الإبداع يتناقض مع كلّ ما هو طبيعيّ ومألوف. البعض يراه ثورة، رحلة إلى أرض مجهولة، لذا يجب أن يكون نوعا من الانحراف والغرائبية، ولا يمكن أن يكون شيئا آخر.
هل هذا يعني انك، لكي تكون مبدعا، يجب أن لا تعيش حياة طبيعية؟ هذا السؤال صعب وخطير. وربّما كانت أفضل إجابة عليه هي ما حدث للشاعر الرومانسي الانجليزي سامويل تيلر كولريدج الذي أنهى قصيدته المشهورة قُبلاي خان بطريقة مفاجئة بعد أن أغلق عينيه برهبة مقدّسة:
أريد أن أبني تلك القبّةَ في الهواء
تلك القبّة المُشمسة
تلك الكهوف الثلجية
وكلُّ من سمع يجب أنْ يراها هناك
والكلّ يجب أن يصرخ: حذارِ من عينيه المتوهّجتين
ومن شعره العائم في الهواء
خُطّوا حوله ثلاث دوائر
وأغمِضوا أعينكم برَهبة مُقَدَّسة
فقد كان طعامه المَنّ
وشرابه حليب الفردوس..
كان كولريدج شاعرا مشهورا وعضوا في جماعة كانت تُعرف بالشعراء الرومانسيين. وقد كتب هذه القصيدة الغريبة عام 1797، بعد أن استيقظ من حلم. كان قد تناول قبل نومه جرعة من عقار مخدّر كان يُستخدم في القرن التاسع عشر كمخفّف للألم.
رأى الشاعر في المنام قصرا عظيما بناه الإمبراطور المغولي قبلاي خان في زانادو التي أصبحت عاصمة للمغول بعد استيلائهم على شمال غرب الصين. ويصف في القصيدة ما رآه من أنهار وينابيع مقدّسة، وقباب فخمة، وأسوار وبروج عالية، وجوارٍ يعزفن على الآلات الوترية، وأشجار بخور، وغابات قديمة، ونوافير ضخمة، وكهوف ثلجية مظلمة لا يُدرك مداها.
كولريدج كان يحلم انه كان يكتب قصيدة بالفعل أثناء النوم. وعندما استيقظ بعد ساعات قليلة، جلس كي يدوّنها. وقد تحوّلت تلك القصيدة، بقافيتها الفريدة وتفاوت أطوال أبياتها وتركيزها المكثّف على الطبيعة، إلى واحدة من أكثر القصائد شهرة وخلودا في تاريخ الأدب الانجليزي كلّه. والقصيدة مثال ممتاز على الشعر الرومانسي وبرهان على أن أحلامك، مهما بدت غريبة وشاطحة، يمكن أن تتحوّل إلى تُحف إبداعية.
الإبداع ضرورة وحاجة. لكن عندما يخطو الإنسان إلى الخارج، إلى حيث تلك الطرق الجانبية غير المتوقّعة التي تتقاطع مع السائد والنمطيّ، فإنه يصبح منبوذا. التغيير تهديد للعالم من حولنا. إعمل بشكل خلاق لتكتشف أن محيطك المباشر بدأ يرسم حولك دائرة ثلاث مرّات.
الانجليز استخدموا ذات مرّة عبارة رائعة لوصف الشخص المبدع، عندما تحدّثوا عن "الجنون الجميل". والحقيقة أن لا احد يعرف حقّا ما هو العقل وإلى أين ينتهي. لكن الشذوذ الذي نسمّيه الإبداع يمتدّ إلى ما وراء خطّ المقبول والمتعارف عليه.
ريتشارد داد كان رسّاما انجليزيا، وكان مجنونا. صحيح أن هذه الكلمة أصبحت خارج التداول في وقتنا الحاضر، لكن داد كان شخصا مجنونا فعلا، حتى بأكثر المقاييس تسامحاً هذه الأيّام.
ولد هذا الفنّان في عام 1817م. وعندما بلغ السادسة والعشرين، كان قد أصبح رسّاما معروفا. ثمّ شرع في رحلة طويلة أخذته إلى أوروبّا والشرق الأوسط. وعاد من رحلته تلك مضطربا مشوّشا. كانت لديه أوهام بأنه مضطهد، وكان يزعم تلقّيه رسائل من أوزيريس إلهة المصريين القدماء. فعرضته عائلته على طبيب متخصّص في الأمراض العقلية وآثارها القانونية. وقرّر الطبيب أن داد إنسان خطير وأنه لم يعد مسئولا عن تصرّفاته.
