لقد صار قلبي قابلا كلّ صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبـان
وبيت لأوثان وكعبـة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت
ركائبه فالحب ديني وإيمانــي
- محيي الدين بن عربي
شاهدتُ على إحدى القنوات التلفزيونية منذ أيّام تحقيقا مصوّرا من مدينة بنغالور الهندية، ظهر فيه آلاف من الرجال والنساء وهم يطوفون حول تمثال ضخم لامرأة، بينما انشغل البعض منهم في سكب كميّات هائلة من الحليب والعسل على رأس التمثال وذقنه وصدره وهم يردّدون أناشيد وأدعية دينية.
وقد فهمت ممّا أورده التحقيق أن تلك المجموعة تنتمي إلى طائفة من طوائف الهندوس الكثيرة يسمّون بـ "الجيـن Jainism " يحجّون إلى ذلك المكان المقدّس مرّة كل ثلاث عشر سنة ليطهّروا أنفسهم من الذنوب ويطلبوا البركة من كبير الآلهة.
وقد خطر بذهني وأنا أتابع ذلك المنظر المهيب أن الحجّ كعادة طقوسية موجود في كافة الأديان تقريبا. ثمّة دائما من يحجّ، حيناً إلى تمثال وأحيانا إلى بناء أو صرح أو معلم ما. وهناك منّا من لا يتردّد في وصف هذا النوع من الطقوس بالوثنية وغياب العقل. مع أن العقل نفسه يقف عاجزا أحيانا عن استيعاب أو فهم بعض الطقوس التي يمارسها اتباع الديانات التوحيدية الكبيرة. حتى الوثنية تعتبر مفهوما نسبيا وفضفاضا برغم ما ترسّخ في وعينا الجماعي عن هذه المفردة من دلالات لغوية وفلسفية بالغة السلبية.
داروين وأتباع نظرية النشوء والارتقاء يزعمون أن البشر، إذ يحجّون، إنما يترسّمون خطى أسلافهم من القرود التي أدّت جماعة منهم الحجّ قبل حوالي خمسين مليون عام، وان الحجّ بمعناه العام يتضمّن فكرة العودة إلى الأسلاف والتوق إلى الماضي والحنين إلى الأمكنة التي درج عليها الأقدمون. وفي هذه الطقوس رمز للاتصال بالماضي والتطهّر والتسامي والتحوّل النفسي والروحي ومحاولة التحرّر من الإحساس بالغربة في هذا العالم الفاني.
ومنذ يومين قال لي صديق ونحن نتناقش في هذا الموضوع أن هناك طائفة أخرى من الهندوس دأب أفرادها على أداء فريضة حجّ خاصة بهم مرّة في السنة. وهؤلاء يتوجّهون إلى المكان المخصّص لحجّهم بشعور طويلة ولحى كثة منسدلة على بطونهم. بل وحتى أعضاؤهم التناسلية – يقول الصديق - يمكن رؤيتها بوضوح وهي تتدلّى من تحت تلك الأسمال البالية التي يشدّونها على خصورهم قبل أن يتخفّفوا تماما من لباسهم لحظة وصولهم إلى النهر المقدّس.
وعندما يصل الموكب إلى وجهته يقوم رجال الشرطة بفرض طوق على المكان يوفّر الحماية للحجاج ويمنع عنهم نظرات المتطفّلين والدخلاء.
طبعا لو أخضعنا هذه الحالة لتفسيرات داروين وجماعته لقالوا لنا إن نبذ هؤلاء للباس وتعمّدهم المشي وهم عراة فيه أيضا مضاهاة لحياة الأسلاف الذين كانوا يعيشون على الفطرة ولا يكادون يجدون ما يسترون به عريهم أو يسدّ جوعهم.
خلاصة الكلام أن جميع الأديان والعقائد تستند إلى نظم وشعائر وتعبيرات سلوكية غاية في التركيب والتعقيد تشكّلت عبر مئات أو آلاف السنين، وورثها اتباع تلك الديانات جيلا بعد جيل. وهي وإن تباينت في مظاهرها وتجلياتها إلا أنها تلتقي في النهاية عند كونها تعبيرا عن حاجة الفرد لاثراء تجربته الروحية من خلال ربطها بقوّة أو قوى ميتافيزيقية عُليا.
إننا لو ولدنا في الهند لكنّا الآن هندوسا نحجّ إلى تمثال تلك المرأة العارية ونصبّ على رأسها الحليب والعسل، ولو ولدنا في الصين أو التيبت لكنّا اليوم على دين بوذا ذلك الرجل الطيّب، لان المرء على دين أبيه وأسلافه.
هذه الاختلافات والتمايزات بين الأديان تفرض على البشر أن يكونوا اقل دوغماتية وتعصبّا لدياناتهم الخاصّة وأن يكونوا اكثر انفتاحا وتسامحا مع اتباع الديانات الأخرى، وأن يتفهّموا حقّ كل إنسان في اختيار الطريق المناسب الذي يعتقد انه يوصله إلى الحقيقة.
:تنويه
تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .