بعض أحداث التاريخ تبدو صغيرة وغير ذات أهميّة ظاهريّا. لكنها قد تترك آثارا بعيدة وعميقة على مصائر أمم وشعوب بأسرها.
الزمان: الثاني من يناير عام 1492. والمكان: جنوب اسبانيا ذات يوم ربيعيّ.
الشمس مشرقة والسماء زرقاء والغيوم بيضاء ناعمة. ومن مسافة، في خلفية اللوحة فوق، يلوح قصر الحمراء فوق سفح تلّ وقد ظلّلته الغيوم.
منظر القصر الهادئ لا يعكس ما نراه في مقدّمة اللوحة من أجواء متوتّرة ومشحونة. الصورة تنقل مشهدا لحدث تاريخيّ هو استسلام غرناطة وإعادتها للحكم الاسبانيّ.
في الجزء الأماميّ، إلى اليمين، نرى فرديناند ملك اراغون على صهوة جواد اسود، وإلى يساره ايزابيللا ملكة قشتالة على حصان ابيض، وسط حشد من فرسانهما وحاشيتهما.
صورة الملكة هي المهيمنة، إذ تظهر محاطة بفرسانها ووصيفاتها، بينما يعتلي زوجها فرديناند ظهر حصانه وسط السلاح والأعلام.
وفي الجانب الأيسر من اللوحة، يظهر الملك أبو عبدالله الصغير وهو يسلّم مفاتيح المدينة إلى الطرف المنتصر.
ورغم أن السماء تبدو في أفضل حالاتها، إلا أن الأرض قاحلة والأشجار جرداء والطبيعة ما تزال في قبضة الشتاء ولم تتعافَ بعد من آثار الحرب.
ملابس فرديناند وزوجته ليست ملابس قتال، وما نراه هو اسبانيا المحتفلة بانتصارها على أعدائها.
لكن المثير للاهتمام هو ما لا تصوّره اللوحة. فإيزابيللا كانت ترى في نصر غرناطة حملة صليبية تُخاض من اجل مجد الربّ والكنيسة. لكننا لا نرى هذا بوضوح في الصورة. غير أن هناك صليبا كبيرا وسط الأعلام والرماح يظهر باعتباره عقيدة المنتصر.
فرانشيسكو براديللا ربّما يكون أشهر رسّام اسبانيّ في زمانه. وهو معروف بلوحاته التاريخية. وقد رسم هذه اللوحة بعد سقوط غرناطة بخمسمائة عام.
ومن الملاحظ أنه رسم الاسبان بعدد كبير، مقابل العدد القليل من الجند الواقفين في صفّ أبي عبدالله. كما أن العرب يتراجعون إلى الخلف في انصياع تقريبا، ولا يرفعون أيّ أعلام، بينما يقف الاسبان على الأرض بصلابة وثقة. وقد فعل الرسّام هذا عمدا كي يؤكّد على قوّة اسبانيا مقابل ضعف العرب وعجزهم العسكريّ.
كانت غرناطة آخر مملكة للعرب في اسبانيا. وكان استسلامها في نهاية النصف الثاني من القرن الخامس عشر يعني نهاية ثمانمائة عام من الوجود العربيّ والإسلاميّ في شبه جزيرة أيبيريا.
لكنه أيضا كان يعني توحيد اسبانيا لأوّل مرّة تحت تاج واحد ودين واحد بعد سبعمائة عام من الصراعات والحروب الأهلية.
وبعد وقت قصير سيستخدم الاسبان قوّتهم وثروتهم لبسط هيمنتهم على أمم أخرى، ولن تلبث اسبانيا أن تصبح أقوى قوّة مهيمنة في العالم.
سقوط غرناطة سيقود أيضا إلى محاكم التفتيش ورحلة كولومبوس لاكتشاف العالم الجديد. وبطريقة ما يمكن القول أن اجتثاث العرب من اسبانيا كان "بروفة" للكيفية التي سيتعامل بها الاسبان في ما بعد مع سكّان أمريكا الأصليين.
