لو كان انتونيو فيفالدي ما يزال حيّا لكان عمره اليوم 330 عاما. ورغم أن هذا مجرّد افتراض بعيد الوقوع، فإن الأمر المؤكد هو أن فيفالدي ما يزال حيّا بالفعل من خلال موسيقى كونشيرتو الفصول الأربعة الذي ما يزال يعزف إلى اليوم ويستمتع به الناس ويتحدّثون عنه بعد كلّ هذه السنوات الطويلة.
وهناك شبه إجماع في أوساط المهتمّين بالموسيقى بأن هذا الكونشيرتو الذي كتبه فيفالدي وعمره لا يتجاوز الخامسة والعشرين هو أشهر عمل موسيقي كلاسيكي، بل وأكثر الأعمال الموسيقية رواجا وشعبية على مرّ العصور.
انه حتى أكثر شعبية وانتشارا من السيمفونية الخامسة لـ بيتهوفن أو السيمفونية الأربعين لـ موزارت أو موسيقى الماء لـ هاندل ومن وترية بــاخ ومن كارمن لـ جورج بيزيه ومن كونشيرتو البيانو لـ تشايكوفسكي ومن مارش كلارك ومن تأمّل شومان الصامت ومن شهرزاد كورساكوف ..
لكن كيف تحقق ذلك؟ كيف أمكن لبضع نوتات موسيقية كتبت على ورقة صغيرة قبل ثلاثة قرون أن تعيش طوال هذه السنوات بل وأن تصبح برأي بعض النقاد احد أشهر معالم الألفية الماضية دون أن يخفت بريقها أو يخبو سحرها أو يتوقف الناس عن سماعها.
قد يكون احد الأسباب – بالإضافة طبعا إلى جودة الموسيقى وقيمتها الإبداعية - هو أن العالم يتغيّر باستمرار لكنّ ما بداخلنا لا يتغيّر. والإنسان عادة يحتاج للراحة والتأمّل اللذين توفرهما الموسيقى وهو لا يهتم كثيرا مثلا بمن كتب الموسيقى ولا في أي عصر ظهرت.
وفي حالة الفصول الأربعة على وجه الخصوص فإن الارتباط الحميم بين الإنسان والطبيعة، يعدّ عنصرا إضافيا مهمّا في رواج هذا العمل الموسيقي وانتشاره.
في العام 1703 كان فيفالدي يعمل مدرّسا للموسيقى في ملجأ للأيتام بمدينة فينيسيا. وكانت مهمّته تعليم الفتيات العزف على الكمان. وقد خامرته فكرة انجاز هذا العمل في تلك الفترة بالذات.
وزمن فيفالدي كانت الفصول حاضرة بقوّة في حياة الناس. كان بعضها رمزا للخير والوفرة والنماء، وكان بعضها الآخر يحمل معه نذر الشؤم والخراب على هيئة ثلوج وعواصف وفيضانات تتلف الزرع وتدمّر المحاصيل وتتسبّب في نشر الجوع والفقر والمعاناة.
وقد وظفت موسيقى الفصول الأربعة في عدد من الأفلام السينمائية والبرامج الوثائقية والإعلانات وخلافها. وعندما ظهر الكونشيرتو لأوّل مرة في العام 1725 ، راق كثيرا للملك الفرنسي لويس السادس عشر لدرجة انه كان يأمر بعزف موسيقى الربيع في المناسبات التي كان يقيمها لضيوفه.
ويعتبر الكونشيرتو من أفضل الأعمال الموسيقية التي الفت في عصر الباروك. وقد حرص فيفالدي على أن يكتب سوناتا وصفية لترافق كلّ حركة من حركات الفصول.
الحركة الأولى من "الربيع" تعكس إحساسا بالسعادة والفرح. تبدأ الموسيقى خفيفة مبهجة وهي تعلن مقدم الربيع. وأصوات الكمان تتداخل مع بعضها وكأنها عصافير ترفع أصواتها بالإنشاد والتغريد فرحا بقدوم فصلها الأثير.
