:تنويه

تنويه: كافة حقوق الموادّ المنشورة في مدوّنتي "خواطر وأفكار" و "لوحات عالمية" محفوظة للمؤلف ومحميّة بموجب قوانين حقوق النشر والملكية الفكرية. .


الأربعاء، فبراير 13، 2013

ابن فضلان في أرض الظلام

في الفترة ما بين القرنين التاسع والرابع عشر الميلادي، سافر العديد من الرحّالة والمستكشفين العرب إلى أقصى بلاد الشمال وعبروا المناطق التي تشمل اليوم روسيا وأوزبكستان وكازاخستان.
وكتاب ابن فضلان وأرض الظلام: الرحّالة العرب في أقصى بلاد الشمال لـ بول لوندي وكارولين ستون يقدّم لمحة نادرة ومهمّة عن عادات الفايكنغ، ويستعرض طقوسهم الدينية والجنائزية وطعامهم، بل وحتى ممارساتهم الجنسية، استنادا إلى ما ذكره الرحّالة العربيّ أحمد ابن فضلان في رسالته التي ضمّنها أسفاره ومشاهداته في بلدان شمال أوربّا.
كان ابن فضلان دبلوماسيا عربيّا عاش في القرن العاشر الميلادي. في عام 922، أرسله الخليفة العبّاسي المقتدر في مهمّة من بغداد إلى أقصى الشمال الأوربّي. كانت مهمّته مقابلة ملك الصقالبة وتعليم شعبه من بلغار الفولغا المتحوّلين حديثا إلى الإسلام ومدّهم بالأموال اللازمة كي يدفعوا عن أنفسهم خطر هجمات الخزر.
وهو يسجّل في رحلاته إلى هناك لقاءاته مع تجّار الفايكنغ على ضفاف نهر الفولغا. كما يتناول بالشرح أسلوب حياتهم وعاداتهم، من التزلّج على الثلج إلى الزواج والنظافة "يصفهم بأنهم أقذر مخلوقات الله"!
ابن فضلان يصف طرفا ممّا رأى في رحلته فيقول: وراء يوغرا ليس هناك أيّ أثر للسكنى أو العمران باستثناء برج طويل بناه الاسكندر. وبخلاف هذا لا يوجد شيء سوى الظلام. في هذه الأرض التي تتألّف في معظمها من صحاري وجبال وبحر أسود يلفّه الضباب، يفرض البرد والثلج الأبديّ سطوتهما. هنا لا تشرق الشمس أبدا ولا ينمو نبات ولا يعيش حيوان".
ارض الظلام التي يحكى عنها ابن فضلان ظلّت دائما موضوعا يثير الخوف والانبهار. وهي تؤكّد تصوّر العرب الذي دام قرونا عن منطقة شمال أوراسيا. فخلف السور أو البرج الأسطوري، كانت تعيش قبائل يأجوج ومأجوج المعروفة في الإنجيل بـ جوج وماجوج. وسور الاسكندر قد يكون إشارة إلى سور الصين الذي منع في ما بعد جحافل التتّار المرعبة من نشر الموت والدمار في الأراضي المجاورة.
ربّما يعتقد القارئ أن هذه القصص المثيرة عن أسفار ابن فضلان وغيره من الرحّالة العرب إلى أعماق بلاد الشمال المتجمّدة خلال القرون الوسطى تصلح لأن تكون مادّة لفيلم سينمائي. والحقيقة أن هذه الأسفار تُرجمت بالفعل إلى فيلم ظهر عام 1999 بعنوان المحارب الثالث عشر . وكما هو الحال مع العديد من أفلام هوليوود، فإن القصّة الأصلية ما تزال هي الأفضل.
بعض الحكايات التي يرويها ابن فضلان لا تخلو من إثارة وغرائبية، مثل حديثه عن غزو قبيلة في روسيا لبلدة مسلمة في منطقة بحر قزوين، وقصّته عن امرأة عجوز توصف بملاك الموت وكيف أنها قامت بخنق خادمة شابّة قبل أن تُحرَق جثّتها لتُدفن مع جثمان سيّدها الميّت.
غير أن احد الجوانب المثيرة للفضول في هذا الكتاب هو أنه يوفّر مصادر مهمّة عن خانيّة الخزر الغامضة، أي المملكة اليهودية القديمة التي كانت تضمّ أذربيجان وشمال القوقاز وأجزاء من جورجيا وشمال غرب تركيا والقرم وشرق أوكرانيا.
يقول ابن فضلان: كان لدى خاقان الخزر حريم من ستّين امرأة، كان يضعهنّ داخل تجاويف ولا يراهنّ سوى خدمهنّ المخصيّين". ويعلّق المؤلّفان على ذلك بالقول انه في القرن الذي أعقب سقوط الخانيّة أصبح إطلاق صفة الخزر على أيّ فرد أو جماعة بمثابة إهانة. كما أن الاتفاقية التي أبرمها الخزر قبل ذلك مع العثمانيين كانت تعني أن خانيّة الخزر أصبحت بمثابة منطقة عازلة ضدّ التوسّع الإسلامي في الشمال، وانه "لولا تلك الاتفاقية لتغيّر تاريخ أوروبّا إلى الأبد".
قراءة هذا الكتاب المثير والمشوّق تعزّز الشعور بأن أوروبّا المسيحية كانت في نهاية الألفية الأولى لاعبا ضعيفا وهامشيّا في شئون العالم الجيوسياسية.
والمعروف أن قصّة ابن فضلان عن خانية الخزر تحوّلت إلى رواية مشهورة لـ مايكل شيبون. كما استلهم الكاتب مايكل كرايتن حكاية ابن فضلان عن جنازة زعيم إحدى قبائل الفايكنغ في كتابة روايته بعنوان آكلو الموتى .
المؤلّف بول لوندي درس في جامعة لندن للدراسات الشرقية والإفريقية، وهو متخصّص في التاريخ والأدب الإسلامي. وقد تعاونت معه في تأليف هذا الكتاب كارولين ستون، وهي أستاذة متخصّصة في تاريخ المنسوجات وأدب العصور الوسطى والثقافة الإسلامية والعلاقات الثقافية والاقتصادية بين أوروبّا والشرق في عصر ما قبل الحداثة. وقد سبق للمؤلّفين أن تعاونا معا في ترجمة مجموعة من كتابات الجغرافيّ العربيّ المسعودي إلى الانجليزية.
رسالة ابن فضلان عن أسفاره هي واحدة من أهمّ الوثائق عن تلك الفترة. وإلقاء الضوء على هذه الترجمة الجديدة لتلك الرسالة يوفّر نظرة شاملة على عالم الجغرافيين العرب وأراضي أقصى الشمال الأوربّي في القرون الوسطى.
وإن كنت ممّن يهتمّون بمعرفة شيء عن الفايكنغ وشعوب شمال أوربّا في تلك الفترة المبكّرة فلا شكّ أن هذا الكتاب سيلبّي رغبتك.