:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أكتوبر 21، 2025

فاتح العالم


لم يكن الفيلان اللذان أحضرهما خادما الإمبراطور للتسرية عن سيّدهما مستعدّين للتعاون في ذلك اليوم. ففي مواجهة حشد من رجال الحاشية المطواعين، استدار أحد الفيلين وحاول الفرار، بينما هجم الآخر بعنف على أبناء الملك الأربعة الذين كانوا يستمتعون بالمشهد على صهوات خيولهم العربية الأصيلة. وبالكاد تمكّن ثلاثة من الأمراء من تحفيز جيادهم والهرب.
لكن أورانغزيب بقي حيث هو. وبيده الممسكة باللجام، ثبّت حصانه في مكانه، بينما سدّد بالأخرى ضربة قاضية من رمحه الى جبين الفيل. وفي نوبة غضب أخيرة، سَحقَ الفيل حصان الأمير بضربة من نابه، لكن الأمير نجح في تفادي الضربة وأنقذ نفسه بحركة استدارة رشيقة.
الحشد الذي كان يحبس أنفاسه بانتظار نتيجة المبارزة انفجر مردّدا هتافات النصر، بينما نزل الإمبراطور وسط اضطراب شديد من درجات الشرفة التي تابع منها المشهد. وركض خادمه المخلص "اعتماد خان" للقاء الأمير الذي كان يقترب من والده القلق بخطوات بطيئة ومحسوبة. وصرخ الخادم مذهولا: تمشي ببطء بينما أبوك الإمبراطور في حال يُرثى لها؟! تجمّد ردّ الأمير في فمه قليلا ثم قال: لو كان الفيل لا يزال يطاردني، لمشيت أسرع. الآن لا داعي للعجلة."
احتضن الإمبراطور شاه جهان ابنه وهتف بقلب مثقل: الحمد لله أن انتهى كلّ شيء على خير! ولو سارت الأمور على نحو مختلف، لكنتَ لطّختَ نفسك بالعار". أجاب أورانغزيب وهو ينحني: لو سارت الأمور بطريقة مختلفة، لما كان ذلك عاراً على الإطلاق. العار يكمن فيما فعله إخوتي".
هكذا تكلّم محيي الدين محمّد الملقب بـ أورانغزيب أو "زينة العرش". في ذلك الوقت، في 28 مايو 1633، كان عمره أربعة عشر عاما.
في سبتمبر 1657، عانى والده شاه جهان "سيّد العالم"، إمبراطور الهند وخامس أعظم حكّام سلالة المغول، من مرض خطير. حاول وزراؤه بكلّ السبل منع تسرّب الخبر، لكن دون جدوى. في الظروف العادية، كان هذا يعني نقل السلطة المطلقة إلى وريث العرش، أو إلى وصيّ مؤقّت. لكن في هذه الحالة، كانت الظروف أبعد ما تكون عن الطبيعية.
كان لشاه جهان أربعة أبناء، دارا شيكو وشاه شجاع وأورنغزيب ومراد بخش. ومع أن هذا لم يكن غريبا على امبراطور مغولي، حيث كان حريمه، حتى في أوقات الشدّة، يفيض بالزوجات والمحظيات، إلا أنها كانت المرّة الأولى في تاريخ السلالة التي يشتعل فيها أربعة أبناء بمثل هذا الطموح. والأهم من ذلك أنه كانت لديهم الوسائل لتحقيقه. كان كلّ منهم غنيّا وقويّا ويقود جيشه الخاص، بالإضافة إلى مخزون لا ينضب من الكراهية لأقاربه.
كان أطفال المغول منذ نعومة أظفارهم يُهيَّؤون للقتال على العرش، فكان عليهم أن يتقنوا فنون القتال للوصول إلى أعلى سلطة، سلطة الإمبراطور. وكان سفك الدماء والقتل جزءا مهمّا من النظام إن أراد المرء تحقيق أعظم رغباته.
ومع أن شاه جهان كان قد أوضح مرارا أنه عند وفاته سيرتدي ابنه الأكبر تاج المغول، إلا أن مرضه الذي أجبره على الصمت بين أغطية سريره جعل أمنيته حبرا على ورق. وأمضت الثعابين الأربعة الصغيرة سنوات في ترتيب قطَعها على رقعة الشطرنج، بانتظار هذه اللحظة. والآن، وقد بدا الحكم مستعدّا لإعطاء الإشارة، يمكن أن تبدأ اللعبة.
