على الرغم من مرور أكثر من أربعين عاما على وفاته، ما يزال يُنظر إلى رينيه ماغريت باعتباره احد أكثر رسّامي القرن العشرين نفوذا وتأثيرا وبوصفه جزءا لا يتجزّأ من المشهد الثقافي لعصر ما بعد الحداثة.
وفي السنوات الأخيرة اكتسبت لوحاته اهتماما متزايدا من الناس والنقاد على حدّ سواء وأصبح بعضها ايقونات وعناصر ثابتة في الثقافة الشعبية ووسائطها المختلفة.
في الموسيقى، تروق مناظر ماغريت كثيرا لمطربي البوب الذين يزيّنون بها أغلفة موسيقاهم.
وفي السينما، ظهرت لوحته المشهورة ابن الإنسان التي تصوّر رجلا تحجب وجهه تفاحة خضراء في أكثر من فيلم سينمائي. ووظفت لوحته الأخرى إمبراطورية النور في تصميم الملصق الدعائي للفيلم المشهور The Exorcist أو طارد الأرواح.
وفي احد الأوقات ألف ميشيل فوكو، الفيلسوف والناقد الفرنسي، كتابا استوحى عنوانه من لوحة ماغريت "خيانة الصور: هذا ليس غليونا" ناقش فيه دلالات وإسقاطات اللوحة من منظور لغوي وتاريخي وابستيمولوجي وبصري.
وحتى وقت قريب كانت الخطوط الجوية البلجيكية "سابينا" تضع لوحته المسمّاة طائر السماء Sky Bird شعارا لطائراتها.
ولزمن طويل ظلت الطبيعة الغامضة لفنّ ماغريت تفتن أجيالا من الفنانين الذين تأثروا بلوحاته ونفخوا في أعمالهم نفحة من روحه.
وحتى النحّاتين ومخرجي الأفلام السينمائية ومصمّمي الغرافيكس والإعلانات الدعائية ما يزالون يجدون في أعمال ماغريت منجما غنيّا يستلهمون منه الأفكار والأساليب الفنية والإبداعية المتجدّدة.
ويمكن القول أن كلّ حجر معلق في الهواء، وكلّ جسم متحوّل، وكلّ عبارة طافية، وكلّ غيمة ثلجية بيضاء تدين بالكثير من الفضل لرينيه ماغريت.
الموضوع التالي يستعرض جوانب من حياة ماغريت ونماذج من أشهر لوحاته..
"من السهل أن تنظر إلى العالم من نافذة واحدة".
خطرت هذه الفكرة لـ رينيه ماغريت بينما كان يجاهد لإغماض عينيه اتقاء أشعّة الشمس المتوهّجة. كان قد بدأ يفكّر في انه ليس أمامه من بديل آخر بعد أن اختبر طويلا كلّ الخيارات الممكنة في حياته.
كان دائما يفعل كلّ ما في وسعه لإبقاء كل الأبواب مفتوحة.
كان ماغريت من ذلك النوع من الأشخاص الذين يفضّلون أن يتذوّقوا كلّ نوع من أنواع الشوكولاته الموضوعة على المائدة ولا يكتفون بقطعة واحدة من الكعكة الكبيرة.
لكن المشكلة هي أن الحياة ليست ببساطة قطعة الكعك، كما أن العالم الذي يعيش فيه كان سيبدو ابسط كثيرا لو أن رينيه اختار تلك الشريحة الصغيرة.
انه حتى لا يعرف كيف يريدها أن تكون: دسمة، صلبة، ليّنة، مستوية، مستديرة، بكثير من السكر، بقليل من الملح، بكثير من المكسّرات أم بالقليل منها.
كان يعرف ما لا يريد لكنه كان يجهل كليا ما الذي يرغبه.
