رأى نيتشه ذلك الحلم في الخامسة من عمره، في نهاية يناير عام 1850، بعد ستّة أشهر من وفاة والده، القسّ اللوثري، من مرض لِين الدماغ المزمن والمؤلم. ويستمرّ نيتشه في وصف ما حدث: في الصباح أخبرت امّي عن الحلم. وبعد فترة وجيزة، مرض شقيقي الصغير جوزيف فجأة وعانى من تشنّجات قوية ومات خلال بضع ساعات."
هذا الحلم، وغيره من أحلام نيتشه التي يرويها هايمان في كتابه، سبقت ظهور فلسفة نيتشه بسنوات. وهو يعبّر عن تقدير عميق للقوّة المرعبة للا وعي والشعور المأساوي بالمصير والموت والانفتاح على رؤى من مصادر المعرفة "غير العقلانية".
ويتحدّث هايمان عن كيف شكّلت تجارب نيتشه المبكّرة مع الأحلام الوقود الذي فجّر إبداعه الفلسفي فيما بعد. في عام 1870، وكأستاذ في جامعة بازل، كتب نيتشه في دفتر ملاحظاته بعض الأفكار عن الأحلام: في نصف الوجود، نحن –كحالمين- فنّانون. وهذا العالم النشط ضروري لنا".
وكانت تلك الملاحظات بمثابة أساس لأوّل كتبه المنشورة "ولادة المأساة" (1871). القسم الافتتاحي من هذا الكتاب يقدّم فهما للفنّ والفلسفة والتاريخ، وكيف تؤثّر في القوّة الإبداعية للأحلام.
كتاب هايمان ليس المكان المناسب لاستكشاف تأثير الأحلام على "ولادة المأساة" وغيره من مؤلّفات نيتشه التي كتبها فيما بعد. لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن كلّاً من سيغموند فرويد وكارل يونغ كانا على علم بفلسفة نيتشه، وقد نسجا أفكاره مباشرة في نظرياتهما النفسية الجديدة. وإذا كنت تريد أن تفهم فرويد ويونغ بشكل أفضل، فعُد إلى نيتشه وأحلام طفولته.
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
والشاطئ بالنسبة لـ ايڤري أشبه ما يكون بلوحة قماش. فجميع الأشكال والمناشف وكراسي الاسترخاء مرتّبة كأشكال تجريدية على رمال متعدّدة الألوان. وفي النهاية، تتلاشى هذه الأشكال تماما ويصبح شاطئ البحر راية من أشرطة أفقية صفراء وزرقاء وبرتقالية مشعّة. وليس من الصعب إيجاد تشابه في هذه اللوحات مع مستطيلات روثكو المفعمة بالبهجة.
لكن ايڤري لم يخترع شيئا لم يرَه. فمهما كانت لوحاته على حافّة التجريد، فهي دائما مجازية: أصدقاء يقرأون، يتحدّثون، يأكلون الخ. كانت شقّته دائما ما تعجّ بزملائه الرسّامين، مع أنه يقال إنه كان يجلس بهدوء بعيدا عنهم مع دفتر رسمه.
وقد غادر الفنّان وعائلته أمريكا مرّة واحدة فقط، لزيارة أوروبّا عام ١٩٥٢. واللوحات التي استلهمها من تلك الرحلة تتماوج ألوانها الهادئة من البنفسجي والرمادي والأخضر الباهت وتتوازن أشكالها في تركيبات غاية في الأناقة.
كان ايڤري يردّد دائما: لماذا تتحدّث وأنت قادر على الرسم؟" وتبدو هذه العبارة أشبه بسخرية عابرة وطريقة ذكيّة لإسكات الحضور. كان يؤمن بأن لوحاته تعبّر عن كلّ ما يحتاج إلى قوله، وانتهى الأمر.
تاريخ الفنّ عبارة عن ساحة معركة بين الأساليب والتيّارات المختلفة. وقد انعكس هذا في فنّ القرن العشرين، من حيث اللون والحجم والعمق والإيهام والسرد، وأصبح فنّا أدبيّا بقدر ما هو جمالي. أما الأسلوب المقابل فيقوم على اللون، كما أنه روحاني بطريقة مختلفة ومتجذّر مباشرةً في الرمزية والحسّ المتزامن وفنّ تسعينات القرن التاسع عشر. هنا تسود وحدة الرسم ويتفوّق التناغم المتداخل بين الشكل واللون على الموضوع. واللوحة نفسها تصبح الموضوع. وكرسّام ألوان، أثبت ايڤري أنه شخصية محورية في فنّ القرن العشرين.
في عام ١٩٢٦، انتقل الرسّام إلى مجمّع فنّي في مانهاتن. وكان مارسيل دوشامب وفرانسيس بيكابيا من بين الزوّار المألوفين للمبنى. هنا كان ايڤري يجهّز لوحاته بنفسه ويتعلّم تخفيف أصباغه. وقيل إنه كانت لديه قدرة على جعل الطلاء يدوم لفترة أطول من أيّ شخص آخر. وقد رحّب ايڤري وعائلته بانتظام بفنّانين آخرين في شقّتهم، بمن فيهم روثكو. كان الأخير أصغر منه بـ 18 عاما، وقد استلهم من أعمال ايڤري مباشرة في أعماله.