الحركة الثانية صامتة كما يعبّر عنها صوت الكمان الهادئ. المروج مزهرة والقطيع نائم والأنهار والغدران ممتلئة بالماء والرعاة في حالة خلوة وتأمّل.
في الحركة الثالثة تعود الطيور مجدّدا للغناء. المياه صافية ورقراقة والأزهار متفتّحة والأغصان نضرة والحداة يرفعون أصواتهم بالغناء. لكن هناك في الجو ما ينبئ باقتراب موعد العاصفة.
الحركة الأولى من "الصيف" بطيئة وكسولة. انه أحد أيام الصيف القائظة. الشمس حارقة والرياح تهبّ بخفّة. لكن سرعان ما يعلو الإيقاع وتتسارع وتيرته مع قرب هبوب العاصفة. هنا يدخل التشيللو بحشرجته وصوته المفرغ معلنا وصول رياح الشمال.
الحركة الثانية ساكنة، وقورة. كل شيء هادئ عدا أن هذا الوقت هو الوقت الذي تتجمّع فيه الغيوم في السماء.
الحركة الثالثة مجلجلة وعاصفة. والتشيلو والآلات الوترية تعطي انطباعا عن قوّة الريح وتأثيرها المدمّر.
في الحركة الأولى من "الخريف" صورة لطيور مهاجرة تعبر الأفق مؤذنة بمقدم الخريف. ثم هدوء. هنا يمكن استحضار صور لسيول وبرق ورعد، وروابي وتلال مغسولة بالمطر.
في الحركة الثانية تدخل الآلات الوترية والاكورديون لتشيع جوّا من الدعة والاسترخاء. فالنسيم عليل والرياض مبتسمة والورود متألقة. بوسع السامع أيضا أن يتخيّل الفلاحين وهم يستمتعون بالحصاد بينما يسلم البعض الآخر منهم نفسه للنوم الهادئ.
الحركة الثالثة متوثبة وسريعة. هذا هو موسم الصيد. والصيّادون يتأهّبون ببنادقهم وكلابهم لجني صيد وافر. ووسط الغبار والمعمعة تجاهد الحيوانات الجريحة للفرار بيأس.
الحركة الأولى من "الشتاء" متوتّرة وجامحة. واهتزاز أوتار الكمان يعزّز الإحساس بالبرد القارس والرياح الباردة. الثلج يغطي الطبيعة وبرودة الجو تلفح الوجوه.
في الحركة الثانية نتخيّل الأرض وقد اكتست بحلة من الثلج الأبيض الناصع. والمشي فوق الثلج يتطلب الحذر خوف الانزلاق والسقوط. هذه الحركة لا يمكن وصف رقتها وشاعريتها وأناقتها. الموسيقى هنا منسابة في رفق، حزينة .. تخالطها نشوة راقصة. مدّتها بالكاد دقيقتان لكنها ممتعة، مرهفة، عذبة وتعلق في الذهن بسهولة. تسمعها فتحسّ أن الوقت توقف أو كأنك تقف على مشارف حلم..
الحركة الثالثة تعطي انطباعا عن الجلوس إلى جانب النار. وقرب نهايتها يتسارع صوت الكمان كما لو أننا نسمع وقع جياد تعدو. انه الإعلان عن نهاية الشتاء وعودة دورة الفصول من جديد.
كانت الموسيقى في روما آنذاك تشهد ذروة نشاطها وتوهّجها. وكان موسيقيون لامعون مثل سكارلاتي وكوريللي وهاندل جزءا لا يتجزّأ من المناخ الثقافي السائد في ذلك الوقت.
ومن خلال الفصول الأربعة استطاع فيفالدي إضفاء طابع وصفي على الموسيقى تلعب فيه الوتريات الدور الرئيسي. وبفضله أصبح للموسيقى الايطالية نكهة خاصة ومتفرّدة لا تخطئها الأذن.
ومن الغريب أن هذا الكونشيرتو، من بين 5000 عمل موسيقي آخر ألفها فيفالدي، هو الوحيد الذي ذاع واشتهر. وقد جنت شهرة الفصول الأربعة على أعمال موسيقية أخرى لـ فيفالدي لا تقلّ جمالا.
