:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الثلاثاء، أكتوبر 29، 2024

خواطر في الأدب والفن


  • يصف ڤلاديمير نابوكوڤ في محاضرة ألقاها في الخمسينات كتابات أنطون تشيكوڤ بقوله: ليس دقيقاً القول إن تشيكوڤ كان يتعامل بطريقة ساحرة وغير فعّالة. ومن الأصح أن نقول إن أبطاله ساحرون لأنهم غير فعّالين. غير أن ما يجذب القارئ الروسي حقّاً اليه هو أنه تعرّف في أبطاله على نوع معيّن من المثقّفين الروس.
    إنه المثاليّ الروسي، ذلك المخلوق الغريب المثير للشفقة الذي لا يعرفه إلا القليلون في الخارج ولا يمكن أن يوجد في روسيا السوفياتية. إن المثقّف الذي تحدّث عنه تشيكوڤ كان رجلاً يجمع بين أعمق درجات اللياقة الإنسانية التي يستطيع الإنسان أن يتحلّى بها وبين عجزه السخيف عن تطبيق مبادئه ومُثُله العليا.
    إنه رجل مخلص للجمال الأخلاقي ورفاهية شعبه وخير الكون، ولكنه عاجز في حياته الخاصّة عن القيام بأيّ شيء مفيد، ويهدر وجوده في ضباب الأحلام الطوباوية. وهو يعرف بالضبط ما الخير وما الذي يستحقّ أن يعيش الإنسان من أجله، ولكنه في الوقت نفسه يغرق أكثر فأكثر في وحل الحياة المملّة. وهو تعيس في الحبّ وعاجز بيأس في كلّ شيء، وطيب لكنه لا يستطيع أن يفعل الخير.
    الجزء الساحر في الأمر هو أن تشيكوڤ تعامل مع لغة بسيطة، أي لغة رجل الشارع العادي، ومع ذلك تمكّن من نقل انطباع بالجمال الفنّي يفوق بكثير انطباع العديد من الكتّاب الذين اعتقدوا أنهم يعرفون ما هو النثر الجميل والثريّ.
    وقد فعل ذلك من خلال إبقاء جميع كلماته في نفس الضوء الخافت واللون الرمادي، وهو لون يتوسّط لون سياج قديم ولون سحابة منخفضة. إن تنوّع مزاج تشيكوڤ ووميض ذكائه الساحر والاقتصاد الفنّي العميق في وصف شخصيّاته والتفاصيل الحيّة وتلاشي الحياة البشرية وكلّ السمات المميّزة لكتاباته، تتعزّز من خلال غمرها وإحاطتها بضبابية لفظية باهتة".
    انتهى كلام نابوكوڤ. والسؤال هل كان يمدح تشيكوڤ أو يهجوه؟!
  • ❉ ❉ ❉

