:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


السبت، مارس 15، 2025

جغرافيا الغابات


تبدأ القصص عادةً عندما يغادر البشر الغابة. ومن أعظم ألغاز شمال أوروبا معركة غابة تويتوبورغ، حيث قضت القبائل الجرمانية بقيادة زعيمها هيرمان على جيش روماني كامل بقيادة جندي يُدعى فاروس، في السنة التاسعة للميلاد. ويقال إن الإمبراطور أوغسطس ركض عبر أروقة قصره وهو يصيح "فاروس، أعد لي فيالقي!". وتذكر الكتب المدرسية أن هذه المعركة آذنت بنهاية التوسّع الروماني. وقد بنى جنود الإمبراطورية فيما بعد جدارا ضخما، يُعرف بجدار ليمز، على طول الضفّة الغربية لنهر الراين لإبعاد المحاربين الجرمان.
وما تزال هذه المعركة أكثر غموضاً حتى من سقوط طروادة. والمرجع الوحيد عنها هو كتابات المؤرّخ الروماني تاسيتوس، وهو مصدر دقيق نسبياً لعصره، ولكن كتاباته ليست معصومة عن الخطأ. ورغم أنه أعطى تاريخاً، فإنه لم يحدّد أبداً موقعاً دقيقاً للمعركة. ولم يُعثر على ساحة المعركة حتى منتصف الثمانينات. وقبل ذلك، كانت تقع في مكان ما بين الأسطورة والتاريخ، ثابتة بدقّة في الزمن ولكنها ضائعة في الجغرافيا الغامضة للغابات.
المكان في الغابة، أيّ غابة، لا يتعلّق بإحداثيات ثابتة بل بنقاط متقطّعة. وكان الأمر كذلك بشكل أكبر قبل اكتشاف البوصلة. فكلّ ما كان بوسع المرء أن يفعله هو الالتزام الصارم بالمسار، إذا كان هناك مسار. وبمجرّد فقدان المسار، لن يكون هناك أمام أو خلف، شرق أو غرب، ولا شمال أو جنوب.
ونظرا لأن الأفق غير مرئي في الغابة، فإن الوقت الوحيد من اليوم الذي يمكننا تحديده من خلال الشمس هو الظهيرة، عندما تكون الشمس فوق الرأس مباشرة. وبخلاف ذلك، لا توجد سوى فترات كبيرة من الوقت: النهار والمساء والليل.
والذين يضلّون طريقهم في الغابة قد يفقدون بسهولة إحساسهم بالساعات والأيّام. فمن الصعب، مثلا، أن نعرف ما إذا كان المرء قد نام للتوّ عشر دقائق أو عشر ساعات أو أنه لم ينم طوال الوقت. وعندما ندخل غابة، فإننا ندخل عالما يتجاوز الزمان والمكان يُعرف في الفولكلور بالعالم الآخر أو أرض الجنّيات أو الأرض الواقعة شرق الشمس وغرب القمر أو الأرض التي تقع وراء الممالك التسع..الخ.
