إنه المثاليّ الروسي، ذلك المخلوق الغريب المثير للشفقة الذي لا يعرفه إلا القليلون في الخارج ولا يمكن أن يوجد في روسيا السوفياتية. إن المثقّف الذي تحدّث عنه تشيكوڤ كان رجلاً يجمع بين أعمق درجات اللياقة الإنسانية التي يستطيع الإنسان أن يتحلّى بها وبين عجزه السخيف عن تطبيق مبادئه ومُثُله العليا.
إنه رجل مخلص للجمال الأخلاقي ورفاهية شعبه وخير الكون، ولكنه عاجز في حياته الخاصّة عن القيام بأيّ شيء مفيد، ويهدر وجوده في ضباب الأحلام الطوباوية. وهو يعرف بالضبط ما الخير وما الذي يستحقّ أن يعيش الإنسان من أجله، ولكنه في الوقت نفسه يغرق أكثر فأكثر في وحل الحياة المملّة. وهو تعيس في الحبّ وعاجز بيأس في كلّ شيء، وطيب لكنه لا يستطيع أن يفعل الخير.
الجزء الساحر في الأمر هو أن تشيكوڤ تعامل مع لغة بسيطة، أي لغة رجل الشارع العادي، ومع ذلك تمكّن من نقل انطباع بالجمال الفنّي يفوق بكثير انطباع العديد من الكتّاب الذين اعتقدوا أنهم يعرفون ما هو النثر الجميل والثريّ.
وقد فعل ذلك من خلال إبقاء جميع كلماته في نفس الضوء الخافت واللون الرمادي، وهو لون يتوسّط لون سياج قديم ولون سحابة منخفضة. إن تنوّع مزاج تشيكوڤ ووميض ذكائه الساحر والاقتصاد الفنّي العميق في وصف شخصيّاته والتفاصيل الحيّة وتلاشي الحياة البشرية وكلّ السمات المميّزة لكتاباته، تتعزّز من خلال غمرها وإحاطتها بضبابية لفظية باهتة".
انتهى كلام نابوكوڤ. والسؤال هل كان يمدح تشيكوڤ أو يهجوه؟!
❉ ❉ ❉
الشيء الجديد الحقيقي في كلّ إنتاجه هو تعامله مع القماش، حيث يمشي عليه حرفيّا بدلاً من الوقوف أمامه. وفي بعض لوحاته يمكنك حتى رؤية آثار أقدامه التي تشهد على وجوده.
وقد قال عنه بعض من شاهدوه وهو يعمل أنه كان يرقص حول القماش وكأنه يشارك في رقصة طقوسية غريبة، ناسيا تماما وجود الآخرين في الغرفة. وإذا عرفت هذا، فمن السهل أن تشعر بالحركة والقوّة والحركة في أعماله. وممّا يؤثَر عن الفنّان قوله ذات مرّة: عندما أكون مستغرقا في العمل على لوحة فإني لا أدرك ما أفعله".
وكثيرا ما لا تحمل لوحاته عناوين، بل يكتفي بترقيمها. والسبب هو أن بولوك اختار في مرحلة ما أن يترك للمتلقّي مهمّة تفسير أعماله، دون أن يقدّم له تلميحا أو علامة. وبذا يمنح الناظر الحرّية في رؤية وتفسير ما يحسّ به إذ ينظر الى صوره.
اللوحة فوق اسمها (رقم 17a)، وقد رسمها بولوك عام 1948 وبيعت بمبلغ قدره 200 مليون دولار. واعتُبر ذلك الرقم القياسي في حينه شهادة على تأثير بولوك الدائم وقيمة الفنّ التجريدي في سوق الفنّ العالمية.
واللوحة عبارة عن شبكة معقّدة من الخطوط والألوان التي تبدو نابضةً بالحياة. وللوهلة الأولى، قد تخالها صورة فوضوية وغير محكومة بنظام، لكن التمعّن فيها يكشف عن شعور بالإيقاع والتقصّد وراء ما يبدو وكأنه أنماط عشوائية. ومن خلال الدخول إلى الشبكة المعقّدة للوحة، فإننا لا نكتفي بتأمّل العمل، بل نشارك في رقصة فريدة من الألوان والأشكال.
كانت تقنية الرسم بالتنقيط التي ابتكرها بولوك تتضمّن تنقيط الطلاء أو رميه على قماش مُلقى على الأرض. وكان أسلوبه المبتكر بمثابة انحراف كلّي عن تقنيات الرسم التقليدية، إذ يسمح للرسّام بالتفاعل مع القماش من جميع الزوايا. ولم تعد لوحاته تمثّل العالم الخارجي، بل أصبحت تعبيرا عن مشاعر الفنّان وشواغله الداخلية.
❉ ❉ ❉