اندلعت الحرب على الفور، واستعرت في شمال شبه الجزيرة الهندية لمدّة عامين بدا وكأنهما قرنان من الزمان. ولم يُجدِ خبر تعافي شاه جهان، بعد أسبوع من الألم المبرّح واستعداده لاستعادة زمام الإمبراطورية، نفعاً. ففي نظر أبنائه، لم يكن "سيّد العالم" سوى رجل عجوز مسكين. حاول الإمبراطور عبثا تقديم دعمه لابنه الأكبر، دارا شيكو، الذي كان أحبّ أبنائه الى قلبه، وسعى عبر مناشدات متكرّرة لإعادة الثلاثة الآخرين إلى رشدهم، لكن عبثاً.
وُلِد دارا وأورنغزيب بفارق ثلاث سنوات بينهما. ومن بين جميع أبناء شاه جهان، حظي دارا بأكبر قدر من الحبّ والامتيازات. وبينما كان إخوته يرسَلون إلى مناطق مختلفة من شبه القارّة الهندية، نادرا ما غادر دارا البلاط الملكي بعد تولّي والده العرش. كان محبّا للسلام، متحرّر الفكر ومسلما غير تقليدي. كما كان راعيا للفنون ومولعا بالفلسفة أكثر من الاهتمامات العسكرية. وكانت هذه الصفات تثير استياء معظم الناس.
ولطالما صوّر المؤرّخون دارا كشخصية مأساوية. كان بمثابة بصيص أمل في عصر اتسم بالتشدّد الديني. فقد أدرك تنوّع الثقافة الهندية وتقاليدها المتعدّدة، وقادته رحلته الروحية إلى استكشاف القواسم المشتركة بين ديانات شبه القارّة. وكرّس نفسه لأكثر من عشر سنوات لتجميع تعاليمه الروحية والصوفية في سلسلة من الكتب. كان يمكن لدارا أن يغيّر مجرى التاريخ في الهند لو أصبح إمبراطورا للمغول. وقيل إنه لولا الصراع المرير على العرش، لكان أحد أعظم الفلاسفة الذين شهدهم تاريخ شبه القارّة.
نيكولو مانوتشي، المغامر الفينيسي الذي كان يعمل في البلاط المغولي، شهدَ مجريات حرب الإخوة بأكملها من مؤخّرة جيش دارا، ورأى كيف تسير الأمور في الهند. وقد قدّم وصفا حيّا لموت دارا شيكو عندما كتب: بعد أسر دارا، أمر أورانغزيب رجاله بإحضار رأسه إليه. وقد فحص الرأس بدقّة أوّلا للتأكّد من أنه دارا بالفعل. ثم أعدّ خطّة شرّيرة ومخزية. إذ أمر بوضع الرأس في صندوق وتقديمه إلى والده المريض والمعزول شاه جهان، وبأن يسلَّم الصندوق فقط عندما يجلس والده لتناول العشاء. وفتح شاه جهان الصندوق دون أن يشكّ في شيء. وبعد أن رأى ما بداخله، أصيب بالرعب وفقدَ وعيه".
لم تكن المعركة مجرّد صراع بين دارا وأخيه المتمرّد، بل تحوّلت إلى حرب دينية، حيث دعم الهندوس دارا المتسامح والمسالم، ودعم العديد من النبلاء المسلمين أورانغزيب. كان دارا على وشك النصر عندما خانه أحد قادته، فانسحب إلى لاهور ثم عبَر نهر السند. وفي النهاية أُحضر إلى دلهي وحوكم وأُعدم بتهمة الردّة! ثم عمد أورانغزيب الى محو اسم دارا من السجلّات الرسمية لكي يُبقي مكان دفنه مجهولا. لكنه مع ذلك حرص على تزويج أبنائه فيما بعد من بنات دارا.
وفي الخامس من يونيو عام ١٦٥٩، عندما اعتلى أورانغزيب العرش الإمبراطوري أخيرا، كان قد خطا فوق جثث إخوته الثلاثة.
كان أورانغزيب الابن الثالث للإمبراطور. وفي بلاط إسلامي كبلاط المغول الذي أنشئ قسرا قبل ذلك بمائتي عام في بلد ذي أغلبية هندوسية، أثارت صرامة أورانغزيب قلق والده. فمنذ صغره، اعتنق الابن المذهب السنّي التقليدي الذي لم يُبدِ أيّ تنازلات تُذكر للتعليم الصوفي الذي غرسه الأب في إخوته الأكثر تسامحاً. كان الأمير يكرّس ستّ ساعات يوميّا للصلاة ويقضي بقيّة وقته في دراسة مكثّفة للفنون العسكرية التي أجادها بإتقان في سنّ العشرين. لم يكن يشرب أو يدخّن، وكان يمرّ على الحريم مرور الكرام ويكره الموسيقى. وبصفته "مسلما صالحا"، كان يُبدي استياءه من الفنون التصويرية.

