:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، أبريل 10، 2024

الحصان الجَموح


في عام 1862، رأى فتى هنديّ أحمر يُدعى "تاسونك" فيما يرى النائم منظرا لبحيرة صغيرة ساكنة. ومن زرقتها الهادئة انبثق حصان مع فارسه صعودا ثم خرجا عبر سطح البحيرة الى الأرض. كان الفارس نحيفا ذا شعر منسدل، بينما رُبط خلف أذنه اليسرى حجرٌ بنّي مُحمرّ ورُسمت علامة البرق على أحد جانبي وجهه. وعلى صدره العاري كان هناك وشم لقطرات برَد زرقاء.
وبينما الفارس وحصانه يركضان، ظهرت خلفهما غمامة داكنة متدحرجة أخذت ترتفع شيئا فشيئا الى أعلى. ومن السحابة دوّت قعقعة رعد عميقة ووميض برق. كان الحصان قويّاً وسريعاً، وكانت ألوانه تتغيّر من الأحمر الى الأصفر الى الأسود الى الأبيض والأزرق.
وفجأة دوّى رصاص وتطايرت سهام في الهواء، وانحرف بعضها باتجاه الحصان والفارس، ومرّت قريبا منهما لكن لم تلمسهما. وعلى مقربة منهما طار صقر ذو ذيل أحمر وأطلق صرخة في الفضاء. ونهض رجال من كلّ مكان وأمسكوا بالفارس ثم سحبوه إلى الأسفل من الخلف. وانتهى الحلم.
روى الصبيّ الحلم لوالده وربّما لآخرين. ومنذ ذلك اليوم أصبح يلقّب بالحصان الجموح. ابن عمّه الملقّب "الأيل الأسود" وصف الحلم فيما بعد بقوله:
رأى الحصان الجموح حلما ذهب به إلى عالم لا يوجد فيه سوى الأرواح، أرواح كلّ الأشياء. وهذا هو العالم الحقيقي الذي يقف خلف هذا العالم، وكلّ ما نراه هنا هو مجرّد ظلّ لذاك. كان يمتطي حصانه في ذلك العالم. وبدا أن كلّ شيء هناك يطفو: الأشجار والعشب والحجارة وكلّ شيء. كان حصانه يرقص كأنه مصنوع من الظلّ. ولم يكن الحصان مجنونا أو جامحا، ولكن كان في الحلم يرقص في كلّ مكان بهذه الطريقة الغريبة.
كان ذلك الحلم هو الذي منحه قوّته العظيمة، لأنه عندما كان يشتبك في قتال، كان عليه فقط أن يفكّر في ذلك العالم الموازي ليكون فيه مرّة أخرى، وليتمكّن من تجاوز أيّ خطر دون أن يلحق به أذى".
كان الحصان الجموح (1840 – 1877) محاربا من قبائل السيو The Sioux الهندية وزعيم فرقة من المقاتلين. ويعتبر من بين أعظم المدافعين عن أراضي السيو ضدّ قوات الحكومة الأمريكية في القرن التاسع عشر. كما أنه أحد أشهر شخصيات الهنود الحمر الأمريكيين في التاريخ ومن بين أبطال السيو الأكثر تكريما.
وقد كرّس الحصان الجموح نفسه لمعارضة الجيش الأمريكي في وقت مبكّر من حياته، خاصّة بعد مذبحة غراتن والمذبحة التي تلتها في معسكر ليتل ثندر عام 1855 على يد العقيد ويليام هارني. وواصل مقاومته على مدى السنوات الإحدى عشرة التالية وحارب في العديد من المعارك، أشهرها معركة جسر نهر بليت وحرب السحابة الحمراء ومعركة البرعم الوردي وغيرها.
