:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، أكتوبر 25، 2024

الإسبان والانديز: تاريخ موجز


"رأيت قسوة لم يرَ مثلها ولا يتوقّع رؤيتها أيّ كائن حيّ".
  • بارتولومي دي لاس كاساس
  • ❉ ❉ ❉

    وصل كريستوفر كولومبوس إلى كوبا في أكتوبر 1492 أثناء رحلته الأولى إلى العالم الجديد. وسرعان ما أعلن تابعية الجزيرة للعرش الإسباني وأطلق عليها اسم "خوانا" تيمّنا باسم الأمير خوان نجل الملك فرديناند والملكة إيزابيلا.
    وفي عام 1514، عُيّن دييغو ڤيلاسكيز دي كويّار أوّل حاكم لكوبا، وهو المنصب الذي شغله لعدّة سنوات. وقد انخرط المستعمرون الإسبان في مواجهات عنيفة مع السكّان الأصليين الذين قوبلت محاولاتهم لمقاومة الحكم الإسباني بأعمال انتقامية ووحشية. كما أُجبروا على العمل في المزارع والمناجم، ما أدّى إلى ظروف قاسية ومعدّلات وفيات عالية بينهم.
    وكان من أهمّ من كتبوا عن تاريخ تلك الفترة بارتولومي دي لاس كاساس (1484 - 1566) الذي كان رجل دين وكاتبا ومؤرّخا إسبانيّا. وبصفته راهبا، شارك "لاس كاساس" في غزو دييغو دي كويّار لكوبا، وشهد العديد من الفظائع التي ارتكبها الإسبان ضد الهنود.
    وقد اشتهر "لاس كاساس" باعتباره أوّل "مدافع عن الهنود" يعيّن رسميّا. وكان قد وصل مع أوائل المستوطنين الإسبان في الأمريكتين، لكنه شعر في النهاية بأنه مضطرّ لمعارضة الانتهاكات التي ارتُكبت ضدّ السكان الأصليين، مدفوعا بقلقه على أرواح الشعوب الأصلية وخوفه من تعرّض إسبانيا "للعقاب الإلهي". وتتناول كتاباته الكثيرة وصفا وشجبا للفظائع المرتكبة ضدّ الشعوب الأصلية.
    وأحد أهمّ كتب "لاس كاساس" هو كتابه "تاريخ موجز لتدمير جزر الانديز" الذي كان واحدا من أولى المحاولات التي بذلها كاتب إسباني من العصر الاستعماري لتصوير المعاملة غير العادلة التي تحمّلها السكّان الأصليون خلال المراحل المبكّرة من الغزو الإسباني.
    السطور التالية عبارة عن فقرات مترجمة من الكتاب..

    ❉ ❉ ❉

    في عام 1511، عبَر الإسبان إلى جزيرة كوبا، التي يبلغ طولها من بلد الوليد إلى روما. كانت هناك مقاطعات جميلة ومزدهرة يمكن رؤيتها، مليئة بأعداد هائلة من الناس، الذين لم يلقوا معاملة حسنة أو لائقة من الإسبان. وعلى العكس من ذلك، يبدو أن الإسبان ضاعفوا قسوتهم على الكثير من السكّان الأصليين.
    وقد حدثت أشياء مختلفة في هذه الجزيرة تستحقّ الملاحظة. فقد تراجع زعيم ثريّ وقويّ يُدعى هاتبوي إلى إحدى الجزر لتجنّب الاستعباد والموت اللذين هدّده بهما الإسبان. ولما علم أن مضطهديه على وشك النزول في الجزيرة، جمع كلّ رعيّته وخدمه وألقى عليهم خطابا مؤثّرا قال فيه: لقد علمتم بالأخبار التي انتشرت في الخارج عن أن الإسبان مستعدّون لغزو بلادنا. وأنتم لا تجهلون سوء المعاملة التي لقيها معارفنا ومواطنونا على أيديهم والقسوة التي ارتكبوها في بعض الأماكن. وهم سيأتون الآن إلى هنا لكي يرتكبوا ضدّنا نفس تلك الفظائع".
    ثم سألهم: هل تجهلون النوايا السيّئة للشعب الذي أتحدّث عنه؟ فقالوا جميعا بصوت واحد: نحن لا نعرف لماذا أتوا إلى هنا. لكننا نعرف أنهم مجموعة شرّيرة وقاسية". فقال الزعيم: سأقول لكم إن هؤلاء الأوروبيّين يعبدون إلها جشعا للغاية ومن الصعب إرضاؤه. ولكي يؤدّوا عبادتهم لهذا الصنم، سيستولون على قدر هائل من كنوزنا وسيبذلون قصارى جهدهم لإخضاعنا لحالة بائسة من العبودية أو قتلنا".


