:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الجمعة، مارس 31، 2006

حالات الوعي المتغيّرة

إنني جئتُ وأمضي وأنا لا أعلـمُ
أنا لغز وذهابي كمجيئي طلسـمُ
والذي أوجد هذا اللغز لغز مبهمُ
لا تجادل ذا الحجا من قال إني لستُ أدري!
- إيليا أبو ماضي

قبل حوالي العام أصيب أحد زملائنا بمرض عضال لم يكن من المتيسّر علاجه أو البرء منه. وكان يعرف طبيعة مرضه ويدرك انه لن يظلّ على قيد الحياة اكثر من أسابيع معدودة.
كنت أواظب على زيارته في المستشفى وكان أقاربه ومحبوه يحيطون به ويولونه عنايتهم وعطفهم.
وفي أيامه الأخيرة تحوّل إلى بقايا إنسان واستحال ذلك الجسد المعافى إلى مجرّد هيكل عظمي، فشحب لونه وغارت عيناه واختفى منهما رفيف الأمل وبريق الحياة.
وفي مثل تلك المواقف لا يعرف الإنسان ما يقول. هل يدعو الله للمريض بالعافية حتى وهو يعرف أن ذلك مستحيل، أم يسأل الله له حسن الختام، الأمر الذي قد يثقل على مشاعر أهل المريض وأقربائه.
بعض من كانوا يزورونه في المستشفى كانوا يكثرون له الدعاء بأن يرفع الله عنه مصيبته ويهبه الصبر والقدرة على تحمّل ذلك الاختبار العسير. والبعض الآخر كانوا يحضرون معهم زجاجات دهن الطيب يدسّونها في يد والد المريض أو أحد اخوته ثم يتبعون ذلك بعبارات هامسة ووجلة تحمل معاني الدعاء بالسلوان والاصطبار.
وقد لاحظت في بعض زياراتي أن ذلك الزميل كان يطيل النظر في بعض زوّاره ويتمتم بكلام غير مفهوم وتصدر عنه بعض الحركات والهمهمات التي ربما كانت لا إرادية وقد يكون الأمر غير ذلك.
في ما بعد سألت طبيبا متخصّصا عن طبيعة الأفكار والهواجس التي تنتاب الإنسان وهو على حافّة تلك التجربة الوجودية الرهيبة أي الموت. فقال: الحقيقة أن الموت تجربة قاسية وعصيبة خصوصا للأفراد الذين يعرفون أن حالاتهم ميئوس منها. والمشاعر التي تنتاب هؤلاء هي في الغالب عبارة عن اضطرابات سلوكية شديدة من قبيل القلق الشديد والهذيان وفقدان الاتصال بالواقع من حولهم.
ويضيف: هناك قصص موثّقة عن حالات لمرضى ميئوس من شفائهم قالوا لأطبائهم أو أقاربهم انهم كانوا يرون وجوه بعض أقربائهم الذين سبقوهم إلى الدار الآخرة. والبعض الآخر قالوا انهم رأوا الملائكة أو الله. وهناك مرضى آخرون تحدّثوا عن رؤى مخيفة وقالوا انهم كانوا يرون عناكب وحشرات ضخمة تزحف على جدران الغرفة والأرضية.
لكن هذا النوع من الرؤى يحدث في المراحل المتأخرة من حياة الشخص المريض عندما لا يفصله عن الموت سوى أيام مثلا. لكن قبل ذلك يحدث أن يأخذ المريض بعض المبادرات الواعية كأن يستعرض بينه وبين نفسه شريط حياته الماضية ويصلح علاقته مع بعض أفراد عائلته أو أصدقائه. وفي هذه المرحلة قد يثير مع نفسه تساؤلات وشكوكا عن مغزى الدين وجدوى الإيمان.
ويتردّد في الأوساط الطبية والروحية الآن الكثير من الحديث عن حالات الوعي المتغيّرة والتي يرى فيها بعض العلماء تفسيرا للمشاهد والوجوه التي يراها الشخص قبيل وفاته.
ويشرح أحدهم ذلك بالقول إن الإنسان في حالة وعيه الطبيعي يعمل ويتفاعل مع الناس والأشياء من حوله من خلال ذبذبات تسمح له بإرسال واستقبال التجارب المشتركة. لكن عند اقتراب الإنسان من الموت، فإن تلك الذبذبات تتحوّل وتتبدّل بما يسمح للمريض بتلقي إشارات أخرى من عوالم لا نحسّ بها ولا نتبيّن كنهها.
وليس ثمّة بعد من دليل علمي قاطع يؤكّد أو ينفي حقيقة ما يقال عن تلك الموجات أو التردّدات والتحوّلات التي تطرأ عليها. لكن من يؤكّدون وجودها يستشهدون بما يراه النائم أثناء أحلامه الليلية التي يستقبل خلالها إشارات وصورا خارج نطاق وعيه الطبيعي.
لقد توفي ذلك الزميل العزيز بعد معاناة طويلة مع المرض وعبر بوّابة الموت كما عبرها كثيرون غيره. وما يزال السؤال اللغز يطرح نفسه بقوّة على ألسنة الشعراء والمفكّرين والفلاسفة: ترى من أين أتينا والى أين سنمضي؟!