في أغسطس 1854، دخلت بقرة كانت قد خرجت من قطار عربة للمورمون إلى معسكر الزعيم الهندي "الدبّ المنتصر". ولأن الإمدادات الغذائية التي وعدت بها حكومة الولايات المتحدة لم تصل فقد جاع الناس وذبحوا البقرة وأكلوا لحمها.
وأبلغ حزب المورمون عن أن البقرة فُقدت وأن من سرقها كانوا من قبائل السيو. فاتصل الملازم هيو فليمنغ بالزعيم الدبّ المنتصر وطلب منه تسليم الشخص الذي سرق البقرة. فعرض عليه الدبّ تعويضا، لكن العرض رُفض.
ثم قاد الملازم جون غراتن مجموعة من الجند إلى معسكر السيو للقبض على الرجل الذي زعموا أنه سرق البقرة. وقد رفض الدبّ المنتصر تسليمه فتصاعد الموقف وأصيب الدبّ بالرصاص ما أدّى الى مقتله. وردّ رجال السيو بقيادة الحصان الجموح بإطلاق النار، ما أسفر عن مقتل جميع الجنود البالغ عددهم 31 جنديّا.
وبعد ذلك قام الجيش الأمريكي بقيادة العقيد هارني بالانتقام، حيث ذُبح المئات من الهنود. وقد عثر الحصان الجموح على الجثث المذبوحة في معسكر ليتل ثندر حيث أنقذ هناك امرأة كانت الناجية الوحيدة. ويقال أن حربه مع الغزاة الأوربيّين قد بدأت فعليّا في معركة غراتن التي كانت بداية لحرب السيو الأولى (1854-1856)، وقيل إن الحصان الجموح كان كلّما دخل معركة رسم على خدّه شرر برق مثل الذي رآه في حلمه وهو صغير.


وعندما اكتُشف الذهب في مونتانا عام 1863، تقاطرت على المنطقة فرق من عمّال المناجم والمستوطنين. وأرسلت حكومة الولايات المتحدة العقيد كارينغتون لبناء حصون هناك، فأعلن الحصان الجموح وقادة آخرون الحرب. ثم شنّوا هجمات على العمّال الذين كانوا يجمعون التبن والخشب للحصون.
واستمرّ الحصان الجموح وقادة الحرب الآخرون من الهنود في ضرب التفاصيل المدنية والمسافرين والبؤر الاستيطانية واستولوا على أعداد من الخيول والماشية وتسبّبوا في وقوع إصابات كبيرة.
وفي ديسمبر 1866، هاجم الحصان الجموح مجموعة من الحطّابين، وخرج الكابتن فيترمان لقتاله، فقام الحصان باستدراجه وجنوده إلى واد حيث نصبوا لهم كمينا، ما أسفر عن مقتل جميع الجنود البالغ عددهم 81 جنديا فيما أصبح يُعرف فيما بعد باسم مذبحة فيترمان.
وفي عام 1874، اكتُشف الذهب في بلاك هيلز، وهو موقع مقدّس عند قبائل السيو. وبدأ وصول المستوطنين الى هناك بأعداد كبيرة في انتهاك واضح لمعاهدة فورت لارامي لعام 1851 التي اعترفت بمطالبات السكّان الأصليين بأراضي أجدادهم واعتبرتها "أراضي هندية خالصة". وأدّى إخلال حكومة الولايات المتحدة ببنود تلك المعاهدة الى إشعال فتيل حرب السيو العظمى في الفترة من 1876 الى 1877.
وردّ الجيش الأمريكي بسرعة، ما أدّى إلى تشتيت قبائل شايان وأراباهو والسيو الهندية وحلفائهم. وهرب بعض قادتهم إلى كندا، بينما قاد الحصان الجموح شعبه بعيدا عن قوّات المستعمرين الاوربيين.