    ثم تناول الزعيم صندوقا مليئا بالذهب والمجوهرات الثمينة كان معه ورفعه أمامهم وقال: هذا هو إله الإسبان الذي يجب أن نكرّمه بألعابنا ورقصاتنا، لنرى ما إذا كان بإمكاننا استرضاؤه حتى يأمر الإسبان بعدم إيذائنا". صفّق الجميع لخطاب الزعيم، وأخذوا يقفزون ويرقصون حول الصندوق حتى استهلكوا قواهم. ثم استأنف الزعيم هاتبوي حديثه وقال: إذا احتفظنا بهذا الإله إلى أن يُنتزع منّا، فلسوف يتسبّب في قتلنا. لذا أنا أرى أن أفضل طريقة هي إلقاؤه في النهر". ووافق الجميع على هذا الرأي وذهبوا معا لرمي ذلك الإله المزعوم في النهر.
    وما أن وصل الإسبان إلى جزيرة الرجل وقومه حتى بدأ هذا الزعيم الذي كان يعرفهم جيّدا في التفكير في الانسحاب لحماية نفسه من غضبهم. كان قد قرّر الدفاع عن نفسه بقوّة السلاح لو التقى بهم وجها لوجه، غير انه وقع للأسف في أيديهم. ولأنه اتخذ كلّ الاحتياطات الممكنة لتجنّب اضطهادهم له وحمَل السلاح للدفاع عن حياته وحياة رعيّته، فقد أصبحت تلك جريمة كبرى في عُرف الغزاة، فقرّروا إحراقه وهو حيّ.
    وبينما كان الزعيم الهندي مقيّدا إلى عمود بانتظار أن يُحرق، تولّى راهب إسباني عظيم التقوى والفضيلة مهمّة التحدّث مع الزعيم عن الله والدين وشرح بعض مقولات الإيمان الكاثوليكي التي لم يسمع عنها من قبل. ثم وعده بالحياة الأبدية إذا آمن، وهدّده بالعذاب الأبدي إن استمرّ في عناده و"كفره".
    فكّر هاتبوي في الأمر بقدر ما سمح له المكان والظرف الذي كان فيه. ثم وجّه سؤالا للراهب: هل بوّابة السماء مفتوحة للإسبان أيضا؟ فأجاب الراهب: الإسبان أناس صالحون ويأملون في دخول الجنّة". فردّ عليه الزعيم على الفور: إذن لا أريد الذهاب إلى جنّة يوجد فيها مثل هؤلاء، بل إنني أفضّل الذهاب إلى الجحيم على رؤية هؤلاء القساة في الجنّة".
    الأفعال الشرّيرة والقاسية التي ارتكبها الإسبان أساءت إلى اسم الله ودينه في أذهان الأميركيين الأصليين. في أحد الأيّام، جاء إلينا عدد كبير من سكّان مدينة تقع على بعد كيلومترات من المكان الذي أقمنا فيه. كانت غايتهم إطراءنا ومدّنا بكلّ أنواع المؤن والمرطّبات التي نحتاجها. وقد جاملونا كثيرا وداعبونا بأكثر الطرق تودّدا وإرضاءً.
    لكن الروح الشرّيرة التي استحوذت على الإسبان جعلتهم في حال من الغضب المفاجئ ضدّهم، حتى أنهم هاجموهم وقتلوا أكثر من 3 آلاف منهم من الرجال والنساء على مدى أيّام، دون أن يُستفزّوا أو يتعرّضوا لأدنى إساءة منهم. وقد كنت شاهد عيان على هذه الوحشية. ومهما كانت الجهود المبذولة لاسترضاء الإسبان، فقد كان من المستحيل إخضاعهم للعقل. فقد كانوا مصمّمين على إشباع غضبهم بهذا العمل الشرّير والهمجي.
    وبعد ذلك بفترة، بعثتُ رسلاً إلى أعيان الهنود في مقاطعة هاڤانا، لتشجيعهم وإقناعهم بالبقاء في أرضهم وعدم إزعاج أنفسهم بالبحث عن أماكن نائية للاختباء فيها. كما نصحتهم بالقدوم إلينا مع ضمان منّا بحمايتهم. كانوا يعرفون جيّدا مدى سلطتي على باقي الإسبان وقد وعدتهم بألا يتعرّضوا لأذى. كانت القسوة والمذابح التي عانى منها مواطنوهم في الماضي قد نشرت الخوف والرعب في جميع أنحاء البلاد. وكان ذلك الضمان الذي قدّمته لهم بموافقة ونصيحة من القادة والضبّاط.
    وعندما دخلنا تلك المقاطعة، جاء إلينا 22 من زعمائهم. وفي صباح اليوم التالي، بادر قائد قوّاتنا، ودون أيّ اعتبار للوعد الذي قُطِع لهم، بالحكم عليهم بالموت حرقا. وقد زعم أن من الأفضل إعدام هؤلاء الناس لأنهم قد يلجئون في وقت ما لبعض الحيل لمفاجأتنا وتدميرنا. وللأسف واجهتُ كلّ صعوبة في العالم لمنعهم من إلقائهم في النار.
    وفي هاڤانا بدأ الهنود الذين رأوا أنفسهم في حال من العبودية الشديدة وأنه لم يعد أمامهم من حلّ آخر، في اللجوء إلى الصحاري والجبال لتأمين أنفسهم من الموت. فخنق بعضهم أنفسهم في يأس، وشنق الآباء أنفسهم مع أطفالهم لوضع نهاية أسرع لبؤسهم ومعاناتهم. وقد هلك أكثر من 200 هندي بهذه الطريقة لتجنّب قسوة الإسبان.
    وحَكم الكثير منهم بعد ذلك طواعيةً على أنفسهم بهذا النوع من الموت، على أمل أن يضعوا بذلك حدّا للبؤس الذي ألحقه بهم مضطهدوهم. وكان لدى شخص إسباني كان يحمل لقب "سيّد" في هذه الجزيرة 300 هندي في خدمته. وقد دمّر حياة 160 منهم في أقلّ من 3 أشهر بسبب العمل المرهق الذي فرضه عليهم باستمرار.
    وقد رأيت بأمّ عيني أكثر من ستّة آلاف طفل يموتون في غضون ثلاثة أو أربعة أشهر، حيث أُجبر آباؤهم على التخلّي عنهم وحُكم عليهم بالعمل في المناجم. وبعد ذلك، قرّر الإسبان ملاحقة الهنود الذين انسحبوا إلى الجبال، فقتلوا أعدادا كبيرة منهم حتى أصبحت هذه الجزيرة خرابة خالية من السكّان في وقت قصير للغاية. ومن المؤسف حقّا أن نرى بلدا جميلا يعامَل بهذا القدر من التدمير والوحشية.

