:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الاثنين، يونيو 03، 2013

مغامرة في صحراء الموت

تاكلامكان هي إحدى اكبر الصحارى في العالم وهي الأقسى والأكثر وحشة على وجه الأرض. كما أنها أحد الأماكن القليلة على الأرض التي لم يجرؤ احد على ارتيادها أو استكشافها. اسمها يعني بلغة شعب الاويغور صحراء الموت أو المكان الذي يدخله الإنسان ولا يخرج منه أبدا.
يقال إن أعماق تاكلامكان المجهولة مسكونة بالشياطين والأرواح الشرّيرة. وتذكر أسطورة قديمة أن مدنا وممالك بأكملها مليئة بالكنوز ضاعت ودُفنت تحت رمالها منذ أقدم الأزمنة.
ولو قُدّر لك أن تمشي ليلا على أطراف هذه الصحراء المخيفة، فستسمع أصوات قوافل وهمهمات جِمال وصرخات فرسان وقعقعة سلاح وأنّات متقطّعة لبشر يحتضرون. إحدى الأساطير القديمة تقول إن جيشا عظيما اختفى ذات مرّة عندما ابتلعته رمال تاكلامكان فجأة.
وكتب التاريخ تتحدّث فعلا عن جيش قوامه أربعون ألف جنديّ سيّره الرومان لمواجهة الفرس سنة ثلاث وخمسين قبل الميلاد. وقد ذُبح هؤلاء أو ماتوا جميعا في الصحراء واختفى كلّ اثر لهم منذ ذلك الحين.
الرحّالة الايطاليّ ماركوبولو عبَر أطراف هذه الصحراء عندما كان في طريقه إلى بيجين للقاء الإمبراطور المغولي قبلاي خان. وقد وصف تاكلامكان بأنها مكان تسكنه الشياطين، وزعم انه سمع ليلا همسات تناديه باسمه وبأصوات تشبه أصوات رفاقه، وخمّن أنها لغيلان أو جان يستدرجون المسافرين إلى هلاكهم. كما سمع حكايات غريبة عن تجّار أرعبتهم أصوات جيش يتحرّك كالأشباح في الظلام.
صحراء تاكلامكان بما تخبّئه من صمت وغموض وخواء وأخطار وأساطير ظلّت دائما تأسر خيال المغامرين والرحالة. والأمر المؤكّد هو انه لم يسبق لإنسان في التاريخ أن تمكّن من عبورها من طرف إلى طرف.
في هذا الكتاب بعنوان "قهر صحراء الموت: رحلة عبر صحراء تاكلامكان"، يحكي تشارلز بلاكمور وقائع مغامرة ربّما سيذكرها التاريخ كأحد أعظم الانجازات الاستكشافية. فقد تمكّن مع فريق بريطاني - صيني وقافلة من الجمال من تحقيق هذه المهمّة المستحيلة عندما عبروا الصحراء من غربها إلى شرقها مرورا بوسطها الذي لم تطأه قدما إنسان قطّ من قبل.
باشر بلاكمور ورفاقه مغامرتهم بعد تحضيرات استمرّت خمس سنوات، ودامت رحلتهم شهرين قطعوا خلالها ثمانمائة ميل من الصحراء واجتازوا تلالا وكثبانا رمليّة يبلغ ارتفاع بعضها مائة متر.
في الكتاب يتناول المؤلّف تاريخ تاكلامكان وتضاريسها، كما يتحدّث عن طريق الحرير وشعب الاويغور والممالك والمدن التاريخية التي ابتلعت معظمها الرمال المتحرّكة للصحراء قبل أكثر من ألف عام.
يقول: تاكلامكان مكان غير مأهول ولا يدعم أيّ نوع من الحياة. ولكن على البعد يمكن رؤية بعض الرعاة مع ماشيتهم وهم يتحرّكون في طبيعة جافّة وساخنة. وليس في تاكلامكان أو بالقرب منها أيّ بحر أو نهر. لكن كانت هناك بحيرتان كبيرتان في وسطها، غير أنهما جفّتا قبل حوالي ألف عام، وبالتالي ازدادت مساحة الصحراء اتّساعا. ورغم عدم وجود خضرة، إلا أن هناك حياة نباتية من نوع ما حول الأطراف. وفي بعض الأماكن يمكن رؤية عدد قليل من الحيوانات كالذئاب والثعالب وبعض أنواع الغزلان البرّية.
بلاكمور ورفاقه تعرّفوا عن كثب على جمال وعزلة هذه الأرض النائية وغير المطروقة. لكنّهم أيضا رأوا الخوف وتأثير الأحوال الجوّية القاسية والمتطرّفة، حيث ترتفع درجة الحرارة نهارا إلى أكثر من مائة درجة وفي الليل تهبط إلى ما دون الصفر.