وعلى الرغم من أن الحصان الجموح لم يُهزم في معركة وولف ماونتن في 8 يناير 1877، إلا أنه انسحب من الميدان ولم يقاتل مرّة أخرى. وبعد أن قامت حكومة الولايات المتحدة بذبح الجاموس بشكل جماعي، وهو مصدر الغذاء الرئيسي لهنود السهول، اضطرّوا إلى الاعتماد على الإمدادات التي يقدّمها المقاولون المدنيون، رغم انها كانت متاحة فقط في المحميات التي أنشأتها الحكومة. لكن الحصان الجموح رفض الخضوع لحياة المحميات.
كان الحصان يتجوّل مع شعبه، وكثيرا ما كان يتضوّر جوعا طوال الأشهر الأولى من عام 1877. وفي مايو 1877، وصل مع فرقته إلى فورت روبنسون في نبراسكا للتفاوض على شروط الاستسلام.
لكن أمرا كان قد صدر باعتقاله، وأثناء مقاومته للحرّاس في فورت روبنسون تعرّض للطعن بحربة في ظهره سدّدها حارس. وكان الجرح نافذا فتوفّي في تلك الليلة من سبتمبر عام 1877 عن عمر لا يتجاوز الـ 37 عاما.
وأخذ والداه وأقاربه جثّته ودفنوها في مكان لم يُكشف عنه. وكتب صحفي معلّقا على مقتله: هكذا مات أحد أقدر وأصدق الهنود الأمريكيين. كانت حياته مثالية وسجلّه نظيفا. اذ لم يشارك أبدا في أيّ من المذابح العديدة التي وقعت، وكان قائدا عمليا في كلّ معركة مفتوحة. ويستحقّ الشرف مثل أيّ شخص تنفّس هواء الله في هذه المساحات الواسعة".
وفيما بعد، وعلى إثر استيلاء الاوربيين على المزيد من أراضي الهنود بقوّة السلاح، هرب العديد من أفراد قبائل السيو المتناثرين إلى إقليم داكوتا أو إلى كندا. أما من بقي منهم في مانكاتو مينيسوتا فقد أصدر الرئيس أبراهام لنكولن قرارا بشنقهم في أكبر عملية إعدام جماعي في التاريخ الأمريكي.
وبعد فترة ليست بالقصيرة، استخدم الجيش الأمريكي المدفعية لإطلاق النار على عدد من الرجال والنساء والأطفال الهنود الذين كانوا يحاولون الفرار من المذبحة. وقُتل أكثر من 250 شخصا، بما فيهم الزعيم المسمّى بالقدم الكبيرة. وانتهت بذلك حرب استمرّت حوالي 40 عاما خاضها أفراد قبائل السيو للاحتفاظ بأراضيهم وطريقة حياتهم.
وقد أجبرت الحكومة القبائل على إرسال أبنائهم إلى مدارس داخلية. وأُخذ الأطفال من عائلاتهم واُلبسوا ملابس أمريكية واُعطوا أسماء إنغليزية وقُصّت شعورهم ومُنعوا من التحدّث بلغاتهم او ممارسة دياناتهم أو إحياء احتفالاتهم.
كانت تلك المدارس مكتظّة ومرافقها الصحيّة سيّئة، ما أدّى الى انتشار الأمراض المعدية، فهرب الطلاب منها او ماتوا. وفي عام 1934، شجّعت الحكومة الهنود على كتابة دساتير قبلية وسنّ قوانين لإدارة شؤونهم بأنفسهم.
مرّت سنوات على مقتل الحصان الجموح ازداد خلالها ذيوع سمعته كزعيم شجاع ومقاتل من أجل حرّية شعبه. وفي عام 1982، أصدر مكتب البريد الأمريكي طابعا تكريما له. لكن حكومة الولايات المتحدة لم تعالج بعد القضايا التي ناضل من أجلها هو وغيره من قادة الهنود الحمر. ومع ذلك، فإن اسم الحصان الجموح لا يزال يلهم أولئك الذين يواصلون معركته الى يومنا هذا.

Credits
legendsofamerica.com