امتلأ الجزء الداخلي من الحانة بالضحكات المصحوبة بصوت المطر. ونسي أهل القرية سلوكهم المتحفّظ والصامت المعتاد، وأخذوا يتبادلون الأحاديث والمزاح ونمت بينهم علاقة حميمية غامضة. ووجد الرجل الغريب نفسه منجذباً إلى الدائرة. وعندما عُرض عليه مشروب، شعر ببعض الراحة والاسترخاء. ثم تمتم قائلاً: هذه القرية تتغيّر عندما تمطر، أليس كذلك؟"
في النهاية، عندما توقّف المطر، ودّع أهل القرية بعضهم البعض، حاملين مشاعر دافئة في قلوبهم. وقال الرجل الغريب وهو يغادر: دعونا نلوذ بملجأ يحمينا كلّما أمطرت السماء".
كانت تلك الكلمات تحمل معنى أكبر من مجرّد تحيّة. كانت تذكيرا لأهل القرية بالروابط التي تشكّلت بينهم أثناء تواجدهم في ملجأ المطر وبأهميّة دعمهم لبعضهم البعض مستقبلا.
لكن بعد أن غادر الرجل، ارتفع ثانية جدار رقيق بين أهل القرية. نسي الجميع الحميمية اللحظية وعادوا إلى حياتهم اليومية الصامتة. فكّر الرجل بألم أن ملجأ المطر في القرية يشير إلى رابطة عابرة، وليس ارتباطا عميقا. وربّما كانت هذه هي الطبيعة الحقيقية لأهل القرية. الناس يجتمعون بسبب المطر، ولكن في لحظة سطوع الشمس يبدأون في المشي كلّ في مساره المنفصل.
❉ ❉ ❉
وعندما استيقظ، رسم لوحة للسمكة التي حلم بها. وفيما بعد مرض المعلّم، وبينما كان فاقدا للوعي، منحه إله البحر رغبته في أن يحوّله الى سمكة، مكافأة له على إنقاذه العديد من الأسماك خلال حياته. ولكن عندما أصبح المعلّم سمكة، أمسك به أحد أصدقائه وأكله. وهنا عاد المعلّم إلى جسده البشري ليواجه الصديق الذي أكله ولينتقم منه!
❉ ❉ ❉
يقول نيتشه: أنا معجب بشجاعة سقراط وحكمته، هذا الوحش الساخر عازف المزمار الأثيني، الذي جعل أكثر الشباب غطرسة يرتجفون ويبكون. لم يكن فقط أعقل ثرثار على مرّ العصور، بل كان عظيما بنفس القدر في الصمت.
تمنّيت فقط لو أنه ظلّ صامتا أيضا في لحظات حياته الأخيرة، لربّما حاز مرتبة أعلى روحيّا. لقد ذهب إلى موته بالهدوء الذي كان يغادر به المنتدى عند الفجر، وأصبح المثل الأعلى الجديد لشباب أثينا من النبلاء".
❉ ❉ ❉
❉ ❉ ❉
ومن لوحات ماليفيتش المعروفة "رجل إنغليزي في موسكو" التي رسمها عام 1914. ورغم أنها ليست لوحة تجريدية بحتة كأعمال ماليفيتش اللاحقة ذات الملمح "التفوّقي"، إلا أنها تتميّز بتركيز واضح على التجريد والأشكال الهندسية وتمتليء بالنصوص والرموز. فهناك، مثلا، سمكة وسيف معقوف وشمعة وسلّم وسهم أحمر وملعقة حمراء. كما تتضمّن اللوحة أجزاءً من كلمات روسية مثل "جزئي" و"كسوف الشمس".
وبعض النقّاد يرون أنه قد لا يكون هذا المزيج من الأشياء والكلمات مترابطا، وقد تعني جميعها شيئا ما أو يفترض أنها توحي بشيء. المعروف أن ماليفيتش تأثّر بالأدباء الروس الطليعيين، وقد ضمّن نصوصا روسية ومقاطع نصّية واستعارات في لوحتين له على الأقلّ غير هذه.
لكن من هو "الرجل الإنغليزي" الذي يظهر في اللوحة مرتديا قبّعة عالية ومعطفا، ونصف وجهه مغطّى بسمكة بيضاء؟! أحد النقّاد يشير الى أن ماليفيتش يروي قصّة رحلة إنغليزي ذهب في زيارة الى موسكو. وفي هذه الحالة، فإن التفاصيل في الصورة تشير إلى ما قد يكون لاحظه هذا الرجل هناك، أي عام 1914، وبالتحديد قبل ثلاث سنوات من الثورة الروسية.
ويضيف أن العنوان يشير إلى قصاصات بصرية للأشياء التي لاحظتها عين هذا الأجنبي أثناء زيارته. والكلمات المجزّأة والمختلطة تصبح منطقية عندما يلاحظها شخص لا يفهم اللغة. والسيف المعقوف يبدو روسيّ الطراز، وهو شيء يمكن أن يلاحظه أجنبي ويعتبره غريبا.
لكن هناك أشياء أخرى في اللوحة لا يمكن تفسيرها بسهولة. مثلا لماذا يلفت انتباه رجل إنغليزي في موسكو مرأى سمكة بيضاء أو شمعة مضاءة مثلا؟! يبدو ان الصورة تشير الى عناصر لغز معقّد ومن الصعب تفسيره.
بالإضافة إلى استلهام ماليفيتش الكولاج التكعيبي، ربّما استوحى أيضا شيئا من أسلوب جورجيو دي تشيريكو الذي كان معاصرا له. لكن هناك من يقول إن الإنغليزي ليس إنغليزيا بالضرورة، بل يمكن أن يكون مجرّد استعارة تجمع الشرق بالغرب والمدينة بالريف.
وأيّا ما كان معنى اللوحة، وسواءً كانت الأشياء غير ذات صلة على الإطلاق أو تحمل نوعا من المعنى الرمزي، يبدو أن "الإنغليزي" في العنوان هو بريطانيّ بلا اسم ويرتدي ملابس أنيقة، وقد جاء إلى موسكو ليراقبها بعيون أجنبي.
ومع أن المعنى الكامن وراء اللوحة غير مؤكّد ومثير للجدل، إلا أن البعض يعتقد أنها ربّما كانت تعكس شغف ماليفيتش بثقافات أوروبّا الغربية.
❉ ❉ ❉
نعرف هذا لأن مجموع الأشخاص المحتملين الذي يسمح به حمضنا النووي يفوق بكثير مجموع الأشخاص الحقيقيين. وفي مواجهة هذه الاحتمالات المذهلة، أنا وأنت، في طبيعتنا العادية، نحن هنا. نحن القلّة المتميّزة الذين ربحنا يانصيب الميلاد رغم كلّ الصعاب، كيف نجرؤ على التذمّر من عودتنا الحتمية إلى تلك الحالة السابقة التي لم تنهض منها الغالبية العظمى أبدا؟ ريتشارد دوكينز
❉ ❉ ❉
تركتُ العالم يدبّر أموره.
في حقيبتي أرزّ يكفيني عشرة أيّام
وحزمة أغصان بجانب المدفأة.
لماذا أتحدّث عن الوهم والتنوير؟!
أجلسُ مسترخيا
منصتاً إلى مطر الليل على سطح منزلي
وساقاي ممدودتان. ريوكان
Credits
kazimir-malevich.org
kazimir-malevich.org