في شتاء عام 1496، فرضت الجيوش المشتركة لكلّ من فرديناند ملك اراغون وايزابيللا ملكة قشتالة حصارا على مملكة غرناطة الإسلامية.
وبعد سبعة أشهر، أي في الثاني من يناير عام 1497، استسلمت المدينة. وباستسلامها أسدل الستار على ثمانية قرون من الوجود العربيّ هناك.
هذا الحدث وحّد اسبانيا كأمّة، لأوّل مرّة، تحت حكم الملوك الكاثوليك. وكان له أيضا دوره في النجاحات المتعدّدة التي حقّقها الاسبان طوال المائة عام التالية في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
لكن بعض المؤرّخين اعتبروا سقوط غرناطة مأساة للحضارة، لأنه فتح الباب أمام محاكم التفتيش وما رافقها من تنكيل بالعرب وباليهود.
كان أبو عبدالله الصغير ملك غرناطة وآخر ملوك دولة بني الأحمر يعرف أن لا فائدة تُرجى من مقاومة عدوّ يفوقه عددا وعدّة. لذا قرّر أخيرا أن يفاوض فرديناند وايزابيللا على معاهدة استسلام بشروط معقولة.
ووُقّعت الاتفاقية في الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1491، منهيةً بذلك حربا بدأت عام 1482 وبلغت ذروتها بحصار المدينة عام 1491 والذي دام ستّة أعوام.
ونصّت المعاهدة على هدنة قصيرة، يعقبها تخلّي العرب عن السيادة على المدينة لملوك اسبانيا.
الزمان: الثاني من يناير عام 1492. والمكان: جنوب اسبانيا ذات يوم ربيعيّ.
الشمس مشرقة والسماء زرقاء والغيوم بيضاء ناعمة. ومن مسافة، في خلفية اللوحة فوق، يلوح قصر الحمراء فوق سفح تلّ وقد ظلّلته الغيوم.
منظر القصر الهادئ لا يعكس ما نراه في مقدّمة اللوحة من أجواء متوتّرة ومشحونة. الصورة تنقل مشهدا لحدث تاريخيّ هو استسلام غرناطة وإعادتها للحكم الاسبانيّ.
في الجزء الأماميّ، إلى اليمين، نرى فرديناند ملك اراغون على صهوة جواد اسود، وإلى يساره ايزابيللا ملكة قشتالة على حصان ابيض، وسط حشد من فرسانهما وحاشيتهما.
صورة الملكة هي المهيمنة، إذ تظهر محاطة بفرسانها ووصيفاتها، بينما يعتلي زوجها فرديناند ظهر حصانه وسط السلاح والأعلام.
وفي الجانب الأيسر من اللوحة، يظهر الملك أبو عبدالله الصغير وهو يسلّم مفاتيح المدينة إلى الطرف المنتصر.
ورغم أن السماء تبدو في أفضل حالاتها، إلا أن الأرض قاحلة والأشجار جرداء والطبيعة ما تزال في قبضة الشتاء ولم تتعافَ بعد من آثار الحرب.
ملابس فرديناند وزوجته ليست ملابس قتال، وما نراه هو اسبانيا المحتفلة بانتصارها على أعدائها.
لكن المثير للاهتمام هو ما لا تصوّره اللوحة. فإيزابيللا كانت ترى في نصر غرناطة حملة صليبية تُخاض من اجل مجد الربّ والكنيسة. لكننا لا نرى هذا بوضوح في الصورة. غير أن هناك صليبا كبيرا وسط الأعلام والرماح يظهر باعتباره عقيدة المنتصر.
فرانشيسكو براديللا ربّما يكون أشهر رسّام اسبانيّ في زمانه. وهو معروف بلوحاته التاريخية. وقد رسم هذه اللوحة بعد سقوط غرناطة بخمسمائة عام.