    ❉ ❉ ❉

    عندما عاد "لاس كاساس" إلى إسبانيا قوبل بسيل من الاتهامات التي وجد فيها العديد من معارضيه فرصة لاتهامه بإنكار شرعية الحكم الإسباني للمستعمرات، وبالتالي شكلا من أشكال الخيانة. وفي عام 1548، أصدر التاج مرسوما يقضي بحرق كتبه. وقد دافع عن نفسه بقوله إن الشرعية الوحيدة التي يمكن للإسبان من خلالها المطالبة بسلطة على ممالك العالم الجديد هي سلطة التبشير السلمي وليس الحروب غير القانونية وغير العادلة.
    وقد أسهمت كتابات وشهادات "لاس كاساس" عن الطبيعة السلمية للأمريكيين الأصليين على تشجيع انتهاج سياسات أقلّ عنفا وتطرّفا تجاه الهنود لجلبهم الى المسيحية.

    Credits
    suite101.com

    الأحد، أكتوبر 20، 2024

    خواطر في الأدب والفن


  • تحتار في معرفة هل هذه اللوحة حياة ساكنة أم صورة مجزّأة. هل تتحوّل القدم إلى حذاء أم العكس، أم يتحوّل جسم الإنسان إلى مجرّد شيء، أو أن الحذاء يتحوّل في نهاية المطاف إلى إنسان بسبب كثرة ارتدائه؟!
    الرسّام لا يضع صورتي القدم والحذاء منفصلتين وجنبا إلى جنب، بل يدمجهما بطريقة هجينة، أي بتحويل واقع لآخر. وأحد التفسيرات الأكثر شيوعا للوحة هو أن أكثر الأشياء وحشيةً يمكن أن تصبح مقبولة بقوّة العادة. تشعر وانت تتأمّل اللوحة بأن التحام قدم الانسان بالحذاء الجلدي ينشأ في الواقع من عادة وحشية.
    وبحسب بعض النقّاد، تثير مشكلة الحذاء مسألة القدم وطبيعة الإنسان والقوّة المنفّرة للأعراف الاجتماعية. قد يبدو الحذاء للوهلة الأولى أكثر المنتجات تعرّضا للضرر، لكن وحشيته تتّضح من حقيقة أن قوّة العادة حوّلته إلى شيء طبيعي ولم يعد من الممكن إدراك خطورته. فالحذاء ليس مجرّد وسيلة حماية، بل هو أيضاً سجن لاإنساني، فهو يفرض توحيد حركة أصابع القدم الخمسة في حركة اجبارية واحدة ويضع فاصلاً أبدياً بيننا وبين الأرض التي نسير عليها.
    ومثل كلّ مبدعي الفنّ الخيالي، يعرف الرسّام رينيه ماغريت أن تمثيل غير الواقعي يكون أقوى عندما يبدو رمزيّا أكثر. وقد رسم سلسلة لوحات "العارضة الحمراء" ابتداءً من عام 1935. وربّما يتوافق اللون الأحمر في عنوان اللوحات مع محاولة ماغريت الثورية خلق لغز حقيقي من شيئين تقليديين واعتياديين، هما في هذه الحالة القدمان والأحذية.
    لكن ماغريت يقدّم لنا أيضا في هذه اللوحة تعريفاً جديداً للإزعاج، حيث تتضمّن الصورة أفكاراً متعدّدة حول معنى أن تكون غريباً ومزعجاً في نفس الوقت. فعود الثقاب والعملات المعدنية المتناثرة على الأرض تمنحنا إحساساً بأن شخصاً ما كان هنا، ولم يعد موجوداً لأسباب ربّما تكون مزعجة. كما أن قصاصة الصحيفة الممزّقة والمهترئة تأخذ شكل امرأة واقفة في وضع غريب، وليس من الواضح مدى ارتباطها بالمشهد.
    الأحذية هي أحد الأشياء التي تميّزنا عن الحيوانات، وبالنسبة للعديد من الناس، فإنها تساعد في تحديد هويّتنا. والحذاء والقدم في الصورة لا يقدّمان تلميحا يساعد على فهم ما يجري. فهل اختفى الشخص ولم يبق منه سوى حذاؤه؟ وهل حلّ الحذاء محلّ الشخص، وكلّ ما تبقّى الآن هو القدم؟ وهل استُبدل الحذاء بالشخص؟
    ربّما حدث أمر خطير، ولا يقتصر الأمر على الأحذية، بل ترَك الشخص وراءه أشياء. وهناك شعور قويّ بأنه لم يعد موجودا هنا، وقد غادر بسرعة كافية لإسقاط الأشياء التي كان يحملها. ولكن أكثر من ذلك فقد ترك وراءه جزءا من نفسه. والآن كلّ ما تبقّى هو أحذيته وبقايا إنسانيته. والأمر لا يتعلّق فقط بأننا تركنا أحذيتنا خلفنا، بل يبدو أن ماغريت يقول إن أحذيتنا هي نحن وأننا تُركنا خلفنا!
    كان ماغريت يفضّل الارتباطات المدروسة بشكل صحيح باللقاءات غير المتوقّعة التي ينادي بها السرياليون. ولتحقيق هذه الغاية، كان يحبّ أن يبتكر "مشكلات" للأشياء اليومية، من خلال زوج من الأحذية. وبدا التحوّل التدريجي للقدم إلى حذاء واضحا جدّا لماغريت، لدرجة أنه صنع سبع نسخ متقاربة من هذه اللوحة. والتصوير الدقيق للأشياء واللحم البشري يضيفان إلى غرابة هذا العمل الذي يبدو طريفا ومخيفا في آن.
    في تلك الفترة من حياته الفنّية، أصبح اكتشاف وتصوير هذا "التقارب الاختياري" الخفيّ بين اشياء غير ذات صلة ظاهريّا الغرضَ الدائم لفنّ ماغريت. وساعده هذا في رسم بعض أعظم لوحاته. فقد حلّ "مشكلة الطائر" من خلال تصوير بيضة في قفص، وحلّ "مشكلة الباب" من خلال رسم ثقب لا شكل له محفور فيه.. وهكذا.
    ذات مرّة كتب ناقد يقول: كان ماغريت يحبّ مواجهة الناظر بشيء غير مفهوم ولكنه مصوّر بطريقة واقعية مخادعة. ويبدو السياج الخشبي في هذه اللوحة عاديّا تماما، لكن الأحذية ليست كذلك. وعادةً ما يساعد العنوان في تقريب المعنى إذا كانت الصورة محيّرة، ولكن ليس هنا. فـ "العارضة الحمراء" تثير المزيد من الأسئلة، عارضة ماذا أو من؟ وحمراء؟!
    طوال حياته، كان ماغريت يرفض تفسير وتحليل صوره، مدّعيا أن فنّه يعكس ببساطة الغموض الكامن في العالم. وكتب إلى أحد أصدقائه يوماً يقول معلّقا على صورة القدم والحذاء هذه: إنه لأمر مرعب أن نرى ما يتعرّض له المرء عندما يصنع صورة بريئة".
  • ❉ ❉ ❉