وبينما كان روثكو يتحدّث طوال الليل، كان ميلتون يستمع ويرسم ضيوفه. لكنه كان أكثر ثرثرة عندما كان يقرأ بصوت عال. وكان هذا أسلوب عائلته الترفيهي الشائع. وكانت قائمة قراءاتهم تشمل أعمال ميلفيل وبروست وثورو وستيفنز وإليوت.
ولم يكن من عادة ايڤري أن يناقش أعماله، لكن النقّاد لم يتردّدوا في الحديث عنها. وقد تزايد الحديث عن اسمه في الصحف بدءا من أواخر الخمسينات وحتى وفاته عام ١٩٦٥. وبالنسبة للذين كانوا ينتظرون منه "شيئا كبيرا قادما"، كان ايڤري منفصلا عن الواقع بشكل مزمن. وقد وصل إلى نيويورك بما يمكن تسميته بـ "أسلوب أوروبّي للحداثة" أشبه بـ"ما بعد الانطباعية" الممزوجة بمدرسة نهر هدسون.
وفي مطلع القرن الماضي، أصبح ايڤري ملوِّنا عندما كان القليلون يرغبون في الألوان. وفي الثلاثينات، صار انطباعيا ضبابيّا عندما كان العالم يبحث عن تفاصيل دقيقة. وفي الخمسينات، كان تجسيديا عندما كان التجريد الشامل هو الموضة السائدة.
كتب صحفي آنذاك واصفاً عمله: إنه ثمرة موهبة رائعة وطبيعية وإن لم يكن من السهل تعريفها. إنه شاعر وملوّن ومزخرف، وهو متميّز جدّا في كلّ هذه التنويعات. ومع ذلك أفترض أن كونه شاعرا سيكون في النهاية أقوى ادّعاءاته".
وكتب آخر: إن تمسّك ايفري، موسما بعد موسم، بنظرياته الغامضة، أو المزعجة بعض الشيء، حول الرسم، يُشعر المرء بأنه صادق تماما. ولا بدّ أن هذه الأشكال الغريبة، والمرعبة أحيانا، في أعماله تحمل في طيّاتها شيئا واضحا بالنسبة له".
لكن الضرر الحقيقيّ الذي لحق بصورة ايڤري جاء من مقارنته بماتيس. فقد اعتبره العديد من النقّاد نسخة أخرى من المعلّم الفرنسي. وكان على دراية بماتيس بالتأكيد. وكتب أحد النقّاد يقول: لقد أراد ماتيس أن يصنع فنّا مريحا كالكرسي المريح، وقد نجح في ذلك. أما ماتيس الأمريكي "يقصد ايڤري" فإن فنّه أقرب إلى السباحة في المحيط قبالة ولاية مين".
❉ ❉ ❉
كالصيادلة، نحضّر خلطات جديدة كلّ يوم، نسكب من إناء إلى آخر. وكما نهبَ الرومان القدماء جميع مدن العالم ليشيّدوا "روماهم"، ننتزع نحن صفوة عقول الآخرين ونقطف أزهار حدائقهم المزروعة لنشيّد مزارعنا العقيمة. ما زلنا ننسج الشبكة نفسها، ونعيد لفّ الخيط نفسه مرارا وتكرارا. ر. بيرتون
يموت بعض الناس في سنّ الخامسة والعشرين ولا يُدفنون إلا في الخامسة والسبعين. بنجامين فرانكلين
يتحدّث بعض الناس عن الهجرة والنزوح وما إلى ذلك. وكلّ هذا هراء. كلّنا بشر، كلّنا ثدييات، كلّنا صخور ونباتات وأنهار. الحدود اللعينة مصدر إزعاج كبير. مجهول
لا ينبغي لأحد أن يكون مجنونا لدرجة اختيار الحرب في زمن السلم. ففي أوقات السلم، يدفن الأبناء آباءهم، أما في الحرب، فيدفن الآباء أبناءهم. هيرودوت
الحياة ليست أمراً سهلاً. لا يمكنك أن تعيشها دون أن تقع في الإحباط والسخرية، إلا إذا كانت أمامك فكرة عظيمة ترفعك فوق البؤس الشخصي وفوق الضعف وفوق كلّ أنواع الغدر والدناءة. ليون تروتسكي
يمكن لكلّ شخص أن يخلق هدوءه الخاص بشروطه الخاصّة، بعيدا عن تدخّل الكون بأكمله. ما زال الأمر لا يعني لي شيئا أن الأرض والنظام الشمسي يندفعان عبر الفضاء بسرعة 60 ميلا في الثانية، قادمَين من مكان لا أحد يعرف أين وذاهبَين إلى مكان لا يعرفه أحد، طالما أنني ما زلت أستطيع الجلوس في حديقتي وأستمع إلى طنين النحل في فترة ما بعد الظهيرة في الصيف. مجهول
حُفر تاريخ الإنسان على صخور مصر وخُتم على حجارة آشور ودُفن في رخام البارثينون. وهو يرتفع أمامنا بحضور مهيب في أقواس الكولوسيوم، ويختبئ ككنز دفين وسط غبار المحفوظات والأديرة، ويتجسّد في جميع خيوط الأديان والأعراق والعائلات. تشارلز نيوتن
Credits
moma.org
theguardian.com
moma.org
theguardian.com