وطبقا للشاعر الروماني فيرجيل، فإن الملكة الفينيقية أليسار وأتباعها وصلوا بعد فرارهم من مدينة صور إلى الساحل الأفريقي. وطلبت أليسار من السكّان الأصليين مساحة من الأرض لا تتجاوز ما يمكن أن يغطّيه جلد ثور. ولما رأى مضيفوها أن هذا لا قيمة له، وافقوا على الفور. ثم قطعت الملكة الجلد إلى شرائح رفيعة وحاصرت قطعة كبيرة من الأرض التي أصبحت فيما بعد مدينة قرطاج العظيمة. ووفقاً لروايات من القرن السابع عشر، استخدم المستعمرون الأوائل في مانهاتن نفس الحيلة، عندما طلبوا من الهنود قطعة أرض يمكن أن يغطّيها جلد غزال، كي يطالبوا بمساحة شاسعة لمنازلهم.
وحتى اليوم، يشعر الناس، بطريقة غريزية، بأن الغابة لا تنتمي إلى أحد، بل إلى الجميع. ولا تزال القوانين في فنلندا وألمانيا والسويد تحظر على المالكين منع الآخرين من السير على الأراضي المشجرة.
وبالنسبة للذين عاشوا بالقرب من أطراف الغابات عندما كانت كثيفة وغير مرسومة على الخرائط، كان خطر الضياع إلى الأبد في الغابة حقيقيّا. وكانت المجتمعات البشرية الأصلية في أوروبّا ما قبل التاريخ عبارة عن مساحات مؤقّتة في الغابة، غالبا ما نشأت بسبب الحرائق. وكانت الغابات نفسها حدودا شاسعة، حيث كانت سيادة القانون والعادات غير مؤكّدة.
ومنذ ذلك الحين كان الضياع في الغابة سبباً في إثارة الرعب والارتباك الذي يتجاوز الخوف الجسدي. ويستحضر دانتي هذا الإحساس في السطور الافتتاحية الأولى للكوميديا الإلهية:
في منتصف طريق حياتنا، وجدت نفسي في غابة مظلمة
إذ ضللت الطريق.
"آه ما أصعب وصف هذه الغابة الموحشة الكثيفة القاسية التي تجدّد ذكراها لي الخوف.
لم يشرح دانتي كيف دخل الغابة المظلمة التي بدأ فيها رحلته. والعلماء يقارنونها بغابة المنتحرين التي زارها لاحقا في الجحيم. هناك، تَحوّل الرجال والنساء إلى أشجار، وكان كلامهم عبارة عن دم يسيل من فرع مكسور. لكن الغابات في ذلك الوقت، بشكل عام، كانت تبدو بالفعل مثل الجحيم، ليس فقط بسبب الظلام، ولكن أيضا لسبب آخر. فقد كان الأشخاص الوحيدون الذين من المحتمل أن يقابلهم المرء هم المشرّدون والمجرمون والمغامرون الذين لاذوا بالغابة فراراً من المجتمع. وقد يكون هناك ناسك قرّر هجر المدنية وأتى للتواصل مع الله.
أما الأرستقراطيون والنبلاء فكانوا يغامرون بالدخول إلى الغابات العميقة فقط من أجل الصيد. وكانوا يفضّلون الصيد في مجموعات كبيرة ومنظّمة. وكان الصيد مصحوبا باحتفالات، وأحياناً بطقوس دينية. وكان وسيلة لتأكيد الشعور بالانتماء إلى المجتمع والنظام الاجتماعي. وعند قتل الطرائد، كانت توزّع بشكل احتفالي، حيث يحصل كلّ فرد على حصّة مناسبة، بدءا من سيّد القصر وانتهاءً بالكلاب.


