:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مايو 25، 2011

الأزرق: تاريخ لون

في كتابه "الأزرق: تاريخ لون"، يكتب ميشيل باستورو تاريخا فاتناً للون الأزرق في الغرب منذ بدايات العصر الحجري وحتى القرن العشرين. كما يوضّح كيف أن هذا اللون النادر أصبح اللون الأكثر شيوعا ورواجا اليوم بأطيافه واشتقاقاته وظلاله المختلفة، من النيلي إلى اللازوردي إلى البحري الغامق إلى الكوبالت إلى التوركواز إلى الزاج الأزرق وسواها.
والكتاب يخبرنا أيضا عن الثقافات المختلفة التي أحبّت هذا اللون أو كرهته. كما يتحدّث عن الفنّ العظيم الذي أنتجه.
ويخصّص باستورو جزءا من كتابه للحديث عن المعاني والدلالات المتغيّرة للأزرق، منذ ظهوره النادر في فنّ عصور ما قبل التاريخ إلى انتشاره الكبير في عالم اليوم من خلال البلوجينز والسجائر ولوحات بيكاسو وغيرها.
ولكي يقوم المؤلّف بهذه المهمّة، تعقّب تاريخ هذا اللون من الناحية التاريخية والاجتماعية في أربعة فصول تتناول العصور القديمة والعصور الوسطى وبدايات العصر الحديث.
الأزرق له تاريخ طويل في العالم الغربي. الإغريق كانوا يحتقرون اللون لكونه "قبيحا وهمجيا". لكن معظم الأميركيين والأوروبيّين الآن يختارونه كلونهم المفضّل.
يقول المؤلّف إن الأزرق كان لونا غير مهمّ حتى أواخر العصور الوسطى. كما أن الإغريق والرومان، على ما يبدو، لم يطلقوا عليه اسما ولم يحترموه. لكن اللون استمرّ في مسيرته ليحقّق انتصارا مبهرا في القرن العشرين.
ويتساءل باستورو عن السبب في أن الأزرق لعب دورا اجتماعيا ضعيفا ورمزيا حتى القرن الثاني عشر. ويقدّم مجموعة رائعة من الأمثلة على التسميات الإثنية. الرومان، على سبيل المثال، كانوا يربطون الأزرق بالبرابرة.
ولتأييد حجّته في أن الأزرق لعب دورا تابعا في الثقافات القديمة، يشير المؤلّف إلى أن هذا اللون كان يُستخدم في مصر وروما في المقام الأوّل كخلفية أو لتصوير المناظر الطبيعية فحسب.
ويتناول الكاتب التغييرات التي طرأت على التسلسل الهرمي للون خلال القرنين الحادي عشر والثاني عشر اللذين شهدا بداية صعود الأزرق. فقد أصبح اللون معيارا لرداء العذراء كما بدأ يظهر في أزياء النخبة.
ويخصّص باستورو فصلا من الكتاب للحديث عن كيف أن الأزرق أصبح أكثر الألوان شعبية واللون المفضّل في القرن العشرين. وينسج فصول حكاية تتناول الأزياء الرسمية والبلوجينز وألوان الأعلام ونظرية الألوان والفلسفة الرومانسية واستطلاعات الرأي.
ويشير المؤلّف إلى أن أيّ تاريخ للون هو قبل كلّ شيء تاريخ اجتماعي. ويستقصي كيف أن الدور المتغيّر دائما للأزرق في المجتمع كان منعكسا في المخطوطات والزجاج الملوّن والملابس واللوحات والثقافة الشعبية.
قصّة اللون الأزرق تبدأ من غيابه شبه التام عن الفنّ الغربي القديم وعن اللغة، ومن ثمّ تنتقل القصّة إلى أوروبا في القرون الوسطى. في ذلك الوقت بدأ الناس في ربط الأزرق بـ مريم العذراء ودخل اللون الكنيسة على الرغم من جهود الأساقفة الكارهين للألوان.
في القرن الثاني عشر، ظهر الأزرق من جديد باعتباره لونا ملوكياً. وقد أدّى وظيفته كقوّة عسكرية وسياسية هائلة أثناء الثورة الفرنسية. وكما انتصر الأزرق في العصر الحديث، تمّ ابتكار طبقات وظلال جديدة منه وأصبح لون الرومانسية. وفي العصور الحديثة أصبح الأزرق اللون العالمي واللون الموحّد للأرض كما تشاهَد من الفضاء الخارجي.
تاريخ الأزرق يغطّي محطّات مختلفة، بدءا من الظلال المكلّفة لعباءة العذراء، مرورا بالأزياء الموحّدة وانتهاءً بـ بيكاسو والجينز.
المعاني والدلالات اللغوية المرتبطة بالأزرق كثيرة. العبارة الشائعة "القمر الأزرق"، تدلّ على ندرة حدوث الشيء أو تباعد فترات حدوثه. والمعنى يشير إلى الظاهرة الفلكية التي تحدث كل ثلاث سنوات تقريبا والتي يظهر فيها الهلال مرّتين في الشهر، واحدة في بدايته والثانية في نهايته.
وهناك عبارة "الدم الأزرق" التي تدلّ على انتماء الشخص إلى طبقة اجتماعية رفيعة. كما أن مفردة "ازرق" أصبحت تدلّ على حالات الاكتئاب والحزن.