ومن الملاحظ أنه رسم الاسبان بعدد كبير، مقابل العدد القليل من الجند الواقفين في صفّ أبي عبدالله. كما أن العرب يتراجعون إلى الخلف في انصياع تقريبا، ولا يرفعون أيّ أعلام، بينما يقف الاسبان على الأرض بصلابة وثقة. وقد فعل الرسّام هذا عمدا كي يؤكّد على قوّة اسبانيا مقابل ضعف العرب وعجزهم العسكريّ.
كانت غرناطة آخر مملكة للعرب في اسبانيا. وكان استسلامها في نهاية النصف الثاني من القرن الخامس عشر يعني نهاية ثمانمائة عام من الوجود العربيّ والإسلاميّ في شبه جزيرة أيبيريا.
لكنه أيضا كان يعني توحيد اسبانيا لأوّل مرّة تحت تاج واحد ودين واحد بعد سبعمائة عام من الصراعات والحروب الأهلية.
وبعد وقت قصير سيستخدم الاسبان قوّتهم وثروتهم لبسط هيمنتهم على أمم أخرى، ولن تلبث اسبانيا أن تصبح أقوى قوّة مهيمنة في العالم.
سقوط غرناطة سيقود أيضا إلى محاكم التفتيش ورحلة كولومبوس لاكتشاف العالم الجديد. وبطريقة ما يمكن القول أن اجتثاث العرب من اسبانيا كان "بروفة" للكيفية التي سيتعامل بها الاسبان في ما بعد مع سكّان أمريكا الأصليين.
في شتاء عام 1496، فرضت الجيوش المشتركة لكلّ من فرديناند ملك اراغون وايزابيللا ملكة قشتالة حصارا على مملكة غرناطة الإسلامية.
وبعد سبعة أشهر، أي في الثاني من يناير عام 1497، استسلمت المدينة. وباستسلامها أسدل الستار على ثمانية قرون من الوجود العربيّ هناك.
هذا الحدث وحّد اسبانيا كأمّة، لأوّل مرّة، تحت حكم الملوك الكاثوليك. وكان له أيضا دوره في النجاحات المتعدّدة التي حقّقها الاسبان طوال المائة عام التالية في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
لكن بعض المؤرّخين اعتبروا سقوط غرناطة مأساة للحضارة، لأنه فتح الباب أمام محاكم التفتيش وما رافقها من تنكيل بالعرب وباليهود.
كان أبو عبدالله الصغير ملك غرناطة وآخر ملوك دولة بني الأحمر يعرف أن لا فائدة تُرجى من مقاومة عدوّ يفوقه عددا وعدّة. لذا قرّر أخيرا أن يفاوض فرديناند وايزابيللا على معاهدة استسلام بشروط معقولة.
ووُقّعت الاتفاقية في الخامس والعشرين من نوفمبر عام 1491، منهيةً بذلك حربا بدأت عام 1482 وبلغت ذروتها بحصار المدينة عام 1491 والذي دام ستّة أعوام.
ونصّت المعاهدة على هدنة قصيرة، يعقبها تخلّي العرب عن السيادة على المدينة لملوك اسبانيا.
وقد خطب أبو عبدالله في جنده وأخبرهم ألا سبيل لمواصلة القتال وأن الاستسلام هو الخيار الأفضل.
وتمّ تعيين رجلين من كلّ جانب للتفاوض على شروط الاستسلام، وحُدّد مكانا للمفاوضات قرية تبعد ثلاثة أميال عن غرناطة.
كانت مهمّة الرجال الأربعة تسهيل استسلام مدينة عظيمة كانت عاصمة لشعب حافظ عليها طوال ثمانية قرون. وكان الاسبان متوجّسين من كيفية التعامل مع أهالي المدينة المعروفين بحيويّتهم وبقدرتهم على التحدّي وصنع المعجزات.
وبعد مداولات طويلة، خرج المجتمعون باتفاق ينصّ على وقف القتال سبعين يوما وعلى استسلام المدينة وإطلاق كافّة الأسرى المسيحيين.
