:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأحد، سبتمبر 24، 2023

محطّات


  • هذا العالم، الذي أنت على وشك الدخول إليه والتواجد فيه، لا يتمتّع بسمعة طيّبة. لقد ظلّ جغرافيّاً أفضل منه تاريخيّاً؛ ولا يزال جذّاباً بصريّا أكثر منه اجتماعيّا. إنه ليس مكانا لطيفا، كما ستكتشف قريبا، وأشكّ في أنه سيصبح أجمل عندما تغادره. ومع ذلك، فهو العالم الوحيد المتاح. إذ لا يوجد بديل، وإذا وجد، فليس هناك ما يضمن أنه سيكون أفضل من هذا.
    إنه غابة وصحراء ومنحدر زلق، ومستنقع - بالمعنى الحرفيّ للكلمة. ولكن ما الذي يمكن أن يكون أسوأ من ذلك، مجازيّاً أيضا. ومع ذلك، وكما قال روبرت فروست: أفضل طريق للخروج هو دائما العبور من الوسط". لكنه قال أيضا في قصيدة مختلفة: أن تكون اجتماعيّا يعني أن تكون متسامحاً".
    حاول ألا تعير اهتماما كبيرا لأولئك الذين سيحاولون جعل حياتك بائسة. سيكون هناك الكثير من هؤلاء. عانِ منهم إذا لم تتمكّن من الإفلات منهم. ولكن بمجرّد الابتعاد عنهم، امنحهم أدنى قدر ممكن من الاهتمام. وقبل كلّ شيء، حاول ألا تروي القصص عن معاملتهم الظالمة لك. تجنّب ذلك بغضّ النظر عن مدى تقبّل القريبين منك لهذا.
    الحكايات من هذا النوع تزيد من وجود خصومك. على الأرجح سيعتمدون على كونك تحبّ الكلام والتحدّث عن تجربتك للآخرين. لا يوجد فرد يستحقّ أن يمارَس ضدّه الظلم. إن نسبة واحد إلى واحد لا تبرّر الجهد المبذول، بل الصدى هو المهم. هذا هو المبدأ الأساسي لأيّ مضطِهد. لذلك، إسرق الصدى أو احتفظ به، بحيث لا تسمح لحدث ما، مهما كان مزعجا أو بالغ الأهمية، أن يستولي على وقت أطول ممّا استغرقه حدوثه.
    ما يفعله خصومك يستمدّ أهميّته أو نتيجته من طريقة ردّ فعلك. لذلك، اندفع عبرهم أو تجاوزهم كما لو كانوا أضواءً صفراء وليست حمراء. لا تطل الانشغال بهم عقليّا أو لفظيّا، لا تفتخر بمسامحتك إيّاهم أو نسيانهم. مارس النسيان أوّلاً. وبهذه الطريقة ستوفّر على خلايا دماغك الكثير من الإثارة غير المفيدة.
    وبها أيضا ربّما يمكنك إنقاذ حتى هؤلاء الأغبياء من أنفسهم، لأن احتمال النسيان أقصر من احتمال الغفران. لذا غيّر القناة، لا يمكنك إخراج هذه الشبكة من التداول، ولكن على الأقل يمكنك تقليل أثرها. الآن، من غير المرجّح أن ترضى الملائكة عن هذا الحل، ولكن، مرّة أخرى، لا بدّ أن يتأذّى الشياطين، وفي الوقت الحالي هذا هو كلّ ما يهمّ حقّا.
    لا أستطيع التكهّن بمستقبلك، ولكن من الواضح جدّا لأيّ عين مجرّدة أن هناك الكثير مما يحدث لك. أقلّ ما يمكن قوله هو أنك ولدت، وهذا في حدّ ذاته نصف المعركة، وتعيش في ظل وطن؛ هذا البيت الذي يقع في منتصف الطريق بين الكابوس والمدينة الفاضلة.
    *من وصايا جوزيف برودسكي

  • كلّما كانت الموجة أكبر، تعيّن علينا الغوص بشكل أعمق. فالشفاء يتأتّى من الغوص العميق في الظلام. هذا هو المكان الذي نحتفظ فيه بأعمق نقاط ضعفنا وأدقّ أسرارنا.
    تأخذ قصصنا حياة خاصّة بها، وفي كثير من الأحيان تقودنا إلى خارج المسار. نسعى إلى التحقّق من صحّة ما نعتقد أننا عليه دون أن نعرف ونقبل من نحن حقّا.
    إن البقاء في المياه الضحلة هو الطريق الأقلّ مقاومةً. يجب علينا أن ندخل المحيط ونغامر بالخروج إلى الأعماق لتحقيق النموّ الحقيقي. هذا هو المكان الذي يصبح فيه الأمر حقيقيّا، حيث يتعيّن علينا إمّا أن نسبح أو نموت.