    ❉ ❉ ❉

  • في كتاباته، يعبّر الشاعر الآذاري نظامي، وبشكل متواتر، عن تعاطفه الشديد مع الحيوانات. ويبدو أن هذا نابع من حبّه واحترامه لكلّ مخلوق، مع أنه لم يكن نباتيّاً مثل المعرّي الذي امتنع حتى عن تناول العسل باعتباره سرقة لحصيلة النحل.
    لكن ربّما كان نظامي يشاطر الفيلسوف الأندلسي ابن طفيل (القرن 11) وجهة نظره القائلة بأن الإنسان لا ينبغي له أن يقتل الحيوانات إلا إذا كان ذلك ضرورياً للحفاظ على حياته. كما أنه، أي نظامي، يعزو صفات أسطورية خاصّة إلى بعض الحيوانات ويعطي بعداً ميتافيزيقيا لعلاقة الإنسان بالحيوان يتجاوز الواقع إلى عالم السحر والحكايات الخرافية.
    واهتمام نظامي بالحيوانات واضح في كتابه "ليلى والمجنون"، إذ يتدخّل المجنون عندما يوشك صيّاد على قتل غزال لأنها تذكّره بحبيبته ليلى. كما يبدأ في العيش مع الحيوانات البريّة التي تحبّه وتُسالمه كما تسالم فرائسها الأخرى. وتُظهر هذه القصص رغبة نظامي في تصوير شخصية المجنون كنموذج للّاعنف.
    ويبدو أن هذا الدافع لحبّ الحيوانات يعود في الأصل إلى ملحمة أورفيوس، الموسيقيّ الذي كان يفتن الحيوانات والكائنات بألحانه. كما يعود إلى قصّة العهد القديم عن مملكة السلام التي يتعايش فيها البشر والحيوانات جنبا الى جنب بسلام.
    ثم يقدّم نظامي درسا في الإحساس بالعرفان بالجميل من قبل حيوان، عندما يتحدّث عن ملك يُدعى بهرام، يطارد في شبابه أنثى حمار وحشي، فتقوده إلى مدخل كهف يحرسه تنّين ضخم. ويدرك بهرام أن التنّين قد ابتلع ابن أنثى الحمار وأنها قادته إلى هناك كي ينقذ طفلها. وهنا يقتل بهرام التنّين ويطلق سراح المهر الذي كان ما يزال حيّا في بطن الوحش. ثم تقوده أنثى الحمار الوحشي بعد ذلك إلى داخل الكهف، حيث يجد كنزا ضخما مخبّأ في جِرار كثيرة. ثم يأمر بهرام بتحميل ذلك الكنز على الدواب لتقديمه كهدايا.
    كما يتحدّث نظامي كثيرا عن الحجارة الثمينة. وهي تظهر في الاستعارات والمقارنات لوصف الجمال. مثلا، في آخر وأطول مثنوي له في ديوانه "إسكندر نامه" أو كتاب الاسكندر، يورد حكاية عن الاسكندر المقدوني أثناء غزوه لبلاد فارس.
    فالإسكندر، الذي يُصوّر على أنه موحّد صارم، يدمّر الأضرحة والمعابد الوثنية "والإشارة هنا للزرادشتية والبوذية". وفي معبد في قندهار يوشك الاسكندر على تدمير تمثال ذهبي لبوذا للحصول على جوهرتين ثمينتين ونادرتين مثبّتتين في عينيه.
    لكن تظهر له فجأة فتاة صغيرة وتخبره بقصّة الجوهرتين. فقد أحضرهما ذات يوم طائران من جهة الصحراء. وأثارت الجوهرتان جشع بعض العظماء عندما رأوها. وبعد صراعات داخلية كثيرة فيما بينهم، اتفق هؤلاء على صنع تمثال ذهبي لبوذا واستخدام الجوهرتين لعينيه.
    وتكيل الفتاة إطراءً مبالغا فيه للإسكندر باعتباره السماء والشمس. ويكتب نظامي شعرا على لسان الفتاة تقول فيه: جوهرة جلبتها طيور السماء لن ترغب السماء في استعادتها. إن كلّ عين تتلقّى نورها من الشمس، فكيف ينبغي للشمس أن تسرق العيون. والسراج الذي يُفرح العميان لا ينبغي أن يطفئه البصير".
    كان كلام الفتاة موجّها الى "الشمس"، أي الاسكندر، وكأنها تتوسّل إليه بألا يهدم التمثال وألا يأخذ الجوهرتين. وقد تأثّر بشعرها وقرّر العدول عن رأيه واكتفى بنقش اسمه على التمثال ووضعه تحت حمايته الشخصية. والدرس الذي يقدّمه نظامي من إيراده القصّة هو أن العقل يمكن أن يجعل الأقوياء يتغلّبون على أنانيتهم ويمتنعون عن العنف والجشع.
  • ❉ ❉ ❉