كما نصّ على أن يُقسِم أبو عبدالله يمين الولاء لإسبانيا وعلى أن يصبح سكّان غرناطة رعايا للعرش الاسبانيّ، مقابل أن يحافظ الحكّام الجدد على ممتلكاتهم ويضمنوا لهم ممارسة دينهم بحرّية وأن يُعفوهم من دفع الضرائب ثلاث سنوات ويسهّلوا سفر من يريد منهم مغادرة اسبانيا.
كما نصّت المعاهدة على أن يطلق الطرف المنتصر سراح الرهائن المسلمين بمن فيهم ابن أبي عبدالله نفسه.
كان لأبي عبد الله خصوم كثيرون من أبناء جلدته. وقد أدرك انه لن يأتيه عون وشيك من الخارج. لذا قرّر تقصير أمد الهدنة وحدّد يوم الثاني من يناير عام 1492 موعدا لتسليم المدينة.
لكن الاستسلام لم يكن بالمهمّة السهلة. فقائد جنده موسى بن أبي غسّان لم يكن مع الفكرة. وقد راجت أسطورة تقول انه بعد الهدنة اخذ هذا القائد عدّته من السلاح وخرج ليلا من معسكره. وفي الطريق اعترضته مجموعة من الفرسان الاسبان خارج أسوار المدينة فالتحم معهم وقام بمبارزتهم واحدا تلو الآخر وقتلهم جميعا إلى أن لقي هو مصرعه على يد المبارز الأخير.
في ذلك اليوم، تمّ تسليم قصر الحمراء. وقد توجّه فرديناند وايزابيللا مع بعض فرسانهما برفقة خمسين فارسا عربيّا لتسلّم القصر والقلعة.
ولمّا وصلوا، خرج إليهم أبو عبد الله الصغير ليقدّم لهم مفاتيح المدينة. وعندما رأى أبو عبدالله الملكة، ترجّل عن جواده وتقدّم باتجاهها كي يقبّل يدها. لكنها سحبتها بسرعة رغبةً منها في عدم إحراجه أو إظهاره بمظهر المتذلّل أو الخاضع.
ثم سلّم المفاتيح إلى فرديناند وقال له: هذه المفاتيح هي الأثر الأخير للعرب هنا، فحافظ عليها وكن في نصرك عادلا ورحيما".
بعد ذلك رُفع علم قشتالة على برج الحمراء وغادر أبو عبدالله القصر للمرّة الأخيرة، وذهب للالتحاق بزوجته ووالدته وبعض أتباعه وحاشيته الذين كانوا ينتظرونه في إحدى القرى القريبة.
وبينما احتفل المنتصرون الاسبان بانتصارهم، أغلق أهل غرناطة على أنفسهم أبواب بيوتهم كي يُخفوا شعورهم بالحزن والعار.
أما بالنسبة لايزابيللا وفرديناند فقد كان سقوط غرناطة انتصارا للصليب على الهلال. لذا اتّجها على الفور إلى جامع المدينة الكبير لمعاينته والصلاة فيه بعد أن جُهّز سلفا وحُوّل إلى كنيسة في انتهاك واضح لبنود المعاهدة التي لم يجفّ حبرها بعد.
ثم لم يلبث الحكّام الجدد أن دعوا العرب إلى اعتناق المسيحية أو مواجهة الطرد من البلاد. وقد ووجهت تلك الخطوة بتمرّد قام به أهالي المدينة عام 1500م. واستخدم الكاثوليك تلك الانتفاضة كمبرّر للقول إن العرب انتهكوا المعاهدة.
ورغم الضغوط المتزايدة من رجال الكنيسة الكاثوليك، إلا أن فرديناند فضّل انتهاج سياسة متسامحة نوعا ما مع العرب على أمل أن يؤدّي ذلك إلى دفعهم "لفهم أخطاء دينهم ومن ثمّ التخلّي عنه".