وقد نقل عنه انه قال ذات مرّة: إن كل شيء نراه يخفي خلفه شيئا آخر، والإنسان توّاق بطبيعته لمعرفة ما لا يراه. وإذا كان الحلم ترجمة للحياة الواعية فإن الحياة الواعية هي ترجمة للحلم. إننا نعيش في عالم يخدعنا، وفهمنا له غامض ومشوّش. لذا فإن الأحلام والخيال هما سبيلنا إلى العيش في عالم له معنى".
ولطالما عبّر ماغريت عن افتتانه بالعلاقة التبادلية بين الكلمات والصور وإيمانه بأن العنصرين يمكن أن يكونا أحيانا بلا معنى. يقول: لا يمكننا فصل الغموض عن أي شيء، وإذا فعلنا ذلك نكون قد أسأنا فهم الشيء وجرّدناه من جوهره".
في لوحته خيانة الصور وهي أشهر أعماله وأكثرها رواجا، رسم ماغريت بطريقة واقعية محكمة تقترب من الصورة الفوتوغرافية رقعة يتوسّطها غليون. وفي أسفل اللوحة كتب بالفرنسية "هذا ليس غليونا"، في إشارة إلى أن الصورة مهما كانت درجة واقعيتها فإنها لا تنقل الواقع كما هو.
فصورة غليون لا تكفي لأن نمسك به أو نملأه بالتبغ ناهيك عن أن نستطيع تدخينه.
إن ماغريت يؤكّد على أن الصورة ليست حقيقة وإنما هي في النهاية تمثيل لرمز، وأن ما نراه في الواقع لا يعدو كونه انعكاسا لأنفسنا ولأفكارنا وخيالاتنا الخاصّة.
وبناءً عليه لا يجب أن نخلط ما بين الصورة وبين الرمز الذي تمثله.
وفي اللوحة إشارة ضمنية إلى محدودية إدراكنا للعالم الواقعي وقابلية أدمغتنا لان يتم التأثير فيها والسيطرة عليها.
وفي لوحة المرآة المزيّفة يتناول ماغريت فكرة العلاقة بين الداخل والخارج.
اللوحة تصوّر عيناً تنتشر على مساحتها غيوم بيضاء وسماء زرقاء. إنها العين الذكية التي ترى العالم بالعقل والإدراك.
هل نرى العالم كما هو فعلا أم أننا نرسم للواقع صورة مزيّفة على شاشة عقلنا الباطن؟
وكيف تلوّن اللغة ما نراه؟
هذه هي الأسئلة والإشكاليات التي يطرحها ماغريت في الكثير من لوحاته.
إن العين لا تعدو كونها مرآة ذات بعد واحد. لذا بدلا من النظر إلى الروح؛ إلى الفضاء الداخلي للعقل والنفس، فإنك في الواقع إنما تنظر إلى انعكاس نفسك.
إن العين، بحسب ماغريت، ليست أكثر من مرآة مزيّفة لأنها لا تستطيع حتى أن ترى نفسها. وإدراك الإنسان هو مثل المرآة المزيّفة التي تتلقى الأشعة بلا انتظام، فتزيل وتعدّل وتشوّه الألوان الطبيعية للأشياء من خلال مزج طبيعتها الخاصة فيها.
والعين، بهذا المعنى، لا تبرز الجانب المقابل من الواقع مثلما تفعل المرآة الحقيقية، لكنها فقط تظهر الغيوم التي تمرّ أمام سماء العقل الزرقاء.
ممّا يؤثر عن ماغريت قوله: عندما نلوي تفكيرنا ونحرفه عن مساره فإننا نميل إلى تحويل ما هو غريب إلى مألوف. وأنا أريد أن أعيد للمألوف غرابته".
ومن اجل تجسيد هذه الفكرة، ابتكر الفنان الواقع المزدوج للصور بإضافة حمولات من الشعر والغموض إليها. وغايته كانت أن يخلق فنا عن وجود لا نعرفه.