  • في قديم الزمان، كان يعيش ملك حكيم وعادل وكان شعبه محبّاً له. وكان للملك ابن وحيد، وقد علّمه المهارات والحكمة اللازمة كي يخلفه في الحكم. وسنةً بعد أخرى، نشأ الأمير وتدرّج في الوظائف وأصبح رجلا راشدا وقائدا رحيما يليق به المُلك.
    وذات يوم استدعى الملك ابنه الأمير. وعندما دخل وجد والده مستلقيا على سريره وقد أنهكه التعب. فقال الملك لابنه: لقد تقدّم بي العمر كثيرا وبالكاد أستطيع الآن أن أتدبّر شئون البلاد، والشعب بحاجة إلى زعيم شابّ ونشيط. وأنا أفكّر أن أتخفّف من المسئولية وأرتاح. لكني أريد أن أتأكّد أنك قادر على أن تدير البلاد بكفاءة زعيم حقيقي".
    فقال الأمير: لقد ربّيتني أحسن تربية ودرّبتني كأفضل ما يكون التدريب، فأتقنت فنون القتال وقدتُ جيش بلادنا بنجاح لسنوات. أفلا تعتقد يا أبي أنني مستعدّ للحكم بعدل ورويّة؟"
    ردّ الملك العجوز: أنا أعلم أنك قد تهيّأت بأفضل ما تستطيع لتصبح ملكا. لكن تلك ليست بالمهمّة السهلة. وقبل أن أقرّر تنصيبك خليفة لي، أريد أن أتأكّد أنك مستعدّ لذلك. لذا أطلب منك أن تذهب غدا إلى الغابة التي تقع عند الطرف الشرقي لمملكتنا. وستجد هناك حكيما عجوزا يقضي وقته في التأمّل. أخبره أنك الأمير واسأله ما إذا كنتَ مهيّأ الآن لتكون ملكا. فإذا ردّ بالإيجاب، فسأتوّجك ملكا فور عودتك".
    فوجئ الأمير بطلب والده الغريب، لكنه كان دائما يحترم حكمته وبعد نظره. لذا انطلق في اليوم التالي إلى الغابة. وبعد أن مشى طويلا، لمح الحكيمَ جالسا بين الأشجار. ولما انتبه الحكيم لوجوده طلب منه أن يشاركه عشاءه المتقشّف، ففعل. ولما انتهيا من الأكل، سأله الحكيم عن سبب مجيئه الى الغابة. فقال: لقد أراد والدي الملك العظيم أن أعرف ما إذا كنت قد أصبحت مهيّئا لخلافته. فهل يمكنك أن تساعدني في معرفة الجواب؟
    وفهم الحكيم الرسالة العميقة التي أراد الملك أن يوصلها. فقال للأمير: حسنا ستنام هنا الليلة. وفي صباح الغد، إستيقظ مبكّرا واذهب إلى الغابة، واقضِ اليوم كلّه هناك ثم عُد إليّ مع غروب الشمس". أثار طلب الحكيم حيرة الأمير. لكن يجب عليه أن يسايره على أيّ حال، فذهب لينام. وفي الصباح، استيقظ الأمير باكرا وذهب إلى الغابة، ثم عاد عند غروب الشمس، ووجد الحكيم غارقا في تأمّله فانتظره حتى انتهى.
    ولما فتح الحكيم عينيه سأل الأمير: أخبرني الآن ماذا لاحظتَ في الغابة؟". فكّر الأمير قليلا محاولا تذكّر ما رآه ثم قال: عندما وصلت الى هناك، سمعت نهرا عظيما، ثم سمعت شجرة كبيرة تسقط، ثم سمعت فيلا يسحب العشب ويأكل، ثم صادفت شلالا هادرا. وخلال عودتي كان هناك رعد وبرق".