رمزية اللون الأزرق تشمل العديد من نواحي الحياة، من الملابس واللغة إلى الديكور والصحة والفنّ. السماء والماء لونهما ازرق، وهما مليئان بالمعاني الايجابية في مختلف الثقافات. كما أن كوكب الأرض الذي نعيش فوقه يُسمّى بالكوكب الأزرق.
وفي الهند، هناك مدينة تُدعى جودبور وتُلقّب بالمدينة الزرقاء لهيمنة هذا اللون على جدران منازلها. ودائما ما يظهر الإله الهندوسي كريشنا في الرسم ببشرة زرقاء. الرسّام الهولندي فان غوخ كان مفتونا بهذا اللون. وقد قال مرّة: لا يوجد ازرق بدون الأصفر والبرتقالي. جون راسكن الكاتب الانجليزي الرومانسي كتب مرّة يقول: الأزرق هو اللون الذي اختارته الآلهة ليكون مصدرا للفرح".
وهناك اليوم شركات كبرى كثيرة حول العالم اختارت الأزرق كهويّة لها، مثل آي بي إم وإنتل وفورد وبيبسي كولا وغيرها.
دار أزياء بوديكا طوّرت وسيلة جديدة للتعريف بأحد عطوراتها. فبمجرّد رشّ العطر تظهر بقعة زرقاء في المكان. ثم لا تلبث أن تتبخّر سريعا. والرسالة المتضمّنة هي أن البعد الفيزيائي للرائحة لم يعد منطقة مجهولة.
ربط سيكولوجية اللون برمزيّته تحيل إلى بعض الاكتشافات الأخرى. إذ يقال أحيانا أن الذين يرتدون الأزرق الفاتح أفراد عمليون ويتمتّعون بعقلية تحليلية. بينما الذين يرتدون الغامق يتميّزون بالذكاء وروح المسئولية والاعتماد على الذات.
وهناك من يربط الأزرق بالحرّية والقوّة والبدايات الجديدة. السماء الزرقاء رمز للتفاؤل والفرص الأفضل. كما أن الأزرق هو لون الولاء والحماية. وربّما لهذا السبب يدخل هذا اللون في نسيج عدد كبير من أعلام الدول كما انه لون العلم الخاصّ بالأمم المتّحدة.
من الجوانب الجمالية في هذا الكتاب انه يعرض سلسلة من الصور الفوتوغرافية المذهلة لأعمال فنّية مختلفة، بما في ذلك نوافذ الزجاج المعشّق في الكنائس القديمة والتماثيل والايقونات والفنون الأخرى.
لآلاف وربّما لملايين السنين، كانت الألوان الرئيسية للتعبير الفنّي هي الأسود، الأبيض والأحمر. الحكايات الرمزية القديمة مثل "بياض الثلج" و"الثعلب والغراب" تعكس هذا الثالوث الأساسي. الرومان كانوا يعتبرون الأزرق لونا وضيعا، خاصّة بعد أن اكتشفت قبائل الشمال الوثنية أن أوراق نبات النيلج يمكن تحويلها إلى "باستيل" ازرق ومناسب لطلاء الجسم.
الألوان الدينية للكنيسة الكاثوليكية تعود إلى زمن الرومان، وهي الأحمر والأبيض والأسود. وفي وقت لاحق أضيف إلى هذه الألوان اللون الأخضر.
ومع ذلك، وفي مرحلة تالية أصبح الأزرق مرتبطا بمريم أمّ المسيح.
عندما أصبح الأزرق اللون الرائج والمفضّل عند الكثير من الطبقات الاجتماعية في بدايات القرن العشرين، أمر البروتستانت بتحويل كلّ شيء إلى الأسود، رمز الخطيئة والتكفير عن الذنب. وقد تطلّب ذلك أن يحطّموا عدّة آلاف من نوافذ الكنائس المطليّة بالأزرق. هؤلاء الإصلاحيون كانوا مرتبطين بالرأسمالية. وقد حوّلوا كلّ شيء إلى اسود، من التليفونات إلى السيارات وسواها.
وينقل المؤلف عن هنري فورد قوله ذات مرّة انه يمكن للعميل أن يكون له أيّ لون يريده طالما أنه اسود. واستمرّ الأسود معيارا للباس المجتمع الراقي لبعض الوقت.
لكن لم يمض وقت طويل حتى حلّ الأزرق مرّة أخرى محلّ الأسود وأفسحت الملابس السوداء الطريق أمام موجة الأزرق الداكن والجينز.
باستورو لم يغفل في هذا الكتاب الحديث عن ايقونية اللون الأزرق ضمن منظور علم الاجتماع وعلم الأعراق البشرية والجوانب الاقتصادية للنسيج والصباغة، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من المواضيع الأخرى المرتبطة بهذا اللون.
تصميم هذا الكتاب لافت للنظر. فهو أنيق بشكل استثنائي وذو وهج ياقوتي. كما انه مزيّن بمائة لوحة ملوّنة. ولأنه غنيّ بالمعلومات المفيدة وأحيانا الطريفة، فإنه يشكّل إسهاما حقيقيا في التاريخ الاجتماعي للفنّ.
يقول احد النقّاد إن التاريخ يمكن أن يجعلك أعمى أحيانا. لكنّ بعض المؤرّخين، ومنهم ميشيل باستورو، يمكن أن يجعلوك ترى من جديد.
في الحقيقة، قد يكون كتاب باستورو هذا "فرنسيا" أكثر من اللازم. لكن.. من يمكنه أن يتكلّم عن هذا اللون أفضل من رجل فرنسيّ؟!

Credits
theguardian.com