لكن جهود الكنيسة في تحويل المسلمين إلى المسيحية قسرا استمرّت بلا هوادة رغم تحذير بعض العقلاء من رجال الكنيسة من اتّباع ذلك الأسلوب باعتباره خطئاً وخرقا لأحكام المعاهدة.
عندما غادر أبو عبدالله الصغير غرناطة لآخر مرّة، وقف على تلّة عالية ليلقي نظرة الوداع الأخيرة على مدينته الجميلة. وقد سُمّيت تلك اللحظة وذلك المكان في كتب التاريخ بـ "تنهيدة العربيّ الأخيرة".
وفي ذلك المكان قالت والدة أبي عبدالله، واسمها عائشة الحرّة، عبارتها التي أصبحت مشهورة عندما رأت ولدها يبكي بحرقة متحسّرا على ضياع ملكه: ابكِ مثل النساء ملكا مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال".
لكن من الظلم تحميل الرجل المسئولية عن ضياع حكم العرب. فطوال عشر سنوات، ظلّ يقاتل هو ورجاله جيوش الاسبان بكلّ شجاعة واستبسال على الرغم من أن العدوّ كان يفوقهم عددا وعدّة. ولم يكن أمامه في النهاية سوى الاستسلام، لأن البديل كان الانتحار العبثيّ والتضحية بما تبقّى من جنده وتدمير مملكته.
كان أبو عبدالله المنهك والحزين محاطا بأعداء كثر. لذا باع إلى ايزابيللا كافّة ممتلكاته بسعر زهيد، ثم عاد إلى المغرب. وبعد ثلاثين عاما من استسلام غرناطة، قُتل هناك في إحدى المعارك أثناء خدمته في جيش ملك فاس.
كانت مهمّة الرجال الأربعة تسهيل استسلام مدينة عظيمة كانت عاصمة لشعب حافظ عليها طوال ثمانية قرون. وكان الاسبان متوجّسين من كيفية التعامل مع أهالي المدينة المعروفين بحيويّتهم وبقدرتهم على التحدّي وصنع المعجزات.
وبعد مداولات طويلة، خرج المجتمعون باتفاق ينصّ على وقف القتال سبعين يوما وعلى استسلام المدينة وإطلاق كافّة الأسرى المسيحيين.
كما نصّ على أن يُقسِم أبو عبدالله يمين الولاء لإسبانيا وعلى أن يصبح سكّان غرناطة رعايا للعرش الاسبانيّ، مقابل أن يحافظ الحكّام الجدد على ممتلكاتهم ويضمنوا لهم ممارسة دينهم بحرّية وأن يُعفوهم من دفع الضرائب ثلاث سنوات ويسهّلوا سفر من يريد منهم مغادرة اسبانيا.
كما نصّت المعاهدة على أن يطلق الطرف المنتصر سراح الرهائن المسلمين بمن فيهم ابن أبي عبدالله نفسه.
كان لأبي عبد الله خصوم كثيرون من أبناء جلدته. وقد أدرك انه لن يأتيه عون وشيك من الخارج. لذا قرّر تقصير أمد الهدنة وحدّد يوم الثاني من يناير عام 1492 موعدا لتسليم المدينة.
لكن الاستسلام لم يكن بالمهمّة السهلة. فقائد جنده موسى بن أبي غسّان لم يكن مع الفكرة. وقد راجت أسطورة تقول انه بعد الهدنة اخذ هذا القائد عدّته من السلاح وخرج ليلا من معسكره. وفي الطريق اعترضته مجموعة من الفرسان الاسبان خارج أسوار المدينة فالتحم معهم وقام بمبارزتهم واحدا تلو الآخر وقتلهم جميعا إلى أن لقي هو مصرعه على يد المبارز الأخير.
في ذلك اليوم، تمّ تسليم قصر الحمراء. وقد توجّه فرديناند وايزابيللا مع بعض فرسانهما برفقة خمسين فارسا عربيّا لتسلّم القصر والقلعة.