  • يقول بعض النقّاد إن لوحات جاكسون بولوك ليست أعمال فنّ حقيقي، بل النتيجة النهائية لأدائه على القماش. وبعبارة أخرى، فإن العمل الفنّي الحقيقي هو الطريقة التي يرسم بها اللوحة وليس اللوحة نفسها. وبهذا الأسلوب الفريد حطّم بولوك المفاهيم التقليدية للرسم وفتح آفاقا جديدة للتعبير الفنّي.
    الشيء الجديد الحقيقي في كلّ إنتاجه هو تعامله مع القماش، حيث يمشي عليه حرفيّا بدلاً من الوقوف أمامه. وفي بعض لوحاته يمكنك حتى رؤية آثار أقدامه التي تشهد على وجوده.
    وقد قال عنه بعض من شاهدوه وهو يعمل أنه كان يرقص حول القماش وكأنه يشارك في رقصة طقوسية غريبة، ناسيا تماما وجود الآخرين في الغرفة. وإذا عرفت هذا، فمن السهل أن تشعر بالحركة والقوّة والحركة في أعماله. وممّا يؤثَر عن الفنّان قوله ذات مرّة: عندما أكون مستغرقا في العمل على لوحة فإني لا أدرك ما أفعله".
    وكثيرا ما لا تحمل لوحاته عناوين، بل يكتفي بترقيمها. والسبب هو أن بولوك اختار في مرحلة ما أن يترك للمتلقّي مهمّة تفسير أعماله، دون أن يقدّم له تلميحا أو علامة. وبذا يمنح الناظر الحرّية في رؤية وتفسير ما يحسّ به إذ ينظر الى صوره.
    اللوحة فوق اسمها (رقم 17a)، وقد رسمها بولوك عام 1948 وبيعت بمبلغ قدره 200 مليون دولار. واعتُبر ذلك الرقم القياسي في حينه شهادة على تأثير بولوك الدائم وقيمة الفنّ التجريدي في سوق الفنّ العالمية.
    واللوحة عبارة عن شبكة معقّدة من الخطوط والألوان التي تبدو نابضةً بالحياة. وللوهلة الأولى، قد تخالها صورة فوضوية وغير محكومة بنظام، لكن التمعّن فيها يكشف عن شعور بالإيقاع والتقصّد وراء ما يبدو وكأنه أنماط عشوائية. ومن خلال الدخول إلى الشبكة المعقّدة للوحة، فإننا لا نكتفي بتأمّل العمل، بل نشارك في رقصة فريدة من الألوان والأشكال.
    كانت تقنية الرسم بالتنقيط التي ابتكرها بولوك تتضمّن تنقيط الطلاء أو رميه على قماش مُلقى على الأرض. وكان أسلوبه المبتكر بمثابة انحراف كلّي عن تقنيات الرسم التقليدية، إذ يسمح للرسّام بالتفاعل مع القماش من جميع الزوايا. ولم تعد لوحاته تمثّل العالم الخارجي، بل أصبحت تعبيرا عن مشاعر الفنّان وشواغله الداخلية.
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • مع أن بورخيس لا يُستشهد به كثيراً باعتباره كاتباً نحتاج إليه بشكل خاص هذه الأيّام، إلا أنني عندما بدأت إعادة قراءته مؤخراً، أدركت أنه كان ينير شيئاً عميقاً في داخلي. فالكاتب العظيم يُلقي انعكاسه في مرآة لم تكن تعلم أبداً أنك تمتلكها بداخلك. ثم فجأة تجد نفسك أيضاً في هذه المرآة غير المتوقعة، وربما المزعجة. ورغم العمى الذي أصابه في وقت لاحق من حياته، كان بورخيس يرى الانعكاسات دائماً.
    في قصّة "بورخيس وأنا"، يفصل الكاتب الهويّات مرّة أخرى، فهناك بورخيس الذي يكتب أنواعاً معيّنة من القصص ويحظى بالشهرة. ثم هناك بورخيس آخر غير معروف. وينهي بورخيس الآخر القصّة بقوله: لست متأكّداً أيّ واحد منّا كتب هذه الصفحة"، بلهجة غامضة ومرحة ومؤثرة في الوقت نفسه. وتحت هذه الألعاب الخيالية الميتافيزيقية يكمن شيء أبسط وأعمق: أسئلة حول حقيقة، ليس فقط الحياة التي نعيشها، بل وأيضاً تلك التي فشلنا في عيشها، والنسخ من أنفسنا التي كان من الممكن أن نكونها .
    يقول بورخيس في "مكتبة بابل" إن الكون هو المكتبة، والمكتبة هي الكون أيضاً". وعندما أشعر أن العالم من حولي مضطرب، بل وحتى تافه، فإنني أشعر بقوّة منعشة في التذكير، كما يفعل فنّ بورخيس، بالغموض الجميل والملتبس الذي يكتنف الكون والعوالم التي لا نهاية لها .
    عندما كنت صغيرا، كنت أحب أن أفكر في السؤال الكبير: ماذا لو كنّا هنا على هذا الكوكب، لمجرّد أننا موجودون، أليس هذا شيئاً في حدّ ذاته؟ وعندما كبرت، أعاد لي فضول بورخيس المُعدي ذلك الشعور بالدهشة حتى في ساعات حزني.
    وأشعر مرّة أخرى أنني أستطيع أن أغمض عينيّ وأصعد درجات النجوم إلى متاهة قاعة ضخمة من الأبواب التي لا يدري أحد الى أين تُفضي، وأمشي عبر أوّلها، وفي نهاية القاعة، عندما تتخطّى الساعات كلّ ساعاتها، أسمع مقبض باب مغطّى بالغبار يبدأ في إصدار طنين يشبه صوت ثقب أسود.
    غابرييل بيلوت
  • ❉ ❉ ❉

  • يقال إن المقبرة هي أغنى مكان على وجه الأرض، لأنك ستجد فيها كلّ الآمال والأحلام التي لم تتحقّق أبدا والكتب التي لم تُكتب أبدا والأغاني التي لم تُغنَّ أبدا والاختراعات التي لم ترَ النور أبدا، كلّ هذا لأن الكثيرين ممّن توفّوا كانت تنقصهم العزيمة وكانوا خائفين من اتخاذ الخطوة الأولى لتحقيق أحلامهم.
    الكثيرون منّا ربّما يعيشون في راحة، لكنهم لا يسعون لتحقيق أحلامهم أبدا. وكثيرا ما نقول: يوما ما سأكتب كتابا، سأتعلّم مهارة، أو سأبدأ مشروعا.. الخ". لكننا لا نفعل.
    والسبب هو خوفنا من اتخاذ الخطوة الأولى. هذا الخوف هو الذي يجعلنا عاجزين عن استغلال امكانياتنا الكامنة وهي كثيرة. إن العالم لا يريد فقط موهبتك بل يحتاج إليها. وهناك الكثير من الأشخاص الذين يمكن أن يتأثّروا ايجابا بعملك وقد يصبح مصدر إلهام لهم في حياتهم.
    إن بإمكانك أن تجعل العالم مكانا أكثر ثراءً من خلال مشاركته مواهبك. وإذا أردنا حرمان المدافن من ثروات المستقبل، فيجب علينا أن نكون مستعدّين لسماع ومتابعة نداء الإبداع في دواخلنا. قد نتعثّر في البداية، وهذا طبيعي. لكن عندما نؤمن بمواهبنا وإمكانياتنا يمكن أن نبدع ونتميّز ونكون عامل تحفيز لغيرنا.

  • Credits
    my-chekhov.com
    jackson-pollock.org
    borges.pitt.edu