لكن هل اللغة البصرية قادرة حقا على كشف غموض الوجود؟
برأي ماغريت أن الرسم لا يمكنه الوصول إلى حيث يمكن أن يصل الشعر والفكر.
وكان دائما يردّد مقولة بعض كبار الشعراء من أن اللغة عندما تصل إلى "الأفق الخطير"، أي عندما تتحوّل إلى "لا لغة" فإنها تلتقط ما لا يمكن بلوغه أو إدراكه.
من أجمل أعمال ماغريت وأكثرها انتشارا لوحته امبراطورية النور.
ولأوّل وهلة لا تتبيّن للناظر المفارقة التي تتضمّنها اللوحة. لكن عندما يتمعّن في تفاصيلها سرعان ما يكتشف أن المنظر الليلي الذي لا يخلو من شاعرية تعلوه سماء نهارية. أي أننا إزاء ليل ونهار في نفس الوقت.
طبعا مثل هذا العالم لا يوجد سوى في الخيال. لكن ماغريت مغرم كثيرا بتصوير المتضادّات والثنائيات والجمع بينها تحت سقف واحد.
ومع ذلك فالعالم المحسوس يشير إلى أن التقاء الأضداد أمر ممكن فعلا، وهذه هي الفكرة التي يريد ماغريت إيصالها.
بعض الناس، مثلا، كثيرا ما يساورهم شعور غامض أنهم رغم كونهم سعداء فإنهم يشعرون بحزن لا يعرفون بواعثه وأسبابه.
وهناك من الناس من قد يبكي لفرط إحساسه بالفرح والنشوة.
وهناك النظرية التي تقرن اللذة بالألم. ومن الناس من يعتبر العبقرية والجنون وجهين لعملة واحدة .
ومن الحقائق التي أكدّها علماء النفس أن في المرأة بعض سمات الرجل وعند الرجل بعض خصائص المرأة النفسية والشعورية. أي أن هناك جزءا مهمّا في أنفسنا لا نلمسه ولا ندركه لأن العقل الباطن ينكره أو يقمعه.
إمبراطورية النور هي نموذج لعالم ماغريت الذي تتداخل فيه الثنائيات؛ كالليل والنهار، والحياة والموت، والرجل والمرأة، والأفقي والعمودي، والمادي أو الأرضي مقابل السماوي والمقدّس .. إلى آخره.
ومن الملاحظ أن ضربات الفرشاة الناعمة في اللوحة تعطيها مظهر الصورة الفوتوغرافية، كما أن الناظر إليها يخيّل إليه انه يطلّ على المنظر من نافذة بسبب تأثيرات البعد الثلاثي فيها.
ويقال بالمناسبة انه ليس بوسع أيّة ماسحة ضوئية أو آلة تصوير نقل جمال وسحر تأثيرات الضوء التي أودعها ماغريت في امبراطورية النور، وأن رؤية نسخة منها تختلف كثيرا عمّا لو قدّر للشخص أن يرى اللوحة الأصلية الموجودة اليوم في متحف بروكسيل للفنّ الحديث.
إن الكثير من لوحات ماغريت هي بمعنى من المعاني كشوفات فلسفية ونفسية وشعرية وتأمّلية للغة والإدراك من خلال محاولة إعادة اكتشاف العوالم الداخلية والخارجية واقتراح تفسيرات جديدة للعلاقات والأبعاد والافتراضات والتناقضات التي تحكم الحالة الإنسانية.
في العام 1934 رسم ماغريت سلسلة من اللوحات التي اختار لها اسما واحدا هو الحالة الإنسانية.
في ذلك الوقت كان ما يزال يعكف على اكتشاف فكرة الداخل والخارج.
وفي إحدى هذه اللوحات نرى رقعة رسم أمام نافذة زجاجية وخلفها منظر طبيعي. والناظر إلى اللوحة لا يستطيع تبيّن ما إذا كانت الطبيعة داخل الغرفة، أي على رقعة الرسم، أم خارجها، لان الشجر والغيم والغابة يمكن أن تكون في الداخل والخارج بنفس الوقت.
