:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، مايو 04، 2011

جَسر الهوّة من خلال الفنّ



كان تأثير العالم الإسلامي على عصر النهضة الايطالي حقيقيا، وإن كان هامشيا إلى حدّ ما.
في عصر ميكيل انجيلو وليوناردو دافنشي كان من الخطر عبور التقسيم الثقافي لمنطقة البحر المتوسّط. فـ ميكيل انجيلو الذي كان يؤمن بالمسيحية إيمانا عميقا رفض دعوة السلطان التركي لأن يبني جسرا في القسطنيطينية. وفضّل بدلا من ذلك أن يستمرّ في رسم سقف كنيسة سيستين.
في بداية القرن السادس عشر أسرّ ميكيل انجيلو لتلميذه اسانيو كونديفو انه دُعي من قبل حكّام القسطنيطينية الأتراك ليذهب إلى هذه المدينة الأسطورية شرق المتوسط كي يبني جسرا. لكن ميكيل انجيلو رفض الذهاب إلى اسطنبول، كما أصبحت تُسمّى اليوم، لأن ذلك كان بمثابة خيانة منه لإيمانه المسيحيّ.
وفي ذلك الوقت، أي حوالي العام 1506، كان لديه سبب وجيه لأن يهرب من ايطاليا. فقد كان على خلاف مع راعيه وربّ نعمته، أي البابا يوليوس الثاني، الذي كان رجلا مخيفا جدّا.
وكان بإمكان ميكيل انجيلو أن يتجنّب غضب البابا وذلك بالهرب من المسيحية نفسها. لكن ذلك كان ثمنا باهظا بالنسبة لهذا الفنّان الذي كان صاحب قناعات دينية عميقة.
وعلى ما يبدو، كان منافسه ليوناردو دافنشي أكثر تعرّضا للإغراءات. ويظهر انه استُشير، هو أيضا، حول مشروع الجسر من قبل نفس المبعوثين الأتراك الذين اقتربوا من ميكيل انجيلو في وقت سابق.
تصاميم الجسر باقية في مذكّراته التي تركها. وهناك وثيقة في أرشيف اسطنبول تُظهِر دافنشي وهو يدعو الله ويتعهّد بالعمل لمصلحة السلطان. كما توجد أيضا ملاحظات أخرى ترسمه وهو يحلم بالشرق.
لكنّ أيّا من الرجلين لم يذهب إلى اسطنبول أو إلى أيّ مكان آخر في الشرق. لقد بقيا في موطنهما. ومن السهل اليوم أن نتخيّل معرضا أو كتابا ينسج قصّة فاتنة عن ليوناردو في ارض الإسلام. لكن هذا لم يحدث أبدا، وإن كان الخط الفاصل بين الشرق والغرب قد تمّ عبوره في أزمنة تالية.
العلاقة بين عصر النهضة الايطالي والعالم الإسلامي علاقة مشوّقة. ويعتقد الكثيرون أن النهضة بدأت من خلال التقاء العلوم الشرقية والغربية عندما فرّ علماء الإغريق من وجه الغزو التركي لـ اسطنبول في العام 1453م.
لكن هناك من يعتقد أن هذه الفكرة مجرّد كليشيه. وأبلغ منها الفكرة التي تقول إن الجذور القروسطية لعصر النهضة تتضمّن تأثيرات عربية حقيقية من قبيل الأرقام الحديثة وبصريات المنظور والحكايات المثيرة لألف ليلة وليلة.
ورواج المعارض التي تركّز على رحلات رسّامي فينيسيا إلى البلاط العثماني يمكن اعتبارها ردا ليبراليا جديرا بالثناء على الصراعات الثقافية التي يشهدها عالمنا منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر. والرسالة الحضارية التي تحملها هي: دعونا نركّز، ليس على الحروب الدينية الدموية التي وقعت في الماضي، بل على الحوار وتبادل المصالح والمنافع.
في واقع الأمر، كانت ثقافة عصر النهضة خلاقة جدّا في داخلها بما يكفي لئلا ننسب انجازاتها المركزية إلى الخارج.
خذوا قصّة الحرير مثلا. في كتابه العظيم "اقتصاد فينيسيا في عصر النهضة"، يستكشف المؤرّخ ريتشارد غولدثويت طبيعة العلاقة التجارية التي ربطت ايطاليا بالشرق في القرون الوسطى. ويحلل المؤلّف عملية الابتكار المدهشة التي توصّل إليها التجّار الايطاليون آنذاك عندما بدءوا باستيراد السلع الحريرية من البلدان الإسلامية ليبيعوها إلى بارونات ومواطني الشمال الأوربّي. ولم يلبث أولئك التجّار أن بدءوا في إنتاج حريرهم الخاصّ. وأخيرا أصبحوا يصدّرون الحرير الممتاز إلى الشرق، أي أنهم قلبوا الطاولة.
ونفس الشيء حدث في فنّ عصر النهضة. فقد رسم فنّانو القرن السادس عشر السجّاد الشرقي الذي رأوا فيه تحدّيا بصريا مثيرا للاهتمام. وصوّروا تلك المنسوجات والأنماط المعقّدة بالألوان الزيتية، على نحو ما فعل هولبين.
كان عصر النهضة هو الفترة التي بدأت فيها أوربّا تحقّق قفزات في الداخل، وتضرب في الخارج بفضول وأحيانا بعدوانية، وفي مناطق بعيدة جدّا عن شواطئها وحدودها الخاصّة.
في فلورنسا القرن الخامس عشر، عاد مواطن من الشرق حيث كان يعيش. كان يرتدي جلبابا تركيا، وهو مشهد غير مألوف في ذلك الوقت. لكن هذا الشخص لم يكن مغامرا يعود ومعه الكثير من الحكايات الساحرة. في الحقيقة كان الرجل متآمرا حاول اغتيال لورنزو دي ميديتشي حاكم فلورنسا. وقد قُبض عليه في اسطنبول وجُرجر إلى وطنه ليموت فيها. وعندما تمّ شنقه كان ما يزال يرتدي جلبابه التركي. وقد صُورت الجثّة باهتمام كبير بالزيّ التركي من قبل الرسّام الشابّ في ذلك الوقت ليوناردو دافنشي.
لماذا شُنق هذا المجرم وهو يرتدي اللباس التركي؟
كان التجّار من فلورنسا يزورون الشرق باستمرار. لكنّ هذا الرجل اُظهِر بزيّه، ليس كرحّالة ولا تاجر، وإنما باعتباره خائنا لعالم المسيحية.
لقد كان ميكيل أنجيلو مدركا لعواقب قبوله مشروع الجسر التركي. إذ لم يكن آمنا عبور الفجوة الكبيرة التي كانت تفصل ما بين ضفّتي البحر المتوسط في ذلك الوقت. "مترجم".