ويصف المؤلف بعض الممالك والمدن والمستوطنات والبلدات القديمة التي قامت على أطراف الصحراء وكانت مزدهرة زمن طريق الحرير. كما يتحدّث عن الواحات والمعابد القديمة التي أقامها الترك والمغول وأهالي التبت والصينيون والتي كانت تشكّل في ما مضى أجزاء من طريق الحرير التاريخيّ.
في جنوب إقليم شينجيانغ المستقلّ والتابع للاويغور، تقوم أطلال مملكة لُولان التاريخية المشهورة والتي ابتلعتها رمال الصحراء المتحرّكة قبل ما يقرب من ألف وأربعمائة عام. كانت لولان واحدة من أكثر من ثلاثين مملكة خسرت جميعها هذه المعركة الشرسة مع الطبيعة. في الماضي البعيد كانت لولان مركزا تجاريّا مهمّا على طريق الحرير ونقطة اتصال ما بين الصين والغرب.
ويعيد المؤلّف إلى الأذهان قصّة اكتشاف مغامر سويدي، في بداية القرن العشرين، لأطلال هذه المملكة مدفونة تحت رمال تاكلامكان.
وكان من بين ما عثر عليها خبراء الآثار في بقايا هذه المملكة مجموعة من المومياءات التي لا يُعرف حتى اليوم هويّة أصحابها ولا ما الذي كانوا يفعلونه في هذه الواحة الصحراوية النائية. لكن يقال أنهم عاشوا قبل أربعة آلاف عام، أي قبل ظهور طريق الحرير. ووُجد مع المومياءات أقمشة وأنماط نسيج تشبه تلك التي كان يستخدمها الأوربّيون القدماء.
وهناك نظرية تقول إن هؤلاء قدموا من تخوم جنوب أوربّا ووصلوا إلى هذه المنطقة ثم تزاوجوا مع الاويغور. ومن هذا النسل الهجين ولدت سلالة نرى بعض ملامحها اليوم لأفراد بعيون زرقاء وشعر أشقر وملامح لا تشبه ملامح الصينيّين العاديّين.
أشهر هذه المومياءات هي لفتاة مراهقة وُجدت في احد الكهوف وأصبحت قبلة للسيّاح في بيجين بعد أن لُقبت بحسناء لولان. وقد وُجدت رفاتها بحالة جيّدة حتى أن الفتاة الميّتة تبدو كما لو أنها نائمة. ولأنه عُثر عليها مرتدية فستانا مطرّزا من القطن ومجوهرات من الذهب والفضّة، فقد ذهب بعض الباحثين إلى أنها كانت أميرة أو راهبة عاشت قبل ثلاثة آلاف عام.
الحوليات الصينية القديمة تشير إلى ظهور أقوام من البرابرة طوال القامة وشقر الرؤوس ظهروا ذات زمن على حدود البلاد. وقد اختفى بعض هؤلاء بينما تزاوج آخرون مع أهل البلاد الأصليين.
الاويغور بدورهم وجدوا في هذه المومياءات رمزا لهم ودليلا على أن وطنهم مختلف تاريخيّا عن الصين. وهم يُرجعون علاقتهم بالمنطقة إلى عام ثمانمائة ميلادية عندما انتقل إليها أسلافهم الترك وتمازجوا مع السكّان المحليّين.
والمعروف أن شينجيانغ، موطن الاويغور، تعني الأرض الجديدة. وقد استولى عليها ماو تسي تونغ في أربعينات القرن الماضي زاعما أنها جزء من الصين. وهناك اليوم جهود لاستعادة رومانسيّتها التاريخية المرتبطة بطريق الحرير.
يشير المؤلّف إلى أن تاكلامكان تُعتبر ثاني اكبر صحراء في العالم بعد الصحراء الكبرى. وهي محاطة بسلاسل جبلية وتحدّها أراضي كلّ من التبت وكازاخستان وطاجيكستان وباكستان والهند.
تشارلز بلاكمور يتمتّع بعينين حسّاستين وهو يصف هذا البحر الواسع من الرمال الذهبية الذي يخبّئ بداخله فصولا من ملحمة الوجود البشريّ على الأرض وصراع الإنسان الطويل مع الطبيعة. ومن خلال ربطه الماضي بالحاضر، يحاول إعادة بناء عالم أزيح من الواقع كما نعرفه.
وقد سبق للمؤلّف أن قضى أربعة عشر عاما في الجيش البريطانيّ وخدم في عدّة دول. كما انه مؤلّف كتاب آخر مشهور عنوانه على خطى لورانس العرب.