيمّنا باسم ملكة اسبانيا.
وبعد ذلك قُبض على عدد من افراد شعب التاينو وأخذوا كعبيد، بينما اُجبر بعضهم على العمل في مناجم الذهب. وكلّ من رفض قُتل. أما الافراد الأصغر سنّا فقد طُلب منهم دفع جزية من الذهب كلّ ثلاثة أشهر. وكلّ من يفشل في الوفاء بذلك الشرط تُقطع ذراعه ويُترك لينزف حتى الموت.
أما نساء القبيلة فقد وُهبوا للإسبان ليفعلوا بهنّ ما شاءوا. ونتيجة لذلك أصبحت الحقول لا تجد من يهتمّ بها ولم تعد تنتج ما يكفي من الغذاء للتاينو وللاسبان. وصار الجميع يعانون من الجوع ونفاد الامدادات. ثم لم يلبث كولومبوس أن قبض، عن طريق الخدعة، على أحد زعماء القبيلة الهاربين فوُضع على متن سفينة وأُرسل إلى إسبانيا ولم يُسمع عنه شيء بعد ذلك.
العديد من أفراد شعب التاينو كانوا يتضوّرون جوعا حتى الموت، بينما مات آخرون من الأشغال الشاقّة، وأقدم الكثيرون منهم على الانتحار. وبعد عام 1496، انخفض عددهم بنحو 70%، ثم اجتاحت الأوبئة الجزيرة وتعرّض بقيّة التاينو للضرب والتعذيب والاغتصاب والاستعباد والقتل. وقد ألهمت هذه الممارسات القاسية العديد من الثورات التي قاموا بها ضدّ الإسبان، وكان بعضها ناجحا والبعض الآخر لم يُكتب لها النجاح.
وبعد عام 1496، أقدم بعض الإسبان على التمرّد، هذه المرّة ضدّ كولومبوس وإخوته. ولم يلبث ملك وملكة اسبانيا أن أرسلا محقّقا ملكيّا لتهدئة الأمر. وقد أُدين كولومبوس وإخوته بارتكاب العديد من الجرائم ضدّ السكّان الأصليين وبعض الإسبان. وقُبض عليه وعلى إخوته ووُضعوا على متن سفينة أخذتهم إلى إسبانيا.
وفيما بعد سمحت له السلطات الاسبانية برحلة أخرى عبر المحيط. لكنه مُنع من زيارة لاسبانيولا. واستمرّ في استكشاف منطقة الكاريبي لمدّة عامين قبل أن يعود إلى إسبانيا للمرّة الأخيرة حيث توفّي.
أما بالنسبة لأفراد شعب التاينو الذين رفضوا العمل لدى الإسبان فقد فرّوا إلى التلال وحكموا في منطقة جبلية وأمّروا عليهم امرأة تُدعى "أناكاونا" أو الزهرة الذهبية.
كانت "أناكاونا" زوجة الزعيم الذي قاد الهجوم على الحصن الاسباني قبل ذلك بسنوات. وقد طلب الحاكم الإسباني نيكولاس دي أوفاندو لقاءً معها من أجل كسر شوكة المقاومة، فوافقت بحسن نيّة. وخلال الاجتماع الذي حضره ثمانون من زعماء التاينو القبليين، دبّر الاسبان مكيدة إذ أحرقوا المكان كلّه وأُحرق كلّ من حضره من التاينو وهم أحياء.
ثم اعتقل الاسبان زعيمتهم واتُّهموها بالتآمر على اسبانيا ومقاومة الاحتلال وحُكم عليها بالإعدام. لكن الإسبان عرضوا عليها العفو إن هي وافقت على أن تمنح نفسها لإسباني. وقد اختارت المرأة الإعدام وفضّلته على خيانة وطنها، فأُعدمت شنقاً عن عمر يناهز التاسعة والعشرين، ولم تلبث ان تحوّلت إلى اسطورة.
وكان زعيم آخر من زعماء التاينو حاكما على منطقة أخرى، وقد قاوم الإسبان فترة من الزمن الى أن عانى من نفس مصير "أناكاونا". وأسّس عدد آخر من التاينو مجتمعا في الجبال وبدءوا وأتباعهم من هناك حرب عصابات ضدّ الاسبان استمرّت حتى عام 1533. ولمّا لم يتمكّن الإسبان من السيطرة على التمرّد، وقّع ملك إسبانيا شارل الخامس على معاهدة تمنح من بقوا على قيد الحياة من التاينو حقوق الحرّية والتملّك.
لكن بحلول ذلك الوقت، كان عددهم يتناقص بسرعة بسبب الأمراض والاوبئة الأوروبّية. وفي نهاية ذلك القرن أُعلن رسميّا عن انقراض شعب التاينو. لكن بقيت قصص بطولاته ومقاومته للاحتلال الاسباني يتردّد صداها عبر أجيال عديدة من شعوب الكاريبي.

Credits
history.com