الشعبية الكاسحة التي تمتعت بها الفصول الأربعة عزّزت جاذبيتها لدى العازفين والموزّعين الموسيقيين وجمهور الناس على السواء.
وقد ظهرت الفصول الأربعة في مئات التسجيلات. وكلّ منها يحاول تقديم العمل وترجمته من منظور مختلف. لكن يمكن التوقف عند أربعة تسجيلات: الأول لعازف الكمان البريطاني نايجل كينيدي. هذا التسجيل ظهر عام 1989 ليكسر كل الأرقام القياسية السابقة في تسجيلات الموسيقى الكلاسيكية وليصبح بالتالي أكثر تسجيلات الفصول الأربعة مبيعا في جميع الأوقات.
وهناك أيضا تسجيل جميل آخر لعازفة الكمان الروسية فيكتوريا مولوفا تحت قيادة المايسترو كلاوديو ابادو.
ثم هناك تسجيل عازف الكمان الأمريكي غيل شاهام تحت قيادة اوركسترا اورفيوس. والتسجيل الرابع لعازفة الكمان الأمريكية من أصل كوري ساره تشانغ.
لكن هناك توزيعين للفصول يعتبران من بين التوزيعات الأكثر خصوصية وتفردّا؛ الأول للألمانية آنا زوفي موتار التي عزفت الفصول الأربعة مع المايسترو العبقري هيربرت فون كارايان والثاني للهولندية جانين يانسن. موتار مبهرة ويانسن متميّزة وترجمتهما للفصول الأربعة تنطوي على ابتكار وتجديد من نوع خاص.
عندما يأتي الحديث على كونشيرتو فيفالدي، سرعان ما نتذكّر سيمفونية بيتهوفن السادسة المعروفة أكثر بسيمفونية الرُعاة The Pastoral Symphony . الحركة الثانية من هذه السيمفونية، وهي بالمناسبة من ارقّ وأجمل أعمال بيتهوفن ومن أكثرها استدعاءً للتأمّل، تبدأ بتصوير حركة انسياب الماء في الغابة. وقبل نهايتها نسمع غناء وشدو الطيور. وكلّ ذلك من خلال تطويع أصوات آلات الفلوت والاوبو والكلارينيت لتحاكي الأصوات الإيقاعية في عالم الطبيعة.
إن الفصول الأربعة حافلة بالمعاني الدرامية والتلاوين التصويرية. وفيفالدي قد يكون موسيقيا في الأساس، لكنه هنا يمسك بريشة رسّام يجلب معه ألوانه وعدّة الرسم الأخرى ليرسم لوحات ذات ألوان متنوّعة، قشيبة وزاهية تجذب الأنظار وتخلب الألباب.
وهذا يشي بالعلاقة النفسية والروحية التي تربط الموسيقي بالطبيعة. فقد كان فيفالدي مندمجا كلية بالطبيعة، مصغيا على الدوام لأصواتها وأنغامها وأسرارها ومكنوناتها. وقد ساعده إحساسه القويّ بالحياة ونقاء روحه وقوّة ملكته التعبيرية على إبداع هذه الموسيقى الخالدة والعظيمة.
توفي فيفالدي في فيينا يوم 28 يوليو 1741 بعد أن داهمته أزمة ربو حادّة. وهو المرض الذي لازمه طيلة حياته. ومثل موزارت، الذي توفي بعد ذلك بخمسين عاما، مات فيفالدي شبه منسي ولم يحظ بجنازة تليق به.
وبعد وفاته ذهب هذا الموسيقي المبدع في غياهب النسيان ولم يعد احد يتذكّره سوى بالكاد. لكن شعبيّته سرعان ما بعثت من جديد في مستهلّ القرن الماضي مع إعادة اكتشاف الفصول الأربعة التي أصبحت منذ ذلك الحين إحدى العلامات الفارقة والمهمّة في تاريخ الموسيقى العالمية.
studycorgi.com