  • كان أفلاطون يعتقد أن الجنود يجب ألا يقرءوا قصائد عن التسامح قبل المعركة لئلا تأخذهم شفقة أو رحمة بالعدو أثناء القتال. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل ينبغي على الناس الترفيه عن أنفسهم بالفنّ الذي يجعلهم حزانى ومكتئبين؟
    الفنّ المحبِط أو الباعث على الحزن يمكن أن يكون له تأثير إيجابي على العالم. خذ مثلا لوحة إيليا ريبين "إيفان الرهيب يقتل ابنه" من عام 1885، وكذلك صور وليام براس لمعسكرات الاعتقال الألمانية. كلا الفنّانين يصوّران الى أيّ حدّ يمكن أن تقودنا أقسى الدوافع البشرية وتلهمنا في النهاية لنكون بشرا أفضل.
    وهناك أيضا الفيلم الياباني "أسوق سيّارتي" من عام 2021 والمقتبس عن رواية لأنطون تشيكوف. الفيلم يناشد مشاهديه بأن يتحمّلوا الألم الذي لا مفرّ منه والمعاناة التي ستُلقى في طريقهم، بدلاً من الاستسلام لها.
    ومؤخّرا تساءل كاتب عن سبب احتلال الحزن مكانة بارزة في الفنّ أكثر من مساحة السعادة. وضرب مثلا بلوحة هنري واليس (1856) التي يصوّر فيها الشاعر الرومانسي تشاتيرتون بعد انتحاره في سنّ السابعة عشرة بتناوله الزرنيخ. وفي حين أن هناك أدلّة على أن تشاتيرتون لم ينتحر أبدا، فإن إضفاء الطابع الرومانسي على موته دفع العديد من الشباب الإنغليز الغاضبين في زمانه إلى الاقتداء به.
    وحدث نفس الشيء مع رواية غوته "أحزان فيرتر"، حيث يطلق البطل الشابّ النار على نفسه هربا من مثّلث حبّ. وقد ألهمت هذه الرواية الصادرة عام 1774 العديد من حالات الانتحار، لدرجة أنه أشير الى هذه الظاهرة باسم "تأثير فيرتر Werther Effect"، وهو مصطلح ظهر بعد حالات انتحار متكرّرة.
    ويرتبط "تأثير فيرتر" ارتباطا وثيقا بأسطورة الفنّان المعذّب، ما يشير إلى وجود علاقة بين الذكاء والإبداع والمرض العقليّ. وهناك اعتقاد شائع حول أشهر فنّان معذّب، أي فان غوخ، وهو أن جنونه كان مصدر موهبته.
    لكن كتابات فان غوخ ترسم صورة مختلفة. فهو كان فنّانا موهوبا، ليس لأنه كان مريضا عقليّا، وإنما على الرغم من ذلك. وقد ساعده الرسم، أثناء احتجازه في ملجأ بعد قطع أذنه، على التمسّك بعقله الذي كان يتآكل بشكل مطّرد. وكتب مرّة في إحدى رسائله: آه لو كان بإمكاني العمل بدون هذا المرض الملعون، ما الأشياء التي كان من الممكن أن أفعلها".
    ويعتقد غالبية المعالجين اليوم أن هناك بالفعل صلة بين الصحّة العقلية والإبداع. ومع ذلك، فهي ليست تلك التي تقدّمها أسطورة الفنّان المعذّب. وبينما لا يبدو أن الاكتئاب يساعدك على صنع الفنّ أو تقديره، إلا أنه يساعدك في تخفيف أعراض الاكتئاب. ولهذا السبب يُعتبر الفنّ حاجة أساسية للإنسان.

  • Credits
    vangoghgallery.com.nl