وقد أراد ماغريت من وراء رسمه سلسلة لوحات الحالة الإنسانية أن يقدّم مثالا على التناقض بين فراغ الأبعاد الثلاثة ومحدودية رقعة الرسم ذات البعدين. وعنوان اللوحة يشير إلى العلاقة بين البشر وتلك التناقضات باعتبارها جزءا من الحالة الإنسانية العامّة.
في عالم ماغريت يظهر الأشخاص بهيئة موظفي المكاتب في خمسينات القرن الماضي. فهم بورجوازيون تعلو رؤوسهم قبّعات اسطوانية سوداء وتطوّق أجسادهم بدلات ضيّقة محكمة الأزرار. وهم محصورون داخل ما يشبه غابة من الحجارة الصلدة الباردة، لكنهم ما يزالون يحتفظون بجزء مهم من إنسانيتهم يتمثل في قدرتهم على التخيّل. فهم يتمتعون بخيال خصب وأرواحهم تحلق عاليا مثل حمامات بيضاء.
وفي غالب الأحيان تكون ملامح الأشخاص محجوبة عنا أو أننا لا نرى منهم سوى ظهورهم، الأمر الذي يوحي بأنهم إما منشغلون بالنظر إلى المستقبل أو أنهم لا يعبئون بالماضي أو أن فكرتهم عن العالم مقتصرة فحسب على ما يرونه أمامهم.
ومعظم لوحات ماغريت تنطوي على مفاهيم بصرية وفكرية وفلسفية مثيرة للاهتمام. ويصعب في الكثير من الأحيان الفصل بين الكوميديا والشعر والغموض والظلام في أعماله.
وهو مغرم كثيرا باختيار أسماء غريبة للوحاته لا تتفق مع تفسير الدماغ للتجربة البصرية التي يستقبلها المتلقي، وتلك قد تكون حيلة يعزّز من خلالها غموض اللوحة لكي يوسّع مضامينها ودلالاتها.
كما أن أسماء اللوحات ليست وصفية بل تختزن دلالاتها الكامنة فيها. ومع ذلك فالعلاقة بين العنوان والصورة لا تخلو من شاعرية.
ويظهر أن الفنان يوظف، بإحكام، غموض هذين العنصرين ليمارس هوايته المفضلة في التلاعب بالدلالات المزدوجة والمتداخلة للكلمات والصور. وهو أثناء ذلك لا يتوانى عن قلب مفاهيم النسبية والفراغ والزمن والجاذبية والمنظور رأسا على عقب.
في لوحة الغابة، مثلا، يرسم ماغريت لوحة ذات تفاصيل تمثالية. وفيها نرى تمثالا نصفيا يستند على قاعدة اسطوانية بنّية اللون، وفي الخلفية ستارة وجدار.
لكن ليس في اللوحة ما يدلّ على العنوان باستثناء أن ملامح التمثال تتخللها فروع شجرة.
وفي قلعة البيرينيه يفاجئنا ماغريت بمنظر لحجر ضخم معلق في الهواء تعلوه قلعة فوق بحر يثير شعورا بالأزلية.
وهناك احتمال أن يكون الفنان رسم هذا المنظر وفي ذهنه القصّة التي تتحدّث عن نيزك على هيئة بيضة عملاقة سقط من ارتفاع هائل ليشقّ طريقه نحو الأرض في صمت قبل حوالي ثلاثة بلايين عام.
وإلى هذا النيزك يعزو العلماء البدايات الأولى لنشوء الحياة على الأرض.
اللوحة تعطي إحساسا بالجلال والغموض وتتحدّى بوضوح قوانين الزمن والجاذبية.
أما البيضة فقد كانت دائما من الموتيفات المفضّلة عند ماغريت، فهي الحاضنة للحياة وهي مصدر الخصوبة واستمرار وبقاء النوع.