    سمع الحكيم كلام الأمير وهو يبتسم، ثم قال له: من فضلك إذهب وأخبر والدك أنك غير مستعدّ بعد لتصبح ملكا. ثم عُد الى هنا بعد عام". أصاب الأمير الإحباطُ من كلام الحكيم، لكنه التزم الصمت وعاد إلى والده. وعندما نقل إليه الخبر، قال والده بهدوء: حسنا بعد عام عُد الى الحكيم وانتظر ما سيقوله لك".
    ومرّ عام انشغل الأمير خلاله بمساعدة والده في إدارة شئون المملكة. وفي نهاية العام ذهب لمقابلة الحكيم. وعندما وصل الى الغابة كرّر عليه الحكيم نفس الطلب: اذهب إلى الغابة غدا واقضِ يومك هناك. ثم عُد عند غروب الشمس وأخبرني بما لاحظته".
    وعند عودته، قال الأمير للحكيم: رأيت ثورا يبحث عن الطعام، وسمعت صوت جدول يتدفّق على منحدر صغير، ورأيت سنجابا يطارد آخر، ورأيت ابن آوى يندفع عائدا إلى مسكنه، ورأيت ثعبانا يزحف على العشب الجافّ باتجاه الجدول".
    ابتسم الحكيم وقال: لست مستعدّا بعد لأن تصبح ملكا. إذهب وتعالَ بعد عام". غضب الأمير ممّا سمع لكنه لم يقل شيئا. وعاد وسأل والده ما إذا كانت تلك مزحة، ملمّحا إلى احتمال أن يكون الحكيم قد أصابه الخرَف. فقال والده: ثق بي يا بني، أنا متأكّد ممّا يقوله ويفعله ذلك الرجل".
    هزّ الأمير رأسه وواصل أنشطته اليومية كالمعتاد. وكان يراقب والده وهو يتخذ القرارات المهمّة المتعلقة بالاقتصاد والزراعة والقضاء والضرائب والعلاقات مع الممالك المجاورة وغير ذلك من الأمور.
    ومرّ عام آخر. وللمرّة الثالثة، عاد الأمير إلى الغابة ليقابل الحكيم. وابتسم له الحكيم لمّا رآه وسأله: والآن هل أصبحتَ على دراية بما يجب عليك فعله؟" أومأ الأمير برأسه، وذهب مباشرة إلى الغابة.
    وعند عودته، قال الأمير للحكيم: اليوم، سمعت النمل يزحف، ورأيت النحل يطنّ، وشاهدت حلزونا ينزلق على العشب، ورأيت ورقة تسقط بهدوء من شجرة. وشممت الزهور التي كان لكلّ منها عطر مختلف، وشربت من مياه النهر، وسمعت الصمت بين ملايين الأصوات في الغابة".
    سمع الحكيم كلام الأمير وهو يبتسم ثم قال له: الآن أنت مستعدّ لأن تصبح ملكا. إذهب وأخبر والدك أن يرتّب لعملية تتويجك في أقرب فرصة." كان الأمير سعيدا ولكنه حائر. لذا توجّه بالسؤال الى الحكيم قائلا: أيها الحكيم! هل يمكنك مساعدتي في فهم اختبارك للاستعداد لتولّي الملك؟"
    وردّ الحكيم: الأمر بسيط. في المرّة الأولى التي أتيتَ إليّ فيها، أمكنكَ ملاحظة الأشياء الأكبر والأصوات الأعلى فقط. وعلى مدار العامين التاليين، أمكنكَ رؤية وسماع الأشياء والأصوات الأصغر وحتى الصمت. والملك العظيم هو الذي يمكنه الاستماع إلى أصغر الأصوات، وأهمّ من ذلك.. الصمت!"
    وفهم الأمير هذا الدرس الثمين، وعاد الى والده الملك ونقل إليه رأي الرجل الحكيم. وبعد أسبوع نُوديَ به ملكا على البلاد. وبعد فترة أصبح مضربا للمثل في العدالة وحبّ الخير لشعبه والتفاني في خدمته.