وبعد بضعة أيّام، أقدم الرجل على قتل والده. ثم هرب إلى باريس، وهناك قام بقتل احد الغرباء، فقُبض عليه واُرسل إلى انجلترا ليقضي بقيّة حياته في المصحّات العقلية. وقد توفّي في إحدى تلك المصحّات وكان عمره 69 عاما.
قبل أن يُقْدم ريتشارد داد على ارتكاب جريمتي القتل، كان قد شارك بلوحتين في منافسة لرسم جدارية تاريخية اُريد لها أن تزيّن مبنى البرلمان البريطاني. وكانت اللوحتان معلّقتين هناك عندما ارتكب الجريمة. إحداهما كانت تصويرا حالما لمنظر في الصحراء يتضمّن جِمالا وبدواًًً ملتحين. كان عنوان اللوحة قافلة متوقّفة عند شاطئ البحر . وقد سبقت هذه اللوحة فنّ الصالون الذي أصبح بعد فترة قصيرة يحظى بشعبية كبيرة في كلّ من انجلترا وفرنسا.
وجاءت أعداد كبيرة من الزوّار لرؤية لوحتيه بعد الجريمة. وحاول الصحفيّون والكتّاب تشخيص جنونه اعتمادا على رسوماته. وطوال السنوات الأربع والثلاثين التالية، ظلّ ريتشارد داد يرسم بلا انقطاع. وبطبيعة الحال، كانت هناك علاقة ما بين بعض رسوماته وبين الجنون. والغريب أن الرسّام وضع دراسات تحليلية عن الجنون وأسماها "رسومات لتوضيح المشاعر".
مصحّات القرن التاسع عشر كان الغرض منها الحفاظ على المرضى وإبعادهم عن حساسيّات المجتمع الفيكتوري. ولكن، بطريقة أو بأخرى، تسرّبت لوحات داد ووصلت إلى المعارض. واستمتع الناس آنذاك بما رأوه، بمثل ما استمتعوا بالجنون المفترض للشاعر والرسّام الرومانسي وليام بليك. وكتب أحد الصحفيين واصفاً حالة هذين الرسّامََين بقوله: يمكن أن نصنّفهما معا بأنهما مثالان لفنّانين ساعدهما خلل في الدماغ، بدل أن يعيق ذلك الخلل نشاط خيالهما الأصيل والخصب".
ربّما لم يكن بليك يسمع أصوات الشياطين وهي تأمره بالقتل، مثلما حدث مع داد. لكنّ عقله الخصب، مثل عقل داد، ارتاد أرضا جديدة. والفيكتوريون، بالتأكيد، كانوا يرون أن الإبداع صنو للجنون.
العمل الأكثر نجاحا لـ ريتشارد داد كان صورة ودودة رسمها للطبيب الكسندر موريسون الذي كان يرعاه ويعتني به في المصحّة ويحثّه على العودة إلى الرسم بعد ارتكابه للجريمة.
في عام 1974، نظّم تيت غاليري معرضا هامّا لرسومات داد، ليس لأنه كان مجنونا، وإنما لأن أعماله كانت جيّدة. وإذا صحّ أن الرسّام كان مجنونا في الحياة، فإن ممّا لا شكّ فيه أن تركيزه الفنّي كان صافيا وأن مشاعره قادته إلى مهمّة واضحة، وهي مساعدتنا على أن نرى العالم من حولنا بشكل أوضح.
بالمناسبة، نجا ريتشارد داد من حكم الإعدام لأن إنجلترا كانت قد سنّت قانونا للدفاع عن الجنون قبل وقت قصير من ارتكابه جريمتيه. كما مُنح الحرّية لأن يرسم، بسبب الإصلاحات التي استُحدثت في ذلك الوقت والتي تدعو إلى رعاية المجانين. ولو أن هذا حدث في وقت مبكّر من ذلك القرن، لكان مصيره أسوأ بكثير. لكنّ هذا حدث في عام 1843، أي في الوقت الذي كانت فيه الأفكار الرومانسية تمجّد الجنون وتخلع عليه رداءً من القداسة.
قد يقول قائل إن ريتشارد داد يوفّر مثالا متطرّفا. وهذا صحيح. لكن يتعيّن في كلّ الأحوال أن نخاف ونحذر من شيطان الإبداع وأن نتعامل معه دائما بشيء من "الرهبة المقدّسة".