❉ ❉ ❉


❉ ❉ ❉

حتى مظهره الجسديّ كان يثير امتعاض رجال البلاط. فبينما كان والده وإخوته غارقين في الترف، كان أورانغزيب يتجوّل دائما مرتديا ثوبا أبيض بسيطا يُبرز شحوب وجهه بشكل مخيف. وبدا أن والده قد لاحظ شيئا مقلقا وراء مظهر ابنه ونظراته وشروده. اعتلاء أورانغزيب للعرش جعل حتى أكثر الناس غفلةً يدركون أن الزمن السهل قد انتهى. كان حفل تتويجه، كما دوّن كاتب سيرته الذاتية "هانز بير"، بمثابة "آخر ومضة من روعة البلاط المغولي". فقد اختار الامبراطور الجديد لنفسه اسم "عالَم غِير"، أي "فاتح العالم"، وهو اسم لم ينادِه به أحد قط. ولكنه كان بمثابة تذكير للجميع بما سيكون عليه حكمه.
أعاد أورانغزيب فرض الجزية التي كانت مقرّرة على غير المسلمين، وكان تحصيلها في الماضي يتمّ بشكل غير منتظم أو مقنع. ومن الواضح أن أورانغزيب لم يكن يرى أيّ مشكلة في حقيقة أن المسلمين في الهند كانوا لا يزالون أقليّة مقارنةً بالأغلبية الهندوسية. وفي اليوم الذي ظهر فيه 700 شخص أمام القصر للاحتجاج على قرار إعادة الجزية، أمر الامبراطور بأن يُسحقوا بالأفيال.
كان الجانب الإيجابي لفلسفة أورانغزيب هو أن عرش المغول، ولأوّل مرّة، تولّى زمامه شخص يتمتّع بحسّ سياسي حقيقي. فعلى عكس أسلافه، الذين كانوا ينفقون بسخاء من خزينة الإمبراطورية ويعاملونها كمحفظة ضخمة، كان أورانغزيب ينفق على عمليات نقل البلاط باستمرار من جزء إلى آخر من إمبراطوريته الشاسعة، وذلك لضمان حسن سير الأمور فيها. ولكن حتى هنا، كان أورانغزيب يرى أن إدارة الإمبراطورية بفعالية يتطلّب بالضرورة خضوعها الكامل للإسلام.
وقد أنفق ثروة طائلة على الصدقات والأعمال الخيرية، لكن غير المسلمين استُبعدوا من هذه الهِبات. ولضمان الرفاه الروحي الكامل لرعيّته، أمر أورانغزيب بهدم مئات المعابد الهندوسية وذبح كلّ من حاول معارضة أوامره. لم يُجبِر الكفار قطّ على اعتناق الإسلام، بل بذل كلّ ما في وسعه لضمان أن يفهم هؤلاء أن اعتناق الإسلام هو السبيل الوحيد الممكن لخلاصهم. لكنه ترك قرار التحوّل لضمير كلّ فرد.
كتب ذات مرّة في رسالة يقول: ما شأني بإيمان الناس؟! ليتّبع يسوع إيمانه وليتّبع موسى إيمانه". ولكن وجود "المعابد الوثنية" بداخل الدولة وتسامحها مع هذا الأمر في الماضي أصبح بالنسبة له الآن انتهاكا لسلطة الدولة ومخالفة للقانون الإلهي، بل ووصمة عار في ضميره!
ولم تعد سياسة أورانغزيب الخارجية متّزنة وهادئة، بل أصبح يتصرّف من وحي لقبه "فاتح العالم". وبإصرار لا يكلّ، هاجم جميع الممالك الهندية التي تركها أسلافه تعيش بسلام، كي يكسب الولاءات الرسمية وسيلاً من أموال الجزية لإثراء خزائن الدولة. والعديد من المؤرّخين ينتقدونه لقصر نظره وعدم كفاءته الإدارية والمالية.
لكن شجاعته في المعارك كانت أسطورية. وحتى قبل اعتلائه العرش، وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وبينما كان يخوض معركة ضدّ جيوش ملك بخارى، لاحظ حلول وقت الصلاة اليومية. فترجّل بهدوء عن فيله وسط صيحات وشتائم جنوده. وبعد أن فرش سجّادة صلاته باتجاه مكّة، سجد سجودا طويلا وعيناه مغمضتان، متغافلا عما يدور حوله. وصرخ ملك بخارى قائلا: إنْ قاتلنا مثل هذا الرجل فسنكون كمن يتمنّى الموت"! وأمر بوقف المعركة.