  • Credits
    renemagritte.org
    visions.az

    الأربعاء، أكتوبر 16، 2024

    ثورو عن العزلة


    إن كنت قد سئمت من التعامل مع البشر وترغب في إتقان فنّ العزلة المفكّرة والمتأمّلة، فهذا الكتاب هو دليلك المناسب لفعل ذلك وللبقاء على قيد الحياة. فقط تأكّد من أن لديك مقصورة مناسبة وإمدادات كافية من الطعام وكرّاسا للكتابة واستعدادا لتقطيع الحطب وجلب الماء من الغدير أو النهر القريب.
    إسم الكتاب "والدن"، أو الحياة في الغابات، لمؤلّفه المفكّر والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817 - 1862).
    كان ثورو خرّيجا لهارفارد ومعلّما سابقا وشاعرا وكاتب مقالات. وكان جزءا من مجموعة "كتّاب التسامي" الذين ظهروا في بداية القرن التاسع عشر في نيو إنغلاند. وهو يجمع في كتاباته بين الفلسفة والنثر والشعر والطبيعة والتفكير النقدي والمساعدة الذاتية.
    وقد ألّف هذا الكتاب أثناء إقامته في "والدن" في كونكورد بماساتشوستس لأكثر من عامين وشهرين. وكانت بِركة والدن وجوارها مملوكة لصديقه رالف إيمرسون الذي منحه حرّية استخدامها، فبنى ثورو كوخاً بالقرب من حافّة المياه ليعيش فيه. وخلال إقامته هناك، لم يكن منعزلاً تماما. كانت عمّته وابنة عمّه تزورانه كثيراً وتُحضران له الوجبات وتأخذان ملابسه المتّسخة لتنظيفها.
    في مقدّمة كتابه يقول ثورو: لقد ذهبت إلى الغابة لأنني كنت أرغب في أن أعيش حياة مدروسة، وأن أواجه فقط الحقائق الأساسية للوجود، وأن أرى ما إذا كان بإمكاني أن أتعلّم ما يجب أن تعلّمني إيّاه الحياة، لئلا أكتشف عندما يحين موعد موتي أنني لم أعِش. لم أكن أرغب في أن أعيش ما ليس حياة، فالحياة عزيزة للغاية. كنت أريد أن أعيش بعمق وأن أمتصّ كلّ رحيق الحياة وأن أعيش بطريقة تشبه أسلوب عيش الإسبارطيين بحيث أهزم كلّ ما ليس حياة".
    الدرس المهم الذي تَعلّمه ثورو في عزلته هو أن الأشياء التي نشعر بأننا بحاجة إليها لنكون سعداء لا يمكن العثور عليها إلا من خلال الطبيعة". وأفكاره حول الحياة البسيطة جديرة بالثناء، وهي بمثابة نسمة من الهواء النقيّ في مجتمع حديث يركّز على المادّيات.
    وهو يرى أن الكثير من المجتمع الحديث يعمل على عكس طبيعة الإنسان، وبالتالي فإن البشرية أصبحت تشعر بخيبة الأمل والتعاسة بشكل متزايد. كما يعلّمنا أن نكون مستقلّين وأن نتبع الطبيعة لنعيش حياة سعيدة. وبدلاً من وضع فلسفات فكرية معقّدة من شأنها أن تعكّر صفو حياتنا البسيطة، يجب أن نثق في أحكامنا ونسير على إيقاع طبولنا الخاصّة.
    كان ثورو يريد أن يعيش ببساطة قدر الإمكان وأن يُهدر أقلّ قدر ممكن من الوقت والطاقة في كسب لقمة العيش كي يتمكّن من الاستمتاع بحياته بالفعل وتكريسها للتعلّم وتطوير نفسه.
    ومن أجل تحقيق ذلك يقدّم للقارئ جملة من النصائح: عِش حياتك ودع بوصلتك الأخلاقية الداخلية ترشدك، وثق بنفسك، واتبع أحلامك، وانبذ الأفكار السخيفة حتى لو كان الجميع يؤمنون بها، ولا تتنازل عما يتعارض مع نزاهتك، وابحث عن الحقيقة في الفاصوليا التي تنمو في الأرض والبوم الذي ينادي في الليل والثعالب التي تهرول على الثلج في الشتاء والديك الذي يصيح عندما تشرق الشمس، وتذكّر أنك كائن روحي، واعرف أن هذه الحياة وُجدت للاستمتاع بها والاحتفال بها وأن أفضل طريقة لتفعل ذلك هي أن تعيشها على أكمل وجه.
    فترة إقامة ثورو في "والدن" أنتجت عملاً أدبيّا في الفلسفة السياسية بلغ من العمق حدّاً جعله يصل إلى عقول المهاتما غاندي ومارتن لوثر كنغ بعد أكثر من قرن من الزمان. كما ساعد في بناء المشاعر المناهضة للحرب في الجامعات الأميركية.
    يقول ثورو: كثيرا ما أجد من المفيد أن أكون بمفردي. فالتواجد في صحبة، حتى مع أفضل الناس، سرعان ما يصبح مرهقا ومُضجِرا. إنني أحبّ أن أكون بمفردي. ولم أجد رفيقا أفضل من الوحدة.
    وقد تعلّمتُ من تجربتي أنه إذا تقدّم المرء بثقة باتجاه أحلامه وسعى إلى عيش الحياة التي تخيّلها، فسوف يلقى نجاحا غير متوقّع ويتجاوز حدودا غير مرئية ويعيش بحريّة في مرتبة أعلى من بقيّة الكائنات".