هل هذا يعني انك، لكي تكون مبدعا، يجب أن لا تعيش حياة طبيعية؟ هذا السؤال صعب وخطير. وربّما كانت أفضل إجابة عليه هي ما حدث للشاعر الرومانسي الانجليزي سامويل تيلر كولريدج الذي أنهى قصيدته المشهورة قُبلاي خان بطريقة مفاجئة بعد أن أغلق عينيه برهبة مقدّسة:
أريد أن أبني تلك القبّةَ في الهواء
تلك القبّة المُشمسة
تلك الكهوف الثلجية
وكلُّ من سمع يجب أنْ يراها هناك
والكلّ يجب أن يصرخ: حذارِ من عينيه المتوهّجتين
ومن شعره العائم في الهواء
خُطّوا حوله ثلاث دوائر
وأغمِضوا أعينكم برَهبة مُقَدَّسة
فقد كان طعامه المَنّ
وشرابه حليب الفردوس..
كان كولريدج شاعرا مشهورا وعضوا في جماعة كانت تُعرف بالشعراء الرومانسيين. وقد كتب هذه القصيدة الغريبة عام 1797، بعد أن استيقظ من حلم. كان قد تناول قبل نومه جرعة من عقار مخدّر كان يُستخدم في القرن التاسع عشر كمخفّف للألم.
رأى الشاعر في المنام قصرا عظيما بناه الإمبراطور المغولي قبلاي خان في زانادو التي أصبحت عاصمة للمغول بعد استيلائهم على شمال غرب الصين. ويصف في القصيدة ما رآه من أنهار وينابيع مقدّسة، وقباب فخمة، وأسوار وبروج عالية، وجوارٍ يعزفن على الآلات الوترية، وأشجار بخور، وغابات قديمة، ونوافير ضخمة، وكهوف ثلجية مظلمة لا يُدرك مداها.
كولريدج كان يحلم انه كان يكتب قصيدة بالفعل أثناء النوم. وعندما استيقظ بعد ساعات قليلة، جلس كي يدوّنها. وقد تحوّلت تلك القصيدة، بقافيتها الفريدة وتفاوت أطوال أبياتها وتركيزها المكثّف على الطبيعة، إلى واحدة من أكثر القصائد شهرة وخلودا في تاريخ الأدب الانجليزي كلّه. والقصيدة مثال ممتاز على الشعر الرومانسي وبرهان على أن أحلامك، مهما بدت غريبة وشاطحة، يمكن أن تتحوّل إلى تُحف إبداعية.
الإبداع ضرورة وحاجة. لكن عندما يخطو الإنسان إلى الخارج، إلى حيث تلك الطرق الجانبية غير المتوقّعة التي تتقاطع مع السائد والنمطيّ، فإنه يصبح منبوذا. التغيير تهديد للعالم من حولنا. إعمل بشكل خلاق لتكتشف أن محيطك المباشر بدأ يرسم حولك دائرة ثلاث مرّات.
الانجليز استخدموا ذات مرّة عبارة رائعة لوصف الشخص المبدع، عندما تحدّثوا عن "الجنون الجميل". والحقيقة أن لا احد يعرف حقّا ما هو العقل وإلى أين ينتهي. لكن الشذوذ الذي نسمّيه الإبداع يمتدّ إلى ما وراء خطّ المقبول والمتعارف عليه.
ريتشارد داد كان رسّاما انجليزيا، وكان مجنونا. صحيح أن هذه الكلمة أصبحت خارج التداول في وقتنا الحاضر، لكن داد كان شخصا مجنونا فعلا، حتى بأكثر المقاييس تسامحاً هذه الأيّام.
ولد هذا الفنّان في عام 1817م. وعندما بلغ السادسة والعشرين، كان قد أصبح رسّاما معروفا. ثمّ شرع في رحلة طويلة أخذته إلى أوروبّا والشرق الأوسط. وعاد من رحلته تلك مضطربا مشوّشا. كانت لديه أوهام بأنه مضطهد، وكان يزعم تلقّيه رسائل من أوزيريس إلهة المصريين القدماء. فعرضته عائلته على طبيب متخصّص في الأمراض العقلية وآثارها القانونية. وقرّر الطبيب أن داد إنسان خطير وأنه لم يعد مسئولا عن تصرّفاته.