ولمّا وصلوا، خرج إليهم أبو عبد الله الصغير ليقدّم لهم مفاتيح المدينة. وعندما رأى أبو عبدالله الملكة، ترجّل عن جواده وتقدّم باتجاهها كي يقبّل يدها. لكنها سحبتها بسرعة رغبةً منها في عدم إحراجه أو إظهاره بمظهر المتذلّل أو الخاضع.
ثم سلّم المفاتيح إلى فرديناند وقال له: هذه المفاتيح هي الأثر الأخير للعرب هنا، فحافظ عليها وكن في نصرك عادلا ورحيما".
بعد ذلك رُفع علم قشتالة على برج الحمراء وغادر أبو عبدالله القصر للمرّة الأخيرة، وذهب للالتحاق بزوجته ووالدته وبعض أتباعه وحاشيته الذين كانوا ينتظرونه في إحدى القرى القريبة.
وبينما احتفل المنتصرون الاسبان بانتصارهم، أغلق أهل غرناطة على أنفسهم أبواب بيوتهم كي يُخفوا شعورهم بالحزن والعار.
أما بالنسبة لايزابيللا وفرديناند فقد كان سقوط غرناطة انتصارا للصليب على الهلال. لذا اتّجها على الفور إلى جامع المدينة الكبير لمعاينته والصلاة فيه بعد أن جُهّز سلفا وحُوّل إلى كنيسة في انتهاك واضح لبنود المعاهدة التي لم يجفّ حبرها بعد.
ثم لم يلبث الحكّام الجدد أن دعوا العرب إلى اعتناق المسيحية أو مواجهة الطرد من البلاد. وقد ووجهت تلك الخطوة بتمرّد قام به أهالي المدينة عام 1500م. واستخدم الكاثوليك تلك الانتفاضة كمبرّر للقول إن العرب انتهكوا المعاهدة.
ورغم الضغوط المتزايدة من رجال الكنيسة الكاثوليك، إلا أن فرديناند فضّل انتهاج سياسة متسامحة نوعا ما مع العرب على أمل أن يؤدّي ذلك إلى دفعهم "لفهم أخطاء دينهم ومن ثمّ التخلّي عنه".
لكن جهود الكنيسة في تحويل المسلمين إلى المسيحية قسرا استمرّت بلا هوادة رغم تحذير بعض العقلاء من رجال الكنيسة من اتّباع ذلك الأسلوب باعتباره خطئاً وخرقا لأحكام المعاهدة.
عندما غادر أبو عبدالله الصغير غرناطة لآخر مرّة، وقف على تلّة عالية ليلقي نظرة الوداع الأخيرة على مدينته الجميلة. وقد سُمّيت تلك اللحظة وذلك المكان في كتب التاريخ بـ "تنهيدة العربيّ الأخيرة".
وفي ذلك المكان قالت والدة أبي عبدالله، واسمها عائشة الحرّة، عبارتها التي أصبحت مشهورة عندما رأت ولدها يبكي بحرقة متحسّرا على ضياع ملكه: ابكِ مثل النساء ملكا مُضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال".
لكن من الظلم تحميل الرجل المسئولية عن ضياع حكم العرب. فطوال عشر سنوات، ظلّ يقاتل هو ورجاله جيوش الاسبان بكلّ شجاعة واستبسال على الرغم من أن العدوّ كان يفوقهم عددا وعدّة. ولم يكن أمامه في النهاية سوى الاستسلام، لأن البديل كان الانتحار العبثيّ والتضحية بما تبقّى من جنده وتدمير مملكته.
كان أبو عبدالله المنهك والحزين محاطا بأعداء كثر. لذا باع إلى ايزابيللا كافّة ممتلكاته بسعر زهيد، ثم عاد إلى المغرب. وبعد ثلاثين عاما من استسلام غرناطة، قُتل هناك في إحدى المعارك أثناء خدمته في جيش ملك فاس.