    كان أتباع فلسفة التسامي الأمريكيون، بمن فيهم ثورو، يمارسون شكلاً من أشكال الإنسانية المسيحية. وربّما لو عاشوا الى اليوم لصُنّفوا باعتبارهم ديمقراطيين اشتراكيين. فقد كان لهم تأثير على التطوّر الفكري في نيو إنغلاند يتخطّى كلّ الحدود، مع أن عددهم لم يكن يتجاوز بضع عشرات من الأشخاص.
    أما عن تأثير ثورو وكتاباته، فربّما كانت كلمات صديقه رالف إيمرسون هي الأفضل للتعبير عن مبلغ هذا التأثير. فقد أشاد إيمرسون بثورو قائلا: لم يكن هناك رفيق مساوٍ له في نقائه وخلوّه من النفاق. وأعتقد أن مُثله العليا حالت دون حصوله على القدر الكافي من الاكتفاء الذاتي في المجتمع البشري".
    كان ايمرسون يتذكّر ثورو دائماً باعتباره أفضل صديق له. حتى عندما كان فقدان ثورو للذاكرة متقدّماً إلى الحدّ الذي لم يعد معه قادراً على تذكّر اسمه قال عنه ايمرسون: كان المشي معه متعة وامتيازا. كان يعرف البلاد كما يعرفها الثعلبُ أو الطائر، ويمرّ بها بحرّية من خلال مساراته الخاصّة. وكان يعرف كلّ أثر في الثلج أو على الأرض وأيّ مخلوق سلك هذا المسار من قبله. وكان يحمل تحت ذراعه كتابا عن النباتات وفي جيبه مذكّراته وقلمه ومنظارا للطيور ومجهرا وسكّينا وخيوطا. وكان يرتدي قبّعة من القشّ وحذاء متيناً وسراويل رمادية قويّة ليتحدّى أشجار السنديان والشجيرات ويتسلّق شجرة من أجل عشّ صقر أو سنجاب."
    يقول ثورو في مكان آخر من الكتاب: إذا كنتَ قد بنيتَ قلاعا في الهواء، فإن عملك لن يضيع لأن هذا هو المكان الذي يجب أن تكون فيه. والآن ضع أساسات تحت القلاع.
    ومهما كانت حياتك صعبة، واجهها وعِشها، لا تتجنّبها وتُطلق عليها صفات قاسية. إنها ليست بهذا السوء الذي تتصوّره. إن من يبحث عن العيوب سيجدها حتى في الجنّة. أَحبّ حياتك مهما كانت بائسة".
    كتاب ثورو ممتع ويمكن أن يعلّمنا الكثير. ولا تصدّق الفكرة الخاطئة الشائعة عن الرجل بأنه كان منفصلاً تماما عن المجتمع. كان إنسانا متفائلاً وكاريزماتيّاً وإنسانوياً. وهو يقدّم للقارئ دليلا لكي يعيش حياة كاملة حتى لا يندم عندما يموت.
    يقول في إحدى فقرات الكتاب: أخبرَني أحد معارفي الشباب، الذي ورث بعض الأفدنة عن والده، أنه يريد أن يعيش مثلي إذا كانت لديه الوسائل. لكنّي لا أريد لأيّ شخص أن يتبنّى أسلوبي في العيش لأيّ سبب. أتمنّى أن يكون هناك أكبر عدد ممكن من الأشخاص المختلفين في العالم، وأريد أن يحرص كلّ شخص على اكتشاف طريقه الخاص، وليس أسلوب أبيه أو أمّه أو جاره.
    ويقول أيضا: ينشغل الكثير من الناس بغسل جزيئات الذهب من مياه الأنهار. لماذا لا أقوم بغرس عمود من الذهب بداخلي وأعمل على استخراجه من منجمي!
    إذا كان النهار والليل على هذا النحو الذي يجعلك تستقبلهما بفرح، والحياة تنشر عطراً كشذى الأزهار والأعشاب العطرية، فهذا دليل على نجاحك وسعادتك".
    ويقول في مكان آخر: إن قراءة كتب التاريخ الطبيعي هي من أكثر المتَع المبهجة في فصل الشتاء. فعندما يغطّي الثلج الأرض، أقرأ بمتعة كبيرة عن أشجار الماغنوليا وجزر فلوريدا ونسمات البحر الدافئة، وعن سياج الأشجار وأشجار القطن وهجرة طيور الأرز، وعن نهاية الشتاء في لابرادور وذوبان الثلوج في نهر ميزوري، وأدين بالمزيد من الصحّة لهذه الذكريات عن الطبيعة الخصبة.
    لكن وكما هو الحال مع كلّ كاتب، كان لثورو نقّاد ومعترضون. يقول أحدهم متحدّثا عن صعوبة بعض كتاباته: تكمن المشكلة في التدفّق المتعرّج لعقله وهو يفكّر بعمق في بعض مواضيعه. أحيانا يكون ما يقوله مباشرا وواضحا، خاصّة عندما يصف بيئته الطبيعية والعالم الجغرافي لنيو إنغلاند.
    لكن أحيانا ينقل ثورو رسائل أعمق إلى القارئ وكأنه يقول: إتبعني عبر عقلي المعقّد وانظر إن كنت تستطيع ملاحقتي". وهذا على الأرجح هو ما منع ثورو من إحداث تأثير حقيقي خلال حياته على العالم الأوسع. فعندما يتعمّق الشخص في أفكاره ويرغب في أن يسكن الآخرون معه فيها، فإن هذا غالبا ما يخيف الناس منه ويدفعهم للابتعاد عنه".
    توفّي هنري ثورو بمرض السلّ في مايو عام 1862. وكان عمره 44 عاما. ورغم أنه لم يأخذ حقّه من التقدير في حياته، إلا أنه يُعتبر اليوم واحداً من أعظم الكتّاب في الأدب الأميركي وأحد الآباء المؤسّسين لحركة الحفاظ على البيئة. كما أصبح كتاب "والدن" من الكتب المقرّرة في العديد من المدارس هناك.

    Credits
    thoreausociety.org