وبعد بضعة أيّام، أقدم الرجل على قتل والده. ثم هرب إلى باريس، وهناك قام بقتل احد الغرباء، فقُبض عليه واُرسل إلى انجلترا ليقضي بقيّة حياته في المصحّات العقلية. وقد توفّي في إحدى تلك المصحّات وكان عمره 69 عاما.
قبل أن يُقْدم ريتشارد داد على ارتكاب جريمتي القتل، كان قد شارك بلوحتين في منافسة لرسم جدارية تاريخية اُريد لها أن تزيّن مبنى البرلمان البريطاني. وكانت اللوحتان معلّقتين هناك عندما ارتكب الجريمة. إحداهما كانت تصويرا حالما لمنظر في الصحراء يتضمّن جِمالا وبدواًًً ملتحين. كان عنوان اللوحة قافلة متوقّفة عند شاطئ البحر . وقد سبقت هذه اللوحة فنّ الصالون الذي أصبح بعد فترة قصيرة يحظى بشعبية كبيرة في كلّ من انجلترا وفرنسا.
وجاءت أعداد كبيرة من الزوّار لرؤية لوحتيه بعد الجريمة. وحاول الصحفيّون والكتّاب تشخيص جنونه اعتمادا على رسوماته. وطوال السنوات الأربع والثلاثين التالية، ظلّ ريتشارد داد يرسم بلا انقطاع. وبطبيعة الحال، كانت هناك علاقة ما بين بعض رسوماته وبين الجنون. والغريب أن الرسّام وضع دراسات تحليلية عن الجنون وأسماها "رسومات لتوضيح المشاعر".
مصحّات القرن التاسع عشر كان الغرض منها الحفاظ على المرضى وإبعادهم عن حساسيّات المجتمع الفيكتوري. ولكن، بطريقة أو بأخرى، تسرّبت لوحات داد ووصلت إلى المعارض. واستمتع الناس آنذاك بما رأوه، بمثل ما استمتعوا بالجنون المفترض للشاعر والرسّام الرومانسي وليام بليك. وكتب أحد الصحفيين واصفاً حالة هذين الرسّامََين بقوله: يمكن أن نصنّفهما معا بأنهما مثالان لفنّانين ساعدهما خلل في الدماغ، بدل أن يعيق ذلك الخلل نشاط خيالهما الأصيل والخصب".
ربّما لم يكن بليك يسمع أصوات الشياطين وهي تأمره بالقتل، مثلما حدث مع داد. لكنّ عقله الخصب، مثل عقل داد، ارتاد أرضا جديدة. والفيكتوريون، بالتأكيد، كانوا يرون أن الإبداع صنو للجنون.
العمل الأكثر نجاحا لـ ريتشارد داد كان صورة ودودة رسمها للطبيب الكسندر موريسون الذي كان يرعاه ويعتني به في المصحّة ويحثّه على العودة إلى الرسم بعد ارتكابه للجريمة.
في عام 1974، نظّم تيت غاليري معرضا هامّا لرسومات داد، ليس لأنه كان مجنونا، وإنما لأن أعماله كانت جيّدة. وإذا صحّ أن الرسّام كان مجنونا في الحياة، فإن ممّا لا شكّ فيه أن تركيزه الفنّي كان صافيا وأن مشاعره قادته إلى مهمّة واضحة، وهي مساعدتنا على أن نرى العالم من حولنا بشكل أوضح.
بالمناسبة، نجا ريتشارد داد من حكم الإعدام لأن إنجلترا كانت قد سنّت قانونا للدفاع عن الجنون قبل وقت قصير من ارتكابه جريمتيه. كما مُنح الحرّية لأن يرسم، بسبب الإصلاحات التي استُحدثت في ذلك الوقت والتي تدعو إلى رعاية المجانين. ولو أن هذا حدث في وقت مبكّر من ذلك القرن، لكان مصيره أسوأ بكثير. لكنّ هذا حدث في عام 1843، أي في الوقت الذي كانت فيه الأفكار الرومانسية تمجّد الجنون وتخلع عليه رداءً من القداسة.
قد يقول قائل إن ريتشارد داد يوفّر مثالا متطرّفا. وهذا صحيح. لكن يتعيّن في كلّ الأحوال أن نخاف ونحذر من شيطان الإبداع وأن نتعامل معه دائما بشيء من "الرهبة المقدّسة".
Credits
theguardian.com
tate.org.uk
theguardian.com
tate.org.uk