مع مرور الوقت وتقدّمه في السن، بدأ أورانغزيب يتخلّى عن هذه المآثر، لكن هذا لم يكن يعني تخلّيه عن مشاركته الفعّالة في الحرب كخبير استراتيجي، والأهم من ذلك كخبير حقيقي في الخداع. وتحت قيادته، بلغت إمبراطورية المغول أقصى توسّع لها، بضمّها سلطنتي بيجابور وغولكوندا الجنوبيتين، اللتين قاومتا حتى ذلك الحين كلّ محاولات الغزو.
ومن الأمثلة على انضباطه الصارم حادثة وقعت بعد غزو بيجابور، آخر معقل عارضَ توسّع الإمبراطورية. في تلك الفترة، وجّه رئيس الوزراء عريضة إلى الامبراطور أخبره فيها بأن الجيش مرهَق. وأضاف: لقد فتحتَ مملكتين عظيمتين. ومن الحكمة الآن أن تعود الرايات الإمبراطورية إلى هندوستان، أرض الفردوس، كي يعلم العالم أن الإمبراطور لم يُغفل شيئا". لكن أورانغزيب خالفَ ذلك الرأي، وردّ على العريضة بقوله: إذا كانت رغبتك هي توعية الناس بأنه لم يعد هناك عمل يُنجز، فاعلم أن هذا مخالف للحقيقة. فما دام في صدري نفَس واحد من هذه الحياة الفانية، فلن يكون هناك راحة من الكدح والتعب".
حكمَ أورانغزيب الهند خمسة عقود. كان ابن شاه جهان الصغير والضعيف الذي لم يكن والده ليراهن عليه ولو بدرهم، وصار آخر المغول العظام. وبعده، ولمائة وخمسين عاما أخرى، استمرّت السلالة في تراجع طويل ومؤلم على يد حكّام بائسين وغير أكفاء. كان أورانغزيب، بميله الفطري للتشاؤم، مدركا تماما لكلّ هذا. وكان أوّل من أيقن، وهو في أواخر عمره، أنه ناضل طوال حياته في محاولة لبناء إمبراطورية محكوم عليها بالزوال. عداوته للهندوس الذين كانوا يحترقون بكراهية متأصّلة تجاهه، وتنامي نفوذ التجّار الإنغليز، حوّلا مخاوفه إلى حقيقة.
رسائل أورانغزيب التي كانت يوما ما تتألّق بسلطة لا تقبل الشك، اكتسبت مع مرور الوقت نبرة يائسة وكئيبة. وبدأ فيها يطلق على نفسه لقب "هذا المخلوق البائس"، معبّرا عن شعور بالذنب لم يكن في الواقع سوى الوجه الآخر لتعصّبه. وقد كتب إلى ابنه "عزّام" يقول: لا أعرف بأيّ عقاب سيُحكم عليّ، فأنا بالفعل مثل دبّ عجوز تعذّبه لدغات النحل، وحياتي هي بمثابة تذوّق مسبق لنار الجحيم". وفي كثير من الأحيان، سمعه بعض رجال البلاط، وهو في ذروة يأسه، يكرّر رباعية شعرية مريرة تقول: عندما تبلغ التسعين، فإن ألف ضربة ستُزعزع سلام قلبك. وعندما تبلغ المائة، فإن حياتك لن تكون سوى موت مقنّع".
وقبل وفاته بفترة وجيزة، وبعد أن كتب وصيّته، كان أورانغزيب قد أصبح شيخا يائسا ووحيدا. لم يثق بأبنائه قطّ، وسجنهم مرارا، خوفاً من أن يعاملوه بنفس المعاملة التي عامل بها والده وإخوانه الثلاثة. وقد كتب لوريثه قائلا: لا تثق بأبنائك ولا تعاملهم بألفة أو محبّة أبدا!". كان قد وضع كلّ أمله في الله، مع أنه كان يشعر في أعماق نفسه أنه لم يبذل جهدا كافيا لإرضائه.
وكبادرة استسلام أخيرة، طلب أورانغزيب أن يُدفن جثمانه بعد وفاته في التراب، ملفوفاً في كفن، دون نقوش ولا شاهد قبر. وكان المال الذي كسبه من خياطته الملابس للفقراء، وهي مهنة كرّس نفسه لها في آخر حياته، هو كلّ ما سيُنفق على جنازته. وعندما فاجأه الموت، في فبراير عام 1707، كان يصلّي. كان عمره يناهز الـ 88 عاما.
وهكذا مات أورانغزيب، الوليّ والطاغية، أحد أكثر الشخصيات إثارةً للجدل في تاريخ الهند، بعد أن حكم ما يقرب من خمسين عاما. وكان آخر امبراطور عظيم يحكم الهند قبل الاستعمار البريطاني.

Credits
archive.org
darashikoh.in