وكان جزء من التحدّي الذي يفرضه الصيد هو البقاء معا دائما. وكانت الإثارة التي تصاحب المطاردة مصدرا للخطر أيضا. فمع التركيز على المطاردة، قد يفقد الصيّاد أحيانا أثر رجاله أو موقعه. وقد يجد نفسه منعزلاً في الغابة. والعديد من الحكايات الرومانسية والخيالية تبدأ بهذه الطريقة، حيث يكون الصيّاد منشغلاً بمطاردة أيل أو أرنب أو خنزير برّي، وأثناء ذلك يجد نفسه ضائعا في أعماق الغابة.
وإحدى القصص الشاعرية من هذا النوع هي قصّة لويس التقيّ، الابن الأكبر للإمبراطور شارلمان. فقد رأى لويس وبعض رفاقه في رحلة صيد غزالاً ضخماً بدأ يقودهم إلى أعماق الغابة. ولأن حصان لويس كان الأقوى، سرعان ما ترك الرجالَ الآخرين والكلاب خلفه. وقفز الغزال إلى نهر وبدأ يسبح عبره. وتبعه لويس على حصانه، لكن التيّار العنيف جرفه وفقد وعيه الى أن ألقت به الأمواج على الشاطئ.
وعندما أفاق، كان الليل قد حلّ. واكتشف أنه لم يكن هناك أيّ أثر لحصان أو غزال، ناهيك عن مجموعة الصيد التي كانت ترافقه. ونادى مرارا على جماعته، ولكن الإجابة الوحيدة كانت صوته الذي كان يتردّد بين الأشجار. ولم يكن بوسعه أن يميّز أشكال الأشجار الضخمة في الظلام. كانت أصوات البوم والحيوانات الليلية الأخرى من حوله غير مألوفة لمن لم يسبق له دخول الغابة إلا في النهار.
وأسطورة لويس المتديّن توضح لنا مقدار الخوف والتوجّس المرتبطين بالغابة العميقة في العصور الوسطى. وفي أسطورة أخرى يبدأ البحث عن الكأس المقدّسة عندما يتبع فرسان الملك آرثر غزالا أبيض إلى الغابة.
النظرة إلى الغابة في شمال أوروبّا كانت أكثر إيجابية ممّا كانت عليه في فلورنسا دانتي. وكان دخول الغابة بمثابة تسليم للعناية الإلهية. وفي رومانسيات العصور الوسطى، كان الفرسان الباحثون عن المغامرة غالبا ما يذهبون إلى الغابة دون خطّة ودون اتجاه.
في القصص الخيالية، نتصوّر الغابات وكأنها غير قابلة للعبور. ولكن في الغابات التي لم تمسّها يد الإنسان، قد تحجب الأشجار المظلّلة أشعّة الشمس عن أرض الغابة، فتترك الأرض عارية نسبياً من النباتات. ولكن الغابات قد تصبح غير قابلة للعبور تقريباً عندما تُقطع عمداً بحيث تنمو مرّة أخرى على هيئة فروع متشابكة لا حصر لها، مثل الأشواك.
وفي بعض الأحيان كان السلت الأوائل والألمان أو الأوروبيون يقطعون الغابات بهذه الطريقة، لإنشاء نوع من جدار الدفاع الطبيعي. وقد يخفي هذا الجدار أو يحمي مستوطنة عند الضرورة. وربّما يكون المحارب هيرمان قد استخدم مثل هذه الحواجز في مذبحته للفيالق الرومانية في غابة تويتوبورغ. وقد يكون هذا أيضاً جزءاً من أصل قصّة الجميلة النائمة.
قصّة الجميلة النائمة تمثّل حلما دائما للناس في مختلف ثقافات العالم، من السوّاح إلى الرسّامين الرومانسيين. ويتلّخص الحلم في العثور على الحبّ أو الثروة أو مجرّد الشعور بالانتماء إلى منطقة نائية حافظت على براءتها بأعجوبة عبر العصور. ويميل كلّ من الفولكلور والثقافة الشعبية إلى وضع هذه المملكة الضائعة في ظلام الغابة.
كثيرا ما نتصوّر الغابات عموماً كحالة بدائية. وربّما يعود هذا إلى أن الغابات في أغلب المناطق تعود إلى الحياة كلّما أُهملت الأرض. ولكن الغابات ليست أكثر بدائية من الصحراء أو التندرا أو المراعي.
والواقع أن قصّة الغابات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقصّة البشر. فمع نهاية العصر الجليدي الأخير، منذ حوالي 12 ألف عام، بدأت الغابات والبشر في توسيع نطاقهما إلى حدّ كبير. وانتشرت الأشجار عبر مناطق شاسعة كانت في السابق تندرا أو مغطّاة بالجليد. ونتيجة لهذا أصبح الصيد أكثر صعوبة، لأن الطرائد لم تكن تُرى بسهولة. وبدأ البشر تدريجياً في تطوير الزراعة وتدجين الحيوانات.
كانت الأشجار منذ البداية شريكة ومنافسة للبشر. ومع اتساع مساحاتها، بدأ الناس في قطعها، فأسّسوا مستوطنات مؤقّتة ثم دائمة في الغابات. واستخدموا الخشب على نطاق متزايد كوقود ولصنع مجموعة متنوّعة من الأدوات. ومن المرجّح أنهم كانوا ينامون في تجاويف الأشجار وفي أفواه الكهوف.
من المعروف أن النار ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأشجار. والخشب طبعا هو الوقود الرئيسي للنار. ومن الطرق الأساسية لإشعال النار التي استخدمها البشر الأوائل فرك قطع الخشب ببعضها. والنار هي أيضاً وسيلة إزالة الغابات من أجل الاستيطان والزراعة. وحتى غابات القارّة الأميركية تشكّلت وزُرعت على أيدي الهنود الأميركيين من خلال إشعال النيران عمداً لفتح مناطق للصيد.
إن الغابات ليست فقط أعجوبة من عجائب الطبيعة، ولكنها في الوقت نفسه تشكّل نصباً تذكارياً للخيال البشري. إنها اتحاد بين البشرية والعالم الطبيعي، متناغم إلى الحدّ الذي يجعلنا لا نعرف أين ينتهي أحدهما وأين يبدأ الآخر.

Credits
vocal.media